الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وليأمرهم أمرا عامّا بأن لا يركب أحد منهم إلا بدستور ولا ينزل إلا بدستور، وليحترز عليهم من طوائف الغلمان «1» ، ولا يستخدم منهم إلا معروفا بالخير ويقيم عليهم الضّمّان، وليحرّر على من دخل عليهم وخرج، ولا يفتح لأحد منهم إلا من علم أنه ليس في مثله حرج، ولا يدع للرّيبة بينهم مجالا للاضطراب، وليوص مقدّميهم بتفقّد ما يدخل إليهم فإن الغشّ أكثره من الطّعام والشّراب، وليدم مراجعتنا في أمرهم فإن بها يعرف الصواب، وليعمل بما نأمره به ولا يجد جوى في جواب.
الضرب الثاني (ممّن يكتب له بالولايات بالديار المصرية أرباب الوظائف الدينية، وهو على طبقتين)
الطبقة الأولى (أصحاب التقاليد ممّن يكتب له بالجناب العالي)
وتشتمل على عدّة وظائف:
الوظيفة الأولى (القضاء)
قد تقدّم في المقالة الثانية في الكلام على ترتيب الوظائف أنّ الديار المصرية كان يليها قاض واحد، إلى أن كانت الدولة الظاهرية «بيبرس» في أوائل الدّولة التّركية، وقاضي القضاة يومئذ القاضي تاج الدين عبد الوهاب ابن
بنت الأعزّ الشافعيّ، فاضطرب الأمر لاختلاف المذاهب، فاقتضى رأي السلطان تقرير أربعة قضاة من كل مذهب قاض، وقرّر القاضي تاج الدين ابن بنت الأعزّ في قضاء قضاة الشافعية على حاله، وكتب لكلّ منهم تقليد بذلك؛ ثم خصّ قاضي القضاة الشافعية بالتولية في بلاد الريف دون غيره من القضاة الثلاثة، واستمرّ الأمر على ذلك إلى الآن. إلا أنه لما حدث بديوان الإنشاء تنويع ما يكتب لأرباب الأقلام إلى تقاليد، في قطع الثلثين، وتفاويض، وتواقيع، في قطع النصف، تقرّر الحال على أن يكتب للقضاة الأربعة تواقيع في قطع النصف ب «المجلس العالي» ، ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن ولي القاضي عماد الدين أحمد الكركيّ الأزرقيّ قضاء قضاة الشافعية «1» في أوّل سلطنة الظاهر «برقوق» الثانية، وأخوه القاضي علاء الدين عليّ كاتب السرّ، فعني بأخيه عماد الدين المذكور، فكتب له تقليدا في قطع الثلثين ب «الجناب العالي» . وبقي الثلاثة على ما كانوا عليه من كتابة التواقيع إلى أن ولي القاضي جمال الدّين محمود الحلبيّ القيسريّ المعروف بالعجميّ «2» رحمه الله قضاء قضاة الحنفيّة في الدولة الظاهريّة أيضا، مضافا إلى نظر الجيش، فكتب له تقليد في قطع الثلثين بالجناب العالي أيضا؛ وبقي المالكيّ والحنبليّ على ما كانا عليه من كتابة التواقيع في قطع النّصف. ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن ولي قاضي القضاة جمال الدين يوسف البساطيّ قضاء قضاة المالكية في الدولة الناصرية «فرج بن الظاهر برقوق» فأنشأت له تفويضا وكتبت له به، ولم يكن أحد ممن
عاصرناه كتب له تفويض غيره. ثم لما ولي الشيخ جمال الدين عبد الله الأقفهسيّ «1» قضاء المالكية، كتب له توقيع في قطع النصف، إلا أنه كتب له ب «الجناب العالي» كما يكتب لأصحاب التقاليد، وجرى الأمر فيمن بعده على ذلك. ولم يبق من هو على النّمط الأوّل سوى قاضي القضاة الحنابلة، ويوشك أن يكتب لكلّ من المالكيّ والحنبليّ أيضا تقليد: لمساواتهم بغيرهم من الأربعة.
وقد ذكرت ما يكتب لهم من تقاليد وتواقيع هنا جمعا للمفترق وتقريبا للمأخذ.
وهأنا أذكر ما يكتب للأربعة على الترتيب.
الأوّل: (قضاء القضاة الشافعية) .
وهذه نسخة تقليد بقضاء القضاة الشافعية، كتب به لقاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعزّ «2» رحمه الله، حين استقرّ أحد القضاة الأربعة بعد انفراده بالوظيفة على ما تقدّم، وهي من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر «3» رحمه الله تعالى، وهي:
الحمد لله مجرّد سيف الحقّ على من اعتدى، وموسّع مجاله لمن راح إليه
واغتدى، وموضّح طريقه لمن اقتاد واقتدى، ومزيّن سمائه بنجوم تستمدّ الأنوار من شمس الهدى، الذي أعذب لشرعة الشريعة المحمّدية ينبوعا، وأقامها أصلا مدّ بثمار الرّشد فروعا.
نحمده على نعمه التي ألزمتنا لتشييد مبانيها شروعا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نعمر بها من القلوب والأفواه ربوعا، ونصلّي على سيدنا محمد الذي أرسله الله إلى الخلائق جميعا، وقام بعبء الأمر يصنع حسنا ويحسن صنيعا، صلى الله عليه وعلى آله صلاة لا يبرح برقها ملموعا، ولا ينفكّ وترها «1» بالتسليم مشفوعا.
وبعد، فإنّ أحقّ من جدّد له شرف التقريض، وخلّد له إرضاء الأحكام وإمضاء التفويض، وريش جناحه وإن لم يكن المهيض، وفسّح مجاله وإن كان الطويل العريض، ورفع قدره على الأقدار، وتقسّمت من سحائبه الأنواء ومن أشعّته الأنوار، من غزر مدّه فجرت منه في رياض الحقّ الأنهار، وغدا تخشع لتقواه القلوب وتنصت لقوله الأسماع وترنو لمحيّاه الأبصار، قد أوفد من إرشاده للأمة لطفا فلطفا، وأوقد من علمه جذوة لا تخبو وقبسا بالهوى لا يطفى، وفات النّظراء والنّظّار فلا يرسل أحد معه طرفا ولا يمدّ إليه من حيائه طرفا، واحتوى من علوم الشريعة على ما تفرّق في غيره، وغدا خير دليل إلى الحقّ فلا يقتدى في المشكلات إلا برأي اجتهاده ولا يهتدى في المذاهب إلا بسيره، وكان لفلك الشريعة المحمّدية قطبا، ولجثمانها قلبا ولسوارها قلبا «2» ؛ ولدليلها برهانا، ولإنسانها عينا ولعينها إنسانا؛ فكم أرضى بني الأنام عن الأيام، وكم أغضى حياء مع قدرته على الانتقام، وكم أمضى لله حكما لا انفصال لعروته ولا انفصام، وكم قضى بالجور في ماله وبالعدل في الأيتام؛ فلو استعداه الليل على النهار لأنصفه من تعدّيه، ولم يداجه لما ستره عليه من تعدّيه في دياجيه؛ فهو
الصادع بما أمر الله به ولو على نفسه، والمستردّ الحقوق الذاهبة من غير محاباة حتّى لغده من يومه وليومه من أمسه.
