الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يزال ثمره الطيّب من قلمه يجنى، ليكون من رياح دولتنا التي تغتنم ما يثيره من سحابها المطير، وحسنات أيّامنا التي ما ذكرنا وذكر معنا إلا وقيل: نعم الملك ونعم الوزير.
الوظيفة الثانية (كتابة السّرّ، ويقال لصاحبها «صاحب دواوين الإنشاء» )
وقد تقدّم في الكلام على ترتيب الوظائف أنّ موضوعها قراءة الكتب الواردة على السلطان، وكتابة أجوبتها، وأخذ خطّ السلطان عليها وتسفيرها، وتصريف المراسيم ورودا وصدورا، والجلوس لقراءة القصص بدار العدل، وأنّه صار يوقّع فيما كان يوقّع فيه بقلم الوزارة.
قلت: وقد كان فيما تقدّم يكتب له توقيع في قطع النصف بلقب «المجلس العالي» ثم استقرّ أن يكتب له تقليد في قطع الثلثين بلقب «الجناب العالي» . وقد تقدّم الكلام على تقليده في الكلام على التقاليد.
وهذه نسخة تقليد بكتابة السر، كتب بها للمقر المحيويّ «محيي الدين «1» بن فضل الله» عند عوده إلى كتابة السّر بالديار المصرية، في جمادى الأولى سنة ثلاث
…
«2» . من إنشاء الشريف شهاب الدين، أحد كتّاب الدّرج الشريف، وهي:
الحمد لله المانّ بفضله، المستعان به في الأمر كلّه، الذي رفع أوّل الأولياء من العلياء إلى محلّه، ووضع النّعم عند من ينصّ الاستحقاق على تقديمه بمنصبه ويجلّ ما فوّض إليه من أجله، وأبدع نظام السّؤدد بأجمل حال ما دام يحيى جامع شمله، وأودع سرّ ملكنا الشريف عند الحفيظين منه ومن نجله، وأرجع الرياسة إلى من سما ثباتا، ونما نباتا، وعلا عزما، ووفى حزما؛ فبيمن آثاره تضرب الأمثال ولا تجد في يمن سجاياه كمثله.
نحمده على أن أعاد بنا الحقّ إلى أهله، ونشكره على أن جاد روض الامال بواكف سحاب كرمنا ووبله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من وفّق للصواب في قوله وفعله، وتحقّق منه جميل الإخلاص في جميع مذاهبه وسبله، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المؤوي يوم الجزاء إلى سابغ ظلّه، والمروي يوم العطش الأكبر بسائغ نهله، والنبيّ الذي بعثه خاتم رسله، وآتاه من الكرامة ما لم يؤت أحدا من الأنبياء من قبله، والمجتبي من علماء صحابته من أهّله لإيداع سرّه وصونه وإبلاغ أمره وحمله، صلى الله عليه وعلى آله الذين سبقوا إلى غايات الفخار وخصّوا بخصله، ورضي الله عن أصحابه المجاهدين في حبّه المعتصمين بحبله، خصوصا الصدّيق الذي أحسن الخلافة من بعده وقاتل من ارتدّ بقتله، ومن فرق بين الحق والباطل بحسن سيرته ومحض عدله؛ ومن تلقّى عنه آيات الكتاب فأ [حسن]«1» في ترتيبه وجمعه وأدائه ونقله، ومن كان فارس حربه، وحارس سربه، وكاتب وحيه وخاطب كفله، وعن بقية المهاجرين والأنصار الذين انفردوا بأكمل الفضل وأجلّه، صلاة ورضوانا وضح بهما نور الهدى لمستدلّه، ما شفى كرمنا الصّدور بصدور إقباله إلى من قام بفرض ولائه ونفله، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فنعمنا لا تزال للعهود حافظة، وبالجود متحفة وبالسّعود
ملاحظة، وعلى المعهود من كرم شيمها محافظة، وللخدم مكافية، وللقسم موفية وبالنّعم موافية، وبمألوف الكرم ملافية، اتّباعا لسبيل الصّواب، وإيداعا للمنحة عند من لحقّه في استحقاقها إيجاب، فلمحلّه اقتران بالاقتراب، ولفعله إنجاز لوعود الصّعود وإنجاب، ولفيض الله تعالى عليه من القبول أبهى جلباب، وله سبق ولاء لملكنا بعد جفاء فيه السنين والأحقاب، وصدق ودّ ما ضاع لدينا ولا خاب، وقدم هجرة كم لها في تأييد الدّين انتصار وانتصاب، وتعدّد مناقب هي في الإشراق والرّفعة كالنّجوم وفي الكثرة عدد الرمل والحصى والتّراب؛ فما دعاه سلطاننا إلا استجاب، ولا استوعاه سرّه إلا غدا به يصان ولا يصاب، ولا استنطقنا قلمه إلا كفى الخطب بأملح خطاب، ولا استثرنا رأيه إلا حضر الرّشد وما غاب؛ فكم فرّق للأعداء من كتيبة بكتاب، وقرّب من ظفر والسيف في القراب؛ فبدعواته يستنزل من النّعماء أهمر سحاب، وببركاته جاء نصر الله والفتح وكان كيد الكافرين في تباب، وبأقلامه إنعامنا يهب وانتقامنا يهاب؛ فهي على الممالك أمنع سياج، ولها في مسالك الخير أبدع منهاج، وللدولة به وبولده استغناء وإليهما احتياج، فكم ضمّنا درر كلامهما الأدراج، وأطلعا زهر أقلامهما من المهارق في أبراج، وكم واصلت في ليل النّقس «1» السّرى والإدلاج، حتى أبدت صباح النجاح ذا ابتلاج، فلا عجب أن كان للنّعم إليهما معاد ومعاج، ولضيق الخطب عند باعهما الرّحب فسحة وانفراج.
