الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن النوّاب في نياباتهم متصاغرة متضائلة بالنسبة إلى ما يصدر من أبواب الخلافة من الولايات، فلذلك لم يقع مما كتب منها ما تتوفّر الدواعي على نقله ولا تنصرف الهمم لتدوينه مع تطاول الأيام وتوالي اللّيالي.
الحالة الثانية- ما كان عليه أمر الدولة الطّولونيّة من حين قيام دولتهم إلى انقراض الدولة الأخشيديّة
«1»
وقد تقدّم أن أحمد بن طولون أوّل من أخذ في ترتيب الملك وإقامة شعار السلطنة بالديار المصرية. ولما شمخ سلطانه، وارتفع بها شانه أخذ في ترتيب ديوان الإنشاء لما يحتاج إليه في المكاتبات والولايات، فاستكتب ابن عبد كان «2» ، فأقام منار ديوان الإنشاء ورفع مقداره؛ وكان يفتتح ما يكتبه عنه في الولايات بلفظ «إنّ أولى كذا» أو «إن أحقّ كذا» وما أشبه ذلك.
وهذه نسخة عهد كتب به ابن عبد كان عن أحمد بن طولون بقضاء برقة «3» ترشد إلى ما عداها من ذلك وهي:
إنّ أحقّ من آثر الحقّ وعمل به، وراقب الله في سرّ أمره وجهره، واحترس من الزّيغ والزّلل في قوله وفعله، وعمل لمعاده ورجعته، إلى دار فاقته وفقره ومسكنته، من جعل بين المسلمين حاكما، وفي أمورهم ناظرا:[فأراق]«4» الدماء وحقنها، وأحلّ الفروج وحرّمها، وأعطى الحقوق وأخذها، ومن علم أنّ الله تبارك وتعالى سائله عن مثقال الذّرّة من عمله، وأنه إنما يتقلّب في قبضته، أيام
مدّته، ثم يخرج من دنياه كخروجه من بطن أمّه، إما سعيدا بعمله وإما شقيّا بسعيه.
وإنّا- لما وقفنا عليه من سديد مذهبك وقويم طريقتك، وجميل هديك وحسن سيرتك، ورجوناه فيك، وقرّرناه عندك: من سلوك الطريقة المثلى، واقتفاء آثار أئمة الهدى، والعمل بالحق لا بالهوى- رأينا تقليدك القضاء بين أهل ثغر برقة، وأمرناك بتقوى الله الذي لا يعجزه من طلب، ولا يفوته من هرب، وبطاعته التي من آثرها سعد، ومن عمل بها حمد، ومن لزمها نجا، ومن فارقها هوى- وأن تواصل الجلوس لمن بحضرتك من الخصوم: صابرا بنفسك على تنازعهم في الحقوق، وتدافعهم في الأمور، غير برم بالمراجعات، ولا ضجر بالمحاكمات: فإنّ من حاول إصابة فصل القضاء، وموافقة حقيقة الحكم بغير مادّة من حلم، ولا معونة من صبر، ولا سهمة من كظم، لم يكن خليقا بالظّفر بهما، ولا حقيقا بالدّرك لهما- وأن تقسم بين الخصمين إذا تقدّما إليك، وجلسا بين يديك، في لحظك ولفظك، وتوفّي كلّ واحد منهما قسمه من إنصافك وعدلك، حتّى ييأس القويّ من ميلك، ويأمن الضعيف من حيفك: فإنّ في إقبالك بنظرك وإصغائك بسمعك إلى أحد الخصمين دون صاحبه ما أضلّ الآخر عن حجّته، وأدخل الحيرة على فكره ورويّته- وأن تحضر مجلس قضائك من يستظهر برأيه، ومن يرجع إلى دين وحجا وتقى: فإن أصبت أيّدك، وإن نسيت ذكّرك- وأن تقتدي في كلّ ما تعمل فيه رويّتك، وتمضي عليه حكمك وقضيّتك، بكتاب الله الذي جعله صراطا مستقيما، ونورا مستبينا، فشرع فيه أحكامه، وبيّن حلاله وحرامه، وأوضح به مشكلات الأمور، فهو شفاء لما في الصّدور.
وما لم يكن في كتاب الله- جل وعز- نصّه فإنّ فيما يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم حكمه؛ وما لم يكن في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتفيت فيه سبيل السّلف الصالح من أئمة الهدى رضي الله عنهم الذين لم يألوا الناس اختبارا، ولا ادّخروهم نصيحة واجتهادا، عالما أنك أسعد بالعدل ممن تعدل عليه، وأحظى بإصابة الحق ممن تصيبه فيه: لما تتعجّله من جميل أحدوثته وذكره، ويذخر لك من عظيم ثوابه
وأجره، ويصرف عنك من حوب «1» ما تتقلّده ووزره- وأن يكون الذين تحكم بشهادتهم [من]«2» أهل الثّقة في أديانهم، والمعروفين بالأمانة في معاملاتهم، والموسومين بالصدق في مقالاتهم، والمشهورين بالتقدّم في عدالاتهم: فإنك جاعلهم بين الله وبينك في [كل]«3» كلام تصدره، وحكم تبرمه؛ وحقيق بأن لا ترضى لنفسك منهم إلا بما يرضى منك؛ وتعلم أن ذلك هو الصدق، وأنك قد أبليت عذرك في تخيّرهم، فإنه يعلم أن ذلك هو الصّدق من نيّتك، والصّحة من يقينك، تحسن عليه معونتك، ويحضرك التوفيق في جميع أقضيتك- وأن يكون من تستعين به على المسألة عن أحوال هؤلاء الشهود ومذاهبهم، وما يعرفون به وينسبون إليه في رحالهم ومساكنهم، أهل الورع والأمانة، والصّدق والصيانة- وأن تجدّد المسألة عنهم في كل مرّة، وتفحص عن خبرهم في كل قضية؛ ثم لا يمنعك وقوفك على سقوط عدالة من تقدّمت بتعديله من استقبال الواجب في مثله، واستعمال الحقّ في أمره- وأن تشرف على أعوانك وأصحابك، ومن تجري أمورك على يديه من خلفائك وأسبابك، إشرافا يمنعهم من الظلم للرعيّة، ويقبض أيديهم عن المآكل الرّديّة، ويدعوهم إلى تقويم أودهم، وإصلاح فاسدهم، ويزيد في بصيرة ذوي الثّقة والأمانة منهم؛ فمن وقفت منه على امتثال لمذهبك، وقبول لأدبك، واقتصار فيما يتقلّده لك، أقررته وأحسنت مكافأته ومثوبته، ومن شممت منه حيفا في حكمه، وتعدّيا في سيرته، وبسطا ليده إلى ما لا يجب له، تقدّمت في صرفه، وألزمته في ذلك ما يلزمه- وأن تختار لكتابتك من تعرف سداد مذهبه، واستقلاله بما يتقلّده، [وإيثاره للتأكد]«4» من صحته، ومن تقدّر عنده تقديما في نصيحتك فيما يجري على يديه، وتوخّيا لصدقك فيما يحضره وتغيب عن مشاهدته؛ فإنك تأمنه من أمر حكمك على ما لا