ولما كان قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهّاب ممن هو في أحسن هذه السّمات قد تصوّر، وكادت نجوم السماء بأنواره تتكثّر، وتجوهر بالعلوم فأصبح حقيقة هو التاج المجوهر، وله مزايا السّؤدد التي لا يشك فيها ولا يرتاب، وسجايا الفضل التي إذا دخل إليه غيره من باب واحد دخل هو إليه من عدّة أبواب؛ وهو شجرة الأحكام، ومصعد كلم الحكّام، ومطلع أنجم شرائع الإسلام، ومهبط وحي المقدّمات والارتسام، ومجتمع رفاق القضايا في الحلال والحرام- خرج الأمر الشريف بتجديد هذا التقليد الشريف له بقضاء القضاة بالديار المصرية: فليستصحب من الحق ما هو مليّ باستصحابه، وليستمرّ على إقامة منار الحق الذي هو موثّق عراه ومؤكّد أسبابه، وليحتلب من أخلاف الإنصاف ما حفّله اجتهاده ليد احتلابه، عالما بأنّ كل إضاءة إنارتها من قبسه، وإن استضاء بها في دياجي المنى، وكلّ ثمرة من مغترسه، وإن مدّ إليها يد الاجتنا، وكلّ جدول هو من بحره وإن بسط إليه راحة الاغتراف، وكلّ منهج هو من جادّته وإن ثنى إلى سلوكه عنان الانصراف لا الانحراف؛ وهو بحمد الله المجتهد المصيب، والمادّة للعناصر وإن كان نصيبه منها أوفر نصيب، وسجاياه يتعلّم منها، كيف يوصّى ويعلّم، ومزاياه تقوّم الأود، كيف يقوّم، والله الموفّق بمنّه وكرمه! الثاني- قاضي القضاة الحنفيّة على ما استقرّ عليه الحال من لدن القاضي جمال الدين محمود القيسريّ وإلى آخر وقت. وموضوعها النظر في الأحكام الشرعيّة على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، ويختصّ نظره بمصر والقاهرة خاصّة.
وهذه نسخة تقليد بقضاء قضاة الحنفيّة كتب به لمن لقبه شمس الدين، وهي:
الحمد لله الذي أطلع في أفق الدّين الحنيف شمسا منيرة، ورفع درجة من جعله من العلم على شريعة ومن الحكم على بصيرة، وقلّد أمور الأمة لمن يعلم أنّ بين يديه كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، ووفّق لفصل القضاء من مشى على قدم أقدم الأئمة فسار في مذهبه المذهب أحسن سيرة، الذي أدّخر للحكم في أيّامنا الشريفة من نفائس العلماء أفضل ذخيرة، وقضى بإرجاء أمره لنختار له من تحلّى به بعد العطل «1» وكلّ قضاء خيرة، وأيقظ عنايتنا لمن رقد الدهر عن فضله فباتت عين الاستحقاق باستقرار رتبته قريرة.
نحمده حمد من توافت إليه النّعم الغزيرة، وتوالت عليه المنن الكثيرة في المدد اليسيرة، وأخصبت في أيامه رياض الفضائل فهي بكلّ عالم عدم النظير نضيرة، وافتتح دولته برفع منار العدل فآمال أهل الظلم عن تعاطيه قاصرة وأيدي أهل الباطل عن الامتداد إليه قصيرة، وخصّ المناصب في ممالكه بالأكفاء فإذا تلبّست بها همم غيرهم عادت خاسئة أو امتدت إليها أبصار من دونهم رجعت حسيرة.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تصلح العلن والسريرة، وتصبح بها القلوب موقنة والألسن ناطقة والأصابع مشيرة، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بعث الله به الرسل مخبرة وأنزل الكتب بمبعثه بشيرة، واجتباه من خير أمّة من أكرم أرومة وأشرف عشيرة، وأظهر أنوار ملّته إلا لمن أعمى الغيّ بصيرته وهل ينفع العمي شمس الظّهيرة، وخصّه بالأئمة الذين وفقهم للاستعانة بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة، وجعل علماءهم ورثة الأنبياء فلو ادّعيت لأحكامهم العصمة لكانت بذلك جديرة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة نتقرّب بدوامها إلى الله فيضاعفها لنا أضعافا كثيرة، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى الأمور بأن تشاد قواعده، وتتعهّد معاهده، ويعلى مناره،
وتفاض بطلوع شمسه أنواره، ويحلّى به بعد العطل جيده، وينظم في سلك عقود الأمة فريده، وتكمّل به قوى الدين تكملة الاجساد بقوى الطبائع الأربع، وتعمّر به ربوع الملة التي ليس بعدها من مصيف لملّة ولا مربع، وتثبّت به قوائم الشرع التي ما للباطل في إمالة بعضها من مطمع، وتجلى به عمّن ضاق عليه المجال في بعض المذاهب الغمّة، ويستقرّ به عدد الحكّام على عدد الأئمة المستقرّ على عدد الخلفاء الراشدين من خلفاء الأمّة، ويمدّ به على الخلق جناح الرحمة وافر القوادم وارف الظّلال، ويجمع به عليهم ما جمع الله في أقوال أئمتهم من الحق وماذا بعد الحقّ إلّا الضّلال،- أمر القضاء على مذهب الإمام أبي حنيفة النّعمان بن ثابت رضي الله عنه الذي اشتقّ الله له من الملّة الحنيفيّة نسبة سرت في الآفاق، وأفاض عليه من موادّ القياس الجليّ كنوزا نمت على الإنفاق، وعضّد أيّامه بوليّي عهد قولهما حجة فيما تفرّدا به من الخلاف أو اجتمعا عليه من الوفاق؛ وعدّ من التابعين لقدم عهده، وسمّي «سراج الأمة» لإضاءة نوره بهما من بعده.
ولما خلا بانتقال مباشره إلى الله تعالى، توقّف مدّة على ارتياد الأكفاء، وارتياء من هو أهل الاصطفاء، واختيار من تكمل به رفعة قدره، ويعيد لدسته بتصدّره على بساط سليمانه بهجة صدره، ويغدو لسرّ إمامه بعد إماتة هذه الفترة باعثا، ويصبح وإن كان واحد عصره لأبي يوسف ثانيا ولمحمد بن الحسن ثالثا؛ ويشبّه به البلخيّ «1» زهدا وعلما، والطّحاويّ «2» تمسّكا بالسّنّة وفهما، ويغترف القدوريّ «3» من بحره، ويعترف الحصريّ «4» بالحصر عن إحصاء فضله وحصره،
ويقف من مذهب ابن ثابت «1» ، على أثبت قدم وينتمي من فقه النّعمان إلى فرع زاك وأصل ثابت، وينشر من أحكامه ما إن وافق الأئمة فهو حجّة قاطعة ومحجّة ساطعة، أو خالفهم بمذهبه فهو رحمة واسعة، ونعمة وإن كانت بين الطّرق فارقة فإنها على الحق جامعة.
ولما كان فلان هو المنتظر لهذه الرتبة انتظار الشمس بعد الغسق، والمرتقب لبلوغ هذه المنزلة التي تقدّمت إليها بوادر استحقاقه في السّبق، والمعطوف على من وصف من الأئمة وإن تأخّر عن زمانه عطف النّسق؛ وهو الذي ما دام يعدل دم الشهداء مداد أقلامه، وتضع الملائكة أجنحتها رضا بما يصنع من نقل خطواته في طلب العلم وسعي أقدامه، ودخل من خشية الله تعالى في زمرة من حصر بإنّما «2» ، وهجر المضاجع في طاعة الله لتحصيل العلم فلو عدّت هجعاته لقلّما، وهجّر في إحراز الفضائل فقيّد أوابدها، وأحرز شواردها، ولجّج في بحار المعاني فغاص على جواهرها، ونظر نظرة في نجوم العلوم فاحتوى على زهرها وراد خمائل الفضائل فاستولى على أزاهرها، وانتهى إليه علم مذهبه فبرّز على من سلف، وجارى علماء عصره فوقفت أبصارهم عن رؤية غباره وما وقف، ونحا نحو إمامه فلو قابله يعقوب مع معرفته في بحث لانصرف، وتعيّن عليه القضاء وإن كان فرض كفاية لا فرض عين، وقدّمه الترجيح الذي جعل رتبته همزة استفهام ورتبة غيره بين بين- اقتضى رأينا الشريف اختصاصه بهذا التمييز، والتنبيه على فضله البسيط بهذا اللفظ الوجيز.
فلذلك رسم أن يفوّض إليه كيت وكيت. فليتولّ هذه الرتبة التي أصبح فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نائبا وبشرعه قائما، ويتقلّدها تقلّد من يعلم أنه قد أصبح على حكم الله مقدّما وعلى الله قادما، ويتثبّت تثبّت من يعتصم بالله في حكمه فإنّ أحد الخصمين قد يكون ألحن بحجّته وإن كان ظالما، ويلبس لهذا
المنصب حلّة تمنع المبطل من الإقدام عليه، وتدفع الظالم عن التطاول إلى أمر نزعه الشرع من يديه، وتؤمّن الحقّ من امتداد يدي الجور والحيف إليه، وليسوّ بين الخصمين في مجلسه ولحظه، ويعدل بينهما في إنصاته ولفظه،: ليعلم ذو الجاه أنه مساو في الحق لخصمه، مكفوف باستماع حجّته عن الطمع في ظلمه، ولا ينقض حكما لم يخالف نصّا ولا سنّة ولا إجماعا، وليشارك فيما لا يجهله من القضايا غيره من العلماء ليتزيّد بذلك مع اطّلاعه اطلاعا، وليغتنم في ذلك الاستعانة بآرائهم فإنّ الله تعالى لا ينتزع هذا العلم انتزاعا، وليسدّ مسالك الهوى عن فكره، ويصرف دواعي الغضب لغير الله عن المرور بذكره «1» ؛ وليجعل العمل لوجه الله نتيجة علمه، وليحكم بما أراه الله وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ
«2» إن شاء الله تعالى.