ولما كان المجلس العاليّ المحيويّ هو أسرى من تلقى إليه الأسرار، وتبقى منه عند أحرى الأحرار، فكم لها صان أين صار، وكم لخواطرنا الشريفة من أفعاله سارّ حيث سار، وكم له من كرمنا دارّ في كل دار، فمنّا لقربه إيثار، ولأثنيتنا «2» عليه إكبار، ولنا بفضائله إقرار، يوجب للنّعم عنده الإقرار- اقتضى
حسن الرأي الشريف أن نعيد إليه منصبه، ونزيد لديه الموهبة، ونجعل وجود تفضيله لدولتنا أعظم مزيّة ومنقبة، ونراه أجلّ كفء لاستجلاء عقائل الأسرار المحجّبة، وإن كان لنزاهته لا يخطبها فهي لوجاهته ترغب أن تخطبه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ- لا برح بفضل الله يحيي الدّين، وبتأييده يبين أنّه الحقّ المبين، وبتسديده يصيب عين الصواب في التعيين- أن نفوّض للمشار إليه صحابة ديوان الإنشاء الشريف بالأبواب الشريفة شرّفها الله وعظّمها: على أجمل عوائده، وأكمل قواعده، وأحسن حالاته في حسن مقاصده، ونفوذ ما يبلّغه من رسائل عدلنا في مصادر كل أمر وموارده؛ وليستقرّ باسمه من المعلوم كذا وكذا.
فليتلقّ منصبه المبارك بأمل في كرمنا مبسوط، ورتبته التي يحمي حماها ويحوط، ممضيا للمهمّات والمراسم، مبقيا من يمن آثاره ما تضحى به ثغور الثّغور بواسم، معيدا لمن عنده من كتّابنا أوقات الأنس فأيّامهم به كلّها مواسم، وبها لهم من الخيرات أجزل المقاسم؛ وقد وفّروا دواعيهم إلى الخدمة إذ وفّر على نفقتهم دواعيه، وهو لسان الدولة وهم أذن صون لما يلقيه إليهم واعية، فحقّ لهم إلى وداده أن يجنحوا، وبإسعاده أن ينجحوا، وعن ولائه لن يبرحوا:
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا
«1» ، فلسرير الملك به سرور، وللدولة من أشعّة إنابه وطلعة شهابه نور على نور، وبهما عماد الشرف الأعلى مرفوع وبيت الفضل الاوفى معمور، وهو وبل هذا الغيث الغمر وشبل هذا الليث الهصور؛ طالما هزم الصّفوف من كتبنا بالسّطور، وجهّز بردا سرّها بالصون مكتوم وعلمها بالنصر منشور، وهو كنز الفضائل وكتابه الذّهب شذور، ومن هذه الأسرة العمرية بأفق العلياء نجوم وأهلّة وبدور، وللنّيّر الأكبر إشراق وأتلاق وسفور، وغيره بالوصايا المأمور، وسواه نبيّن له قصد السبيل حتّى لا يضلّ ولا يجور، ولا
نحتاج أن نذكّره بما هو من علمه مذكور، وفي صحائفه مسطور، ولا نعلّمه سدادا إذ هو عليه مجبول ومفطور، بل الهدى منه ملتمس ومقتفى ومقتبس، ومأثور؛ وبحمد الله ما في حزمه قصور، ولا في عزمه فتور، وهو بحر العلم المحيط وثبير «1» الحلم الموفور، وليس التقديم له بمستغرب بل فضله المعروف المشهور؛ والله تعالى يرعى له في خدمتنا عهدا قديما، ويبقيه للدعاء مواصلا ومديما، ويوزعه شكر فضل الله على ذلك وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
«2» إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بكتابة السّر، كتب بها للقاضي شهاب الدّين بن فضل الله «3» ؛ وهي:
الحمد لله على عناية حفظت ملكنا الشريف بمعقّباتها، وصانته بصاحب تصريف تقوم كتبه وآراؤه مقام الكتائب وراياتها، وسنّت لنا الخيرة لمن نجتني بقلمه النصر من ثمراتها، وبينت الحسنى في طريقته المثلى حتّى انقسم الصّبح من قسماتها، واقتسم النّجح من عاداتها، واتّسم فكره بالنّصح وقد ضلّت الأفكار عن إصاباتها فظلّت في غفلاتها.
نحمده حمدا يهبّ مع الأنفاس في هبّاتها، ويهب من اللطائف الحسان أفضل هباتها، وينبّه القلوب لتقييد شوارد النّعم بصدق نيّاتها، وينافس الكرام الكاتبين على نفائس الثّناء في تسبيح لغاتها بصفيح سماواتها، ونشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له شهادة تملأ الصّحف بحسناتها، وتملّي الوجوه بالأنوار في توجّهاتها، وتلوح من سماتها سيمياء «1» لا تشقّ على الأبصار في توسّماتها، وتفخر برقمها الأقلام بأنه لا طعن في اعتدال حركاتها، على الرّماح في اعتدال قاماتها، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أدّى الرسالة بما تحمّله من أماناتها، ورعى العهود لمن أخلص في مراعاتها، ودعا الأمّة بإذن الله إلى سبيل نجاتها، واستأمن على الوحي كتّابا سبقوا في السّعادة إلى غاياتها، وبلّغوا عنه السّنّة بإباناتها والسّور وآياتها، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه فرسان البلاغة ورواتها، وحفظة الأسرار وثقاتها، وصاغة المعاني في الألفاظ الغرّ بنفثاتها، وأولي الأحلام التي لا تطيشها وقائع الدهر بروعاتها، ولا تذهلها عن الأوراد في أوقاتها، وتلقّي الوفود بأقواتها، والأخلاق التي اتّسع نطاقها في تصرّفاتها، وامتنع حجابها أن تتخطّاه الخدع بهفواتها، صلاة تزيد الأعمار بزكاتها، وتزيّن الأعمال ببركاتها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ الملك عمود بناؤه بسرّه وارتفاعه بالتأسيس لمستقرّه، وامتناعه بعد العساكر المنصورة بكاتب يخاتل العدوّ في مكره قبل مكرّه، ويقاتل في الحرب والسّلم بنفّاذ رأيه ونفّاث سحره، ويقابل كلّ حال بما يحسن موقعه من صدمه بصدره أو صدّه بصبره، وينظر في العواقب نظر البصير بأمره، الواعي لاحتيال عذره قبل اختيال الباغي في غدره؛ إذا جادل فبالحجّة البالغة، وإذا جاوب أبطل الأهوال الزّائغة، وإذا أمرنا بالعدل والإحسان سيّرهما عنّا كالشمس البازغة، وملأ بهما حبّا لنا القلوب الفارغة؛ وقد جرّبنا على طول المدى كتّابا، وانتخبنا منهم كثيرا ارتضيناهم أصحابا، ومارسنا جماعة ازددنا بهم إعجابا، ورأينا طوائف فيهم من إن أجاد اجتناء لزهرات القول حاد عن الجادّة اجتنابا، وإن كلّف نفسه مذاهب الكتّاب أخلّ بمقاصد الملوك إن كتب عنهم كتابا.
