الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الأوّل (الوجه القبلي، وهو المعبّر عنه بالصّعيد)
وقد تقدّم في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك أنّه ينقسم إلى صعيد أعلى، وصعيد أسفل. وقد كانت ولايته العامّة في الزمن المتقدّم يعبّر عن صاحبها ب «والي الولاة بالوجه القبليّ» ثم استقرّت نيابة سلطنة على حدّ تقدمة العسكر بغزّة في رتبة المكاتبة، في الأيّام الظاهرية «برقوق» وهي على ذلك إلى الآن، ونائبها يكتب له تقليد بنيابة السلطنة بها في قطع النصف.
وهذه نسخة تقليد شريف من ذلك، من إنشاء الشريف «شهاب الدين» كاتب الإنشاء، وهي:
الحمد لله الذي رحم بتعاهد نظرنا البلاد والعباد، وحسم بموارد زواجرنا موادّ الفساد، وأحمد في هذا الوجه لنا الآثار ووطّأ بنا المهاد، وأفرد آراءنا بجميع المصالح على الجمع والإفراد، وأولى بنا الرعية الخير في استرعاء من يبذل في صيانتهم الاجتهاد، وأعلى بنا كلمة العدل فهي تنشر وتذاع وأوهى بنا كلمة الظّلم فهي تقهر وتذاد، وأجلى بانتقامنا فئة الضلال فلها عن ملكنا الشريف اندفاع وانطراد «1» .
نحمده على أن قرن بآرائنا السّداد، ونشكره على أن ضمّن اصطفاءنا حسن الارتياد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تقوم حجّتها، يوم يقوم الأشهاد، وتدوم بهجتها، علما للإرشاد، ونشهد أنّ سيد البشر محمدا عبده ورسوله الذي فضل العالم وساد، وأجزل المكارم وجاد، وهدى بشرعه من حاد، وأردى بردعه من حادّ، وأجرى بجوده النفع حيث كان وأبدى ببأسه القمع لمن كاد، وأخمد بأسيافه الباطل فباد، وجعل لأنف مخالفه الإرغام ولجيش مجانفه «2» الإرعاد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأنجاب الأنجاد، صلاة
لها تضاعف وتعداد، وبفتكاتهم للنوائب إخماد، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد فإنّ الله تعالى لما أعلى هممنا وأصعدها، ووفّى عزائمنا من النصر موعدها، وأسعف بملكنا الرعية وأسعدها، وضاعف بنا لديهم النّعمة وجدّدها، وأوضح بنا سبل المعدلة وجدّدها، وأنجح بسلطاننا آمال الخليقة وأنجدها- لم نخل من ملاحظتنا أدنى الأقطار ولا أبعدها، ولم نغفل من ممالكنا ناحية إلا نحاها فضلنا وقصدها فأقرّ بها الصالحات وخلّدها، وأثرّ بها المسامحات «1» وأبّدها، ونصر الشريعة وأيّدها، وسدّ الذّريعة بأفعال حزم سدّدها، ووطّن أهلها ووطّدها، وأورد من بها موارد الأمن لما وردها.
ولما واجه إقبالنا في هذه الأيّام الوجه القبليّ، وصعد إلى الصعيد الأعلى ركابنا العليّ، لمحنا بلاده وتعدّدها، وتعيّن ملاحظته وتأكّدها، وكثرة السّلّاك لسبله، والملّاك لخوله «2» ، والورّاد لنهله، والوفّاد من قبله؛ وهو منهج التّجار في التوجه من أبوابنا الشريفة والجواز، وباب اليمن والحجاز؛ وفي الحقيقة هذا المجاز يتعين له الحفظ وفيه الاحتراز، وبه كراسيّ منها السّيارة تمتار وعلى سواها من البلاد تمتاز، وبه مراكز ولاة ينفرد كلّ منها عن الآخر وينحاز، وهي:
إطفيح، والبهنسى، والأشمونين، ومنفلوط، وسيوط، وإخميم، وقوص. وهذه الأقاليم مجتمعة متفرّقة، وحدود بعضها ببعض متعلّقة، وبها إقطاعات مقدّمي الألوف والطّبلخاناه والمماليك والحلقة، وإليها تردّد الرّكّاضة «3» والمرتزقة، وربّما أخاف المفسدون من بعضها سبله وقطع طرقه، فاتّهم البريّ، وسلم الجريّ، ولبّس على من هو عن الخيانة عريّ؛ فرأينا أن ننصب بهذه الأقاليم
والي ولاة يجوس بنفسه خلالها، ويدوس بخيله سهلها وجبالها، ويفجأ [مفسديها، ويبغت معتديها]«1» ، ويخمد نفاقها، ويحمد وفاقها، وينصف ضعافها، ويذهب خلافها، ويزيل شكواها، ويكفّ عدواها، ويصلح فسادها، ويوضّح سدادها، ويوصّل حقوقها، ويستأصل عقوقها، ويواصل طروقها، ويقابل بالعقاب فسوقها، ويمنع باهتمامه أهواءها، ويشفي بحسامه أدواءها.