الثالث- قاضي القضاة المالكية:
وهذه نسخة تقليد بقضاء قضاة المالكية، لقاضي القضاة جمال الدين يوسف البساطيّ المقدّم ذكره، في العشر الأخير من رجب الفرد سنة أربع «3» وثمانمائة، وهو:
الحمد لله الذي شفع جلال الإسلام بجماله، وناط أحكامه الشرعيّة بمن اقترن بحميد مقاله جميل فعاله، وخصّ مذهب عالم المدينة بخير حاكم ما جرى حديثه الحسن يوما إلا وكان معدودا من رجاله، وعدق النظر في أحكامه بأجلّ عالم لو طلب له في الفضل مثل لعجز الزمان أن يأتي بمثاله.
نحمده على أن أخلف من النّبعة الزكيّة صنوا زاكيا، وأدال من الأخ
الصالح أخا للعلوم شافيا، ولمنصبه العليّ ولله الحمد وافيا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مجرّد سيف الحق على كلّ مبطل معاند، ومرهف حدّه القاضب لكل ملحد عن سواء السبيل حائد، وأنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أفضل نبيّ فاق الأنام بفضله وعمّ البريّة بعدله، وسدّ باب التوبة على متنقّصه فلم تكن لتقبل توبة مثله، وكان إلى مالك مصيره فلا جرم قضى بإهدار دمه وتحتّم قتله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ذبّوا عن حمى الدين وذادوا، وسلكوا سبيل المعدلة إذ حكموا فما ضلّوا عن سنن الطريق ولا حادوا، صلاة تبقى ببقاء الدّهور، ولا تزول بهجة جمالها بتوالي الأعوام والشّهور، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإنّ أولى ما قصر عليه النظر، واستغرقت فيه الفكر وعرا العيون فيه السهر، وصرفت إليه الهمم، ورغبت في البراءة من تخلّفه الذّمم- النظر في أمر منصب الشرع الشريف الذي يأوي الملهوف إلى ظلّه، ويلجأ المستجير إلى عدله، ويتعلّق العفاة بوثيق عروته ومتين حبله، وبرهبته يكفّ الظالم عن ظلمه، وينتصف الخصم من خصمه، ويذعن العاصي إلى طاعته وينقاد الأبيّ إلى حكمه، ويأتمّ به الحائر في دجى الجهل فيستضيء بنوره ويهتدي بنجمه؛ لا سيما مذهب مالك الذي لم يزل للدّين من أهل الإلحاد مثّئرا، وللقصاص من أهل العناد مبتدرا، وبسلّ سيف الحقّ على الطّغاة المتمرّدين مشتهرا؛ ففاز من سطوات الإرهاب بأرفع المراتب، وعلا رقاب الملحدين بأرهف القواضب، وخصّ من سفك دماء المبطلين على البتّ بما لم يشاركه فيه غيره من المذاهب؛ فوجب أن يختار له من ينصّ الاختبار على أنه أهل للاختيار، ويقطع المنافس أنه الراجح وزنا عند الاعتبار، وتأخذ مناقبه البسيطة في البسط فلا تنفد إذا نفدت مناقب غيره المركّبة عند الاختصار، ويشهد له ضدّه بالتقدّم في الفضل وإن لم تتقدّم منه دعوى، ويعترف له بالاستحقاق خصمه فيتمسّك من عدم الدافع فيه بالسّبب الأقوى، ويحكم له بعلوّ الرّتبة مناوئه فيرتفع الخلاف وتنقطع النّجوى، ويسجّل له حاسده بثبوت المفاخر المحكوم بصحّتها فلا ينقضها حاكم وإن بلغ
من تدقيق النظر الغاية القصوى، وتنفذ أحكامه في البريّة فلا يوجد لها مخالف، وتحذر شيعة الباطل سطوته فلا يرى لباطل محالف، ويشتهر عنه من نصرة الحق ما يأمن معه المستضعف الخائف، ويتحقّق فيه من قيام العدل ما يرتدع به الظالم الحائف، ويستوي عنده في لزوم الحق القويّ والضعيف، ولا يفرّق في لازمه بين المشروف والشريف، ولا يميّز في حمل الأعباء الشرعيّة بين الشّاق وغيره ولا بين الثقيل والخفيف، ولا يحابي قريبا لقرابته، ولا جليلا لجلالته، ولا ظالما خوف ظلمه ولا ذا استطالة لاستطالته، ولا يستزلّه ذو لسن للسنه ولا بليغ لبلاغته، ولا يخالف بين الصديق الملاطف وغيره إلا في منع قبول شهادته.
ولما كان المجلس العاليّ القاضويّ، الكبيريّ، الإماميّ، العالميّ، الصّدريّ، الرئيسيّ، الأوحديّ، العلّاميّ، الكامليّ، الفاضليّ، المفيديّ، الفريديّ، الحجّيّ، القدويّ، الخاشعيّ، الناسكيّ، الحاكميّ، الجماليّ، جمال الإسلام، شرف الأنام، حاكم الحكّام، أوحد الأئمة، مفيد الأمّة، مؤيّد الملّة، معزّ السنّة، شمس الشريعة، سيف المناظرين، لسان المتكلمين، حكم الملوك والسلاطين، خالصة أمير المؤمنين؛ أبو المحاسن «يوسف البساطيّ» المالكيّ- أدام الله تعالى نعمته- هو المراد من هذه الصّفات، التي وقعت من محلّه الكريم موقعها، والمقصود من هذه السّمات، التي ألفت من سيرته الفاضلة موضعها، وقارع صفاة هذه الذّروة التي ما كان ينبغي لغيره أن يقرعها، وشمس الفضل الحقيق بمثلها أن لا يتوارى جمالها بحجاب الغروب، وفاصل مشكلات القضايا إذا اشتد إشكالها وعظمت في فصلها الخطوب، ومتعيّن الولاية التي إذا كانت في حقّ غيره على الإباحة كانت في حقّه على الوجوب؛ وقد درّب الأحكام وخبرها، وعرف على التحقيق حالها وخبرها، وورد من مشاربها الرائقة أصفى المناهل فأحسن وردها وصدرها، ونفست جواهر فوائده ففاقت جواهر المعادن، وغطّت محاسن فضله فضائل غيره ولا تنكر المحاسن ل «يوسف» وهو «أبو المحاسن» ؛ فعلومه المدوّنة بالبيان والتحصيل كافلة، ومقدّمات تنبيهاته بنتائج النّوادر الحسنة متواصلة، وتهذيب ألفاظه المنقّحة تؤذن
بالتحرير، وعيون مسائله المتواردة لا تدخل تحت حصر ولا تقدير؛ فلو رآه «مالك» لقال: ما أعظم هذه الهمّة، أو أدركه «ابن القاسم» لوفّر من الثناء عليه قسمة، أو عاصره «ابن عبد الحكم» لحكم له بأنّ سهمه قد أصاب الغرض وغيره أطاش الريح سهمه، أو عاينه «أشهب» لقال قد ركب هذا الشّهباء أنّى يلحق، أو سمع «ابن وهب» كلامه لقطع بأنه هبة ربّانيّة وبمثله لم يسبق، أو بلغ «ابن حبيب» خبره لأحبّ لقاءه. أو بصر به «سحنون» لتحقّق أنه عالم المذهب ما وراءه، أو استشعر بقدومه «ابن سيرين» لبشّر به، أو جاوره «ابن عوف» لعاف مجاورة غيره أو مجاوزة طنبه، أو جالسه «ابن يونس» لتأنّس بمجالسته، أو حاضره «أبو الحسن بن القصّار» لأشجى قلبه بحسن محاضرته، أو جاراه «القاضي عبد الوهّاب» لقضى بعلوّ مكانته، أو اتّصل ذكره «بالمازريّ» لزرى على «مازر» لبعدها عن دار إقامته، أو اطّلع «القاضي عياض» على تحقيقاته لاستحسن تلك المدارك، أو ناظره «ابن عبد السلام» لسلّم أنه ليس له في المناظرة نظير ولا في تدقيق البحث مشارك، أو مرّ به «ابن الجلّاب» لجلب فوائده إلى بلاده، أو حضره «ابن الحاجب» لتحقّق أنه جامع الأمّهات على انفراده.