ولم نظفر بمن تمّت فيه الشروط المشروطة، ومتّ بالدائرة المحيطة إلى
الفضائل المبسوطة، وامتاز بفهم لا يقبل على الفساد ولا يقبل الأغلوطة؛ إن أمليناه إملاء ذكره، وإن حمنا حول معنى لا تؤدّي إليه العبارة فسره «1» ، وإن سردنا عليه فصلا مطوّلا خبره، وربما رأى المصلحة في اختصاره فاختصره، وإن أودعناه سرّا ستره، وصانه بمحو غيّب أثره، وكتمه إمّا بخطّه عن قلبه فلم يدركه أو بقلبه عن لحظه فلم يره، وإن خلّينا بينه وبين غرض من أغراضنا الشريفة استخرجه كما في خواطرنا وأظهره- كالمجلس العاليّ، القضائيّ، الأجليّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، العونيّ، العلّاميّ، القواميّ، النّظاميّ، المدبّريّ، المشيريّ، الفاضليّ، الكامليّ، الأوحديّ، المفوّهيّ، الخاشعيّ، السفيريّ، الشّهابي، صلاح الإسلام والمسلمين، سيّد الرؤساء في العالمين، قدوة العلماء العاملين، إمام الفضلاء والمتكلّمين، رئيس الأصحاب، ملاذ الكتّاب، سفير الأمة، عماد الملّة، لسان السلطنة، مدبّر الدّول، مشيّد الممالك، مشير الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين «أحمد بن فضل الله» ضاعف الله نعمته؛ فإنّا خطبناه لهذه الوظيفة، واستخلصناه على كثرة المتعيّنين لأنفسنا الشريفة، وامتحنّاه في الأمور الجليلة واللطيفة، وحمّلناه الأعباء الثقيلة والخفيفة، وأوقفناه مرّة وأخرى أطلقنا تصريفه، وأنعمنا النظر في حاله حتى تحقّقنا تثقيفه، وكتب واستكتب عنا سرّا وجهرا فملأ قلبا وسمعا، وباشر مراسمنا العالية مصرا وشاما وصلا وقطعا فعزّ رفعة وعمّ نفعا، وأنشأ التقاليد وقلّدها، ونفّذ المهمات وسدّدها، ووقّع التواقيع وأطلق بها وقد قيّدها، ومشّى المصالح باحتراز ما بدّدها واحتراس ما عقّدها، وجهّز البرد بهمّة ما قيّدها طلب الراحة ولا أقعدها. وهو كاتب ملوك، وصانع سلوك، وشارع سلوك «2» ، وصائغ ذهب مسبوك، وناسج وشي محوك، وجامع صفات ما سواها هو المتروك؛ لا يعدو
بالكلمة محلّها، ولا يؤاخي بالقرينة إلا شكلها، ولا يسمح بمخاطبة إلا لمن تعيّن لها، ولا يعامل بالغلظة إلا من استوجبها ولا يخصّ بالحسنى إلا أهلها؛ نأمره بالتّهويل فيزلزل قواعد العدوّ، ونشير إليه بالتهوين فيفيد مع بقاء المهابة الهدوّ؛ وقد رضيناه حقّ الرضا، وأضربنا به عمّن بقي من أكابر الكتّاب ونسينا من مضى، وتعيّن علينا أن نحكم له بهذا الاعتبار ونحمله على هذا المقتضى، وأن نطلعه في سماء دستنا الشريف شهابا أضا، وأن نقلّده مهمّا ما زال هو القائم بتنفيذ أشغاله، والساعي بين أيدينا الشريفة في تدبير مقاصده وجملة أحواله، إلى ما له من بيت «1» أثّلوا مجده، وأثّروا سعده، وأرّثوا عندنا ودّه، وبنى كما بنوا، واجتنى من السّؤدد ما اجتنوا، ورمى في خدمة الدّول إلى ما رموا؛ إلا أنّ مذهبه في البيان أحلى، وأسلوبه أجلى، وقيمة كلامه أغلى، وقدحه في الكمال هو المعلّى، وأدبه بحمد الله قد لحظته سعادة أيّامنا الزاهرة فما فيه لوّ «2» ولا لولا؛ سوى أنه اتّفق معارض «3» اعترض بين السّهم والهدف، وسفه نفسه فوقف في مواقف التّلف، ودقّ عنه شأن كاتب السر فسقط من حيث طمع في السّقوط وما عرف، ورام الدّخول بين
الملك وبين يده، وبين اللّسان وما يحدّثه به الضمير من حقيقة معتقده، والاطلاع على ما لو لم يكن للإنسان لما أداره في خلده؛ والتعدّي بما ليس له من لفظه متوقع، وسرى في مسرى لو طمح إليه طرف السّها لتقطّع؛ وما علم أنّ كاتب السر هو مستودع الخبايا، ومستطلع الخفايا، وقلمه (ابن جلا وطلّاع الثّنايا) ، وفي استمداده يعرف بالمنى ويرعف بالمنايا، وله الكتابة والتوقيع، والتصرّف فيما للتنفيذ من التحسين والتّنويع، وغير ذلك من التفريق والتجميع، والتأصيل والتفريع، والترغيب والترهيب والتأمين والتّرويع.
ولما دلّ ذلك المعترض بإكباره، وأطال المطار في غير مطاره، وقال الناس إنّ أبوابنا العالية جنّة حفّت من سوء أخلاقه بالمكاره، رمينا به من شاهق، وأبعدناه لآخرته أزهد ما هدر من تلك الشقاشق «1» ؛ وتقدّمنا بإنشاء هذا التوقيع الشريف تقوية لكاتب سرّنا الشريف في تصريفه، وبيّنّا أنه لا يقاس به أحد فإنّه لسان السلطان ويده وكفى بذلك دلالة على تشريفه.
