الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلّ هذه الموادّ الخبيثة، واقطع ما يجدّد ضعفاء الناس من هذه الأسباب الرّثيثة؛ ومن وجدته قد غشّ مسلما، أو أكل بباطل درهما، أو أخبر مشتريا بزائد، أو خرج عن معهود العوائد، أشهره في البلد، وأركب تلك الآلة قفاه حتّى يضعف منه الجلد؛ وغير هؤلاء من فقهاء المكاتب وعالمات النّساء وغيرهما من الأنواع ممن يخاف من ذئبه العائث في سرب الظّباء والجاذر، ومن يقدم على ذلك ومثله وما يحاذر، ارشقهم بسهامك، وزلزل أقدامهم بإقدامك، ولا تدع منهم إلا من اختبرت أمانته، واخترت صيانته. والنّوّاب لا ترض منهم إلا من يحسن نفاذا، ويحسب لك أجر استنابته إذا قيل لك من استنبت فقلت هذا؛ وتقوى الله هي نعم المسالك، وما لك في كلّ ما ذكرناه بل أكثره إلا إذا عملت فيه بمذهب مالك.
الوظيفة الرابعة (وكالة بيت المال)
وهي وظيفة عظيمة الشان رفيعة المقدار، وقد تقدّم أن موضوعها التحدّث فيما يتعلّق بمبيعات بيت المال ومشترواته «1» : من أرض وآدرّ وغير ذلك مما يجري هذا المجرى، وأنّ متولّيها لا يكون إلا من أهل العلم والدّيانة، وأنّ له مجلسا بدار العدل: تارة يكون دون مجلس المحتسب، وتارة فوق مجلسه، بحسب رفعة قدر كل منهما في نفسه. وقد أضيف إليها في المباشرة نظر كسوة الكعبة الشريفة وصارا كالوظيفة الواحدة.
وهذه نسخة توقيع بوكالة بيت المال:
الحمد لله جامع المناصب الدينيّة، لمن خطبته لها رتبتان: العلم والعمل، ومكمّل الرّتب السّنيّة، لمن وجدت فيه أهبتان: الورع والتّقى، وعدمت منه خلّتان: الحرص والأمل، جاعل اختصاص الرّتب بأكفائها حلية الدّول،
والنظر في مصالحها الخاصّة والعامّة زينة أيامنا التي تتلفّت إلى محاسنها أجياد الأيّام الأول.
نحمده على نعمه التي عصمت آراءنا من اعتراض الخلل، وأمضت أوامرنا من مصالح الأمة بما تسري به المحامد سريّ النجوم ويسير به الشّكر سير المثل.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لم نزل نستنطق بها في الجهاد، ألسنة الأسل، ونوقظ لإقامتها عيون جلاد، لها الغمود جفون والسهام أهداب والسّيوف مقل، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أظهر الله دينه على الأديان وشرّف ملّته على الملل، وأسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إلى سدرة المنتهى وعاد ولم يكمل الليل بين السّير والقفل، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين هجروا في المهاجر إليه الأحياء والحلل، وشفوا بأسنّة سنّته العلل والغلل، وتفرّدوا بكمال المفاخر فإذا خلعت الأقلام على أوصافهم حللا غدت منها في أبهى من الحلل، صلاة تتوالى بالعشيّ والإبكار وتتواتر في الإشراق والطّفل «1» ، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى الرّتب بإنعام النظر في ارتياد أكفائها، وانتقاد فرائد الأعيان لها وانتقائها، واستخارة الله تعالى في اختيار من يكون أمر دينه هو المهمّ المقدّم لديه، واستنارة التوفيق في اصطفاء من يكون مهمّ آخرته هو المرثيّ المصوّر بين عينيه، مع ما اتصف به من محاسن سجايا جبلت عليها طباعه، وخصّ به من سوابق مزايا رحب بها في تلقّي المصالح الدينيّة صدره وباعه، رتبتان يعمّ نفعهما ويخصّ، ويحسن وقعهما بما يبديه من أوصافه ويقصّ، ويتعلّق كلّ منهما بجماعة الأمّة فردا فردا، ويشتملان على منافعهم على
اختلافها بدأ وإعادة وعكسا وطردا، ويكون المتصدّي لهما مناقشا على حقوقهم وهم ساهون، ومفتّشا عن مصالحهم وهم عنها لاهون، ومناضلا عنهم وهم غافلون، ومشمّرا للسعي في مصالحهم وهم في حبر الدّعة رافلون، ومتكلّفا لاستماع الدّعوى عنهم جوب فلوات الجواب، ومتكفّلا بالتحرّي في المحاورة عنهم وإصابة شاكلة الصّواب، ومؤدّيا في نصحهم جهده تقرّبا إلى مراضينا وله عندنا الرّضا وابتغاء ثواب الله: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ
«1» وهما وكالة بيت المال المعمور والحسبة الشريفة بالقاهرة المحروسة: فإنّ منافع وكالة بيت مال المسلمين عائدة عليهم، آئلة بأحكام الشريعة المطهّرة إليهم، راجعة إلى ما يعمّهم مسارّه، معدّة لما تدفع به عنهم من حيث لا يشعرون مضارّه، صائنة حقوقهم من تعدّي الأيدي الغاصبة، حافظة بيوت أموالهم من اعتراض الآمال العاملة الناصبة: وكذلك نظر الحسبة: فإنه من أخصّ مصالح الخلق وأعمّها، وآكد الوظائف العامّة وأكملها استقصائيّة للمصالح الدينيّة والدّنيويّة وأتمّها، يحفظ على ذوي الهيئات أقدارهم، ويبيّن بتجنّب الهنات في الصّدر مقدارهم، ويصون بتوقّي الشّبهات إيرادهم وإصدارهم، وينزّه معاملاتهم عن فساد يعارضها أو شبه تنافي كمال الصحة وتناقضها، ويحفظ أقواتهم من غشّ متلف، أو غلوّ مجحف، إلى غير ذلك من أدوية لا بدّ من الوقوف على صحة ترتيبها وتركيبها، وتتبّع الأقوال التي تجري بها الثّقة إلى غاية تجريبها؛ ولذلك لا تجمعان إلا لمن أوقفه علمه على جادّة العمل، واقتصر به ورعه على مادّة الحق فليس له في التعرض إلى غيره أمل، وسمت به أوصافه إلى معالم الأمور فوجد التّقى أفضل ما يرتقى، وعرضت عليه أدواته جوهر الذخائر فوجد العمل الصالح أكمل ما ينتقد منها وما ينتقى، وتحلّى بالأمانة، فصارت له خلقا وسجيّة، وأنس بالنّزاهة، فكانت له في سائر الأحوال للنّجاة نجيّة، وأرته فضائله الحقّ حيث هو فتمسّك بأسبابه وتشبّث بأهدابه، واتّصف به في سائر أحواله؛ فإن أخذ أخذ بحكمه وإن
أعطى أعطى به، واحترز لدينه فهو به ضنين، واستوثق لأمانته وإن لم يكن فيها بحمد الله متّهما ولا عليها بظنين، واجتنى ثمار المحامد الحلوة من كمام الأمانة المرّة، وعلم أنّ رضا الله تعالى في الوقوف مع الحقّ فوقف معه في كلّ ما ساءه للخلق وسرّه.
ولمّا كان فلان هو الذي أمسكت الفضائل بما كمّلها من آداب نفسه ونفاسة آدابه، وتجاذبته الرّتب للتحلّي بمكانته فلم تكن هذه الرتبة بأحقّ به من مجالس العلم ولا أولى به، وشهدت له فضائله معنى بما شهدت له به الأئمة الأعلام لفظا، ونوّهت بذكره العلوم الدينيّة التي أتقنها بحثا وأكملها دراية وأثبتها حفظا؛ فأوصافه كالأعلام المشتقّة من طباعه، والدالّة بدوامها على انحصار سبب الاستحقاق فيه واجتماعه؛ المنبّهة على أنه هو المقصود بهذه الإشارات التي وراءها كلّ ما يحمد من اضطلاعه بقواعد هذه الرّتب واطّلاعه؛ فهو سرّ ما ذكر من نعوت وأوصاف، ومعنى ما شهر من معدلة وإنصاف، ورقوم ما حبّر من حلل أفيضت منه على أجمل أعطاف- رسم.... «1» أن يفوّض.... «2» . تفويضا يقع به الأمر في أحسن مواقعه، ونضع به الحكم في أحمد مواضعه، ويحلّ من أجياد هذه المناصب محلّ الفرائد من القلائد، ويقع من رياض هذه المراتب وقوع الحيا الذي سعد به رأي الرائد.
فليباشر هاتين الوظيفتين مرهفا في مصالحهما همّة غير همّة «3» ، مجتهدا من قواعدهما فيما تبرأ به عند الله منّا ومنه الذّمّة، محاققا على حقوق بيت المال حيث كانت محاققة من يعلم أنه مطلوب بذلك من جميع الأمّة، متحرّيا للحق فلا يغدو لما يجب له مهملا، ولا لما يجب عليه مماطلا، واقفا مع حكم الله تعالى الجليّ في الأخذ والعطاء فإنّه سيّان من ترك حقّا أو أخذ باطلا، مجريا عوائد الحسبة على ما ألف من تدبيره، وعرف من إتقانه وتحريره، وشهر من
اعتماده للواجب في سائر أموره، مكتفيا بما اطّلع عليه قديما من مصالحها، منتهيا إلى ما سبقت معرفته به من أسبابها ومناجحها، والله تعالى يوفّقه في اجتهاده، ويعينه على ما يدّخره لمعاده، إن شاء الله تعالى.
