المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوظيفة السابعة (التدريس، وموضوعه إلقاء المسائل العلمية للطلبة) - صبح الأعشى في صناعة الإنشا - ط العلمية - جـ ١١

[القلقشندي]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء الحاديعشر]

- ‌[تتمة الباب الرابع من المقالة الخامسة]

- ‌الطّرف الأوّل (في مصطلح كتّاب الشرق)

- ‌الطّرف الثاني (في مصطلح كتّاب الغرب والأندلس فيما يكتب من الولايات عن الملوك)

- ‌الضرب الأوّل (ما يكتب لأرباب الوظائف من أصحاب السّيوف)

- ‌الضرب الثاني (من ظهائر بلاد المغرب ما يكتب لأرباب الوظائف الدينية من أصحاب الأقلام)

- ‌الضرب الثالث (ما يكتب لأرباب الوظائف الديوانية)

- ‌الطرف الثالث (في مصطلح كتّاب الديار المصرية فيما قبل الخلفاء الفاطميين وفيما بعدهم إلى زماننا)

- ‌الحالة الأولى- ما كان عليه أمر نوّاب الخلفاء بهذه المملكة إلى ابتداء الدولة الطّولونيّة

- ‌الحالة الثانية- ما كان عليه أمر الدولة الطّولونيّة من حين قيام دولتهم إلى انقراض الدولة الأخشيديّة

- ‌الحالة الثالثة- ما كان عليه الأمر في زمن بني أيّوب

- ‌المرتبة الأولى

- ‌الصنف الأوّل- أرباب السيوف من هذه المرتبة

- ‌الصنف الثاني- أرباب الوظائف الدينية

- ‌الصنف الثالث- أرباب الوظائف الديوانية

- ‌المرتبة الثانية (أن تفتتح الولاية بلفظ «أما بعد حمد الله» أو «أما بعد فإن كذا» ويؤتى بما يناسب من ذكر الولاية والمولّى، ثم يذكر ما سنح من الوصايا ثم يقال «وسبيل كل واقف عليه» )

- ‌المرتبة الثالثة (أن تفتتح الولاية بلفظ «رسم» ثم يذكر أمر الولاية والمولّى ويوضح، ثم يقال «وسبيل كلّ واقف عليه» )

- ‌المرتبة الرابعة (أن يفتتح بلفظ: «إن أحق» أو «إن أولى» أو «من كانت صفته كذا» وما أشبه ذلك)

- ‌الحالة الرابعة (مما يكتب عن ملوك الديار المصرية من الولايات

- ‌المقصد الأوّل (في مقدّمات هذه الولايات، وفيه مهيعان)

- ‌المهيع الأوّل (في بيان رجوع هذه الولايات إلى الطريق الشرعيّ)

- ‌المهيع الثاني (فيما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة هذه الولايات)

- ‌الأمر الأوّل- براعة الاستهلال بذكر اسم المولّى أو نعته أو لقبه أو الوظيفة

- ‌الأمر الثاني- مراعاة قطع الورق

- ‌الأمر الثالث- معرفة ما يناسب كلّ قطع من هذه المقادير من الأقلام

- ‌الأمر الرابع- معرفة اللّقب المطابق لرتبة كلّ ولاية وصاحبها

- ‌النوع الأوّل (ألقاب أرباب السيوف)

- ‌المرتبة الأولى- المقرّ الكريم مع الدعاء بعزّ الأنصار

- ‌المرتبة الثانية- الجناب الكريم مع الدعاء بعزّ النّصرة

- ‌المرتبة الثالثة- الجناب العالي مع الدعاء بمضاعفة النّعمة

- ‌المرتبة الرابعة- الجناب العالي مع الدعاء بدوام النعمة

- ‌المرتبة الخامسة- المجلس العالي والدعاء بدوام النعمة

- ‌المرتبة السادسة- المجلس الساميّ بالياء، والدعاء بدوام التأييد ونحوه

- ‌المرتبة الثامنة- مجلس الأمير، والدعاء أدام الله سعده ونحوه

- ‌المرتبة التاسعة- الأمير مجرّدا عن المضاف إليه

- ‌النوع الثاني (ألقاب أرباب الوظائف الديوانية، وهي على ستّ مراتب)

- ‌المرتبة الأولى- الجناب العالي مع الدعاء بمضاعفة النّعمة؛ وفيها أسلوبان:

- ‌الأسلوب الأوّل- ألقاب الوزير

- ‌الأسلوب الثاني- ألقاب كاتب السرّ

- ‌المرتبة الثانية- المجلس العالي مع الدّعاء بدوام النعمة

- ‌الأسلوب الأوّل- ألقاب كاتب السرّ

- ‌الأسلوب الثاني- ألقاب ناظر الخاص

- ‌الأسلوب الثالث- ألقاب وزير دمشق إذا صرّح له بالوزارة

- ‌الأسلوب الرابع- ألقاب ناظر النّظّار بالشام

- ‌المرتبة الثالثة- المجلس الساميّ بالياء مع الدعاء بدوام الرفعة

- ‌المرتبة الرابعة- السامي بغير ياء، مع الدعاء بدوام الرّفعة

- ‌المرتبة الخامسة- مجلس القاضي

- ‌المرتبة السادسة- القاضي

- ‌النوع الثالث (ألقاب أرباب الوظائف الدّينية- وهي أيضا على ستّ مراتب)