ولما كان المجلس الساميّ، الأميريّ، الحساميّ هو الذي عرف أحوالها وخبرها، وولي من أقاليمها ما علم به مصالحها واعتبرها، وعهدت منه الأمانة والكفاية، وتحقّقت نهضته في كل عمل ويقظته في كل ولاية- اقتضى حسن الرأي الشريف أن تفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بهذه الأعمال المذكورة والأقاليم كلّها، وأن ينتضي فيها حسامه الذي ينبغي أن يرتضى وينتضى لمثلها، وأن يحلّ محلّه إذ اخترناه لأعلى رتب الولاة وأجلّها، وأن نصل أسباب النعمة لديه بهذه النعم التي كلّ ولاية فرع لأصلها.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زالت أيامه الشريفة تخصّ الرتب العلية بأهلها، وتشمل ذوي الاهتمام بإحسانها وفضلها- أن يفوّض إلى المشار إليه ولاية الولاة بالوجه القبليّ. فليباشر ذلك بهمّة تمضي في البلاد عزائمها، ونهضة تسير إلى دانيها وقاصيها صوارمها، وشهامة يدهش المتمردين قادمها، ويفقد موادّ الفساد من حسامها حاسمها.
ونحن نرسم له بأمور يلازمها، ونوصيه بوصايا يداومها؛ أن يكون بتقوى الله تعالى عاملا، وللنّصح باذلا، وللشريعة معظّما، ولمراقبة الله تعالى مقدّما، وللحقّ متّبعا، وإلى الخير مسرعا، وللمؤمنين مؤمّنا، وللمنافقين موهّنا، وللرّعايا موطّنا، وللنزّاهة مظهرا ومبطنا، وعن الأبرياء كافّا، وعن الأتقياء عافّا، وعن
الأموال منزّها، وإلى ما يصلح الأعمال من صالح الأعمال «1» موجّها، وليغد في الأمور متثبّتا، ولذوي الفجور مشتّتا، ولسماع حجج الخصوم منصتا، ولا يجعل لحلوله الأقاليم حينا مؤقّتا، بل يدخل المدينة على حين غفلة من أهلها، وليبغت بحلوله هذه النواحي ليعلم ما هم عليه من ترك الفواحش أو فعلها، وليقم بكل جهة من يعلمه بما يحتاج إلى علمه، ويبكّر له بما يفتقر أهل البلاد إلى السّتر عنه وكتمه، وليلحظ المحارس والأدراك «2» ، وليجعل لكل شارد من بطشه أسرع إدراك- وقد رسمنا لولاة الأعمال المذكورة ومن فيها من نوّاب الأمراء والمشايخ بهذه الصورة وأن لا يجيروا مفسدا ولا يؤوه، ولا ينزلوا خائنا ولا يحووه، ولا يستروا مختفيا ولا يخبوه، ولا يحلّوا نازحا ولا يوطّنوه، بل يحضروه ولا يؤخّروه، ويمسكوه ولا يتركوه، ويسلموه ولا يحموه؛ ومن خالف هذا المرسوم، أو اعتمد غير هذه الرّسوم، فهو لنفسه ظلوم، وقد برئت منه الذّمة، وزالت عنه الحرمة، وزلّت قدمه، وذهب ماله ودمه؛ وقرئت مراسيمنا بذلك هنالك على منابر الجوامع، وسمعها كلّ سامع، وهم لك على امتثال أوامرنا مساعدون، وعلى اجتناب نواهينا معاضدون، وللإصلاح ما استطاعوا مريدون وقاصدون؛ فلا تمكّن أحدا من العربان ولا من الفلّاحين أن يركب فرسا، فإنما يعدّها للخيانة مختلسا، ولا يكون لها مرتبطا ولا محتسبا؛ وكن لهم ملاقيا مراقبا، فمن فعل ذلك فانتقم منه بما رسمنا معاقبا؛ ولا تمكّنهم من حمل السلاح ولا ابتياعه، ولا استعارته ولا استيداعه، وتفقّد من بالأقاليم من تجّاره وصنّاعه؛ فخذ بالقيمة ما عند التجّار، واقمع بذلك نفس الفجّار، وأضرم نار العذاب على من أضرم لعمل ذلك النار؛ وأمر كلّ فئتين متعاديتين بالمصالحة، وأكفف بذلك يد المكافحة، وحلّف بعضهم لبعض بعد تحليف أكابرهم لنا