فرسم بالأمر الشريف العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الناصريّ- لا زال إذا عزم صمّم، وإذا بدأ المعروف تمّم، وإذا استخار الله في شيء رضي بخيرته وسلّم- أن يستقلّ المجلس العاليّ، القضائي، الشّهابيّ «أحمد بن فضل الله» المشار إليه بصحابة دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة: رفيقا لأبيه المجلس العاليّ، القضائيّ، المحيويّ:
ضاعف الله تعالى نعمته وبركته في المباشرة، وشريكا بل منفردا ليقوم معه ودونه بما قام به من كتابة باطنة وظاهرة، استقلّ كلّ منهما بها فيما بعد وقرب مما يضمّه نطاق الدولة القاهرة مع ما هو مستقرّ فيه من كتابة السر الشريف،
والتصرّف في المهمّات الشريفة والتصريف؛ وهو المنفرد بتقديم البريد وعرضه، ومباشرة ختمه وفضّه، وقراءته بين أيدينا، واستخراج مراسمنا الشريفة في كل مناب، ومشافهة وخطاب، وابتداء وجواب، وملطّف ومكبّر «1» ، ومقدّم ومؤخّر، ومكمّل ومشطّر، وإليه أمر البريد والقصّاد والنّجّابة «2» ، ومن اشتمل من الدّجى جلبابه، أو ألقته إلى ملاءة الصّباح المنشورة يد ليلة منجابة، وتعيين من يرى تعيينه منهم في المهمّات الشريفة السلطانيّة، والمصالح المقدّسة الإسلاميّة، وإليه الحمام الرسائليّ وتزجيته، وزجالته ومدرجته «3» ، ومن يصل من رسل الملوك إلى أبوابنا العالية، وجميع من يكاتب الدولة الشريفة من كل منتسب وغريب، وبعيد وقريب، وقراءة القصص لدينا، والكتابة على ما يسوغ كتابة مثله، وأخذ العلامة الشريفة من يده.
وأما من نستكتبهم عنّا في ممالكنا الشريفة فهو المقلّد لأعبائهم، والمخلّى بينه وبين ما يراه في اجتبائهم، يستكتب كلّ أحد فيما يراه، ويرفع بعضهم فوق بعض درجات منهم مستيقظ ومنهم نائم في غمرات كراه؛ كلّ هذا من غير معارضة له فيه، ولا اعتراض عليه في شيء منه، يبلّغنا مهمّاتنا الشريفة ويتلقّى عنا، ومنه إلينا وإليه منّا.
وأما ما يرد عليه من الرسائل عنّا بما يكتب به فيمشّي ما لا يمكن وقوفه، ويراجعنا فيما لا يكون إلا بعد مراجعتنا تصريفه؛ فليمش على هذه القاعدة، وليستقلّ بهذه الوظيفة استقلالا هو كالخبر محلّ الفائدة، ولينشر من إقبالنا الشريف عليه
بالصّلات العائدة؛ ونحن نختصر له الوصايا لأنّه الذي يمليها، ونقتصر منها على التقوى فإنها الذخيرة النافعة لمن يعانيها، والباقية الصالحة خير لمن يقتفيها، والله تعالى يقوّي أسبابه، وينير شهابه، ويزيد من المعالي اكتسابه، ويغنينا بقلمه عن سنان يتقدّم عامله، وبلسانه عن سيف يفارق قرابه، والاعتماد على الخط الشريف أعلاه.
وهذه نسخة تقليد بعود القاضي شهاب الدّين بن فضل الله إلى كتابة السر. من إنشاء الشريف شهاب الدين كاتب الإنشاء الشريف، وهي:
الحمد لله الذي أحمد العقبى بفضله، وأكّد النّعمى بوصله، وأودع سرّ ملكنا الشريف عند أهله، وأطلع شهاب الدين من أفق العلياء في محلّ شرفه وشرف محلّه، ورفع قدره في سيره إلى بروج السّعود وحلوله بدرجات الصّعود ونقله، وأرجع الموهبة منه إلى من يشكرها بقوله وفعله، وأينع الفرع الزاكي الذي يحيا أصله بواكف سحاب كرمنا ووبله، وأتمّ النّعمة عليه كما أتمّها على أبويه من قبله، وضمّ له أطراف الرياسة وجمع شملها بشمله، وعمّ بفضله وفضلنا أهل هذا البيت الذين فطروا على السّؤدد وبصروا من رضانا باتّباع سبله.
نحمده على إضفاء ظلّه، ونشكره على إصفاء نهله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أشرق نور هداها، بمستدلّه، وأغدق نوء نداها، بمستهلّه، ونشهد أنّ سيّدنا محمدا عبده ورسوله أرسله خاتم رسله، وجعل له الفضل على الخلق كلّه، وألهم به سبل هديه وسنن عدله، وأرشده إلى فرض دينه ونفله، وأودعه السّرّ الذي لم يودعه سواه وحمّله من أعباء الرّسالة ما لم ينهض غيره بحمله، صلى الله عليه وعلى آله أغصان الشجرة الزهراء التي هي بضعة منه ونبعة من أصله، ورضي الله عن أصحابه الذين أجلّهم من أجله،
خصوصا من بادر إلى الإيمان فخصّ من السّبق بخصله «1» ، ومن أيّد به الدين وفرّ الشيطان من ظلّه، ومن جهّز جيش العسرة حتّى غزا العدا بخيله ورجله، ومن كان باب مدينة العلم ومانح جزله وفاتح قفله، وعن بقيّة المهاجرين والأنصار الذي ما منهم إلا من جاهد حتّى قام الدين بنصره ونصله، صلاة دائمة يجعلها اللسان أهمّ شغله، ويتلقّى قادمها من مواطن القبول بأكرم نزله، ما رمى قوس العزم بصائب نبله، وحمى حمى الملك بليثه وشبله، وفوّض أجلّ المناصب إلى فاضل العصر وأجلّه.