- ‌المرتبة الأولى- الجناب العالي

- ‌المرتبة الثانية- المجلس العالي

- ‌المرتبة الثالثة- المجلس الساميّ

- ‌المرتبة الرابعة- السامي

- ‌المرتبة الخامسة- مرتبة مجلس القاضي

- ‌المرتبة السادسة- مرتبة القاضي

- ‌النوع الرابع (ألقاب مشايخ الصّوفية- وهي على خمس مراتب)

- ‌المرتبة الأولى- المجلس العالي

- ‌المرتبة الثانية- المجلس الساميّ

- ‌المرتبة الثالثة- المجلس السامي بغير ياء

- ‌المرتبة الرابعة- مجلس الشّيخ

- ‌المرتبة الخامسة- مرتبة الشيخ

- ‌النوع الخامس (ألقاب من قد يكتب له بولاية من رؤساء العامّة من التّجّار وغيرهم)

- ‌المرتبة الأولى- المجلس الساميّ بالياء

- ‌المرتبة الثانية- الملجس السامي بغير ياء

- ‌المرتبة الثالثة- مجلس الصّدر

- ‌المرتبة الرابعة- مرتبة الصّدر

- ‌النوع السادس (ألقاب زعماء أهل الذّمّة، وهم ثلاثة)

- ‌الأوّل- بطرك النصارى اليعاقبة

- ‌الثاني- بطرك الملكانيّة

- ‌الثالث- رئيس اليهود

- ‌الأمر الخامس- مما يجب على الكاتب مراعاته معرفة الوصف اللائق بصاحب الوظيفة

- ‌الأمر السادس- مما يجب على الكاتب مراعاته وصية ربّ كل ولاية من الولايات المعتبرة بما يناسبها

- ‌المقصد الثاني (في بيان مقاصد ما يكتب في الولايات، وفيه جملتان)

- ‌الجملة الأولى (في بيان الرّسوم في ذلك، ومقادير قطع الورق لكلّ صنف منها على سبيل الإجمال)

- ‌النوع الأوّل (التّقاليد)

- ‌النوع الثاني (مما يكتب في الولايات السلطانية: المراسيم)

- ‌الضرب الأوّل (المراسيم المكبّرة)

- ‌الضرب الثاني (من المراسيم التي تكتب بالولايات المراسيم المصغّرة)

- ‌الصنف الأوّل- ما يترك فيه أوصال بياض بين الطّرّة والبسملة

- ‌الصنف الثاني- ما يكتب في هيئة ورقة الطريق، ويكون في ثلاثة أوصال

- ‌النوع الثالث (مما يكتب في الولايات السلطانية التفاويض)

- ‌النوع الرابع (التواقيع، جمع توقيع)

- ‌الطبقة الأولى (ما يفتتح بخطبة مفتتحة بالحمد لله، وفيها مرتبتان)

- ‌المرتبة الأولى- ما يكتب في قطع النصف بقلم خفيف الثّلث

- ‌المرتبة الثانية من التواقيع- ما يكتب في قطع الثلث بقلم التوقيعات

- ‌الطبقة الثانية (من التواقيع ما يفتتح بلفظ «أما بعد حمد الله» وهو لمن رتبته السامي بغير ياء، وهي على مرتبتين)

- ‌المرتبة الأولى- ما يكتب في قطع الثلث

- ‌المرتبة الثانية- ما يكتب من هذه الطبقة في قطع الثلث

- ‌الطبقة الثالثة (من التواقيع ما يفتتح بلفظ «رسم بالأمر الشريف» وهي على مرتبتين)

- ‌المرتبة الأولى- ما يكتب في قطع العادة المنصوريّ بقلم الرّقاع

- ‌الطبقة الرابعة (التواقيع الصّغار؛ وهي لأصغر ما يكون من الولايات: من نظر وقف صغير ونحو ذلك، وتكون في ثلاثة أوصال ونحوها)

- ‌الضرب الأوّل- ما يكتب على مثال أوراق الطّريق

- ‌الضرب الثاني- ما يكتب على ظهور القصص

- ‌المقصد الثالث (في بيان كيفيّة وضع ما يكتب في هذه الولايات في الورق، ويتعلّق به عشرة أمور)