هذا وقد حفّ بجلال لا عهد لأحد مثله، ولا طاقة لفاضل بمقاومة فضله، ولا يسمح الزمان بنظيره من بعده كما لم يسمح به من قبله؛ فاجتمع من جمال الجلال، وجلال الجمال، ما لم يكن ليدخل تحت الإمكان، وعزّز عددهما من أعلام الأئمة بثالث ورابع فقام بناء الدّين من المذاهب الأربعة على أربعة أركان؛ ولا عبرة بما يذهب إليه الذاهبون من كراهة التربيع تبعا للمنجّمين في اعتقادهم الفاسد، فقد ورد أنّ زوايا الحوض على التربيع وذلك فيه أعظم دليل وأقوم شاهد.
وكان مذهب مالك رحمه الله هو المراد من هذه الولاية بالتخصيص، والمجلس الجماليّ المشار إليه هو المقصود بهذا التفويض بالتنصيص- اقتضى حسن الرأي الشريف أن نوفّي مرتبته السنيّة حقّها، ونبوّيء النّعم مستحقّها، ونملّك
رقاب المعالي مسترقّها، ونقدّم على طائفة المالكية من أضحى لهم جمالا، ونتحفهم بمن أمسى لعزّهم كمالا، ونفوّض قضاء مذهبهم إلى من إذا جرى في ميدان حكمه قالت محاسن قضاياه:(هكذا هكذا وإلا فلا لا) ، ونسند الأحكام الشرعية إلى من هو بها أعرف، ونقفها على من عرف أنه على الحقائق ماض وعند السّنّة يتوقّف، ونعدق أمرها بمن ألف النزاهة فنكرة المطامع عنده لا تتعرّف، ونكل النظر فيها إلى من أمسى لشروط الاستيجاب جامعا، ونقدّم في ولاية هذا المنصب من شفع له استحقاقه وكفى بالاستحقاق شافعا.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال يبسط لأوليائه من بساط الأنس ما كان مطويّا، وينيلهم من رغائب الآمال ما كان عنهم من سالف الأزمان مزويّا- أن يفوّض إليه قضاء قضاة مذهب عالم المدينة، وإمام دار الهجرة، مالك بن أنس الأصبحيّ: قدّس الله تعالى روحه. فليتلقّ ما فوّض إليه بأفضل تلقّ يليق بمثله، ويتقبّله تقبّلا يناسب رفعة محلّه، ويبتهج بأجلّ تفويض لم يسمح بتمنّيه لآخر من قبله.
ومن أهمّ ما نوصيه به، ونوجّه القول إليه بسببه، تقوى الله تعالى التي هي ملاك الأمر كلّه، وقوام الدين من أصله، والاشتمال عليها في سرّه وجهره والعمل بها في قوله وفعله، ثم برّ الخلق والإحسان إليهم، والتجاوز عنهم إلا فيما أوجبه الشرع من الحقوق عليهم؛ ففي التقوى رضا الله وفي البرّ رضا الخلق وناهيك بجمعهما من رتبة فاخرة، إذ لا شكّ أنّ من حصّل رضا الله ورضا الخلق فقد حصل على خير الدنيا والآخرة؛ ووراء ذلك قاعدة في الوصايا جامعة، وتذكرة لذوي الذّكرى نافعة، وهي أن يتأمّل أحوال غيره تأمّل من جعلها لنفسه مثالا، ولنسجه منوالا؛ فما استحسنه منها أتى مثله، وما استقبحه تجنّب فعله؛ واقفا في ذلك عند ما وردت به الشريعة المطهرّة بنص صريح أو تأويل صحيح، معرضا عن العقليّات المحضة فلا مجال للعقل في تحسين ولا تقبيح.
وأما أدب القضاء الجاري ذكر مثله في العهود، والنظر في أمر النّواب
وكتّاب الحكم والشّهود، فهو به أدرب وأدرى، وبمعرفة ذلك لهم وعليهم أحقّ وأحرى؛ غير أنّا نوصيه بالتثبت في أمر الدّماء وعلاقتها، وتحقّق حكمها قبل الحكم بإراقتها؛ فإن ذلك لمادّة القلق فيها أحسم، ومن تبعاتها في الدارين أسلم؛ والوصايا كثيرة ولكنّها منه تستفاد، وعنه تؤخذ وإليه تعاد؛ والله تعالى يتولّاه، ويحوطه فيما ولّاه، ويديم عليه هذه النعمة فما فوق منصبه منصب يتمنّاه؛ والاعتماد...... «1»
…
إن شاء الله تعالى.
وكتب لستّ إن بقين من شهر رجب الفرد عام أربع وثمانمائة، حسب المرسوم الشريف، بمقتضى الخط الشريف.
وهذه نسخة توقيع بقضاء القضاة الحنفيّة بدمشق، من إنشاء القاضي ناصر الدين ابن النّشائيّ، وهي:
الحمد لله الذي جعل منار الشّرع الشريف مستمرّا على الدّوام، وشمل منصب الحكم العزيز للعالم بعد العالم على ممرّ الأيام، وأجمل انتخاب من يقوم بأعباء القضايا، ومن تدوم به مزايا السّجايا، فيتخيّر لذلك الإمام بعد الإمام، وأقبل بوجه اجتبائه على وليّ نتأكّد بإنصاته وإنصافه إحكام الأحكام، وعدل باعتنائه إلى تعيين من ترتفع به في العلوم أعلام الإعلام، ومن يتأيّد به الحقّ في كل نقض وإبرام.
نحمده على نعمه الوافرة الأقسام، السافرة [اللثام]«2» عن وجوه الزيادة الوسام، ونشكره على مننه الجسام، ومواهبه التي لا تبرح ثغور إحسانها لذوي الاستحقاق واضحة الابتسام.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة كفيلة بالمرام، منيلة للإكرام، جميلة التلفّظ والالتئام، جزيلة الكنف والاعتصام، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أقام الله به شعائر الإسلام، وأظهر شرائع الدين الحنيف بحسام نصره الحسّام، وأورث من أهّله من أمّته كنوز العلوم التي لا تنفد فوائدها مع كثرة الإنفاق مدى السنين والأعوام، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين هدوا المؤمنين بإلهام الكلام، وعدوا على المشركين بسهام الكلام، وأبدوا من إرشادهم إلى خفايا القضايا ما يظهر بتهذيبهم ظهور بدر التّمام، صلاة دائمة باقية تجزل لقائلها الأجر التامّ، وترسل إليه سحائب المواهب هاطلة الغمام، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من تذهّب به مذهبه، وتحلّى به محلّ الشرع الشريف ومنصبه، وأنار بنور إرشاده ليل الشك وغيهبه، وسهل بتقريبه على فهم الطالب مطلبه، وهمى به وابل العلم وصيّبه «1» وأتيح به للمستفيد كنز الفوائد التي يدنو بها أربه، وشيم من برق شيمه بالشام ما وجد في الجود صادقه وفقد خلّبه- من علا في العلوم نسبه، وتأكّد في الدين سببه، وشيّد مبنيّ المعالي معربه، وصقل مرايا الأفهام مهذّبه، وزاحم منكب الجوزاء في ارتفاع القدر منكبه، وجمّل مواكب المباحث في الأصول والفروع موكبه، وسحّت بدقائق الحقائق سحبه، واشتاق إلى قربه موطن الحكم العزيز فما زال يرتقبه، وارتاح الزمان إلى عفافه وإنصافه فأرشد حيث نختاره لذلك وننتخبه.