على السّيرة الحميدة والنّيّة الصالحة، وخذهم في الجنايات بالعدل والمشاححة «1» ، وفي المطالبات بالرّفق إن لم تكن مسامحة، واحملهم على محجّة الحق الأبلج والشريعة الواضحة. وإذا رفعت إليك شكوى فأزلها، أو سئلت إقالة عثرة لذي هيئة فأقلها، أو وجب حدّ فأقمه لحينه، أو ارتبت في أمر فتروّ حتّى تهتدي ليقينه، ولا تعتقل إلا من أجرم جرما يوجب الاعتقال والحبس، ولا تسرع إلى ما تخشى فيه اللّبس، واعمل على براءة الذّمّة، واجهد أن لا يكون أمرك عليك غمّة، ولا ترجّح للهوى على خصم خصمه، ولا تظلمه فإنّ الظّلم ظلمة، وخف نقمة الله فهي أعظم نقمة، ولا تأخذك على البريء غلظة ولا قسوة كما لا ينبغي أن تأخذك في الجريء رأفة ولا رحمة؛ والله تعالى يرفع لك بالطاعة رتبا، وينجح لك بالخدمة طلبا، ويبلّغ بك في الإصلاح أربا، ويردّ بك أمر كل مفسد مخيّبا، ويوضح لك من الهداية مغيّبا، وينزل بك من الخيرات صيّبا؛ والخطّ الشريف أعلاه حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بنيابة السلطنة بالوجه القبليّ أيضا، من إنشاء الشريف شهاب الدين، كتب به «لعلاء الدين المرادي» وهي:
الحمد لله الذي جعل إقبالنا مسفر الوجوه، ونوالنا مبلّغا كلّا من الأولياء ما يؤمّله من القرب من أبوابنا الشريفة ويرجوه، وإفضالنا يوفّر أقسام النّعم لمن وفّر دواعيه على طاعتنا فلا يزال استحقاقه يعيّنه ويدعوه، وإجمالنا ينجز وعود التقديم لمن تعدّدت خدمه فلا يتجاوزه التكريم ولا يعدوه.
نحمده على أن جعل إنعامنا يهب الجزيل ويحبوه، ونشكره على أن أقامنا نحقّ الحق فنرفعه فيدمغ الباطل ويعلوه.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة هي خير ما ينطق به الإنسان ويفوه، لا يبرح اللسان يكرّر إخلاصها ويتلوه، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي رفع الله ببعثته عن هذه الأمة كلّ مكروه، وحمى بشرعته الدين الحنيف فلا يلمّ به التبديل ولا يعروه، وأفاض ببركاته في كل وجه ما يوسع الخير ويدرّه ويمنع الشّر ويذروه، صلى الله عليه وعلى آله الذين هم عترته وأقربوه، وصحبه الذين استمعوا قوله واتّبعوه، صلاة لا يزال وافدها يتبع سبيل الإجابة ويقفوه، ويصل إلى محل القبول ولا يجفوه، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإنّ الله تعالى لما قرن آراءنا بالسّداد، وأحسن بنا النظر في صلاح البلاد ومصالح العباد، لم نزل نرفع أقدار المخلصين بمزيّة الاختيار والارتياد، ونجمعهم في صعيد الإحسان ونحلّهم رتب الإصعاد، وندني منهم من له تامّ اهتمام وشادّ اجتهاد، ونميز منهم من حسن حالا بالجمع والإفراد.