أما بعد، فإنّ آراءنا لا تزال للمصالح مراعية، ولا تبرح بالإسعاد إلى الأولياء ساعية، فتدعو إلى مقامها من وفّر على الإخلاص دواعيه، وتدني من ملكها من له بالخفايا أعظم بصيرة وفي جميل القضايا أجمل طواعية، وتلقي أسرارها إلى من له لسان حقّ ناطق وأذن خير واعية، وتقدّم من له قدم صدق ثابتة ويد بيضاء طولى في المهمّات عالية، لتغدو سهام أقلامه إلى الأغراض رامية، وصوائب أفكاره عن حمى الملك محامية، وتكون عبارته للمقاصد موفية وإشارته لموعد اليمن موافية، وتضحي ديم نعمنا الواكفة لسوابق خدمه مكافية، لما يتّصل بذلك من المصالح، وتناجي خواطرنا الشريفة به المناجح، ويقبل عليه وجه الإقبال، في كل حال، ويغدو إليه طرف الإجلال، وهو طامح، فنجمّل به ممالكنا مصرا وشاما، ونسدّد به مرمى ونصيب مراما، ونحفظ له ولأبيه في خدمتنا حقّا وذماما، ونكون له في الحالتين برّا وإكراما، ونعلي محلّه إعلانا بعلوّ مكانه وإعلاما، فيؤلّف للرياسة نظاما، ويضاعف للرّتبة إعظاما، ويعمل يراعا بل حساما، ويجلو وجه المنى طلقا ويبدو بعد البشر بسّاما، ويحسن بأعباء المهمّات قياما؛ وحيث نقلته أوطانه هضاب المجد وقّلته، وأين وجّهته أعلت قدره ونوّهته، وكلما أوفدته أفاضت عليه ملبس العزّ وجدّدته، واختصّته بالتصرف وأفردته،
وانتضت ماضي اجتهاده وجرّدته، وأجرته من إجراء فضلها على ما عوّدته، واستقلّت له منائحها من كثير المواهب ما خوّلته، ومن كبير المناصب ما قلّدته.
ولما كان فلان هو الذي أودع الأسرار فحفظها، واطّلع على الدقائق فرعاها ببصيرته ولحظها، وباشر مهمّاتنا فأمضاها، وسرّ خواطرنا وأرضاها، وظهرت منه بين أيدينا كفاية لا تضاهى، وقلّد أجياد أوليائنا من تقاليده عقودا، وأدنى من المقاصد بلطف عبارته بعيدا، وأغنى الدولة أن تجهّز جيشا وجهّز بريدا، وأبان بمقاله عمّا في أنفسنا فلم يبق مزيدا، وصان الأسرار فجعل لها في خلده خلودا، وجمع أشتات المحاسن فأضحى فريدا؛ كم لعمّه «1» في خدمتنا من هجرة قديمة، ولأبيه من موالاة هي للمخالصة مواصلة ومديمة، وكم لهما أسباب في الرياسة قويّة وطرائق في الهداية قويمة، وكم كاتب يسّر الله بهداهما تعليمه وتفهيمه، وقدّر على يديهما وصوله إلى رتب العلياء وتقديمه، فمنفعتهما عميمة، ونبعتهما صميمة، ولهما في الشام ومصر أجمل شيمة، وكم له هو أيضا من تقدّمات اقتضت تكريمه، وكفاية عند علومنا الشريفة معلومة، وكتابة حلل المهارق بوشيها مرقومة؛ فلو قابله الفاضل «عبد الرحيم» لبادر إلى فضله إقراره وتسليمه، أو «عبد الحميد» لكانت مناهجه الحميدة بالنسبة إلى مذاهبه ذميمة، أو سمع «عبد الرحمن» مقاله لضمّن ألفاظه معانيه العقيمة، أو أدركه «قدامة» لعرف تقديمه، واقتدى بسبله المستقيمة، أو حوى «الجوهريّ» فرائد ألفاظه لعرف أنّ صحاحه إذا قرنت بها سقيمة، أو رأى «ابن العديم» خطّه لاستغنت منه بسلاسل الذّهب نفسه العديمة، أو «الوليّ» لاستجدى من صوب إجادته أغزر ديمة، أو نظره «ابن مقلة» لوجدت مقلته نضرة خطّه ونعيمه، أو «ابن البوّاب» لكان خدين بابه وخديمه؛ فهم «2» صدور صدورهم سليمة، وأماثل
معدودة وأمثالهم معدومة.
اقتضى حسن رأينا الشريف أن نلقي إليه منصبا هو أولى به، ونقرّ عينه بدنوّه منّا واقترابه، ونمتّع البصر والسمع بخطّه وخطابه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف، العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ- لا برح يعيد نعمه كما بدأها أوّل مرّة، ويسرّ القلوب بكاف أودعه سرّه، ويحمد لأحمد الأولياء عوده ومستقرّه «1» -.
فليتلقّ هذه النّعمة بشكرها وليترقّ منصبا رفيعا يناسب رفعة قدره، وليبسط قلمه في تنفيذ مهمّ الممالك من نهيه وأمره، وليحفظ ما أودعه من خفيّ سرّه، وليلاحظ المهمّات بفكره، وليحافظ على ما يعرفه من رضانا طول دهره؛ ونحن نعلم من صواب أفعاله وتسديدها، ما لا نحتاج معه إلى تكثير الوصايا وتعديدها، ولا إلى تكريرها وترديدها؛ لا سيّما وقد سلفت له بها خبرة لا نفتقر إلى استيعاب ذكراها ولا إلى تجديدها، وتقدّمت له مباشرة استبشرنا بميمونها وأثنينا على حميدها، واستدنينا سناها واستغنينا عن سواها بوجودها؛ وله بحمد الله توفّر التوفيق، وهو الحقيق بما فوّضنا إليه على التحقيق، وفضله من الشوائن عريّ وفي المجانبين عريق، وقدره بتجديد النّعم جدير وبخلال الكرم خليق، والله
تعالى يوضّح به من الخير أبين طريق، ويسرّ بمقدمه الوليّ والصديق، ويفرق به بين الحقّ والباطل فجدّه «1» الفاروق وهو من أكرم فريق، بمحمد وآله! وهذه نسخة تقليد بكتابة السرّ:
الحمد لله الذي أظهر لتدبير دولتنا شهابا يعلو على فرقد الفراقد، وكمّل به عقود الممالك فسمت جواهر فرائدها على الدّراريّ إذ كان واسطة تلك الفرائد، ومعيد إحساننا إلى خير وليّ أغنى تدبيره عمّن سواه فكان بالألف ذلك الواحد، ومخوّل موادّ كرمنا لمن هو صدر أسرارنا ويمين مملكتنا في كلّ صادر عنها ووارد، ومنقّل الأكفاء إلى مراتب سعودهم فتصبح ألوية محامدهم في معاقل العزّ أفخر معاقد، ومحلّي ملكنا الشريف بأكمل كاف ما أمّ مصرا إلا تلقّته بالهناء ولا فارق شاما إلا أسفت عليه تلك الربوع والمعاهد.