ولما كان المجلس العالي...... «2» ...... أيّد الله أحكامه هو الذي أرشد الطالبين في البداية «3» ، وأفاد المنتهين درجات النّهاية، وأفهم
المستفيدين صواب الهداية، وغدا سابقا في حلبة العلماء إلى أقصى غاية. كم قرّب إلى الأذهان غامض المشكل وأوضح مفهومه، وكم أشاع فرائد فوائده التي طبّق الأرض بها علومه، وكم أباح لقط ألفاظه المشحونة بالحكم فتحلّى الناس بدررها المنثورة والمنظومة، مع ما له من دين متين، واستحقاق للتقدّم مبين، وصلاح بلغ به درجات المتّقين المرتقين، واتباع لسنن الحق في الحكم بين الخلق عن يقين- اقتضى حسن الرأي الشريف أن يقرن منصب القضاء بجماله، وأن يعوّض عن إمامه المفقود بإمامه الموجود ليستمرّ الأمر على حاله.
فلذلك رسم......- لا زالت أئمة العلم الشريف في أيامه يخلف بعضهم بعضا، وأقدارهم تدوم رفعتها مدى المدد فلا تجد نقصا ولا نقضا- أن يفوّض...... «1» ......
فليباشر ذلك بعلمه المأثور، وحكمه المشهور، وإنصافه الذي يعدل فيه، واتصافه بالحق الذي ما برح يوفيه، قاضيا بين الخصوم بما أمر الله عز وجل، مراقبا لخشية الله على عادته، مذيعا للملّة الحنيفيّة أنواع إفادته، قاطعا بنصل نصّه مشكل الإلباس، جامعا في أحكامه المسدّدة بمقتضى مذهبه بين الكتاب والسّنّة والقياس. والوصايا كثيرة وملاكها التقوى وهي مادّته، وطريقه المستقيم وجادّته، وما زالت عمدته التي يعتمد عليها، وعدّته التي يستند في إسناد أمره إليها؛ والله تعالى يجمّل الأيام بأحكامه، ويبلّغه من خير الدنيا والآخرة غاية مراده ومرامه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع بقضاء قضاة المالكيّة أيضا، أنشأته لقاضي القضاة جمال الدين البساطيّ المذكور عند عوده إلى الوظيفة، لأربع بقين من ذي القعدة سنة سبع وثمانمائة. وقد وافق عوده عود شيخ الإسلام جلال الدين عبد
الرحمن البلقينيّ إلى قضاء قضاة الشافعيّة أيضا، وهي:
الحمد لله الذي أعاد لرتبة القضاء رونق «جمالها» وأسعد جدّها بأسعد قران ظهرت آثار يمنه بما آثرته من ظهور «جلالها» ، وأجاب سؤلها بأجلّ حاكم لم تعدل عنه يوما في سؤالها، وأسعد طلبتها بأكمل كفء لم تنفكّ عن خطبته وإن أطال في مطالها، وأكرم مآبها بأكرم كاف ما فاتها منال ماض إلا أدركته به في مالها.
نحمده على أن أعطيت القوس باريها، وأعيدت مياه الاستحقاق إلى مجاريها، وردّت الشاردة إلى مالك ألفت منه بالآخرة ما ألفت من خيره في مباديها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يخفق بالإخلاص مناطها، ويزداد مع طول الأمد نشاطها، ولا ينطوي على ممرّ الأيام- إن شاء الله تعالى- بساطها، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أفضل نبيّ رفع قواعد الدين وشاد، وقام في الله حقّ القيام فحسم بسيف الشرع مادّة الفساد، وأحكم بسدّ الذّرائع سداد الأمور فجرت أحكام شريعته المطهّرة على السّداد، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين استنشق من معدلتهم أطيب عرف، وخصّوا من صفات الكمال بأحسن حلية وأكمل وصف، صلاة توهي عرا الإلحاد، وتفصمها، وتبكّ أعناق أهل العناد، وتقصمها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فلا خفاء في أنّ الأبصار تتشوّف لرؤية الهلال مع قرب الغيبة للأخذ منه بنصيبها، والشمس يترقّب طلوعها في كلّ يوم وإن قرب زمان مغيبها، والمسافر يسرّ بإيابه وإن تكرر قدومه من بعيد المسافة وقريبها، والسّهران يتطلّع من ليلته الطويلة إلى طلوع فجرها، والمناصب السنيّة تأرز «1» إلى
مستحقّها كما تأرز الحيّة إلى جحرها.
ولما كان المجلس العاليّ، القاضويّ، (إلى آخر ألقابه) أعزّ الله تعالى أحكامه هو الذي حمدت في القضاء آثاره، وسارت بحسن السّيرة في الآفاق أخباره، وحسن بحسن تأتّيه في الورد والصّدر إيراده وإصداره، وتنافس في جميل وصفه الطّرس والقلم، وظهرت فضائله (ظهور نار القرى ليلا على علم) ، ونشرت الأيّام من علومه ما تطوى إليه المراحل، وجادت مواطر فكره بما يخصب به جناب المربع الماحل، وعمرت من منصب القضاء بولايته معاهده، وجرت بقضايا الخير في البدء والعود عوائده، ونفذت بنفاذ أوامره في الوجود أحكامه، ورقم في صحائف الأيّام على توالي الدّهور نقضه وإبرامه، وسجّل بثبوت أحقّيّته فانقطعت دون بلوغ شأوه الأطماع، وحكم بموجب فضله فانعقد على صحّة تقدّمه الإجماع؛ ففرائد فوائده المدوّنة تؤذن بالبيان والتحصيل، ومقدّمات تنبيهاته المحقّقة، تكفي نتائج إفضالها عن الإجمال والتفصيل، وجواهر ألفاظه الرائقة، نعم الذخيرة التي تقتنى، ومدارك معانيه الفائقة، حسبك من ثمرة فكر تجتنى، وتهذيب إيراداته الواضحة تغني في إدراكها عن الوسائل، وتحقيق مسائله الدقيقة تحقّق فيها أنها عيون المسائل- وكانت وظيفة قضاء قضاة المالكية بالديار المصرية في رفيع رتبتها، ووافر حرمتها، قد ألقت إليه مقاليدها، ورفعت بالانتماء إلى مجلسه العالي أسانيدها، وعرفت محلّه الرفيع فتعلّقت منه بأعزّ منال، وحظيت بجماله اليوسفيّ المرّة بعد الأخرى فقالت: لا براح لي عن هذا الجمال، وعجمت بتكرّر العود عوده فأعرضت عن السّوى، وقرّت بالإياب إليه عينا «فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى» - اقتضى حسن الرأي الشريف أن نعيد الوظيفة المذكورة إليه، ونعوّل في استكشاف مشكلات الأحكام على ما لديه، إقرارا للأمر في نصابه، وردّا له بعد الشّراد إلى مثابه، وإسعافا للمنصب بطلبته وإن أتعب غيره نفسه في طلابه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال يبديء المعروف ويعيده، ويوفّر نصيب الأولياء ويزيده- أن يفوّض إلى المجلس العالي المشار إليه قضاء القضاة
بمذهب عالم المدينة وإمام دار الهجرة «مالك بن أنس الأصبحيّ» رضي الله عنه، على جاري عادته المتقدّمة في ذلك، وأن يضاف إليه تدريس قبّة الصالح والأنظار الشاهد بها توقيعه الشريف، وأن لا يقرّر أحد في دروس المالكية من مدرّس ومعيد «1» إلا بتعيينه، على أتم العوائد وأجملها، وأعمّ القواعد وأكملها.