والولاية على الولاة بالوجه القبليّ من أهم ما يلمح، وأعمّ ما يختار له من للحق ينصر وللخلق ينصح؛ إذ بهذا الوجه عيون البلدان، ووجوه العربان، وكراسيّ الأقاليم الحسان، ومراكز الولايات التي تحلّ دائرة السّوء بأهل العدوان، وإقطاعات الجند والأمراء، والخواصّ الشريفة التي على عمارتها إجماع الآراء، وعليه تتردّد التّجّار، وإليه بالميزة يشار، ومنه تتعدّد المنافع فيتعيّن أن ندفع عنه المضارّ، ونلقي أموره لمن ينتقى حزمه وعزمه ويختار.
ولمّا كان فلان هو الذي له ولايات اقتضت تقديمه، وسبقت منه سوابق خدم أجزلت تكريمه، وما زال في الشام عليّ الهمّة حسن الشّيمة، وطهّر البرّ من كل فاجر، ورأى أن التّقوى أربح المتاجر، وأعذب للرعية من المعدلة الموارد فصدر من أبوابنا إلى أحمد المصادر- اقتضى حسن الرأي الشريف أن نجعل له من إقبالنا النصيب الوافر، فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا برح يزيد الأقدار علاء ويظهرها من تكريمه في أحسن المظاهر- أن تفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالوجه القبلّي وجميع نواحيه، على عادة من تقدّمه في ذلك
ومستقرّ قاعدته إلى آخر وقت.
فليتلقّ هذه الولاية المباركة بقبول حسن، وليوقظ جفن سيفه الذي لم يعرف الوسن، وليتّق الله ربّه في السّرّ والعلن، وليحكم بما شرع الله وسنّ، وليجتهد في إحماد العواقب وإخماد الفتن، ليسكن من تردّد إليها أو سكن.
وليلاحظ هذه الأقاليم بعزائمه السّيّارة، وليحافظ على سلوك سيرته السارة، وليستطلع من كل بلد أخباره، ويتتبّع من كل وال آثاره؛ وإن رأى منكرا أزاله، أو وجد مبطلا أذاله أو حقّا أداله؛ وليعظّم أحكام الشرع وحكامه، وليجعله إمامه ليسعى نوره أمامه، وليطالعنا بما تتعيّن فيه المطالعة، ويراجع أوامرنا فيما تجب فيه المراجعة، وليستجلب لأيامنا الأدعية النافعة، وليباشر بنفسه الأمور التي هي له راجعة، وليراع في القضايا المصلحة الجامعة، ولتكن حمايته للمؤمنين واقية وفتكته بالمجرمين واقعة، وليسع الرعايا بالمعدلة الواسعة، ويمنع المجترئين بالأخذة الرابية والهيبة الرادعة، ولا يمكّن أحدا من العربان بجميع الوجه القبليّ أن يركب فرسا ولا يقتنيه، ويكف بذلك الأيدي المعتدية فإنّ المصلحة لمنعهم من ركوبها مقتضية، وليقم الحرمة والمهابة، وليدم قيامه في الخدمة وانتصابه، وليرهف حدّ عزمه ويمضيه، ويجرّد سيف الانتقام على المفسدين وينتضيه؛ ومن وجده من العربان خالف المرسوم الشريف من منعه من ركوب الخيل كائنا من كان ضرب عنقه، وأرهقه من البطش بما أرهقه: ليرتدع به أمثاله، ولا يتّسع لأحد في الشرّ مجاله.
وقد كتبنا إلى سائر ولاة الأقاليم بمساعدته، وأمرناهم بمعاونته ومعاضدته، وأكّدنا عليهم في المبادرة إلى ما يراه من جميع الأمور من غير تهاون ولا تقصير ولا فتور، حتّى لا تفوت مصلحة عن وقتها، ولا تزال جموع المعتدين معاجلة بكبتها؛ وقد حذّرنا العربان من مخالفة ما رسمنا بالتعرّض لما يوجب هلاك نفوسهم، وقطع رؤوسهم.
