الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ناظرا في الوقوف ومصارفها، وتتّبع شروط واقفها، بكل ما يعود بتعمير أعمالها، وتثمير أموالها، وتدبير أحوالها، مطالبا بحساب من تقدّمه وتحقيق مبالغه تكميلا وإضافة، واحتسابا وسيافة، وليطلب شواهده، وليبن على الصحة قواعده وليلتمس ما يصح من بواقيه من جهاتها، وليكشف بما يوضّحه من سبل الأمانة وجوه شبهاتها، وقد أذن له في استخدام من يراه من النوّاب والمتصرفين والمشارفين «1» ، والوكلاء والمستخدمين، على ما جرت به العادة، من غير زيادة. وسبيل النواب- أيدهم الله- العمل بالأمر العالي وبمقتضاه، والاعتماد على العلامة الشريفة، إن شاء الله تعالى.
المرتبة الرابعة (أن يفتتح بلفظ: «إن أحق» أو «إن أولى» أو «من كانت صفته كذا» وما أشبه ذلك)
فمن ذلك نسخة منشور بنقابة الأشراف «2» ، وهي:
من كانت أوصافه شائعة بين الأنام، وصنوف فضائله منشورة لدى الخاصّ والعام، مع شرف نسب شامخ الأعلام، وتقى فخر به على الأنام، وعلم يجلى به صدأ الأفهام، وعفّة مرائرها محكمة الإبرام- كان جديرا بإفاضة سجال النّعم عليه، وقمينا بإرسال سيل المواهب إليه.
ولما كان الشيخ فلان متصفا بهذه الصفات الجميلة، ومتخصّصا بمزاياها الجليلة، وضاربا فيها بالسّهم المعلّى، ونازلا منها في الشّرف الأعلى، ومتقمّصا
ثوب الإخلاص والصّفاء، ومتّشحا بوشاح العفّة والولاء- اختصصناه بزيادة التقديم والاجتباء، وحبوناه بوفور الكرامة والاصطفاء، وأجريناه على مستمرّ رسمه بالرّعاية على ذرّيّة أهل العباء «1» ، حسب عادته المستقرّة إلى آخر عهد من كانت الإيالة إليه وإلى رحمة الله مضى: ليسير فيهم بكتاب الله العظيم وسنّة رسوله، ويسلك جدد الحق الذي يوصّله من الزّلفى إلى أقصى مناه وسوله، ويحضّهم على تلاوة القرآن، ومعرفة ما يصلح للأديان. وليسوّ في الحكم بين الضعيف فيهم والقويّ، ويعمّ بالإنصاف الفقير والغنيّ، وليحسن إلى محسنهم، وليجر على فضله لمسيئهم، بعد أن يقدّم إليه زجرا ووعيدا، ويوسعه إنذارا وتهديدا، فإن وعى وارعوى وإلا سلّط عليه أسباب الأذى، وتولّاه بما يستحقّه من الجزا، ويعيده إلى حالة الاستقامة والاستواء، ويكفّه عن دواعي الهوى.
ومن وجب عليه حدّ أقامه فيه، وبادر إلى اعتماده وتوخّيه، حسب ما يوجبه حكم الشرع ويقتضيه.
وليكن رؤوفا بهم ما استقاموا، ومنتقما منهم ما اعوجّوا ومالوا؛ وإن وجب على أحدهم حقّ لمليّ أو دنيّ، استخلصه منه ولم يمنعه تعلّقه بنسب شريف عليّ، وإن افترى منهم مفتر على أحد من الملل، قابله عليه بما يزجره عن قبيح العمل: فإنّ الناس في دار الإسلام ومن هو تحت الذّمام سواسية، وأقربهم إلى الله تعالى من كانت سيرته في الإسلام رضيّة، وطويّته في الإيمان خالصة نقيّة، ومن حكم عليه حاكم من الحكّام، بحقّ ثبت عنده بالبيّنة العادلة أو الإعلام، انتزعه منه أو سجنه عليه، إلى أن يرضي خصمه أو يردّ أمره إلى الحاكم ويفوّضه إليه.
وليحرس أنسابهم بإثبات أصولها، وتحقيق فروعها، ومن رام دخولا فيه بدعوى يبطل فيها نقّب عن كشف حاله، وإظهار محاله، وجازاه بما يستحقّه أمثاله، ويرتدع فيما بعد مثاله: ليخلص هذا النسب الكريم، من دعوى
المجهول، واندماجه في أسرة الرسول، عليه أفضل الصلاة والتسليم، ويمنع من اتصال أيّم من الأسرة إلى عامّيّ، ولا يفسّح أن يعقد عليها عقد إلا لكفء مليّ: ليبرأ هذا المجد الشريف من التكدير، ولا تزيّفه شوائب التغيير.