فليعد إلى رتبته السنية برفيع قدره وعليّ همّته، ويقابل إحساننا بالشكر نتحفه بمزيد الإقبال إذ لا زيادة في العلوّ على رتبته. ثم أوّل ما نوصيه به، ونؤكّد القول عليه بسببه، تقوى الله التي هي ملاك الأمور كلّها، وأولى المفترضات في عقد الأمور وحلّها؛ فهي العصمة التي من لجأ إليها نجا، والوقاية التي ليس لمن حاد عنها من لحاق قوارع الله ملتجا. ونتبع ذلك بالتلويح إلى الاحتياط في المسائل التي تفرّد بها مذهبه الشريف ضيقا وسعة، واختصّ بها إمامه الأصبحيّ دون غيره من الأئمة الأربعة؛ وهي مسائل قليلة، آثارها في الورى كثيرة جليلة؛ منها سفك دم المنتقص والسابّ، وتحتّم قتله على البتّ وإن تاب؛ فعليه أن يأخذ في ذلك بالاهتمام، ولا يعطي رخصة في حقّ أحد من الأنبياء والملائكة عليهم السلام، ليكون ذلك وسيلة إلى الخلوص عن القذى، وذريعة إلى سلامة الشّرف الرفيع من الأذى؛ إلا أنّا نوصيه بالتثبّت في الثّبوت، وأن لا يعجل بالحكم بإراقة الدم فإنه لا يمكن تداركه بعد أن يفوت. ومنها: الشهادة على الخط وإحياء ما مات من كتب الأوقاف والأملاك، وتقريب ما شطّ فلا يقبل فيه إلا اليقظ الواقف مع تحقّقه دون حدسه، ولا يطلق عنان الشّهود فإنّ الكاتب ربما اشتبه عليه خطّ نفسه- ومنها: ثبوت الولاية للأوصياء، فيجريها على اعتقاده، ولكن إذا ظهرت المصلحة في ذلك على وفق مراده- ومنها: إسقاط غلّة الوقف إذا استردّ بعد بيعه مدّة بقائه في يد المشتري، تحذيرا من الإقدام
على بيع الوقف وعقوبة رادعة لبائعه المجتري، إلى غير ذلك من مسائل الانفراد، وما شاركه فيه غيره من المذاهب لموافقة الاعتقاد، فيمضي الحكم فيه بأقوى العزائم، ويلزم فيها بما استبان له من الحقّ ولا تأخذه في الله لومة لائم.
وأما غير ذلك من الوصايا الراجعة إلى أدب القضاء فلديه منها الخبر والخبر، ومنه تستملى فوصيّته بها كنقل التّمر إلى هجر «1» ؛ والله تعالى يعامله بلطفه الجميل، ويحفّه بالعناية الشاملة في المقام والرّحيل، إن شاء الله تعالى؛ والاعتماد............
وهذه نسخة توقيع بقضاء قضاة الحنابلة، وهي:
الحمد لله الذي أطلع في أفق الدّين «2» القيّم شمسا منيرة، ورفع درجة من جعله من العلم على شريعة ومن الحكم على بصيرة، وقلّد أمور الأمّة بمن يعلم أنّ بين يديه كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، ووفّق لفصل القضاء من مشى على قدم إمامه الذي ادّخر منه للحكم في أيّامنا الشريفة من نفائس العلماء أفضل ذخيرة؛ وقضى بإرجاء أمره لنختار له من تحلّى به بعد العطل وكلّ قضاء خيرة، وأيقظ عنايتنا لمن رقد الدهر عن فضله فباتت عين الاستحقاق باستقرار رتبته قريرة.
نحمده حمد من توافت إليه النّعم الغزيرة، وتوالت عليه المنن الكثيرة في المدد اليسيرة، وأخصبت في أيّامه رياض الفضائل فهي بكلّ عالم عدم النظير نضيرة، وافتتح دولته برفع منار العدل فآمال أهل الظلم عن تعاطيه قاصرة وأيدي أهل الباطل عن الامتداد إليه قصيرة، وخصّ المناصب في ممالكه بالأكفاء فإذا
تلبّست بها همم غيرهم عادت خاسئة أو امتدّت إليها أبصار من دونهم رجعت حسيرة.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تصلح العلن والسّريرة، وتصبح بها القلوب موقنة والألسن ناطقة والأصابع مشيرة، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي بعث الله به الرسل مخبرة وأنزل الكتب بمبعثه بشيرة، واجتباه في خير أمّة من أكرم أرومة وأشرف عشيرة، وأظهر أنوار ملّته إلا لمن أعمى الغيّ بصيرته وهل تنفع العمي شمس الظّهيرة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة نتقرّب بدوامها إلى الله فيضاعفها لنا أضعافا كثيرة، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى الأمور بأن تشاد قواعده، وتتعهّد معاهده، ويعلى مناره، وتفاض بطلوع شمسه أنواره، وتكمّل به قوى الدين تكملة الأجساد بقوى الطبائع الأربع، وتعمّر به ربوع الملة التي ليس بعدها من مصيف لملّة ولا مربع، وتثبّت به قوائم الشرع التي ما للباطل في إمالة بعضها من مطمع، أمر القضاء على مذهب الإمام الرّبّانيّ «أحمد بن حنبل» رضي الله عنه، وكان قد خلا بانتقال مباشره إلى الله تعالى، وتوقّف مدّة على ارتياد الأكفاء، والإرشاد إلى من هو أهل الاصطفاء، واختيار من تكمل به رفعة قدره، ويعيد لدسته على بساط سليمانه بهجة صدره.
ولما كان فلان هو المنتظر لهذه الرّتبة انتظار الشمس بعد الغسق، والمرتقب لبلوغ هذه المنزلة التي تقدّمت إليها بوادر استحقاقه في السّبق، والمعطوف على الأئمة من أصحاب إمامه- وأن تأخر زمانه- عطف النّسق، وهو الذي ما زال يعدل دم الشهداء مداد أقلامه، وتضع الملائكة أجنحتها رضا بما يصنع من نقل خطواته في طلب العلم وسعي أقدامه، ودخل من خشية الله تعالى في زمرة من حصر بإنّما، وهجر المضاجع في طاعة الله لتحصيل العلم فلو عدّت هجعاته لقلّما، وهجّر في إحراز الفضائل فقيّد أوابدها، وأحرز شواردها، ولجّج في بحار المعاني فغاص على جواهرها، ونظر نظرة في نجوم العلوم
فاحتوى على زهرها وزار خمائل الفضائل فاستوى على أزاهرها، وانتهى إليه علم مذهبه فبرّز على من سلف، وجارى علماء عصره فوقفت أبصارهم عن رؤية غباره وما وقف، وتعيّن عليه القضاء وإن كان فرض كفاية لا فرض عين، وقدّمه الترجيح الذي جعل رتبته همزة استفهام ورتبة غيره بين بين- اقتضى رأينا الشريف اختصاصه بهذا التمييز، والتنبيه على فضله البسيط بهذا اللفظ الوجيز.
فلذلك رسم أن يفوّض إليه كيت وكيت. فليتولّ هذه الرتبة التي أصبح فيها عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم نائبا وبشرعه قائما، ويتقلّدها تقلّد من يعلم أنه قد أصبح على حكم الله تعالى مقدّما وعلى الله قادما، ويثبّت تثبّت من يعتصم بحبل الله في حكمه فإنّ أحد الخصمين قد يكون ألحن بحجّته وإن كان ظالما، ويلبس لهذا المنصب حلّة تمنع المبطل من الإقدام عليه، وتدفع الظالم عن التطاول إلى أمر نزعه الشرع الشريف من يديه، ويؤمّن الحقّ من امتداد يد الجور والحيف إليه، وليسوّ بين الخصمين في مجلسه ولحظه، ويعدل بينهما في إنصاته ولفظه: ليعلم ذو الجاه أنّه مساو في الحقّ لخصمه، مكفوف باستماع حجّته عن الطمع في ظلمه، ولا ينقض حكما لم يخالف نصّا ولا سنّة ولا إجماعا، وليشارك فيما لا يجهله من القضايا غيره من العلماء ليتزيّد بذلك مع اطلاعه اطّلاعا، وليغتنم في ذلك الاستعانة بآرائهم: فإنّ الله تعالى لا ينتزع هذا العلم انتزاعا، وليسدّ مسالك الهوى عن فكره، ويصرف دواعي الغضب لغير الله عن المرور بذكره، وليجعل العمل لوجه الله نتيجة علمه، وليحكم بما أراه الله وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ.