وليقرأ هذا المرسوم الشريف على المنابر بجميع نواحي الوجه القبلي لتمتثل مراسمه، ويتلقّى بالقبول قادمه، وليقفوا عنده، ويقفوا رشده، ويرهبوا من
الشرّ وعيده ويستنجزوا من الخير وعده؛ وهو- بحمد الله- ما برح مهذّبا، وبأكمل الآداب مؤدّبا، وبما يفعله إلى رضا الله تعالى ورضانا مقرّبا؛ والله تعالى يجعله مختارا مجتبى، ويوزعه شكر منحنا الذي أجزل له الحبا، وخصّ به هذا العمل الجليل فضاعف خصبه واهتزّ وربا، ويطلعه مباركا ميمونا حيث حلّ قيل له: مرحبا، ويصعد به هذه الرتبة ويهبه توفيقا مستصحبا، ويمهّد به الطرق للسالكين حتّى يتلو عليه لسان التأمين: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً*
«1» ؛ والخطّ الشريف أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد شريف بنيابته أيضا، من إنشاء المقرّ الشهابيّ بن فضل الله، وهي:
الحمد لله مطلق التصرّف فيما كان ممنوعا، ومنطق المتصرّف ليكون قوله الصواب مسموعا، وموسّع نطاق المصرف في جميع ما تعيّن أن يكون له مجموعا.
نحمده حمدا يعذب ينبوعا، وينبت بمزيد الشكر زروعا، ويدرّ ضروعا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تتفرّع فروعا، وتسكّن جموعا وتسكّت جموعا، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أقوى لأهل الطّغيان ربوعا، وأجرى لعيون الزّرد عليهم دموعا، وأغرى القسيّ بالحنين إليهم وروعا، وأسقط على لبّاتهم «2» طيور السّهام وقوعا، ومهّد البلاد بقتلاهم فآمن من خاف وأطعم من تشكّى جوعا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تعمّ درع الفجر بشفقها المخلّق صدوعا، وسلم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّه لا يستقيم نجاح الأمور، ويستدام صلاح الجمهور، إلا بتفقّد
أحوال ولاتهم، وتعهّد سلوك الرعايا مع رعاتهم، وردّ مجموع كلّ عمل إلى من لا يبيت طرفه في مصالحهم مملوءا من الوسن، ولا يقرّ له في التنقّل في مهماتهم جواد في رسن، ولا تهدأ سيوفه في الأغماد ما برقت بارقة فتن، ولا يشرب الماء إلا ممزوجا بدم ولا يبيت [إلا]«1» على دمن؛ وكانت الديار المصرية المحروسة أحوج شيء إلى هذا الموصوف، وأكثر اضطرارا إلى ما تشام له في صلاح رعاياها لوامع سيوف؛ والوجه القبليّ بها هو الجامع ما يزيد على السّبعة الأقاليم، الحائز من أهل الحضر والبادية لكلّ ظاعن ومقيم؛ قد امتدّ حتّى كاد لا ينتهي إلى آخر، ولا يلتهي بما يكنفه من برّ مقفر وبحر زاخر، قد جاور بالأودية العميقة الحوت في الماء وجاوره في السماء برفعة الجبال، وتطاول حتّى اتصل طرفاه الجنوبيّ بالجنوب والشّماليّ بالشّمال، وحوت مجاريه من النيل المبارك ما مدّ الرّزق الممتدّ، وأمدّ المدّ المبيضّ على عنبرة ثراها المسودّ؛ وهو الوجه الذي تعرف في كوثر نيله نضرة النّعيم، ويبهر حسنا من أوّل قطرة تقع من مرآه الجميل على وسيم، قد حال فيه الماء محمرّا كأنما يشرب ندى ورد الخدود، وحلا كأنما ضرب الضّرب «2» في لمى ريقه المورود، وكان لا ينهض بأعبائه، ويردّ بالغيظ متقرّحة عيون رقبائه، ويمنع كلّ منسر منسر يحذر أن ينتهب وذيل «3» خبائه، إلا من تقدّمت له درب يتعلّم في جليل الخطوب من مضائها السّيف المذرّب، ويقتدي في دقيق التلطّف بسياستها القلم المجرّب؛ وكان فلان هو الذي تتهادى كفايته الأعمال، ويتعادى نفعه والسّحب فلا يدرى لمن منهما التروّي ولمن الارتجال؛ وقد ولي الأعمال البهنساويّة وهي في هذا الوجه الجميل أبهج صورة، وأبهى فيما تكثر منافعه المشهورة، فأضحى المغلّ في
بيادره يتبادر، والإقبال يتكاثر إقباله والمحل يتنازر، ومزدرعاتها تعرف سيماها في وجوهها من أثر سجود الليل كزرع أخرج شطأه «1» فاستازر، فاقتضى حسن رأينا الشريف أن نطلق تصرّفه فيما جاوره من الأعمال، وأن نشغل له يمينا باليمين وشمالا بالشّمال.