ولينظر في الوقوف على المشاهد والذّرّيّة، نظرا يحمده عليه من يعلمه من البريّة، ويحظيه بالصواب عند مالك المشيّة، ويبتديء بعمارة أصولها واستكمال فروعها، وقسمة مغلّها على ما تضمنه شرط الواقفين لها، وليحتط على النّذور، وينفقها على عادتها في المصالح والجمهور، عالما أنّ الله تعالى سائله عمّا توخّاه في جميع الأمور، وأنه لا يخفى عليه كلّ خفيّ مستور. قال الله سبحانه:
يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ
«1» وأذنّا له أن يستنيب عنه في حال حياته، وبعد وفاته- فسّح الله له في المهل، وخوّله صالح العمل- الأرشد من بنيه، ومن يختاره لهذا الأمر وله يرتضيه. وقد أنعمنا عليه بإجراء ما كان باسمه مستمرّا إلى الآن، وأضفنا إليه ما يعينه على النظر في مصالح الأسرة أدام الله له علوّ الشان، من تمليك وإدرار وتيسير، وجعلناه له مستمرّا، وعليه مستقرّا، ولمن بعده من نسله والأعقاب، على توالي الأزمان والأحقاب، وحظرنا تغييره وفسخه، وتبديله ونسخه: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
«2» وهو معيّن من ديوان الاستيفاء «3» المعمور، بهذا المنشور المسطور، بالأمر العالي أعلاه الله وأمضاه، عمّا كان قديما، وما أنعم عليه به آخرا، وهو القديم الذي كان له وشهد به الديوان المعمور، وهو الإقطاع من ناحية كذا، ويجرى على عادته في إطلاق ما قرّر له من ناحية كذا بشهادة الديوان الفلاني، والمحدّد الذي
أنعم به عليه لاستقبال سنة سبع وسبعين وما بعدها. وسبيل كافّة الأسرة الطالبيّين بمدينة كذا الانقياد إلى تباعته، والامتثال لاشارته، والتوفّر على إجلاله وكرامته، فإنه زعيمهم، ومقدّمهم ورئيسهم، ومن خالفه منهم قابلناه، وبأليم العقاب جازيناه، والاعتماد في ذلك أجمع على التوقيع الأشرف العالي أعلاه الله، والعلائم الديوانيّة فيه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة بولاية الشرقية، وهي:
لمّا كانت الأعمال الشرقيّة أجدر البلاد بأكيد الاهتمام وأخلق، وأولاها بإضفاء سربال الاهتبال الذي لا يخلق إذا رثّ سواه وأخلق، وأقمنها بحسن نظر يرسل لرسول عليّ الرسم الأعنّة في إدامة نضرة العمارة عليها ويطلق، وأحقّها بأن يبرم لها سبب تفقّد لا يلتصق به رهن ولا يغلق، وأجراها باعتناء يقضي لأمرها بالاطّراد، وأولاها بتعهّد يجعل مصالح الشؤون آلفة للثّواء بها والمقام عائفة للنشوز عنها والشّراد، لأنها باب الشام، وإليها ترد القوافل المتردّدة منه على مرّ الأيّام، ومنها يستكشف الأخبار ويستنهض الطوالع والمتخبّرين، وبمواصلة التفقّد تعلم الأحوال الطارئة في كل وقت وحين، فتجب المبالغة في حفظ طرقاتها ومياهها، وأن تصرف الهمم إلى ضبط أحوالها، وعامة أنقابها واتّجاهها، ويوضع بناء الحزم في صون أطرافها على أثبت قاعدة ويؤسّس، ويبالغ في إذكاء العيون على كل طارق يتخبّر للعدوّ الملعون ويتجسّس؛ وكنت أيّها الأمير من المشهورين بالشجاعة والإقدام، وذوي الكفاية الموفي ثراؤهم أيّها الأمير من المشهورين بالشجاعة والإقدام، وذوي الكفاية الموفي ثراؤهم فيها [على]«1» عارض الإعدام، وما زلت معدودا من خاص الأتراك الأعيان (بسهم)«2» ، المقصّر مجاروهم إلى غاية البسالة عن اللّحاق بهم والإدراك؛ وقد
تقدّمت ولايتك هذه الأعمال فقصدت منها قصدا سديدا، وألحفت الرعايا ظلّا من الأمنة مديدا- خرج الأمر بإيداع هذا المنشور ما أنعم به عليك من إعادتك إلى ولايتها، فبالغ في استيضاح الأنباء وكشفها، ورفع الونية في ذلك وصرفها، ووكّل به عزمة لا تلمّ سنة بطرفها، وانته فيه إلى غاية تضيق سعة القول بوصفها، وتابع في تسيير الطلائع وندبها، وعوّل من كلّ قبيلة من العربان المستنهضين على شهمها وندبها، واجتهد في حفظ الطّرقات والمناهل، واستنهض للتحرّز عليها من هو عالم بها غير جاهل، وتحفّظ من جلل يتطرّق- والعياذ بالله- على البلاد وخلل يتخلّلها، وانتض لهذه المهمات بصارم حدّ تسلم مضاربه من عجز يفلّلها، ولا تبق ممكنا في إنفاذ المتخبّرين، وإرسال من يغير على بلاد العدوّ من الخبيرين، بما [أنّ]«1» هذه سبيل المتدرّبين، وألزم أرباب الحدود من جميع الأقطار حراسة حدودهم، وخذهم باستنفاد وسعهم في الاحتياط واستفراغ مجهودهم، وطالع بما يورد قبلك؛ وأنه ما يزيح بسرعة إجابتك عنه في الخدمة عللك؛ فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة بولاية المرتاحية «2» ، وهي:
خرج الأمر بكتب هذا المنشور وتضمينه: إنّ من أظهر خلاصة جوهره السّبك، وارتفع في إشكائه بالإنصاف عن كل شاك الشّكّ، وحصل عنده [من]«3» الخلال الزكيّة نظم لا ينحلّ وعقد لا ينفكّ وأوفى على التقدير والظنّ في التدبير المفرّج به عن الرعيّة الضّنك- استوجب أن تسند إليه حمايتهم، وتجعل إليه كلاءتهم.
ولمّا كنت أيها الأمير ممن أحمد عند بحر عزمه، وتجريب نصل حزمه، واعتبار فصل مقالته، واختبار أصل أصالته، وشكر استمراره على الاتّصاف بمحض الولاء، واستدراره أخلاف غرر الآلاء، واستثماره أصناف جنى الثّناء.
واستقراره أكناف وهبيّ الاعتناء، ولم تزل في رفعتك وجيها، وما برح جميل الرأي يديم بعثا لتحف الإحسان نحوك وتوجيها، وما انفكّت مجاهدتك مجاهدة في مهامّ إقدام تنويها، وشجاعتك ملقية على الكفّار كلّ كفاح يلقون منه كلّا ثقيلا ويوما كريها. أودع هذا المنشور ما رسم من استخدامك في ولاية الأعمال المرتاحيّة.
