الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصنف الثاني (من الوظائف التي يكتب بها بثغر الإسكندرية- الوظائف الدينية، وكلها تواقيع، وفيها مرتبتان)
المرتبة الأولى «1» (ما يكتب منها في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء، وفيها وظائف)
الوظيفة الأولى (القضاء)
وهو الآن مختصّ بالمالكيّة، وقاضيها يتحدّث في نفس المدينة وظاهرها، ليس له ولاية فيما هو خارج عنها.
وهذه نسخة توقيع بقضاء ثغر الإسكندريّة المالكيّ، كتب به للشيخ «وجيه الدين محمد بن عبد المعطي الإسكندريّ المالكيّ» وهي:
الحمد لله رافع قدر من نوّه العلم بذكره، ونوّر التّقى مواقع فكره، ونبّه الورع على رفعة قدره، وأشرق به منصب الحكم العزيز إشراق الأفق بطلوع بدره، وأضاءت بنور أحكامه غوامض القضايا الشرعيّة إضاءة الدّجى بغرّة فجره، وقضى له دوام الإصابة في الاجتهاد بإحراز أجريه إذا كان أحد قسمي الاجتهاد مقتضيا لأجره، ومليء صدره بأنواع العلوم الدينية فوسّع له الشرع الشريف صدر مجلسه وأعدّ له مجلس صدره، وزخر من خاطره بحر العلم فارتوت رياض الخواطر بأنوار فرائد درّه وأسفر وجه الدين بنور علمه وعمله: فقام هذا مقام السّرور في أساريره وناب هذا مناب الشّنب «2» في ثغره.
نحمده حمدا يزيد قدر النّعم تنويها، ويسوّغ في المحامد تعظيما لمسدي
المنّة وتنزيها، وينهض بشكر التوفيق في اختصاص منصب الحكم بمن كان عند الله وجيها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تفترّ ثغور الإسلام بإدامتها، وتبنى قواعد الإيمان على إقامتها، وتشيم بوارق النصر على جاحدها من أثناء غمامتها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أنارت الآفاق بملّته، ودارت أداة التشبيه بين أنبياء بني إسرائيل وعلماء أمّته، وضاهى شرعه شمس الظهيرة في وضوح أحكامه وظهور أدلّته، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين عملوا بما علموا، وجاهدوا أعداء الله فما ضعفوا لذلك ولا ألموا، وقضوا بالحق بين أمّته فلا المقضيّ لهم أثموا ولا المقضيّ عليهم ظلموا، صلاة لا تزال لها الأرض مسجدا، ولا يبرح ذكرها متهما في الآفاق ومنجدا، وسلم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من قلّد الحكم وإن نأى به الورع عن توقّعه، وخطب للقضاء وإن أعرض به الزّهد عن طلابه وتتبّعه، ودعي إليه إذ الإجابة عليه متعيّنة، ووضعت مقاليده بحكم الاستحقاق [في يديه]«1» إذ أولويّته البيّنة لا تحتاج إلى بيّنة- من عقدت على تعيّنه لهذا المنصب الجليل الخناصر، ودعت إلى استدعائه إليه فضائله الثابتة القواعد وزهادته الزاكية الأواصر، ودلّت عليه علومه دلالة الأضواء، على لوامع الشّهب، ونبّهت عليه فنونه تنبيه الأنواء، على مواقع السّحب، وشهد بورعه المتين، تفقّهه واعتزاله، وأنبأ عن نهوضه بنصرة الدين، قوّة جداله الذي هو جلاد مثله ونزاله، وتبحّر في أنواع العلوم حتّى جاوز البحر بمثله ولكنّه العذب الزّلال، وشغل نفسه بالتنوّع في الفنون فكان التحلّي بعبادة الله ثمرة ذلك الاشتغال، ومشى على قدم الأئمة العلماء من أسلافه فلم يشقّ في ذلك المضمار غباره، ونشأ على طريقة العلم والعمل: فنهاره بالانقطاع إليه ليله وليله بالاشتغال بهما نهاره.