نحمده على نعم أقرّت عيون الأولياء لمّا أقرّتهم من موادّ جودنا على أكمل القواعد، ونشكره على ما بلّغنا من جميل المآرب وبلوغ المقاصد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنجّي قائلها من جميع الشدائد، ونشهد أنّ سيد [نا محمدا سيد]«2» البشر عبده ورسوله الذي جاد بهدايته فكان أكرم جائد، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته خصوصا على أوّل الخلفاء أبي بكر الصديق الذي لا فخر كفخاره، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب حامل أسراره وفاتح أمصاره، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفّان مبدّل عسره بيساره، وعلى ابن عمّه عليّ بن أبي طالب أعزّ نسبائه وأخصّ أصهاره، وعلى بقية مهاجريه وأنصاره، صلاة سهلة المشارع عذبة الموارد.
وبعد فإنّ من سجيّتنا إذا تيمّنّا بوليّ لا نزال نلحظه، ونرعى حقوق خدمه
في القرب والبعد ونحفظه، ونقابل ما أسلفه لدينا بنفائس النّعم، ونفيض عليه ملابس الجود والكرم، لا سيّما من لم يزل يظهر لنا كل يوم تعبّدا جديدا، ومن أصبح في الفصاحة والبلاغة وحيدا، ومن جمع أطراف السؤدد والرياسة فلم يبرح بهما فريدا، ومن تحسن النعم بإفاضتها عليه، وتكمل المنن بإضافة محاسنها إليه، وتزهو فرائد البلاغة بانتظامها في سلك مجده، وتشرق كواكب اليراعة في اتّساقها في فلك سعده؛ وكان للبابته في الاختصاص بنا اليد الطّولى، وتلا عليه لسان اعتنائنا في الحالين: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى
»
ولمّا كنت أيّها الصدر «شهاب الدين» أحقّ الناس بهذا المنصب لما لوالدك- أبقاه الله تعالى- ولعمّك- رحمة الله تعالى- من الحقوق، ولما أسلفاه من الخدم التي لا يحسن التناسي لها ولا العقوق، ولأنك جمعت في المجد بين طارف وتالد، وفقت بأزكى نفر وعمّ وإخوة ووالد، وجلالة، ما ورثتها عن كلالة، وخلال، ما لها في السّيادة من إخلال، ومفاخر، تكاثر البحر الزّاخر، ومآثر، يعجز عن وصفها الناظم والناثر، ولما نعلمه من فضائلك التي لا تجحد، رعيناك في عودك لوظيفتك وعود «أحمد» أحمد.
ولما كان فلان «2» هو الذي تقطر الفصاحة من أعطاف قلمه، وتخطر البلاغة في أثواب حكمه، وتنزل المعاني الممتنعة من معاقل القرائح على حكمه، وتقف جياد البداهة المتسرّعة حيرى قبل التوسّط في علمه؛ إن وشّى الطّرس فرياض، أو أجرى النّقس فحياض، أو نظم فقلائد، أو نثر ففرائد. لا يتجاسر المعنى المطروق أن يلمّ بفكره، ولا يقدم المعنى المتخيّل المسبوق للمرور بذكره، ولا يجوز زيف الكلام على ذهنه المتّقد، ولا يثبت غثاء الكلام لدى
خاطره المنتقد، ف «عبد الحميد» ك «عبد الرحيم» في العجز عن لحاق علومه التي يجد «الراغب» «1» على نورها هدى، والأصمعيّ لو أدركه لتلا عليه: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً
«2» «والطّغرائيّ» «3» لو عاصره لزاد نظمه وازداد على نوره هدى، و «الحريريّ» لو رافقه لأمن في «مقاماته» من التجريح والرّدى؛ قد قصّرت عن غاية كماله جياد القرائح، وعجزت عن وصف صفاته جميع المدائح، وشرف منصبه بانتسابه إليه، ورفع قدره بمثوله لديه؛ مع ما تميّز به من نزاهة صرف بها عن الدنيا طرفه، وزهادة زانت بالسّعد صدره وملاءة ملأت بالعفّة كفّه؛ فهو واحد زمانه، وأوحد أوانه، والبحر الذي يحدّث عن فضله ولا حرج، والروض الذي ينقل عن فضله إلى الأسماع أطيب الأرج؛ وكان قد مال عن منصبه وهو يذكره، وفارقه وهو يشكره، ونادى غيره وبقوله يلبّي، وشغل بغيره وهو يقول حسبي «شهاب الدين» حسبي: فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي
«4» فلما حصل له الاستئناس، وزال عنه القلق والالتباس، قال: ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ
«5» - اقتضى حسن الرأي الشريف أن نخصّه باستقرار رتبته لديه، وأن نستمرّ به على وظيفته السنية استمرار السّعود المقبل عليه.