فباشرها معتمدا عى تقوى الله سبحانه التي تقوى بها أسباب توفيقك وتناله، وتسلم أمور مباشرتك من خلل يكدّر استبشارك وينكّد، واعتمد العدل على من تشتمل عليه هذه الولاية وتحويه، وبالغ فيما يزيل عنهم الحيف ويزويه، واقصد ما يقضي لسربهم بالتأمين، ويبلّغهم من تحصين أوطانهم غاية التأميل، واجعل أيدي المفسدين مكفوفة عن كافّتهم، ووجوه المعتدين مصروفة عن إخافتهم، وتطلّب الأشرار، وتتبّع الدّعّار؛ ومن ظفرت به منهم فلا تكن عن التنكيل به ناكلا، ولا تقصّر في الحوطة عليه والمطالعة به عاجلا، وعامل النائب في الحكم العزيز بإنهاضه، وصون مديد باعه في تنفيذ الأحكام عن انقباضه، واعضده في إنفاذ قضاياه، واختصاصه بإكرام يقبل عليه مطلق محيّاه، وشدّ من الضامن في استيداء حقوق الديوان واستنطافها على أحسن حال من غير خروج عن الضرائب المستقرّة، وعوائد العدل المستمرّة، وتحرّز أن يكون لمناهضة العدوّ طروق إلى ناحيتك أو انتياب، وشمّر للتحفّظ من مكايدهم تشميرا يزول عن حقيقته عارض الارتياب، ولا تبق شيئا يمكّن لأهل ولايتك قواعد الأمنة منهم، وتبتّل لوقايتهم أذاهم تبتّل من لا ينام عنهم، وطالع بما يحتاج إلى علمه من جهتك إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة بولاية السّمنّوديّة «1» ، وهي:
إنّ أولى من ولي الأعمال، وتعلّقت بكفايته الآمال، وعدقت «1» به المهمّات، وأسندت إليه الولايات، من نطقت بمعدلته الألسنة، وانتفت عن عين خبرته السّنة، وكان حسن السياسة لرعيّته، كثير العمارة مدّة توليته، شهما في استخراج الحقوق من جهاتها، صارما في ردع المجرمين عن زلّات النفس وهفواتها، حسنة سيرته، خالصة مناصحته وسريرته.
ولمّا كنت أيها الأمير فلان- أدام الله تأييدك وتسديدك، وحراستك وتمهيدك- أنت المتوشّح بهذه الصّفات الحسان، المتّصف بما تقدّم من الشّرح والبيان، الذي نطقت شمائلك بشهامتك، وشهدت مخايلك بنباهتك- خرج الأمر الفلاني بأن تتولى مدينة سمنّود وضواحيها، وما هو معروف بها ومنسوب إليها، بشرط بسط العدل ونشره، وإعباق عرف «2» الحق ونشره، وأن تخفّف الوطأة عنهم وتفعل ما هو أولى، وتعلم أنك تسأل من الله تعالى في الأخرى ومنّا في الأولى، وأن تصون الرعايا وتجتلب لنا أدعيتهم، وتعاملهم بما يطيّب نفوسهم ويبلّغهم بغيتهم؛ حتّى يتساوى في الحق ضعيفهم وقويّهم، ورشيدهم وغويّهم، ومليّهم ودنيّهم، وأن لا تقيم الحدود على من وجبت عليه إلا بمقتضى الشرع الشريف، والعدل المنيف، وأن تشدّ من نوّاب الحكم العزيز، وتفعل في ذلك فعل المهذّب ذي التمييز، وأن تحسر عن ساعد الاجتهاد في الجمع بين استخراج جميع الحقوق الديوانية والعمارة، وتجعل تقوى الله هي البطانة لك والظّهاره، وأن تبذل النهضة في استخراج الأموال، وتحصيل الغلال على التّمام والكمال، بحيث لا يتأخّر منها الدّرهم الفرد ولا القدح الواحد، وتفعل في ذلك فعل المشفق المشمّر الجاهد، وأن تديم مباشرتك للأقصاب في حال برشها وزراعتها وتربيتها وحملها، واعتصارها وطبخها، وتزكية أثمارها، بحيث
لا تكل الأمر في شيء من ذلك إلى غير ذي ذمّة بمفرده، ولا إلى من ليس بذي خبرة لا يعلم مشقي التصرّف من مسعده. وقد جعلنا لك النظر على جميع النّواحي الجارية في ديواننا بالوجه البحريّ خاصة لتنظر في أمرها، وتزجر أهل الجنايات بها، وتفعل فيها كلّ ما يحمد به الأثر، ويطيب بسماعه الخبر.
فتقلّد ما قلّدت، وقم حقّ القيام بما إليه ندبت، واعمل فيه بتقوى الله في سرّك وجهرك، وقدّم الخوف من الله على جميع ما تأتيه أو تذره من أمرك، وتسلّمه شاكرا لما أسديناه إليك، متمسّكا بما أوجبناه عليك؛ فإنّ الشكر يوجب مزيدك، ويكثّر عديدك.
وهذه نسخة بولاية النّستراويّة «1» ، وهي:
من عادتنا في التدبير وشيمتنا، وسنّتنا في السياسة وسيرتنا، إسباغ المواهب والنّعم، وتنقيل عبيدنا في مراتب الخدم، استرشادا بأسلافنا الملوك واقتداء، واستضاءة بأنوارهم المشرقة واهتداء.
ولمّا كنت أيّها الأمير ممن عرفت بسالته، واشتهرت شجاعته وصرامته، واستحقّ أن يلحظ بعين الرّعاية، وأن يشرّف بالارتضاء للتعويل عليه في ولاية، رأينا- وبالله توفيقنا- استخدامك في ولاية الأعمال النسّتراويّة، وخرج أمرنا إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السّجلّ بتقليدك ذلك، وتضمينه ما تعتمد عليه، وتنتهي إلى الممثّل لك فيه.