- ‌الأمر الأوّل- الطّرة

- ‌الأمر الثاني- البسملة الشريفة

- ‌ الثاني

- ‌الأمر الثالث- الافتتاح الذي يلي البسملة

- ‌الأمر الرابع- البعدية فيما يفتتح فيه بالحمد لله

- ‌الأوّل

- ‌الأمر الخامس- وصف المتولّي بما يناسب مقامه ومقام الولاية من المدح والتفريظ

- ‌الأمر السادس- الألقاب المختصّة بصاحب الولاية

- ‌الأمر السابع- وصيّة صاحب الولاية بما يناسب ولايته

- ‌الأمر الثامن- الدعاء لصاحب الولاية بما يناسبه إذا كان مستحقّا لذلك

- ‌الأمر التاسع- الخواتم

- ‌الأمر العاشر- البياض الواقع في كتب الولايات

- ‌الأوّل- فيما بين الطّرّة والبسملة

- ‌الثاني- الحاشية فيما على يمين البسملة وما بعدها

- ‌الثالث- بيت العلامة

- ‌الرابع- ما بين الأسطر في متن الولاية

- ‌الخامس- ما بين أسطر اللّواحق

- ‌السادس- ما بعد اللّواحق في آخر الكتاب

- ‌المهيع الثاني (في ذكر نسخ مما يكتب في متن الولايات من التقاليد والمراسيم المكبّرة والتفاويض والتّواقيع)

- ‌القسم الأوّل (ولايات وظائف الديار المصرية؛ وهي على نوعين)

- ‌النوع الأوّل (الولايات بالحضرة؛ وهي على ستة أضرب)

- ‌الضرب الأوّل (ولايات أرباب السيوف؛ وهي على طبقتين)

- ‌الطبقة الأولى (ذوات التقاليد؛ وهي ثلاث وظائف)

- ‌الوظيفة الأولى (الكفالة، وهي نيابة السلطنة بالحضرة)

- ‌الوظيفة الثانية (الوزارة لصاحب سيف)

- ‌الوظيفة الثالثة (الإشارة، وهي وظيفة قد حدثت كتابتها ولم يعهد بها كتابة في الزمن القديم)

- ‌الطبقة الثانية (ممن يكتب له من أرباب السيوف ذوات التواقيع، وفيها وظائف)

- ‌الوظيفة الأولى (نظر البيمارستان لصاحب سيف)

- ‌الوظيفة الثانية

- ‌الوظيفة الثالثة (نقابة الأشراف)

- ‌الضرب الثاني (ممّن يكتب له بالولايات بالديار المصرية أرباب الوظائف الدينية، وهو على طبقتين)

- ‌الطبقة الأولى (أصحاب التقاليد ممّن يكتب له بالجناب العالي)

- ‌الوظيفة الأولى (القضاء)

- ‌الطبقة الثانية (من أرباب الوظائف الدّينية أصحاب التواقيع، وتشتمل على مراتب)

- ‌المرتبة الأولى

- ‌المرتبة الثانية (ما يكتب في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء)

- ‌الوظيفة الأولى (قضاء العسكر)

- ‌الوظيفة الثانية (إفتاء دار العدل)

- ‌الوظيفة الثالثة (الحسبة)

- ‌الوظيفة الرابعة (وكالة بيت المال)

- ‌الوظيفة الخامسة (الخطابة)

- ‌الوظيفة السادسة (الإمامة بالجوامع، والمساجد، والمدارس الكبار التي تصدر التولية عن السلطان في مثلها)

- ‌الوظيفة السابعة (التدريس، وموضوعه إلقاء المسائل العلمية للطّلبة)

- ‌الوظيفة الثامنة (التصدير)

- ‌الوظيفة التاسعة (النظر)

- ‌المرتبة الثالثة

- ‌الضرب الثالث (من الولايات بالحضرة السلطانية بالديار المصرية- الوظائف الديوانية)

- ‌الطبقة الأولى (أرباب التقاليد، في قطع الثلثين ممن يكتب له «الجناب العالي» وفيها وظيفتان)

- ‌الوظيفة الأولى (الوزارة، إذا كان متولّيها من أرباب الأقلام، كما هو الغالب)

- ‌الوظيفة الثانية (كتابة السّرّ، ويقال لصاحبها «صاحب دواوين الإنشاء» )

- ‌الطبقة الثانية (من أرباب الوظائف الديوانية بالحضرة السلطانية أصحاب التواقيع، وهم على ثلاث درجات)

- ‌الدرجة الأولى (ما يكتب في قطع النصف ب «المجلس العالي» وكلّها مفتتحة ب «الحمد لله» )

- ‌الوظيفة الأولى (نظر الخاصّ)

- ‌الوظيفة الثانية (نظر الجيش)

- ‌الوظيفة الثالثة (نظر الدواوين المعبّر عنها بنظر الدّولة)

- ‌الوظيفة الرابعة (نظر الصّحبة)

- ‌الدرجة الثانية (من تواقيع أرباب الوظائف الدّيوانية بالحضرة بالديار المصرية

- ‌الوظيفة الأولى (كتابة الدّست)

- ‌الوظيفة الثانية (نظر الخزانة الكبرى)

- ‌الوظيفة الثالثة (نظر خزانة الخاصّ)

- ‌الوظيفة الخامسة (نظر خزائن السّلاح)

- ‌الوظيفة السادسة (استيفاء الصّحبة)

- ‌الدرجة الثالثة (من تواقيع أرباب الوظائف الديوانية بالديار المصرية

- ‌الضرب الخامس (من أرباب الوظائف بالدّيار المصريّة بالحضرة- أرباب الوظائف العاديّة، وكلّها تواقيع)