وهذه وصية وكيل بيت المال أوردها في «التعريف» .
وهو الوكيل في جميع حقوق المسلمين وماله معهم إلا حقّ رجل واحد، والمكلّف بالمخاصمة عنهم حتّى يقرّ الجاحد، وهو القائم للدّعوى لهم وعليهم، والمطلوب من الله ومنّا بما يؤخذ لهم أو يؤخذ من يديهم، والمعدّ لتصحيح العقود، وترجيح جهة بيت المال في العقار المبيع والثمن المنقود، والمتكلّم بكتاب الوكالة الشرعية الثابتة، والثابت القدم والأقدام غير ثابتة، والمفسوح المجال في مجالس الحكّام، والمجادل بلسان الحقّ في الأحكام، والموقوفة كلّ دعوى لم تسمع في وجهه أو في وجه من أذن له في سماعها، والمرجوع إليه في إماتة كلّ مخاصمة حصل الضجر من طول نزاعها، وإبداء الدّوافع، ما لم يجد بدّا من الإشهاد عليه بعدم الدافع، والانتهاء إلى الحق كان له أو عليه ولا يقف عند تثقيل مثقّل ولا شفاعة شافع، وبوقوفه تحدّد الحدود [وتمتحن الشهود]«1» ويمشى على الطّرق المستقيمة، وتحفظ لأصحابها الحقوق القديمة، وبه يتم عقد كل بيع وإيجار إذا كانت المصلحة فيها لعامّة المسلمين ظاهرة، ولهم فيما يوكّل عنهم فيه الحظّ والغبطة بحسب الأوقات الحاضرة.
ونحن نوصيه في ذلك كلّه بالعمل بما علم، والانتهاء في مقتضى قولنا إلى ما فهم، وتقديم تقوى الله فإنه متى قدّمها بين يديه سلم، والوقوف مع رضا الله تعالى فإنه متى وقف معه غنم، والعمل بالشرع الشريف كيفما توجّهت به
أحكامه، والحذر من الوقوف في طريقه إذا نفذت سهامه؛ ومن مات له ورثة معروفة تستكمل بحقّها ميراثه، وتحوز بحظّها تراثه؛ لا يكلفهم ثبوتا يكون من باب العنت، والمدافعة بحقّ لا يحتاج [مستحقّه]«1» إلى زيادة ثبت؛ وإنما أنت ومن كانت قضيّته منكرة، والمعروف من مستحقّي ميراثه نكرة، فأولئك شدّد في أمرهم، وأوط شهداءهم في الاستفسار منهم على جمرهم؛ وتتّبع باطن الحال لعله عنك لا يتستّر، ولا يمشي عليك فيه الباطل ويمشي شاهد الزّور بكميّه ويتبختر؛ فإن تحقّقت صحة شهاداتهم وإلا فأشهرهم في الدنيا ودعهم في الآخرة لا يخفّف عنهم العذاب ولا يفتّر، وكلّ ما يباع أو يؤجّر ارجع فيه إلى العوائد، وتقلّد أمر الصغير، وجدّد لك أمرا منّا في الكبير، وذلك بعد مراعاة ما تجب مراعاته، والتأنّي كلّ التأنّي حتّى يثبت ما ينبغي إثباته؛ وشهود القيمة عليهم المدار، وبشهادتهم يقدّر المقدار؛ وما لم يكونوا من ذوي الأقدار، ومن أهل الخبرة بالبزّ والجدار، وممن اشترى العقار واستغلّه وبنى الدار؛ وإلا «2» فاعلم أنّ مثله لا يرجع إليه، ولا يعوّل ولا سيّما في حقّ بيت المال عليه، فاتّفق مع ولاة الأمور من أهل الأحكام، على تعيين من تعيّن لتقليد مثل هذه الشهادة، وتعرّف منهم من له كلّ الخبرة حتّى تعرف أنه من أهل الزّهادة، ولك أن تدّعي بحق المسلمين حيث شئت ممن ترى أن حقّه عنده يترجّح، وأن بيّنتهم تكون عنده أوضح، فأمّا الدّعوى عليك فمن عادتها أن لا تسمع إلا في مجلس الحكم العزيز الشافعيّ- أجلّه الله تعالى- ونحن لا نغيّر العوائد، ولا ننقض ما بنت الدول السالفة عليه القواعد؛ فليكن في ذلك المجلس سماعها إذا تعيّنت، وإقامة البينات عليها إذا تبيّنت، والله الله في حقّ بيت المال، ثم الله الله في الوقت الحاضر والمآل، ومن تستنيبهم عنك بالأعمال لا تقرّ منهم إلا من تقرّ به عينك، ويوفّى به عند الله لا بما تحصّله من الدنيا دينك؛ ومن كان لعمله