فتقلّد ما قلّدته عاملا بتقوى الله فيما تسرّه وتعلنه، معتمدا فيها غاية ما يستطيعه المكلّف ونهاية ما يمكنه؛ فالله تعالى يقول إرشادا للمؤمنين وتفهيما:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً
«1» ، وساو بين القويّ من هذه الولاية والضعيف، ولا تجعل في الحقّ فرقا بين المشروف والشريف، وامدد على كافّتهم رواق السّكون والأمنة، وأجرهم في المعدلة على العادة الجميلة الحسنة، وافعل في إقامة الحدود على من تجب عليه ما يوجبه كتاب الله الكريم، وتقضي به سنّة نبيه محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، وادأب في حفظ السّبل والمسالك، واجتهد في ذلك الاجتهاد الذي يجب على أنظارك وأمثالك؛ ومتى ظفرت بمن يؤذي مسافرا، أو يخيف واردا أو صادرا، فطالع بحاله ليمثّل لك في التمثيل بما تعتمده، وتؤمر في شأنه بما تنتهي إليه وتقصده، وراع المستخدمين على الحكم والدعوة فهما يتولّيان ما بإعزازه يقوم منار الإسلام، وتجري أمور الشريعة على أجمل وضع وأحسن نظام، وخذ المستخدمين في الأموال الدّيوانية بالاجتهاد في العمارة، وحمل المعاملين على ما توجبه المعدلة والحرص على ما وفّر الارتفاع، وحماه من أسباب التفريط والضّياع، واستنهض الرجال المستخدمين معك فيما ترى ندبهم إليه، واستنهاضهم فيه؛ فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة بولاية الإسكندرية، وهي:
اهتمامنا بما حاط ثغر الإسكندرية- حماه الله تعالى وحصّنه، ومنحه أتم حظ التفقّد وأكمله، وأجمل وضع التعهّد وأحسنه، وقوّى سبب استقامة شؤونه واتّساق أموره ومكّنه، ومدّ ظلّ الدّعة والسكون على كافّة من تديّره «2» وسكنه، وحفظ عليه نظام النّضارة، وأماط عنه مكروه الأحوال الضارّة، وأنام أهله على
مضجع الأمن ومهاده، وحكم بإحلالهم نجود الاتحاد على المصالح وإجلالهم عن وهاده، وحمى سوام أموالهم من مشروب ورد أجاج ومرعى نبت وخيم، وجباهم من رسوم الإحسان وعوائده ما لا ينطق لسان على زوائده بترخيم، وملا آمال الأعداء عن التطرّق إليه إخفاقا، وردّ نصول سهام مكايدهم عنه على ما عهد من فضل الله سبحانه أفواقا- إذ كان من أجلّ الثغور الإسلامية أوزارا، وأسبقها إلى غاية التفضيل ابتدارا، وأكثرها بمن حواه من صدور الدّين وأئمة المسلمين افتخارا، وأفضلها محلّا ولم يزل مفزع السّفّار من كل جهة رسلا وتجارا- أوجب أن نسند ولايته، ونردّ كلاءته، إلى من يجري في التدبير على حكم سياسته المعلوم، الحسنيّ الآخذ بيد المظلوم، ويقوم بحسن التفويض والائتمان، ويعطي بدل السّلامة من حقوق انتقامه عهدة الأمان، ويسلك فيما يعدق به طريق السّداد ويلزم نهجه، ولا يمكن أن يكون له على غير الصواب معاج ولا عرجة؛ ويأخذ في كل أحواله بوثائق الحزم، وتحلّ له أعماله الصالحة من مثوى المنازل الرفيعة ما هو على غيره من الحرام الجزم.
ولما كان الأمير المعنيّ بهذا الوصف الواضح البيان، المتكافئة في ذكر مناقبه شهادة السّماع والعيان، الكاليء ما يناط به بقلب ألمعيّ وطرف يقظان، الحالّ من الورع في أسمى مكان وأعلى مظان، الجامع في إقامة شرع الإخلاص بين الفرائض والسّنن، الموفية عزائمه على مضارب المهنّدة التي لا تقي منها مانعات الجنن، الفائح من نبئه ما تؤثر صحاح الأنباء عن عليل نسيمه، الجدير بما يزفّ إليه من عقائل جزيل الإنعام وجسيمه؛ وقد أبان في ولايته بمطابقته بين شدّته ولينه، وإقامة منار الإنصاف المعرب عن امتداد باعه في الحرب وانقباض يمينه، وإروائه كافّة أهلها من نمير العون على استتباب الأمور ومعينه- خرج أمر الملك العادل بتقليده ولاية ثغر الإسكندرية حماه الله تعالى والبحيرة «1»
فليتقلّد ما قلّده إيّاه، ويباشره منشرحا صدره متهلّلا محيّاه، وليعتمد على تقوى الله التي هي خير عتاد، وأفضل ما اعتمد عليه في الحياة الدّنيا ويوم يقوم الأشهاد؛ وهي نجاة أهل اليقين، وفوز المتقين، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ
«1» وليبالغ في نشر راية العدل ومدّ جناحه، وتعفية أذى الجور واجتياحه، وليشمل الصغير والكبير من أهل هذه الولاية برداء النّصفة، ويعاملهم بالجميل الموفي على الصّفة، ويقم الحدود على مستوجبيها، وينته إلى الغاية في تجنّب إضاعتها وتوقّيها، وليدلّ على المفسدين عين من يتتّبع وقوعهم في قبضته ويتطلّب، ويقابل كلّا منهم بما يرى متعقّبا بإيماض برق المعاقبة غير خلّب «2» ، ولا يبق ممكنا في التنقيب على مرتكبي الآثام، والمرتكنين على سفك الدم الحرام؛ ومن ظفر به منهم فليحكّم فيه شبا «3» ظفر الانتقام ونابه، وليجر على عادته فيما يسيّر عنه أحسن السّمعة، ويشهد له بالتنزّه عن خبيث الطّعمة وقبيح الطّمعة، ويشدّ من القاضي متولّي الحكم فيما يصدره ويورده، ويحلّه ويعقده، ويمضيه من الأحكام الشرعية، ويعتمده في القضايا بما لديه من الألمعيّة، ويعاضد المستخدمين في الأموال معاضدة تثمّره، وتنمّي الارتفاع وتوفّره، وتعود على الديوان بالحظّ الوافي، وتعرب عن كونه بمثل هذه الولاية نعم الكفء الكافي، ويعامل التّجار على تباين بلدانهم، واختلاف ألسنتهم وألوانهم، معاملة يجمل أثرها ويحسن، ويتلقّهم ببشر وطلاقة تنطق بشكر استبشارهم بها الألسن،
ويحفظهم في أنفسهم وبضائعهم، ويستنفد الوسع في دفع مضارّهم وروائعهم، وبعتمد بعث رجاله على الاستعداد للجهاد، والتأهب لقراع الأضداد، وينته إلى الغاية فيما يزيل منهم اعتذارا ويزيح اعتلالا، ويوجب لهم الاقتدار على مكافحة عدوّ إن طرق الثّغر والعياذ بالله تعالى.
وهذه نسخة بولاية برقة، وهي:
من حقّ الأطراف المتناهية في بعد أقطارها، والبلاد الشاسعة عن ثواء المملكة ومحلّ استقرارها، التي انتظمت في سلك أعمال المملكة الناصريّة وانخرطت، واستدركت معدّاتها لمن حوته فوائت الفوائد التي سلفت وفرطت- أن يديم أكيد الاهتمام لها التحصين والتحسين، ولا يغبّ أهلها ما يغشاهم من الملاحظات مصبحين وممسين، وتزجي لها سحائب كرم التعهّد عهاده غدقا، ويعمل الأولياء في حياطتها من الغمود ألسنة ويذكون دونها من القنا حدقا، ويفوّض أمورهم إلى من تخفّ على يده كلفتهم، وتجتمع بحسن سيرته ألفتهم، ويشتمل من عنايته عليهم اشتمال الصدفة على القلوب، وتنيلهم مهابته من كفّ عدوى العدا كلّ مؤثر مطلوب.