فرسم بالأمر الشريف- لا زال شهاب سعده لامعا، وسحاب كرمه هامعا، ومطاع أمره لمصالح الدّين والدنيا جامعا،- لمناقبه «6» التي وفرت ميامنها،
وأسفرت بوصف آثاره الحسنة كوامنها، وأن يعاد إليها كما يعاد السّوار إلى الزّند، أو كما يعود نسيم الصّبا إلى الرّند، فليؤنس منصبا كان إليه مشتاقا، ومجلسا كان منتظرا أن يزرّ من ملابس جلاله على عنقه أطواقا، وليجمّل هالة كانت متشوّقة إلى عقود درره. فاحمد الله على ما خصصناك به من مزيد الاعتناء، وأن السعادة في أيّامنا الشريفة متصلة فتشمل الآباء والأبناء؛ ويكفيك بهذا التوقيع الشريف إذ بلغت به جميع الأماني، وتوّجناه بيميننا الشريفة لقرب عهدها بمصافحة الرّكن اليماني، واصطفيناك بقلم عظم شأنا بتلك السّتور، وغدا معمورا بالهداية ببركة البيت المعمور، وازداد بمشافهة الحرم الشريف نورا على نور. فليحسن نظره المبارك في ذلك كلّه، وليبد ما يحسن في هذه الوظيفة من مثله؛ وفي تقدّم مباشرته في هذه الوظيفة وعلمه ما يغني عن كثرة الوصايا، وملاكها تقوى الله تعالى وهي أكمل المزايا؛ وليحمد أفعاله ويصل أسباب اعتماده بسببها؛ والله تعالى يجمّل له مواهب تخويله، ويجعل له الخير في تنقّله وتحويله؛ والخطّ الشريف أعلاه، حجّة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بكتابة السرّ:
الحمد لله الذي جعل خواطر أوليائنا بإقرار نعمنا مستقرّة، ومواطر آلائنا على ذوي الإخلاص في ولائنا دائمة الدّيم مستمرّة، وبشائر رضانا تجدّد لكلّ من ذوي الاختصاص ابتهاجه وبشره، وسوافر أوجه إقبالنا لأولي الاصطفاء والوفاء مشرقة الأوضاح متهلّلة الأسرّة، مودع أسرار ملكنا الشريف من آل «فضل الله» عند أكرم أسرة، وممتّع دولتنا بخير كاف دقّق في مصالحنا فكره، وأنفق في مناجحنا عمره، ومجمع آرائنا على أعلى عليّ حلّ من بهر بيته بمعرّفه وبهر خيره، ومطلع أنجمهم بأفق تقريبنا مرّة بعد مرّة، فنحيي نيّرهم الأكبر وقد شيّدنا بارتقائهم بيته وشددنا بعلائهم أزره.
نحمده على أن جبل سجايانا، على الإحسان والمبرّة، ونشكره على أن
أجزل عطايانا، لمن لم يزل يعرف حقّه ويألف خيره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تشرح لمؤمنها صدره، وتصلح لموقنها أمره، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أسمى على الخلائق قدره، وتولّى في المضايق نصره، وأعلى في المشارق والمغارب ذكره، صلى الله عليه وعلى آله أعزّ عترة، ورضي الله عن أصحابه الذين أسدوا المنّة وسدّوا الثّغرة، صلاة ورضوانا متواصلين في كلّ أصيل ومكرّرين في كلّ بكرة، ما وهب فضل الله مستحقّا فسرّ بالعواطف والعوارف سرّه، وعقّب في سماء الإسعاد كوكب كوكبا فحلّ محلّه وقرّ مقرّه، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد فشيمنا ترعى لأوليائها حقوقا، ونعمنا الغامرة تسني صدقاتها لمن لم يزل في ولائها صدوقا، وتزيد هباتها توفيرا لمن عهدت منه لمراضيها توفيقا، وتجدّد بتعاهدها معهد الفضل فلا يمسي خليّا بل يضحي بإكرامها خليقا، وتشيّد بإحسانها بيتا أسّس على تقوى الله وطاعة سلطانها فغدا بالحفظ حقيقا، وتحمي باعتنائها جوانبه من الغير فلا يرهب حماه لها طروقا، ولا تجد بفضل الله لها عليه طريقا، وتطلع في بروج سعودها زهرا تروق شروقا، وتجمع على مهمّاتها من عظموا فضلا وكرموا فريقا، وتودع أسرارها عند سراتهم ركونا إليهم وسكونا ورضا بهم ووثوقا، وتشفع منائحها بمنائح تزيد آمالهم نجاحا وتفيد أمانيّهم تحقيقا، وترفع مكانا عليّا إلى حيث اتّسع السّرار من ملكها من كان بالميامن مليّا وفي المحاسن عريقا، ويخلف في خدمها شقيق منهم شقيقا، ويصرّف أوامرها ونواهيها من أعيانهم من تأمن المصالح مع اجتهاده تفويتا وتخاف الأعداء لسداده تعويقا، طالما ائتمنّاهم على إيداع أسرارنا فحلّت من سرائرهم مستودعا وثيقا، وعيّنوا للمعالي فصادفت طويّتنا من يقظتهم ونهضتهم تصديقا؛ فهم أولى أن نجعل لأجيادهم بعقود جودنا تطويقا، وأحقّ أن نرفع بنعمنا محلّهم، ونجمع في خدمتنا شملهم، فلا يخشون نقضا ولا تفريقا.
ولما كان المجلس العاليّ الفلانيّ هو الذي لحظته عنايتنا، فعلا فعلا،
وأيقظته إشارتنا، فغدا في الحكم كهلا، وحفظته رعايتنا، فعمرت بيته العمريّ الذي ما زال بالعوارف ملموحا وللقبول أهلا، وأحظته سعادتنا، في إقامته مقام أبيه في حفظ أسرارنا التي هو أحقّ بإيداعها وأولى- اقتضى حسن الرأي الشريف أن نجري بمراسمنا أقلامه، ونوفّر من إنعامنا أقسامه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا برحت سحائبه عامّة، ومواهبه لها مزيد وإدامة، ورعايته إذا ابتدأت فضلا رأت إتمامه، وكواكبه تسير في منازل عزّها ولنيّرها الأكبر الإرشاد والإمامة- أن يفوّض إليه كذا وكذا، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، نظير ما كان مستقرّا لأخيه.