- ‌الطبقة الأولى (من يكتب له في قطع النصف بالمجلس العالي، وهو رئيس الأطبّاء المتحدّث عليهم في الإذن في التطّبب والعلاج والمنع من ذلك وما يجري هذا المجرى)

- ‌الضرب السادس (من أرباب الوظائف بالديار المصرية) زعماء أهل الذمة

- ‌الوظيفة الأولى (رآسة اليهود)

- ‌الوظيفة الثالثة (بطركيّة اليعاقبة)

- ‌النوع الثاني (ما هو خارج عن حاضرتي مصر والقاهرة: من وظائف الديار المصريّة مما يكتب لأربابها. وهي ثلاث جهات)

- ‌الجهة الأولى (ثغر الإسكندريّة، والوظائف فيها على ثلاثة أصناف)

- ‌الصنف الأوّل (وظائف أرباب السّيوف وبها وظيفة واحدة وهي النّيابة)

- ‌الصنف الثاني (من الوظائف التي يكتب بها بثغر الإسكندرية- الوظائف الدينية، وكلها تواقيع، وفيها مرتبتان)

- ‌الوظيفة الأولى (القضاء)

- ‌الوظيفة الثانية (الحسبة بثغر الإسكندرية)

- ‌الوظيفة الثالثة (نظر الصادر)

- ‌الصنف الثالث (من الوظائف التي يكتب بها بثغر الإسكندريّة المحروس، الوظائف الدّيوانية، وهي على طبقتين)

- ‌الطبقة الأولى (من يكتب له في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء

- ‌الطبقة الثانية (من يكتب له في قطع الثلث ب «المجلس السامي» بغير ياء أو «مجلس القاضي» وفيها وظيفتان)

- ‌الوظيفة الأولى ((كتابة الدّرج)

- ‌الوظيفة الثانية (نظر دار الطّراز بثغر الإسكندريّة)

- ‌الجهة الثانية (مما هو خارج عن حاضرتي مصر والقاهرة بالديار المصرية- بلاد الرّيف)

- ‌الوجه الأوّل (الوجه القبلي، وهو المعبّر عنه بالصّعيد)

- ‌الوجه الثاني (من وجهي الديار المصرية البحريّ، وهو الشّماليّ)

- ‌الضرب الأوّل (أرباب السيوف)

- ‌الجهة الثالثة (درب الحجاز الشريف)

- ‌مراجع الهوامش للجزء الحادي عشر من صبح الأعشى

الفصل: ‌الوظيفة السابعة (التدريس، وموضوعه إلقاء المسائل العلمية للطلبة)

أما بعد حمد الله على نعمه التي جعلت أيّامنا الشريفة تزيد أهل الفضائل إكراما، وتخص بالسيادة والتقديم من أنشأه الله تعالى قرّة أعين وجعله للمتّقين إماما، وقدّمه على أهل الطاعة الذين يبيتون لربّهم سجّدا وقياما، والشّهادة له بالوحدانيّة التي تكسو مخلصها جلالا وسّاما، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أمّ الناس وعلّمهم الصلاة وأظهر في إقامة الدّين مقالا محمودا ومقاما، وعلى آله وصحبه الذين تمسّكوا بسنّته توثّقا واعتصاما- فإن خير الرتب في هذا العصر وفيما تقدّم رتبة الإمامة حيث تقدّم سيد البشر في محرابها على الأمة وأمّ، فاختارها من اتّبع الطريق المحمديّة وشرعها، وعلم سناءها ورفعها، فزاد بذلك سموّا إلى سموّه، وحصل على تضاعف الأجر ونموّه؛ وهو فلان.

رسم- لا زالت أيامه الشريفة تشمل ذوي الأصالة والصّدارة بجزيل فضلها، وعوائد إنعامه تجري بإتمام المعروف فتبقي الرتب الدينيّة بيد مستحقّها وتسارع إلى تخليد النعم عند أهلها- أن يستمرّ فلان في كذا جاريا فيه على أجمل العادات؛ إعانة له على اكتساب الأجور بما يعتمده من تأهيل معهد العبادات، ورعاية لتكثير المبارّ، وترجيحا لما اشتمل عليه من حسن النظر في كل إيراد وإصدار، وتوفيرا للمناجح التي عرفت من بيته الذي كم ألف منه فعل جميل وعمل بارّ، ووثوقا بأنه يعتمد في عمارة مساجد الله سبحانه وتعالى أنه تشهد به الملائكة المتعاقبون بالليل والنهار، والله تعالى يجعل النّعم عنده مؤبّدة الاستقرار؛ إن شاء الله تعالى.

‌الوظيفة السابعة (التدريس، وموضوعه إلقاء المسائل العلمية للطّلبة)

وهذه نسخة توقيع بتدريس كتب به للقاضي عزّ الدين «1» ابن قاضي

ص: 223

القضاة بدر الدّين بن جماعة، عوضا عن والده، في جمادى الآخرة سنة ثلاثين وسبعمائة؛ وهي:

الحمد لله متمّ فضله على كلّ أحد، ومقرّ النّعمة على كلّ والد وولد، الذي خصّ أولياءنا ببلوغ الغايات في أقرب المدد، واستصحاب المعروف فما ينزع منهم خاتم من يد إلّا ليد.