ولما كنت أيّها الأمير من أميز سالكي هذه الطرائق، وأمثل فرسان الحروب وحماة الحقائق، واشجع المجاهدين في الله حقّ جهاده، وأجسرهم على إصلاء الشّرك ضرام فتك لا يخشى إصلاد «1» زناده، ولك السياسة التي ترتّب بين الأسود والظّباء اصطحابا، والمخالصة التي لا تناجى إذا وصفت بالتغالي فيها ولا تحابى- خرج أمر الملك العادل بكتب هذا المنشور لك بما أنعم عليك بولايته وإقطاعه: وهو برقة بجميع أعمالها وحقوقها: من العقبة الصّغرى وإلى
آخر حدودها، وبما أمر به كافّة العربان المقيمين بهذه البلاد، وجميع أهلها من حاضر وباد: من الإعلان لك بشعار الطاعة، وصون ما يلزمهم أداؤه إليك من فروض النّصح عن الإضاعة، وأن يبذلوا في موافقتك غاية الاجتهاد، ويعتمدوا من امتثال مراسمك أحسن اعتماد، ويحذروا من العدول عن أمرك، ويجتنبوا مخالفة نهيك وزجرك؛ فاستمسك بحبل التقوى الفائز من يعتصم به ويتعلّق، واستشعر من خيفة الله ما يشرق لأجله عليك نور الرّضوان ويتألّق. قال الله تعالى في كتابه المكنون: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ
«1» وعامل أهل هذه الولاية بالإنصاف، وإيّاك ومكروه العدول عن محجّة العدل والانحراف، وتوقّ العسف بهم والحيف عليهم، واجتنب الترخيص لأصحابك في مدّ يد أحد منهم بعدوان إليهم، وسر فيهم سيرة ترؤف بهم وترفق، وجانب سبيل من تقوم عنده أسواق اختلاق المتخرّصين وتنفق، ولا تخرج في تدبير الأمور عن قانون الشّريعة، ولا تجعل لك إلى فوز الآخرة عن تقديم العمل الصالح من ذريعة، وغلّ عنهم أيدي حاضري المفسدين وأياديهم، وأبنهم بالمهابة عن إصرارهم على المنكرات وتماديهم، وكل بهم عزما رادعا لهم وازعا، ونكّل بمن ظفرت به منهم تنكيلا يزجر من يظلّ بحر الضّلال نازعا، وشدّ من خلفاء الحكم العزيز في تنفيذ قضاياه، وخصّهم من الكرامة بما تقتضيه إقامة مناره وإنارة مزاياه، واعتمد ما يعيد الحقائق بوجوه ناضرة، ويرّد الأباطيل بصفقة خاسرة، وراع أمور التّجّار والحجّاج مراعاة تشملهم في السفر والإقامة، وتحميهم من تطرّق استهانة إلى أحد منهم واستضامة، وطالع بما يتجدّد من أحوال خدمتك، وما يحتاج إلى علمه من جهتك، إن شاء الله عز وجل.
وهذه نسخة بولاية الفرما «2» ، وهي:
نحن- لما ضاعفه الله لدينا من إحسانه وأجزله، وعدقه «1» بنا من تدبير أمور الخلق وأسنده إلينا ووكله- نعتمد عبيدنا بتوفير الرّعاية لهم والإكرام، ونحافظ على ما يغمرهم من شامل الإفضال وسابغ الإنعام، فنقدّم للخدم من خطبها بخلوص طاعته، ونؤهّل للرّتب من أبانت شيمه عن خبرته ومناصحته.
ولمّا كنت أيّها الأمير ممن ظهرت مشايعته وموالاته، وحسنت في مكافحة الأعداء مشاهده ومقاماته، ووضحت في أفعاله دلائل النّصح وبانت عليه سماته، ولك مساع مشكورة، ومواقف مشهورة، ومقاصد هي من مآثرك معدودة وفي فضائلك مذكورة، رأينا- وبالله توفيقنا- استخدامك في ولاية الفرما والجفار «2» : سكونا إلى رضا مذهبك، وثقة بانتظام الحال فيما يردّ إليك ويناط بك؛ وخرج أمرنا إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجلّ بتقليدك الولاية المذكورة وتضمينه ما نأمر به ونرسمه، مما يهديك إلى الصواب فتتمسّك به وتعكف عليه وتلزمه.
فتقلّد ما قلّدته شاكرا على هذه النّعمى، عاملا بطاعة الله تعالى ومراقبته في السر والنجوى، واعتدّها زادا إلى الآخرة تطمئن به القلوب وتقوى؛ قال الله عز من قائل في كتابه: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى
«3» واعتمد في أهل هذه الولاية نصفة تعمّهم ومعدلة، وسسهم سياسة تكون لسنّة الخير مؤكّدة ولسنّة الجور مبدّلة، وماثل في الحق بين قويّهم وضعيفهم، ولا تجعل مزيّة في الواجب لشريفهم على مشروفهم، وانتصف للمظلوم من المتعدّي الظالم،
واعمل بالكتاب والسنّة في الحدود التي تقيمها على ذوي الجرائر والجرائم، وانتصب لحفظ الطّرقات، وصون الصادرين والواردين في جميع الأوقات، ونكّل بمن تظفر به من المفسدين، واجعله عظة لأمثاله من الظالمين والمعتدين، وعاضد النائب في الحكم العزيز معاضدة تقضي بإعزاز الجانب، وساعده مساعدة تنفذ بها أحكامه على قضيّة الواجب، وكذلك متولّي الدّعوة الهاديّة «1» فهي مصباح الزمان، وبإشادة ذكره تقوى دعائم الإيمان؛ فاجتهد في تمييز متولّيها وإكرامه، وبلّغه في ذلك غاية مطلوبه ومرامه، وتوفّر على الشدّ من المستخدمين في الأموال، وراع [ما يحسن]«2» لدينا فيما تنظر فيه من الأعمال، واحرص على ما عاد بوفور ارتفاعها، وأجر أحوالها على أفضل رسومها وأوضاعها، بحيث يكون العدل منبسطا منبثّا، والحيف منحسما مستأصلا مجتثّا، وأجمل صحبة الرجال المستخدمين معك، وأحسن معاشرتهم مع مطالبتهم بملازمة الخدمة، واستنهاضهم في الأمور الشاقّة المهمّة، فاعلم هذا واعمل به، وطالع بما تحتاج إلى المطالعة به، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة بولاية عسقلان «3» ، وهي:
من شيمنا التي غدت للمصالح ضوامن، وعلت فكلّ متطاول عندها متطامن «4» ، وهممنا الكافلة [للرعيّة]«5» بما يقرّ عيونها، والقاضية للخاصّة والعامّة بما يوجب طمأنينتها وسكونها- أنعمنا النظر فيما نرعاها به ونسوسها،
وأعملنا الفكر فيما يستقيم به أمرها ويزول معه بوسها، فيقف [بنا] الاجتهاد في ذلك على محجّة الصواب التي لا ضلال في سلوكها، ويفضي منا الحرص إلى غاية لم يبلغها أحد من مدبّري الدول وملوكها، فننتخب لخطير الخدم من كان قؤوما بها مستقلّا بآصارها، وننتجب لجليل الرّتب الأعيان من أمراء دولتنا وأنصارها، حفظا لما استحفظناه من أمور العباد والبلاد، ورفعا لعماد الصّلاح وحسما لموادّ الفساد.