فليباشر هذه الوظيفة التي لها به وبأهله أعظم فخار، وليحلّ هذه الرتبة التي ما منهم إلا من يجتبى ويستخار، وليجمّل هذا المنصب الذي إليهم مصيره في جميع الأمصار، وليحلّ المهارق بإنشاءاته التي شان مطاولها عن شأوها الإقصار، وليتوقّل هذه الهضبة التي لها على عليائهم اقتصار، وفي آبائهم وأبنائهم لها تعيين وانحصار، وليدبّج الطّروس من خطّه بالوشي الرقيم، وليبهج النفوس من خطابه بالدّرّ النظيم، وليسرج الشّموس من أوضاع كتابته التي تبرز من إبريز كنوزها «ابن العديم» ، وليجهزّ البرد التي تقدمها مهابتنا فلم يكتبها من كتائب الأعداء هزيم، وليزيّن مقاصدها التي قرن بها الفتح القريب والنصر العزيز والفضل العظيم؛ وهو بحمد الله غنيّ عن الإرشاد بالوصايا والتفهيم، عليّ القدر لا يحتاج مع ألمعيّته إلى تنبيه ولا إلى تعليم، وهم أئمة هذه الصناعة ولهم الفضل القديم، وسبيلهم السّويّ وصراطهم القويم؛ والله تعالى يوفّر لهم فضلنا العميم، ويظفر أقدارهم من لدنّا بتكرير التكريم، ويسني أمرهم في آفاق العلياء يسعد ويقعد ويقيم، ويديم لكلّ منهم في ظلّ نعمنا المزيد والتأكيد والتقديم؛ والعلامة الشريفة أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه وصية لكاتب السرّ، أوردها في «التعريف» وهي:
وليأمر عنّا بما يقابل بالامتثال، ويقال به: السيوف لأقلامه مثال، ويبلغ [من]«1» ملوك العدا ما لا تبلغه الأسنّة، ولا تصل إليه المراكب المشرعة القلوع والخيول المطلقة الأعنّة، وليوقّع عنّا بما تذهب الأيام ويبقى، ويخلّد من الحسنات ما يلفى آخرة ويلقى، وليمل من لدنه من غرر الإنشاء ما يطرّز كلّ تقليد، وتلقى إليه المقاليد، ولينفّذ من المهمّات ما تحجب دونه الرّماح، وتحجم عن مجاراة خيل البريد به الرّياح، وليتلقّ ما يرد إلينا من أخبار الممالك على اتّساع أطرافها، وما تضمّه ملاءة النّهار ملء أطرافها، وليحسن لدينا عرضها، وليؤدّ بأدائها واجب الخدمة وليتمّ فرضها، وليجب عنّا بما استخرج فيه مراسمنا المطاعة، وبما وكل إلى رأيه فسمع له الصواب وأطاعه، وليمض ما يصدر عنّا مما يجوب الآفاق، ويزكو على الإنفاق، ويجول ما بين مصر والعراق، ويطير به الحمام الرسائليّ وتجري الخيل العتاق، ولير النوّاب ما أبهم عليهم بما يريهم من ضوء آرائنا، وليؤكّد عندهم أسباب الولاء بما يوالي إليهم من عميم آلائنا، وليأمر الولاة بما يقف به كلّ منهم عند حدّه ولا يتجاوزه في عمله، ولا يقف بعده على سواه بأمله، وليتولّ تجهيز البريد، واستطلاع كلّ خبر قريب وبعيد، والنّجّابة وما تسير فيه من المصالح، وتأخذ منه بأطراف الأحاديث إذا سالت منه بأعناق المطيّ الأباطح، وأمور النّصحاء والقصّاد، ومن يظلّ سرّهم عنده إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها وهم شتّى في البلاد، وليعرف حقوق ذوي الخدمة منهم، وأهل النصيحة الذين رضي الله عنهم، ولا ينس عوائدهم من رسوم إحساننا الموظّف، وكرمنا الذي يستميل به القلوب ويتألّف، وليصن السرّ بجهده وهيهات أن يختفي، وليحجبه حتّى عن مسمعيه فسرّ الثلاثة غير الخفي، والكشّافة الذين هم ربيئة «2» النظر، وجلّابة كل خبر، ومن هم أسرع طروقا من الطيف، وأدخل في نحور الأعداء من ذباب السّيف، وهم أهل الرّباط
للخيل، وما منهم إلا من هو مقبل ومدرك كاللّيل؛ والدّيادب والنّظّارة «1» ، ومن يعلم به العلم اليقين إذا رفع دخانه أو ناره؛ وهم في جنبات حيث لا يخفى لأحد منهم منار، ولا يزال كلّ نبإ بتنويرهم كأنه جبل في رأسه نار؛ والحمام الرسائليّ وما يحمل من بطائق، ويتحمّل من الأنباء ما ليس سواه له بطائق، ويخوض من قطع الأنهار، ويقطع إلينا ما بعد مسافة شهر وأكثر منه في ساعة من نهار، ويعزم السّرى لا يلوي على الرّباع، ويعلم أنها من ملائكة النصر لأنها رسل ولها أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وغير هذا مما هو به معدوق، وإليه تحدى به النّوق، من رسل الملوك الواردة، وطوائف المستأمنين الوافدة؛ وكلّ هؤلاء [هولآ]«2» مالهم المترجم، والمصرّح عن حالهم المحمحم؛ فليعاملهم بالكرامة، وليوسع لهم من راتب المضيّف ما يحبّب إليهم في أبوابنا العالية الإقامة، وليعلم أنه هو لدينا المستشار المؤتمن، والسفير الذي كلّ أحد بسفارته مرتهن، وهو إذا كتب بناننا، وإذا نطق لساننا، وإذا خاطب ملكا بعيد المدى عنواننا، وإذا سدّد رأيه في نحور الأعداء سهمنا المرسل وسناننا؛ فلينزل نفسه مكانها، ولينظر لدينا رتبته العليّة إذا رأى مثل النجوم عيانها.
فليراقب الله في هذه الرتبة، وليتوقّ لدينه فإنّ الله لا يضيع عنده مثقال حبّة، وليخف سوء الحساب وليتّق الله ربّه؛ وجماعة الكتّاب بديوان الإنشاء بالممالك الإسلامية هم على الحقيقة رعيّته، وهداهم بما تمدّهم به من الآلاء ألمعيته؛ فلا تستكتب إلا من لا تجد عليه عاتبا، ولا يجد إلا إذا قعد بين يديه كاتبا، والوصايا منه تستملى.