نحمده بأفضل ما يحمده به من حمد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة باقية على الأبد، ونصلي على سيدنا محمد نبيّه الذي جعل شريعته واضحة الجدد، قائمة بأعلام العلماء قيام الأمد، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين شبّههم في الهدى بالنّجوم وهم مثلها في كثرة العدد، وسلّم تسليما كثيرا.

وبعد، فإنّ نعمنا الشريفة لا تتحوّل، ومواهبنا الجزيلة [لا تزال لأوليائنا]«1» تتخوّل، وكرمنا يمهّد منازل السّعود لكل بدر يتنقّل، وشيمنا الشريفة ترعى الذّمم لكلّ من أنفق عمره في ولائها، وتحفظ ما لها من المآثر القديمة بإبقائها في نجباء أبنائها؛ مع ما نلاحظه في استحقاق التقديم، وانتخاب من ترقّى منهم بين العلم والتعليم، وحصّل في الزمن القليل العلم الكثير، واستمدّ من نور والده وهو البدر المنير، وعلم بأنّه في الفضائل سرّ أبيه الذي شاع، وخليفته الذي لو لم ينصّ عليه لما انعقد [إلا]«2» عليه الإجماع، والواحد الذي ساد في رتبة أبيه وما خلت من مثله- لا أخلى الله منه البقاع!.

وكان المجلس الساميّ القضائيّ، الفلانيّ، هو المراد بما قدّمنا من صفاته الجميلة، وتوسّمنا أنه لمعة البدر وهي لا تخفى لأنها لا تردّ العيون كليلة؛ ورأى والده المشار إليه من استحقاقه ما اقتضى أن ينوّه بذكره، وينبّه على المعرفة

ص: 224

بحقّ قدره، فآثر النّزول له عمّا باسمه من تدريس الزاوية بجامع مصر المحروسة ليقوم مقامه، ويقرّر فوائده وينشر أعلامه، ويعلم أنه قد حلّق في العلياء حتّى لحق البدر وبلغ تمامه؛ فعلمنا أنّ البركة فيما أشار، وأنّ اليمن بحمد الله فيما رجّحه من الاختيار.

فلذلك رسم بالأمر الشريف- زاد الله في شرفه، وجعل أقطار الأرض في تصرّفه- أن يرتّب في هذا التدريس عوضا عن والده، أطال الله بقاءه على عادته وقاعدته إلى آخر وقت لأنه أحقّ من استحق قدره الرفيع التمييز، وأولى بمصر ممن سواه لما عرفت به مصر من العزيز ثم من عبد العزيز.

ونحن نوصيك أيّها العالم- وفّقك الله- بالمداومة على ما أنت بصدده، والمذاكرة للعلم فإنّك لا تكاثر العلماء إلا بمدده، والعمل بتقوى الله تعالى في كل قصد وتصدير، وتقريب وتقرير، وتأثيل وتأثير، وتقليل وتكثير، ونصّ وتأويل، وترتيب وترتيل، وفي كل ما تزداد به رفعتك، وتطير به سمعتك، ويحسن به الثناء على دينك المتين، ويقوم به الدليل على ما وضح من فضلك المبين.

واعلم بأنك قد أدركت بحمد الله تعالى وبكرمنا وبأبيك وباستحقاقك ما ارتدّ به كثير عن مقامك، ووصلت في البداية إلى المشيخة في زاوية إمامك؛ فاعمل في إفادة الطّلبة بما يرفع الرافعيّ لك به الراية، ويأتمّ بك إمام الحرمين في النّهاية؛ فقد أمسيت جار البحر فاستخرج جمانه، واجتهد لتصيب في فتاويك فإنّ أوّليك سهام رميها من كنانة؛ وسبيل كل واقف عليه العمل بمقتضاه والاعتماد «1» .

وهذه نسخة توقيع بتدريس زاوية الشافعيّ بالجامع العتيق أيضا، من إنشاء

ص: 225

المولى زين الدين بن الخضر موقّع الدّست، كتب به لتاج الدين محمد الإخنائي شاهد خزانة الخاص، بالنّيابة عن عمّه قاضي القضاة تقيّ الدين «1» المالكيّ في أيام حياته، مستقلّا بعد وفاته، وهي:

أما بعد حمد الله على أن زان مجالس المدارس في أيامنا الشريفة بتاجها، وأقرّ بها من ذوي الإنابة من يستحقّ النيابة عن تقيّ قوّى الأحكام بإحكامها وإنتاجها، ورفع قدر بيت مبارك طالما اشتهر علم علمه وصدر عن صدره فكان مادّة مسرّة النفس وابتهاجها، وجعل عوارفنا ترعى الذّرّيّة الصالحة في عقبها وتولّي كلّ رتبة من أضحى لأهلها بوجاهته مواجها، والشهادة له بالوحدانيّة التي تنفي شرك الطائفة الكافرة ومعلول احتجاجها، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي استقامت به أمور هذه الأمة بعد اعوجاجها، وتشرّفت به علماؤها حتّى صارت كأنبياء بني إسرائيل بحسن استنباطها للجمل وجميل استخراجها، وعلى آله وصحبه الذين علموا وعملوا وأوضحوا لهذه الملّة قويم منهاجها- فإنّ أولى الأولياء ببلوغ الأمل، وتعاهد مدارس العلم بصالح العمل؛ وإظهار سرّ الفوائد للطالبين، وحلّ عقود مشكلها بجميل الاطّلاع وحسن اليقين، من حوى معرفة الفروع والأصول، وحاز من مذهبه المذهب خير محصول، ونشأ في حجر الفضائل، واقتدى بحكّام بيته الذين لهم في العلوم بمصر والشام أوضح البراهين وأقوى الدّلائل، وله في الآباء والأبوّة، الديانة التي بلغ بها من الإقبال مرجوّه؛ طالما سارت أحكام عمّه- أجله الله- في الأقطار، وحكم فأبدى الحكم بين أيدينا أو في الأمصار، وله العفاف والتّقى والمآثر الجميلة وجميل الآثار، والفتاوى التي أوضح بها مشكلا، وفتح مقفلا، والفصل بين الخصوم بالحقّ المجتلى، والبركة التي لدولتنا الشريفة منها نصيب وافر، والتصميم الذي اقترن بغزارة العلم والوقار الظاهر؛ فهو- أعز الله أحكامه- من العلماء العاملين، وله

ص: 226

البشرى بما قاله أصدق القائلين، في النبإ الذي تتمّ به الزيادة والنماء: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ

«1» ولما كان المجلس السامي هو الذي استوجب التصدير لإلقاء الدروس، وأضحى مالكيّا مالكا أزمّة الفضائل حائزا من أثوابها أفخر ملبوس، وله بخزانة خاصّنا الشريف وإصطبلاته السعيدة الشهادة البيّنة، والكتابة التي هي العزّ الحاضر فلا يحتاج معها إلى إقامة بيّنة، والكفالة التي نطقت بها الأفواه مسرّة ومعلنة، والأمانة التي حذا فيها حذو أبيه واتّبع سننه.

فلذلك رسم- لا زال يديم النّعم لأهلها، ويبقي المراتب الدينيّة لمن أضحى محلّه مناسبا لمحلّها، أن يستقر [في تدريس زاوية الشافعي]«2» فلينب عن عمّه في هذا التدريس، وليقف ما يسرّ النفوس من أثره النفيس، وليفد الطلبة على عادته، وليبد لهم من النّقول ما يظهر غزير مادّته، وليستنبط المسائل، وليجب بالأدلّة المسائل، وليرجّح المباحث، وليكن لوالده- رحمه الله أحقّ وارث، وليستقلّ بهذه الوظيفة المباركة بعد وفاة عمه أبقاه الله تعالى، وليتزيّد من العلوم ليبلغ من صدقاتنا الشريفة آمالا، والله تعالى يسدّد له بالتقوى أقوالا وأفعالا، بمنّه وكرمه.

وهذه نسخة توقيع بتدريس المدرسة الصّلاحيّة «3» المجاورة لتربة الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، كتب به لقاضي القضاة تقيّ الدين، ابن قاضي القضاة تاج الدّين ابن بنت الأعزّ. من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وهي:

ص: 227

الحمد لله شافي عيّ البحث بخير إمام شافعيّ، والآتي منه في الزّمن الأخير بمن لو كان في الصّدر الأوّل لأثنى على ورعه ودينه كلّ صحابيّ وتابعيّ، ومفيد الأسماع من وجيز قوله المحرّر ما لولا السبق لما عدل إلى شرح وجيز سواه الرافعيّ.

نحمده على نعم ألهمت وضع الأشياء في محلّها، واستيداعها عند أهلها، وتأتّيها بما يزيل الإشكال بانجذاب من شكله مناسب لشكلها.

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يتزيّن بها المقال، ويتبيّن بها الحقّ من الضّلال، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله ونبيّه موضّح الطّرق إلى الحق المبين، وناهجها إلى حيث مجتمع الهدى ومرتبع الدّين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تهدي إلى صراط الّذين، ورضي الله عن أصحابه، الذين منهم من جاء بالصّدق وصدّق به فقوي سبب الدين المتين، ومنهم من فرق «1» بين الحق والباطل وكان إمام المتقين وسمّيّ أمير المؤمنين، ومنهم من جهّز جيش العسرة فثبّت جأش المسلمين، ومنهم من أعطاه صلى الله عليه وسلم الراية فأخذها منه باليمين، ورضي الله عن بقيّة الصحابة أجمعين.