ولمّا كنت أيها الأمير من الأولياء الذين صفت في المخالصة ضمائرهم، وحسنت في الطاعة عقائدهم وسرائرهم، ونالوا من نبيه الحظّ ما أطنب الواصف فيما يذكره منه ويرويه، وأحمدوا المناصحة فيما رقوا فيه من درج التنويه، وقد استكفيت مهمّات من الخدم فكفيت همّها وخفّفت ثقلها، وأهّلت لولايات سنيّة فحملت كلّها، وكنت مستحقّا لها وأهلها؛ فلك مواتّ حميدة من حسن المقاصد ومشكور المساعي، وحرمات أكيدة ظلّت على اصطفائك من أوفى البواعث وأقوى الدّواعي؛ وكانت مدينة عسقلان- حماها الله تعالى- ثغر الإسلام الذي لا ثغر له في الشام سواه، والرّباط الذي من كان به فقد نال الثواب الجزيل وأحرزه وحواه، وهو في عيون الكفار- خذلهم الله- نكتة «1» وأسباب طمعهم فيه منقطعة بمحاماته منبتّة؛ ونحن نوفّر اهتمامنا عليه رعاية لمكانه المكين، وننتصي «2» الكفاة لتولّيه توصّلا إلى النّكاية في المشركين؛ وهو معقل للمسلمين المجاهدين وردّ «3» ، ومجاوروه قوم لدّ، وأمرهم أمر إدّ «4» ؛ فيجب أن يرتاد لضبطه النّدب «5» الذي لا تهتبل غرّته، ويسام لحفظه العضب «6» الذي لا
تتّقى ضربته، ويختار لصونه الشهم الذي تقف على المصالح همّته، وتنفذ فيها عزمته.
وحين كانت هذه الصفات فيك موجودة، وظلّت محسوبة من خلالك معدودة، رأينا- وبالله توفيقنا- ما خرج به أمرنا إلى ديوان الإنشاء من كتب هذا السجلّ بتقليدك ولاية هذا الثغر وضواحيه، وعمله ونواحيه، ثقة بمشهور مضائك، وعلما بإبرارك على نظرائك.
فتقلّد هذه الخدمة عارفا قدر ما خوّلت منها، وعاملا بتقوى الله وخيفته في جميع ما تأمر به وتنهى؛ فإن تقواه الجنّة الواقية، وإن خيفته الذّخيرة الباقية؛ وقد وعد الله المتقين بتيسير الأمور، وتكفير السّيئات وإعظام الأجور؛ قال الله عزّ من قائل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً
«1» ثم قال: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً
«2» واستعمل العدل في جميع من يشتمل عليه عملك، ويجري عليه تولّيك ونظرك، وساو في الحق بين الضعيف والقويّ، وماثل في الحكم بين القريب والقصيّ؛ وإذا ثبت على شريف حقّ فلا تحابه لرتبته، وإذا ثبت لوضيع فخذه ممّن لزمه واستقرّ في جهته.
واعتمد من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ما يستنطق بالثناء عليك ألسنة المادحين وينظمك فيمن عناهم الله تعالى بقوله: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ
«3» وأقم الحدود على من لزمته بما أمر الله به إقامة [تجري بها]«4» مجراها،
وتوقّ الزيادة فيها والنقص توقّي من يتمثّل المجازاة كأنه يراها. وهذا الثغر لمحلّه وسموّ مقداره، وقرب العدوّ منه ودنوّ داره، لا يقنع له بمركزيّته، ولا يكتفى في حقّه بمرابطيّته وقراريّته؛ فنحن نسيّر إليه العساكر المظفّرة دفعتين في كل سنة على حكم البدل: فيرده عسكر جديد مزاح العلة، كثيف العدّة، وافر العدّة، يؤثر أن يظهر أثره، ويحافظ على ما يطيب به ذكره وخبره؛ فبثّ السرايا وشنّ الغارات، وضيّق على العدوّ فسيح النّواحي والجهات، وجهّز إليه من يخيفه في مآمنه، وابعث عليه من يطرقه في أحرز أماكنه، واندب من يطالعك بخفيّ أخباره، ويظهر لك باطن أموره ومستور أسراره: لتنتهز فيه الفرصة إذا لاحت مخايلها، وتبادر الغفلة منه إذا ظهرت دلائلها، واجعل للمتطوعين من الكنانيّين نصيبا من ثواب الجهاد، واحملهم على استفراغ الوسع بغاية الحرص والاجتهاد، وافعل في هذا الباب ما تتضاعف به موادّ الأجر، وتنتسخ به الأوزار كما ينتسخ الظلام بضياء الفجر، واعضد متولّي الحكم العزيز عضدا يعلي أمره ويشدّ أزره، ويحرس نظامه، وينفّذ قضاياه وأحكامه، وكذلك متولّي الدعوة الهادية- ثبتها الله تعالى- فاعتمده بما يشرح صدره فيما يوضّحه للمؤمنين، ويهدي به المستجيبين والمتديّنين، ووفّر موفّر اهتمامك على مرافدة من يتولّى أمر المال وما يجري في الخاصّ لتدرّ أخلافه «1» ، ويزكو ارتفاعه، وتغزر مادّته، ويتوفّر مستخرجه، ويحتمي من خيانة وتحيّف، ويسلم استيداؤه من تريّث وتوقّف، واستنهض الرجال المستخدمين في الأمور السّوانح، وصرّفهم فيما ترى تصريفهم عليه من أسباب المنافع والمصالح، واستمطر الإحسان لمن أحمدت طريقته، وقوّم بالتأديب من ذممت فعله وكرهت سيرته، فاعلم هذا واعمل به، وطالع بما يحتاج إلى المطالعة بمثله، إن شاء الله عز وجل.