وهذه نسخة وصية أوردها في «التعريف» تشمل القضاة الأربعة، قال:
وصية جامعة [لقاض]«1» من أيّ مذهب كان، وهي:
وهذه الرّتبة التي جعل الله إليها منتهى القضايا، وإنهاء الشّكايا، ولا يكون صاحبها إلا من العلماء، الذين هم ورثة الأنبياء، ومتولّي الأحكام الشرعيّة بها كما ورث عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم علمه، كذلك ورث حكمه؛ وقد أصبح بيده زمام الأحكام، وفصل القضاء الذي يعرض [بعضه]«1» بعده على غيره من الحكّام؛ وما منهم إلا من ينقد نقد الصيرفيّ، وينفذ حكمه نفاذ المشرفيّ؛ فليتروّ في أحكامه [قبل إمضائها، وفي المحاكمات إليه]«2» قبل فصل قضائها، وليراجع الأمر مرّة بعد مرّة حتى يزول عنه الالتباس، ويعاود فيه بعد التأمّل كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم والإجماع والقياس؛ وما أشكل عليه بعد ذلك فليجلّ ظلمه بالاستخارة، وليحلّ مشكله بالاستشارة، ولا ير نقصا عليه إذا استشار فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالشّورى، ومرّ من أوّل السّلف من جعلها بينه وبين خطإ الاجتهاد سورا؛ فقد يسنح للمرء ما أعيا غيره وقد أكثر فيه الدّأب، ويتفطّن الصغير لما لم يفطن إليه الكبير كما فطن ابن عمر رضي الله عنهما للنخلة [و]«3» ما منعه أن يتكلّم إلا صغر سنّه ولزوما مع من هو أكبر منه للأدب؛ ثم إذا وضح له الحقّ قضى به لمستحقّه، وسجّل له به وأشهد على نفسه بثبوت حقّه، وحكم له به حكما يسرّه يوم القيامة أن يراه، وإذا كتب له به، ذكر بخير إذا بلي وبقّى الدهر ما كتبت يداه. وليسوّ بين الخصوم حتّى في تقسيم النظر، وليجعل كلّ عمله على الحقّ فيما أباح وما حظر، وليجد النظر في أمر الشهود حتّى لا يدخل عليه زيف، وليتحرّ في استيداء الشهادات فربّ قاض ذبح بغير سكّين وشاهد قتل بغير سيف؛ ولا يقبل منهم إلا من عرف بالعدالة، وألف منه أن يرى أوامر النفس أشدّ العداله- وغير هؤلاء ممن لم تجر له بالشهادة عادة، ولا تصدّى للارتزاق بسحتها «4» ومات وهو حيّ على الشّهادة، فليقبل منهم من لا يكون في قبول مثله ملامة، فربّ عدل بين منطقة وسيف وفاسق في فرجيّة «5» وعمامة- ولينقّب على
ما يصدر من العقود التي يؤسّس أكثرها على شفا جرف هار «1» ، ويوقع في مثل السّفاح إلا أنّ الحدود تدرأ بالشّبهات ويبقى العار- وشهود القيمة الذين يقطع بقولهم في حقّ كلّ مستحقّ ومال كلّ يتيم، ويقلّد شهاداتهم على كل أمر عظيم؛ فلا يعوّل منهم إلا على كلّ ربّ مال عارف لا تخفى عليه القيم، ولا يخاف معه خطأ الحدس وقد صقل التجريب مرآة فهمه على طول القدم. وليتأنّ في ذلك كلّه أناة لا تقضي بإضاعة الحقّ، ولا إلى المطاولة التي تفضي إلى ملل من استحقّ، وليمهّد لرمسه، ولا يتعلّل بأن القاضي أسير الشهود وهو كذلك وإنما يسعى لخلاص نفسه- والوكلاء هم البلاء المبرم، والشياطين المسوّلون لمن توكّلوا له الباطل ليقضى لهم به وإنما تقطع لهم قطعة من جهنّم، فليكفّ بمهابته وساوس أفكارهم، ومساوي فجّارهم، ولا يدع لمجنى أحد منهم ثمرة إلا ممنوعة، ولا يد اعتداء تمتدّ إلا مغلولة إلى عنقه أو مقطوعة، وليطهّر بابه من دنس الرسل الذين يمشون على غير الطريق، وإذا رأى واحد منهم درهما ودّ لو حصل في يده ووقع في نار الحريق؛ وغير هذا مما لا يحتاج به مثله أن يوصى، ولا أن يحصى عليه منه أفراد عمله وهو لا يحصى، ومنها النظر في أمور أوقاف أهل مذهبه نظر العموم، فليعمرها بجميل نظره فربّ نظرة أنفع من؟؟؟
الغيوم، وليأخذ بقلوب طائفته الذين خصّ من بينهم بالتقديم، وتفاوت بعد ما بينه وبينهم حتّى صار يزيل عارض الرجل منهم النظرة منه ويأسو جراحه منه التكليم. وهذه الوصايا إنما ذكرت على سبيل الذّكرى، وفيه- بحمد الله- أضعافها ولهذا ولّيناه والحمد لله شكرا؛ وقد جعلنا له أن يستنيب من يكون بمثل أوصافه أو قريبا من هذه المثابة، ومن يرضى له أن يحمل عنه الكلّ ويقاسمه ثوابه؛ وتقوى الله تعالى هي جماع الخير ولا سيّما لصاحب هذه الوظيفة، ولمن وليها أصلا وفرعا لا يستغني عنها ربّ حكم مطلق التصرّف ولا خليفة.
ويزاد الشافعيّ:
وليعلم أنه صدر المجلس، وأنه أدنى القوم وإن كانوا أشباهه منا حيث نجلس، وأنه ذو الطّيلسان «1» الذي يخضع له ربّ كلّ سيف ويبلس «2» ؛ وليتحقّق أنه إنما رفعه علمه وتقاه، وأنّ سبب دينه لا دنياه هو الذي رقّاه؛ فليقدر حقّ هذه النّعم، وليقف عند حدّ منصبه الذي يودّ لو اشترى سواد مداده بحمر النّعم.
ويقال في وصيته: وأمر دعاوى بيت المال المعمور، ومحاكماته التي فيها حقّ كل فرد فرد من الجمهور؛ فليحترز في قضاياها غاية الاحتراز، وليعمل بما يقتضيه لها الحقّ من الصّيانة والإحراز، ولا يقبل فيها كلّ بينة للوكيل عن المسلمين فيها مدفع، ولا يعمل فيها بمسألة ضعيفة يظن أنها ما تضرّ عند الله فإنها ما تنفع؛ وله حقوق فلا يجد من يسعى في تملّك شيء منها بالباطل منه إلا الياس، ولا يلتفت إلى من رخّص لنفسه وقال: هو مال السلطان فإنّه مالنا فيه إلا ما لواحد من الناس. وأموال الأيتام الذين حذّر الله من أكل مالهم إلا بالمعروف لا بالشّبهات، وقد مات آباؤهم ومنهم صغار لا يهتدون إلى غير الثدي للرّضاع ومنهم حمل في بطون الأمّهات؛ فليأمر المتحدّثين لهم بالإحسان إليهم، وليعرّفهم بأنهم سيجزون في بنيهم بمثل ما يعملون معهم إذا ماتوا وتركوا ما في يديهم، وليحذّر منهم من لا ولد له: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ
«3» . وليقصّ عليهم في مثل ذلك أنباء من سلف تذكيرا، وليتل عليهم القرآن ويذكّرهم بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ
الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً
«1» والصدقات الموكولة إلى تصريف قلمه، المأكولة بعدم أمانة المباشرين وهي في ذممه، يتيقّظ لإجرائها على السّداد في صرفها في وجوه استحقاقها، والعمل بما لا يجب سواه في أخذها وإنفاقها، والمسائل التي تفرّد بها مذهبه وترجّح عنده بها العمل، وأعدّ عنها الجواب لله إذا سأل، لا يعمل فيها بمرجوح إلا إذا كان نصّ مذهب إمامه أو عليه أكثر الأصحاب، ورآه قد حكم به أهل العلم ممن تقدّمه لرجحانه عنده وللاستصحاب. ونوّاب البرّ لا يقلّد منهم إلا من تحقّق استحقاقه، فإنه إنما يولّيه على مسلمين لا علم لأكثرهم فهم إلى ذي العلم أشدّ فاقة؛ هذا إلى ما يتعرّف من ديانتهم ومن عفافهم الذي يتجرّع المرء منهم به مرارة الصبر من الفاقة وهو به يتحلّى، ثم لا يزال له عين عليهم فإنّ الرجال كالصناديق المقفلة لا يعرف الرجل ما هو حتّى يتولّى.