فخرج الأمر الشريف العالي- لا زال يؤيّد عزّ الدين ظهورا، ويتمّ له في أعماله نورا- أن يكون فلان كاشفا»
ووالي الولاة بالوجه القبليّ بأجمعه: معطّله ومزدرعه، وبرّه وبحره، وعامره وقفره، وأهل حضره وباديته، وأصحاب زرعه وماشيته، على عادة من تقدّمه وقاعدته في ذلك، ليأمن المقيم والسالك، ويجمع على الطاعة من قبله هنالك، وينتظم عقد عقائدهم المتهالك، ويقوي الله أجره، والشرع الشريف يكون نهيه وأمره، والحكّام والأحكام هما ما هما فليحفظ زمامهما، ولينفّذ إلى الأغراض سهامهما، وليوصّل الحقوق إلى أربابها، ويسهّل المطالب على طلّابها، ولينصف إنصافا لا يشتكى معه حيف، وليقم المهابة حتّى لا يقدر على التعدّي طارق طيف، وليجرّد عزائمه فإنّ من العزائم ما هو أمضى من السّيف، وليحسن قرى النّيل القادم في كل قرية فإنّه ضيف.
فعليك بما نأمرك به من تعبئة صفوف الجسور لأمداده، والاستعداد لمجرّ عوالي صواريه ومجرى جياده؛ وتفقّد قبل قدومه طريقه، واترك عن ريّ البلاد تعويقه، وأقم الجسور، فهي قيام الجسور، واحفر التّراع «3» فإنها تراعى، وأسفر له عن عرائس قراها المجلوّة وجوها كلّما قسن له إصبعا يقيس ذراعا،
واقطع بإيصال حقّ كلّ ناحية إليها من الماء منازعة الخصوم، ونبّئهم أنّ الماء قسمة بينهم لكلّ منهم شرب يوم معلوم، ولا تدع [به أحدا]«1» من أهل المفاسد، ومن جرت لهم بسوابق الفتن عوائد، ومن يتعزّز بربّ جاه، ومن لا «2» يكون له إلى حماية اتّجاه، ومن خرج بوجهه للشرّ مصرّحا، أو لباب عقاب مستفتحا، أو وقف على درب أو قطع طريق، أو توعّد أهل رفاق أو أهل فريق، أو أقدم على ضرر أحد في نفس أو مال، أو خشيت له عاقبة في بداية أو مال، أو نزل في بلد أمير ليتغطّى بجناحه، أو ترامى إلى عصبة يحمل منهم حدّ سلاحه؛ فسلّ عليهم سيفك الماضي، وأحسن إلى الناس إذا خشيت أن تسيء إليهم التقاضي؛ ومن أمسكته منهم فأمض حكم الله فيهم، وأقم الحدود على متعدّيهم، وطهّر الأرض بماء السّيوف من أنجاسهم، وعلّق منهم أناسا بحبل الوريد إلى مدارج أنفاسهم، واصلب منهم على الجذوع من تناوح الرياح بسعفهم، وأوثق منهم بالسّلاسل والأغلال من لا تقتضي جرائمهم إيصالهم في المقابلة إلى حدّ تلفهم، وأكرم قدوم من يرد عليك من الكارم «3» ، وقرّر بحسن تلقّيك أنك أوّل ما قدّمناه لهم من المكارم، فهم سمّار كلّ نادي، ورفاق كلّ ملّاح وحادي؛ ولا بدّ أن يتحدّث السّمّار، وتتداول بينهم الأسمار؛ فاجعل شكرنا دأب ألسنتهم، ومننا حلية أعناقهم، ومنحنا سببا لاستجلاب رفاقهم؛ فهم من موادّ الإرفاق، وجوادّ ما يحمل من طرف الآفاق؛ وقد بقي من بقايا أهل العقائد الفاسدة، والمعاقد البائدة، من يتعيّن إقعاد قائمهم، والتيقّظ لمتيقّظهم والنوم عن نائمهم.
ونحن ننبّهك على هذه الدّقائق، ونوقفك على أطرافها ولك رأيك إذا حقّت الحقائق؛ وطالع أبوابنا العالية بما أشكل عليك، تتنزّل أنوار هدانا أقرب من رجع نفسك إليك، وأقدر حقّ هذه النّعمة فإنّنا أوليناك منها ما لا يضاهى، وولّيناك من بلادنا قبلة