وبعد، فلما كان مذهب الإمام الشافعي «محمد بن إدريس» رضي الله عنه هو شهدة المتلفّظ، وكفاية المتحفّظ، وبهجة المتلحّظ وطراز ملبس الهدى، وميدان الاجتهاد الذي لا تقف أعنّة جياده عن إدراك المدى؛ وقد تجملت ديار مصر من بركة صاحبه بمن تشدّ إليه الرّحال، وتفخر جبّانة هو فيها حالّ، وجيد هو بجواهر علومه حال، ومن يحسن إلى ضريحه المنيف الاستناد، وإذا قرئت كتبه لديه قيل ما أبعد هذا المرمى الأسنى! وما أقرب هذا الإسناد!، وما أسعد حلقة تجمع بين يدي جدثه يتصدّر فيها أجلّ حبر، ويتصدّى لنشر العلوم

ص: 228

بها من عرف بحسن السّيرة عند السّبر، ومن لولا خرق العوائد لأجاب بالشّكر والثناء عليه صاحب ذلك القبر كلما قال:«قال صاحب هذا القبر» - حسن بهذه المناسبة أن لا ينتصب في هذا المنصب إلا من يحمد هذا السيد الإمام جواره، ومن يرضيه منه- رضي الله عنه حسن العبارة، ومن يستحقّ أن يتصدّر بين نجوم العلماء بدارة تلك الخطّة فيقال قد جمّل الله به دارة هذا البدر وعمّر به من هذا المدرّس داره، الذي يفتقر إلى تنويل نعمه، وتنويه قلمه، من الأئمة كلّ غني، ويعجب ببلاغة خطبه، وصياغة كتبه، من يجتلي ومن يجتني، ومن يهنا المستفيدون من عذوبة ألفاظه وصفاء معانيه بالمورد الهني، ومن إذا سحّ سحابه الهطّال اعترف له بالهموّ والهمول المزني، والذي لسعد جدّه من أبيه ليث أكرم به من ليث وأكرم ببنيه من أشبال!، وأعزز به من فاتح أبواب إشكالات عجز عن فتحا القفّال!، ومن إذا قال سكت الناس، ومن إذا قام قعد كلّ ذي شماس، وإذا أخذ بالنصّ ذهب الاقتياس، وإذا قاس قيل هذا بحر المذهب المشار إليه بالأصابع في مصره جلالة ولا ينكر لبحر المصر الإشارة بالأصابع ولا القياس، ومن يزهو بتقى قلبه ورقى جوابه لسان التعويل ولسان التعويذ، كما يميس بإحاطته وحياطته قلم الفتوى وقلم التنفيذ، ومن يفخر به كلّ عالم مفيد إذا قال: أنا بين يديه طالب وأنا له تلميذ، ومن حيثما التفتّ وجدت له سؤددا جما، وكيفما نظرت رأيت له من هنا وزارة، ومن هنا خطابة، ومن هنا مشيخة، ومن هنا تدريسا ومن هنا حكما!!!؛ فهو الأصل ومن سواه فروع، وهم الأثماد وهو الينبوع، وهو مجموع السيادة، المختار منه الإفادة، فما أحسنه من اختيار وما أتمّه من مجموع. وكان قاضي القضاة، سيّد العلماء، رئيس الأصحاب، مقتدى الفرق، قدوة الطوائف، الصاحب تقيّ الدين «عبد الرحمن» ولد الصاحب قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز أدام الله شرفه، ورحم سلفه، وهو منتهى رغبة الراغب، ومشتهى منية الطالب، ومن إذا أضاءت ليالي النّفوس بأقمار فتاويه قيل (بياض العطايا في سواد المطالب) ، ومن تتّفق الآراء على أنه لسنّ الكهولة شيخ المذاهب، ومن عليه يحسن الاتفاق، وبه يجمل

ص: 229

الوفاق، وإذا ولي هذا المنصب ابتهج بولايته إيّاه مالك في المدينة وأبو حنيفة وأحمد رضي الله عنهم في العراق، واهتزّت به وبمجاورة فوائده من ضريح إمامه جانب ذلك القبر طربا، وقالت «الأمّ» لقد أبهجت- رحم الله سلفك- بجدّك وإبائك جدّا وأبا، ولقد استحقّيت أن يقول لك منصب سلفك رضي الله عنهم: أهلا وسهلا ومرحبا، وهذه نسمات صبا، كانت الإفادة هنالك تعرفها منك من الصّبا.

فالحمد لله على أن أعطى قوس ذلك المحراب باريها، وخصّ بشقّ سهامها من لا يزال سعده مباريها، وجمّل مطلع تلك السماء ببدر كم باتت عليه الدّرر تحسد دراريها، وألهم حسن الاختيار أن يجري القلم بما يحسن بالتوقيع الشريف موقعه، ويجمل في أثناء الطروس وضعه وموضعه.