ويزاد الحنفيّ:
وليعلم أن إمامه أوّل من دوّن الفقه وجمعه، وتقدّم وأسبق العلماء من تبعه؛ وفي مذهبه ومذاهب أصحابه أقوال في المذهب، ومسائل ما لحقه فيها مالك وهو أوّل من جاء بعده وممّن يعدّ من سوابقه أشهب؛ ومن أهمها تزويج الصّغائر، وتحصينهنّ بالأكفاء من الأزواج خوفا عليهن من الكبائر، وشفعة الجوار التي لو لم تكن من رأيهم لما أمن جار السّوء على رغم الأنوف، ولأقام الرجل الدّهر ساكنا في داره بين أهله وهو يتوقّع المخوف، وكذلك نفقة المعتدّة التي هي في أسر من طلّقها وإن بتّت من حباله، وبقيت لا هو بالذي ينفق عليها ولا هي بالتي تستطيع أن تتزوّج من رجل ينفق عليها من ماله، ومن استدان مالا فأكله وادّعى الإعسار، ولفّق له بينة أراد أن تسمع له ولم يدخل الحبس ولا أرهق من أمره الأعسار، وأهل مذهبه على أنه يسجن ويمكث مدّة، ثم إذا ادّعى أنّ له بينة أحضرت ثم هل تقبل أو لا. فهذا وأمثاله مما فيه عموم صلاح، وعظيم
نفع ما فيه جناح؛ فليقض في هذا كلّه إذا رآه بمقتضى مذهبه، وليهتد في هذه الآراء وسواها بقمر إمامه الطالع أبي حنيفة وشبهه، وليحسن إلى فقهاء أهل مذهبه الذين أدنى إليه أكثرهم الاغتراب، وحلّق بهم إليه طائر النهار حيث لا يحلّق البازيّ وجناح الليل حيث لا يطير الغراب؛ وقد تركوا وراءهم من البلاد الشاسعة، والأمداد الواسعة، ما يراعى لهم حقّه إذا عدّت الحقوق، ويجمعه وإيّاهم به أبوه أبو حنيفة وما مثله من ينسب إلى العقوق.
ويزاد المالكيّ:
ومذهبه له السيف المصلت على من كفر، والمذهب بدم من طلّ دمه وحصل به الظّفر؛ ومن عدا قدره الوضيع، وتعرّض إلى أنبياء الله صلوات الله عليهم بالقول الشّنيع، فإنه إنما يقتل بسيفه المجرّد، ويراق دمه تعزيرا بقوله الذي به تفرّد؛ ولم يزل سيف مذهبه لهم بارز الصّفحة، مسلّما لهم إلى مالك خازن النار من مذهب مالك الذي ما فيه فسحة؛ وفي هذا ما يصرح غدر الدّين من القذى، وما لم تطلّ دماء هؤلاء (لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى) ؛ وإنما نوصيه بالتحرّي في الثّبوت، [والبينة التي لا يستدرك بها ما يفوت،]«1» وإنما هو رجل يحيا أو يموت، فليتمهّل قبل بتّ القضاء، وليعذر إليهم لاحتمال ثبوت تفسيق الشهود أو بغضاء، حتّى لا يعجّل تلافا، ولا يعجل بما لا يتلافى؛ فكما أننا نوصيه أن لا ينقض في شدّ الوثاق عليهم إبراما، فهكذا نوصيه أن لا يصيب بغير حقّه دما حراما؛ وكذلك قبول الشهادة على الخطّ، وإحياء ما مات من الكتب وإدناء ما شطّ، فهذا مما فيه فسحة للناس، وراحة ما فيها باس؛ إلا أنه يكون الثبوت بهذه البيّنة للاتصال، لا لنزع يد ولا إلزام بمجرّدها بمال؛ وهكذا ما يراه من ولاية الأوصياء وهو مما تفرّد به هو دون البقية، وفيه مصلحة وإلا فما معنى الوصيّة؛ وهو زيادة احتراز ما تضرّ مراعاة مثلها في الأمور الشرعيّة، وسوى هذا مثل إسقاط الرّيع في وقف استردّ وقد بيع، وعطل المشتري من التكسّب
بذلك المال مدة لا يشتري ولا يبيع؛ وهذا مما يبتّ قضاءه في مثله، ويجعل عقاب من أقدم على بيع الوقف إحرامه مدّة البيع من مغلّه، وسوى ذلك مما عليه العمل، ومما إذا قال فيه قال بحقّ وإذا حكم عدل. وفقهاء مذهبه في هذه البلاد قليل ما هم، وهم غرباء فليحسن مأواهم، وليكرم بكرمه مثواهم، وليستقرّ بهم النّوى في كنفه فقد ملّوا طول الدّرب، ومعاناة السفر الذي هو أشدّ الحرب، ولينسهم أوطانهم ببرّه ولا يدع في مآقيهم دمعا يفيض على الغرب.
ويزاد الحنبليّ:
والمهمّ المقدّم- وهو يعلم ما حدث على أهل مذهبه من الشّناعة، وما رموا به من الأقوال التي نتركها لما فيها من البشاعة، ونكتفي به في تعفية آثارها، وإماطة أذاها عن طريق مذهبه لتأمن السالكة عليه من عثارها؛ فتعالى الله أن يعرف بكيف، أو يجاوب السائل عنه بهذا إلا بالسيف؛ والانضمام إلى الجماعة والحذر من الانفراد، وإقرار آيات الصّفات على ما جاءت عليه من الاعتقاد، وأنّ الظاهر غير المراد، والخروج بهم إلى النّور من الظّلماء، وتأويل ما لا بدّ من تأويله مثل حديث الأمة التي سئلت عن ربّها: أين هو فقالت في السماء؛ وإلا ففي البليّة بإثبات الجهة ما فيها من الكوارث، ويلزم منها الحدوث والله سبحانه وتعالى قديم ليس بحادث ولا محلّا للحوادث؛ وكذلك القول في القرآن ونحن نحذّر من تكلّم فيه بصوت أو حرف، فما جزاء من قال بالصوت إلا سوط وبالحرف إلا حتف؛ ثم بعد هذا الذي يزع به الجهّال، ويردّ دون غايته الفكر الجوّال، ينظر في أمور مذهبه ويعمل بكل ما صحّ نقله عن إمامه وأصحابه: من كان منهم في زمانه ومن تخلف عن أيامه؛ فقد كان رحمه الله إمام حقّ نهض وقد قعد الناس تلك المدّة، وقام نوبة المحنة مقام سيد تيم «1» رضي الله عنه نوبة الرّدّة، ولم تهبّ به زعازع المريسيّ «2» وقد هبّت مريسا «3» ، ولا
ابن أبي دواد «1» وقد جمع له كلّ ذود وساق إليه من كلّ قطر عيسا، ولا نكث عهدة ما قدّم له المأمون في وصيّة أخيه من المواثق. [ولا روّعه سوط المعتصم وقد صبّ عليه عذابه ولا سيف الواثق]«2» فليقفّ على أثره، وليقف بمسنده [على مذهبه]«3» كلّه أو أكثره، وليقض بمفرداته وما اختاره أصحابه الأخيار، وليقلّدهم إذا لم تختلف عليه الأخبار، وليحترز لدينه في بيع ما دثر من الأوقاف وصرف ثمنه في مثله، والاستبدال بما فيه المصلحة لأهله، والفسخ على من غاب مدّة يسوغ في مثلها الفسخ، وترك زوجة لم يترك لها نفقة وخلّاها وهي مع بقائها في زوجيّته كالمعلّقة، وإطلاق سراحها لتتزوّج بعد ثبوت الفسخ بشروطه التي يبقى حكمها به حكم المطلّقة، وفيما يمنع مضارّة الجار، وما يتفرّع على قوله صلى الله عليه وسلم:«لا ضرر ولا ضرار» ، وأمر وقف الإنسان على نفسه وإن رآه سوى أهل مذهبه، وطلعت به أهلّة علماء لولا هم لما جلا الزمان جنح غيهبه؛ وكذلك الجوائح التي يخفّف بها عن الضّعفاء وإن كان لا يرى بها الإلزام، ولا تجري لديه إلا مجرى المصالحة بدليل الالتزام؛ وكذل المعاملة التي لولا الرّخصة عندهم فيها لما أكل أكثر الناس إلا الحرام المحض، ولا أخذ قسم الغلال والمعامل هو الذي يزرع البذور ويحرث الأرض، وغير ذلك مما هو من مفرداته التي هي للرّفق جامعة،