ومن المكتتب بالوظائف الديوانية من هذه المرتبة نسخة توقيع بنظر
الدّواوين «1» ، وهي:
أحقّ الأعمال بأن ينعم فيها النظر الشافي، ويندب لحمل عبئها الأمين الكافي، ويحال النظر في تقليدها للقيّم بأمرها، ويعمل الرأي لارتياد القويّ على ضبطها وحصرها، ما كان منها جامعا لمصالح الدولة، حائزا لمهامّ المملكة: وهي أعمال الدّيوان، والنظر في حفظ وجوه الأموال وما يعين على استنمائها، ويعود بالزيادة في أصول أبوابها؛ إذ كان ذلك ملاك الأمور، وزمام التدبير في حفظ الجمهور، والمعونة العظمى على الاستكثار من الرجال الذين بهم يتمّ حفظ البلاد وحماية الثّغور.
ولمّا سلّطنا البحث على استصلاح من نؤهّله لهذه المنزلة، واستخلاص من نحلّه بهذه المرتبة، أدّانا الاختبار والانتقاد، وانتهى بنا الاعتيام والارتياد، إلى اختيار الشيخ فلان: حين سفرت له النّباهة في الكفاية، والوجاهة في الخبرة والدّراية، وجب.... «2» على اختصاصه بالفضل الذي تحلّى بأدبه، والعفاف الذي اشتهر من مذهبه، من الخصال الحميدة، والخلال الرّشيدة، والفضائل الموروثة والمكتسبة، والخلائق المنتقاة المهذّبة، ورأيناه أهلا لإحلال هذه المكانة، وعدلا قيّما باحتمال هذه الأمانة، وعلمنا أن الصنيعة عنده زاكية المغارس، والنعمة المفاضة عليه ضافية الملابس؛ فقلّدناه أمر الديوان بحلب وما معها من البلاد المضافة إليها والداخلة في حكمها: قاصي ذلك ودانيه، وأواسطه وحواشيه، مقدّمين الاستخارة فيما نبديه من قول، ونعزم عليه من فعل.
وأمرناه أن يستشعر تقوى الله سبحانه فإنّها الجنّة الواقية، والذخيرة النافعة الباقية، ويعتلق أسبابها فإنها المنجّية من المهالك، الهادية إلى السّبل الواضحة
إذا اشتبهت المسالك، محقّقا ما توسّمناه فيه من مخايل الأصالة، ودلائل الجزالة، مصدّقا ما استلمحناه من كفايته وغنائه، واستوضحناه من استقلاله واستقصائه، وأن يبدأ فيرتّب في كل معاملة أمينا من الثّقات الكفاة، مشهودا له بالنّهضة والأمانة المستوفاة، وأن يزمّ «1» الأعمال القاصية والدانية، والبلاد القريبة والنائية، بالضبط المستقصي، والحفظ المستوفي، وبمن يرتّبه عليها من الكتّاب الأمناء، ويستصلحه لها من الحفظة النّصحاء، ويتتبّع حال من بها من النّوّاب:
فمن شهدت له التجربة بالكفاية، ودلّ الاختبار منه على العفّة والأمانة، استدامه في خدمه المنوطة به، وطالع من حاله بما يقضي له حسن النظر بحسبه، ومن ألفاه متنكّبا سبيل الأمانة، مقارفا طريق العجز والخيانة، بادر إلى الاستبدال به، وعجّل قطع ما بينه من الخدمة وبين سببه، وأن يسترفع البواقي من الأموال، في سائر الجهات والأعمال، إلى آخر التاريخ الذي تليه مباشرته، ويتصل بآخره مبدأ نظره وفاتحته، موشّحة أوراق ذلك بخطوط الأمناء، مفصلة جهاته بأسماء المعاملين والضّمناء، حتّى إذا حملت إليه، وصارت حجّة على رافعها في يديه، طالبه بمواقفة من هو في ذمّته، وتقدّم بعد تصديقه على ذلك بمضايقته بعد المطالعة بجليّ الحال وحقيقته. ثم يسترفع من مستوفي الديوان وعمّاله شروط الضّمّان ورسومهم، وقواعدهم في الضمان وعوائدهم: ليكون علم ذلك عنده مبيّنا، ووقت مساس «2» الحاجة إليه حاضرا، ويطالب بجرائد «3» الضّياع خاصّها ومقطعها المشتملة على ذكر رسومها وحقوقها، وعدد فدنها ومقاسها، وجرائد الخراج اللازم لأرباب الأملاك على أملاكهم، وتحقيق المصفوح عنه والمسامح به والباقي على الأداء في جهته، وجرائد الجزية مفصّلة في نواحيها، وأسماء أربابها إلى حين رفعها- وأن يطالب نوّاب الجزية في كل شهر بختمة
تتضمّن ذكر مصارف ما يحوّل إليهم، وإقامة وجوه المال الذي جمع عليهم، مفصّلة مميّزة الابتياعات عن الإطلاقات «1» ، والضّيافات عن السّفرات والإصطبلات، وكذلك نوّاب الأهراء يسترفع منهم ما يدلّ على مثل ذلك، وسائر المتولين في سائر الخدم يطالبهم بهذه المطالبة، ويضيّق عليهم في مثل ذلك سبيل المغالطة والمواربة، ويجعل مؤاخذتهم بذلك من الأمور الراتبة، والوظائف اللازمة الواجبة، حتى يتبيّن له الكافي من العاجز، والأمين من الخائن.