ولما كان فلان هو الذي خطبته هذه الرتبة السنيّة لنفسها، وتشوّقت إلى الإضاءة بطلوعه في أفقها تشوّق المطالع إلى الإضاءة بطلوع شمسها، وأثنى لسان القلم على فضائله وهو يعتذر من الاختصار، واقتصرت البلاغة على اليسير من التعريض بوصفه وطالب ما لا يحصر معذور في الاقتصاد والاقتصار، وعيّن لما تعيّن عليه من مصالح الأمة وذلك يقضي لمثله من أهل الورع أن يجيب، وطلب لعموم مصالح الإسلام التي ما ينبغي لمثله من أنصار السّنّة أن يتأخّر عن مثلها أو يغيب، وكان ثغر الإسكندرية المحروس من المعاقل التي يفترّ عن شنب النصر ثغرها، ومن أركان الدين التي يغصّ بأبطالها بحرها، وهي مأوى صلحاء «1» الجهاد الذين سهام ليلهم «2» أسبق إلى العدا من سهامهم، وموطن العلماء من أهل الاجتهاد الذين يعدل دم الشهداء مداد أقلامهم؛ وهي داره التي تزهى به نواحيها، وموطن رباطه الذي يوم وليلة منه في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نخصّ منصب حكمها بعالم أفقها المنير، وزاهد ثغرها الذي ما شام برقه بصر عدوّ إلا وانقلب اليه خاسئا وهو حسير، وأن نفوّض إليه منصب القضاء والحكم العزيز بثغر الإسكندريّة المحروس، على قاعدة من تقدّمه فيه، نظرا في عموم ذلك الثغر [المحروس به]«3» إلى من انعقد إجماع أئمة عصره ومصره على سعة علمه ووفور ورعه وكمال فضله.
فليباشر هذا المنصب الذي ملاك أمره العلم والتّقى، ونظام حكمه العدل والورع وهما أكمل ما به يرتقى، وليحكم بما أراه الله من قواعد مذهبه المحكمة، وأحكام إمامه التي هي بمصالح الدّين والدنيا محكّمة، وليقض بأقوال إمام دار الهجرة التي منها صدرت السنّة إلى الآفاق، وعنها أخذت ذخائر العلم التي تزكو على كثرة الإنفاق، وبها حمى الأحكام الدينية موطّأ الأكناف، وفيها
استقام عمود الملّة ممدود الطّرف على سائر الأطراف، فليل من ذلك وغيره جميع ما كان يليه من تقدّمه، وتقتضيه قواعد ولايته التي أمضينا فيه لسانه وقلمه.
فأمّا ما يدخل تحت هذا الإجمال من آداب القضاء وقواعده، وأدواته وعوائده: من تخصيص الحكم بأوقاته، ومساواته بين الخصمين في إنصافه وإنصاته، واجتناب الحكم في الأوقات المقتضية لتركه، وتوقّي نقض الأحكام التي نظمها عدم مخالفة النص والإجماع في سلكه، فإنه مكتف بالإجمال عن تفصيلها، مكتف عن ذكر كثيرها بالإيماء إلى قليلها، إذ هو أدرى بأوضاعها شرعا وعرفا، وأدرب بما قد يشذّ منها عن ألمعيّته أو يخفى، وملاك الوصايا تقوى الله تعالى وهي من خصائص نفسه، وفواتح ما ابتدأ الورع بإتقان درسه، والله تعالى يؤيد حكمه، ويعلي علمه، بمنّه وكرمه! والاعتماد [على الخطّ الشريف أعلاه] إن شاء الله تعالى.
واعلم أنه كان فيما تقدّم قد وليها قاض شافعيّ.
وهذه نسخة توقيع بقضائها، كتب به للقاضي «علم الدين الإخنائي» الشافعي، في ثامن شعبان سنة ثلاثين وسبعمائة، وهي:
الحمد لله الذي رفع لنا في كل ثغر علما، وأجرى لنا في جوار كلّ بحر ما يضاهيه كرما، وجعل من حكّام دولتنا الشريفة من يعرف بنسبه الإسنائي «1» بل السّنائي أنه يمحو من الظّلم ظلما.
نحمده على أن زادنا نعما، ووفّر للأحكام الشرعيّة بنا قسما، وأغلى قيما، فأضحت تنافس الدّرّ الثمين قيما، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نجرّد لإقامتها سيفا وقلما، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي جعل
الله له شريعة ماذيّة «1» ودينا قيما، ونصب من أئمة أتباعه كلّ علم يهدي أمما، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة باقية ما بقيت الأرض والسّما، وسلّم تسليما.
وبعد، فإنّ أولى الثّغور بأن لا يزال به علم مرفوع، وعلم مصون حجابه الممنوع، وعمل يمشي به أئمة الأمة على طريقه المشروع، ثغر الإسكندرية- حماها الله تعالى- فإنها من دار الملك في أعزّ مقام، ومن مجاورة البحر في موطن جهاد تخفق به الأعلام، وغالب من فيها إما فقيه يتمسّك بالشريعة الشريفة في علوّ علومه، أو ربّ مال له وقوف بمجلس الحكم العزيز ينتصف من خصام خصومه؛ ولم تزل وظيفة القضاء بها آهلة الصدور، كاملة البدور، متهلّلة بما لا يفوت الشّنب كبارق الجزع «2» إذا حكى إيماض الثّغور؛ وكان لها مدّة قد خلت ونحن نفكّر فيمن يكون سدادا لثغرها، وكافيا فيما يهمّ في الأحكام الشرعية من أمرها، وكافلا من الحق الذي أمر الله به بما يقي النفوس، وقائما في مدارسها بما يزيد معالمها إشادة في الدروس، حتّى أجمعت آراؤنا الشريفة على من يحسن عليه الإجماع وتحسم به دواعي النّزاع، ويحسد علمه علم الشمس لما علا عنها من كرة الارتفاع، ومن يتضوّع بنشر العدل في يمنى كفّه القلم، وإذا وقفت به الركائب قالت: يا ساري القصد هذا البان والعلم؛ وكان المجلس الساميّ القضائيّ العلميّ الإسنائي الشافعي، أدام الله علوّه هو العلم المنشور، والعلم المشهور، والمراد بما تقدّم من وصف مشكور، فاقتضت مراسمنا المطاعة أن تناط به من الأحكام الشرعية القضايا، وأن يبسم هذا الثغر بحكمه عن واضح الثّنايا.
فلذلك رسم بالأمر الشريف، العاليّ المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ،
الناصريّ: زاده الله شرفا، وضاعف له تصرّفا- أن يفوّض إليه القضاء بمدينة إسكندرية- حماها الله تعالى- على عادة من تقدّمه وقاعدته المستقرّة إلى آخر وقت، على أنه يستنيب عنه في تحمّله وفيما شاء منه من هو موصوف بصفته، موثوق بدينه وعلمه ومعرفته؛ ولينتصب في مجلس الحكم العزيز لمن ينتصف، وليعمل بما يرضينا من مراضي الله تعالى فإنّ للعيون أن تنظر وللألسنة أن تصف، ولينظر في أمر الشهود فإنّ الأحكام الشرعية على شهادتهم تبنى، وليحترز من الوكلاء فإنّ منهم من يجعل الظنّ يقينا واليقين ظنّا، ولينظر في أمور الأيتام ويتصرّف في أموالهم بالحسنى، وليقم الحدود، على مقتضى مذهبه، وليعوّل في العقود، على من لا يخاف معه امرؤ على إلحاق في نسبه، وغير هذا مما إليه مرجعه، وإليه ينتهي مفترقه ومجتمعه وبحكمه يفصل أمره أجمعه، وليتخذ الله تعالى عليه رقيبا، ويعلم أنه سيرى كلّ ما يعمله عند الله قريبا؛ وتقوى الله هي التي نتخذ معه عليها عهدا مسؤولا ورجاء مأمولا، وقولا عند الله وملائكته وأنبيائه مقبولا، ونقلّده منها على كل مخالف سيفا مسلولا، ونحن نرغب إلى الله أن يوفّقه في حكمه، ويعينه على كل ما يملى من الوصايا بما هو مليّ به من عمله وعلمه، والخط الشريف أعلاه، حجة فيه.
قلت: وكان قد استحدث بالإسكندرية قاض حنفيّ في الدولة الأشرفية «شعبان بن حسين» يولّى من الأبواب السلطانية رفيقا للقاضي المالكيّ بها، يتحدّث في الأحكام في القضايا بمذهبه خاصّة، وأمر مودع الأيتام ونظر الأوقاف، وغير ذلك من متعلّقات قضاء القضاة مختصّ بالمالكي، ثم صارت بعد ذلك تارة يولّى بها حنفيّ كذلك، وتارة تشغر منه. فإن وليها حنفيّ، كتب له في قطع الثّلث كما يكتب للقاضي المالكيّ، وليس بها الآن شافعيّ إلا نائبا عن المالكيّ، ولا حنبليّ بها أصلا.