وليتأمّل وجوه الإخراجات، ومبلغ الإطلاقات والإدرارات، ويسترفعه من مظانّه مفصّلا بجهاته، منسوبا إلى أربابه، ويتقدّم بكتب مؤامرة جامعة لذلك التفصيل، دالة على المقدار المطلق في كل سنة محكّم النظر الدقيق دون الجليل، وليعتمد في إطلاق ما يطلق منها على سبيل ما يوقع به عند ذلك، وليكن هذا من الأمور الجارية على العادة والرسم، ويلزمه كلّ من نوّاب الديوان.
ومن المكتتب منها بالوظائف الدينية نسخة تقليد بولاية الحسبة «2» ، من إنشاء الوزير ضياء الدين بن الأثير، وهي:
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
«3» هذا أمر يشتمل على معنى الخصوص دون العموم، ولا يختصّ به إلا ذوو
الأوامر المطاعة أو ذوو العلوم؛ وقد منحنا الله هذين الوصفين كليهما، وجعلنا من المسخلفين عليهما.
فلنبدأ أوّلا بحمده الذي هو سبب للمزيد، ثم لنأخذ في القيام بأمره الذي هو على كلّ نفس منه رقيب عتيد؛ ولا ريب أن إصلاح العباد يسري إلى الأرض حتّى تزكو بطونها، وتنمو عيونها، ويشترك في بركات السماء ساكنها ومسكونها؛ والأمر بذلك حمل إن لم تتوزّعه الأكفّ ثقل على الرقاب، وإذا انتشرت أطراف البلاد فإنها تفتقر إلى مساعدة من مستنيب ومستناب؛ وقد اخترنا لمدينة كذا رجلا لم نأل في اختياره جهدا، وقدّمنا فيه خيرة الله التي إذا صدقت نيّتها صادفت رشدا، وهو أنت أيها الشيخ فلان.
فابسط يدك [بقوّة]«1» إلى أخذ هذا الكتاب، وكن حسنة من حسناتنا التي ثمّ يرجح بها ميزان الثواب، وحقّق نظرنا فيك فإنه من نور الله الذي ليس دونه من حجاب.
واعلم أنّ أمر الشريعة مبنيّ على التيسير لا على التعسير، ولا يضع اللسان موضع السوط إلا من أوتي زيادة في التفسير؛ وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مندوحة لمن لزمها، وهي هدى لمن عمل بها ونور لمن علمها؛ ويكفي من ذلك قصة الأعرابي الذي أتى حاجته في المسجد فسارع الناس إليه، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:«إنّما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسّرين، ثم دعا بذنوب «2» من ماء فصبّه عليه وقال: يا أخا العرب إنّ المساجد لم توضع لشيء من هذا وإنما وضعت للصّلاة وقراءة القرآن» .
فانظر إلى هذا الرّفق النبويّ الذي شفى وكفى، وعفّى على أثر المعصية لمّا عفا؛ ولو دعا ذلك الأعرابيّ لمثلها لنقل عن لين التهذيب، إلى
شدّة التأديب؛ وكذلك فكن أنت في الرفق الذي حدّثت عنه، ومن عاد فينتقم الله منه.
ونحن نأمرك أن تحتسب أوّلا بلين القول لا بالأنف والنكير، وأن تترفّق في الموعظة التي هي طريق إلى الخشية والتذكير، وأن لا تكون باحتسابك مدلّا بأنّك على الصراط المستقيم، وأن الناس بين يديك على سنن التثقيف والتقويم؛ فإن من أكبر الذنوب ذنب الإعجاب، والأولى لك حينئذ أن تعود على نفسك بالاحتساب «1» ؛ ومن أدبك وأدب أمثالك أن يقف في أمره بالمعروف مع التقوى لا مع هواه، وأن لا يفرّق في إزالة المعصية أن تكون بيده أو بيد أحد سواه؛ وإذا كنت كذلك قرنك الله بمن أنزل السكينة على لسانه ويده، وقوّم له أود الناس لتقويم أوده، والله ينظر إلى قلب ابن آدم لا إلى عمله ولا إلى جسده.
وعليك بالمجاهدين الذين سلب عنهم ثوب العافية، ومن اختفى منك بالاستتار فلا تكشف عن حاله الخافية؛ وأما ذوو الهيئات فإنّ عثراتهم تقال، وأعراضهم لا تذال، ولربّما كان التجاوز عنهم داعيا إلى الانتقال؛ وفي قصة أبي محجن وسعد «2» ما ينبّئك أنّ الحياة أغنى في الازدجار، وفي الناس أذناب لا قدر لها تذبّ عنه ورؤوس تذبّ عمّا لها من الأقدار. وهاهنا من ضروريّات الوصايا ما يؤتى في مثله بتوكيد الأقوال، وأكثر ذلك يدور في المعاملات التي ألفها قوم دون قوم، واستمروا عليها يوما دون يوم؛ وقد أتى منها ما اتّفق على العمل به
كلّ فريق، وأيسر ذلك إزالة النّخامة «1» من المسجد وإماطة الأذى عن الطريق.
وهذه الوصايا كلّها لا تفتقر فيها إلى التوقيف، وأنت عالم بوضع كلمها في مواضعه وغيرك الذي يتعدّى إلى التحريف؛ فامض على السّنن، وأت بالحسن، وسوّ بين حالتيك في السّرّ والعلن، وكن من خوف الله ورجائه بين رحلة سفر وقرارة وطن. وهذا عهدنا إليك تتقمّص اليوم منه رداء جميلا، وستحمل غدا منه عبئا ثقيلا، وقد فرضنا لك عن حقّ سعيك فريضة تجد بها كفافا، وتمنعك أن تمدّ عينيك إلى غيرها استشرافا؛ فإنّ العمل الذي تولّيته يستغرق أوقاتك أن تكون للدنيا كاسبة، وتشغل نفسك بالعمل والنّصب لا أن تكون عاملة ناصبة.
وإذا نظرت إلى ما نيط بك وجدته قد استحصى الزّمن أو كاد، وأنت فيه بمنزلة الباني وقواعده:«وكلّ بناء على قدر بانيه وما شاد» -. ونحن نأمر ولاتنا على اختلاف مراتبهم أن يرفعوا من قدرك، ويسدّدوا من أمرك، وإذا استوعر عليك أمر من الجوانب سهّلوا من وعرك؛ والله أمر أهل طاعته بأن يكون بعضهم لبعض من الأعوان، فقال جل وتعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ
«2»