فرسم بالأمر الشريف العاليّ المولويّ، السلطانيّ:- أجراه الله بالصواب وكشف بارتيائه كلّ ارتياب، ولا زال يختار وينتقي للمناصب الدّينيّة كلّ عالم بأحكام السنّة والكتاب- أن يفوّض إليه تدريس المدرسة الصلاحيّة الناصريّة المجاورة لضريح الإمام الشافعيّ بالقرافة رضي الله عنه. فليخوّل ولينوّل كلّ ذي استفادة، وليجمّل منه بذلك العقد الثمين من علماء الدّين بأفخم واسطة تفخر بها تلك القلادة، وليذكر من الدروس ما يبهج الأسماع، ويرضي الانتجاع، ويجاد به الانتفاع، ويحتلبه من أخلاف الفوائد ارتضاء الارتضاع، ويتناقل الرّواة فوائده إلى علماء كل أفق من البقاع، وليقل فإنّ الأسماع لفوائده منصتة، والأصوات لمباحثه خاشعة والقلوب لمهابته مخبتة «1» ، ولينهض قويّ المسائل بما يحصّل لها أعظم انتعاش، وليمت ما أماته إمامه من البدع فيقال به له: هذا محمد بن إدريس مذ قمت أنت عاش، وليسمع بعلومه من به من الجهل صمم، وليستنطق من به من الفهاهة «2» بكم، وليحقّق عند الناس

ص: 230

بتعصّبه لهذا الإمام أنه قد قام بالتنويه به الآن الحاكم ابن الحاكم أخو الحاكم كما قام به فيما سلف بنو عبد الحكم.

وأما غير ذلك من الوصايا فهو بحمد الله صاحب إلهامها، وجالب أقسامها، وجهينة «1» أخبارها، ومطلع أنوارها، فلا يعاد عليه ما منه يستفاد، ولا ينثر عليه درّ هو منظّمه في الأجياد، والله تعالى يعمّر بسيادته معالم الدين وأكنافه، ويزيّن بفضله المتين أوساط كلّ مصر وأطرافه، ويضيف إليه من المستفيدين من بإرفاقه وإشفاقه يكون عيشه خفضا بتلك الإضافة، ويجعله لا يخصّص حنوّه بمعهد دون معهد ولا بمسافة دون مسافة، ويبقيه ومنفعته إلى سارية سارية الإطافة واللّطافة، وألطافه بهذه الولاية تقول لكلّ طالب في القرافة «2» الق رافه.

قلت: ولما توفّي قاضي القضاة بدر الدين بن أبي البقاء- تغمده الله تعالى برحمته- وكان من جملة وظائفه تدريس هذه المدرسة، كان السلطان قد سافر إلى الشام في بعض الحركات، فسافر ابنه أقضى القضاة جلال الدين حتّى أدرك السلطان بالطريق، على القرب من غزّة، فولّاه الوظيفة المذكورة مكان أبيه، وكان القاضي نور الدين بن هلال الدولة الدّمشقيّ حاضرا هناك، فأشار إليه القاضي فتح الدين فتح الله كاتب السر الشريف- عامله الله بلطفه الخفيّ- بإنشاء صدر لتوقيعه، يسطر به للعلامة الشريفة السلطانية، فأنشأ له سجعتين، هما:

الحمد لله الذي أظهر جلال العلماء الشافعية بحضرة إمامهم، وأقام سادات الأبناء مقام آبائهم في بثّ علومهم وصلاتهم وصيامهم. ولم يجاوز ذلك إلى

ص: 231

غيره، فسطّر التوقيع بهاتين السجعتين، وعلّم عليه العلامة السلطانية.

وكان من قول نور الدين بن هلال الدولة للقاضي جلال الدّين المذكور:

إنّ هذا التوقيع يبقى أبيض: فإنه ليس بالديار المصرية من ينهض بتكملته على هذا الأسلوب. فسمع القاضي كاتب السرّ كلامه، فكتب لي بتكملته على ظهره، وعاد به القاضي جلال الدين فأعطانيه، وأخبرني بكلام ابن هلال الدولة وما كان من قوله، فتلكّأت عن ذلك، ثم لم أجد بدّا من إكماله وإن لم أكن من فرسان هذا الميدان، فأنشأت له على تينك السجعتين ما أكملته به، فجاء منه تلو السجعتين السابقتين اللتين أنشأهما ابن هلال الدولة:

وخصّ برياسة العلم أهل بيت رأت كهولهم في اليقظة ما يتمنّى شيوخ العلماء أن لو رأوه في منامهم.

وجاء من وسطه:

اقتضى حسن الرأي الشريف أن ننوّه بذكره، ونقدّمه على غيره ممّن رام هذا المقام فحجب دونه وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ

«1» وجاء في آخره:

والله تعالى يرقّيه إلى أرفع الذّرا؛ وهذه الرتبة وإن كانت بدايته فهي نهاية غيره (وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا) .

وقد أعوزني وجدان النسخة عند إرادة إثباتها في هذا التأليف لضياع مسودّتها ولم يحضرني منها غير ما ذكرته. وفيما تقدّم من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر من توقيع القاضي تقيّ الدين ابن بنت الأعز ما لا ينظر مع وجوده إلى غيره.

ص: 232

وهذه نسخة توقيع بتدريس المدرسة الصلاحية بمصر، المختصّة بالمالكية، المعروفة بالقمحية، بمصر المحروسة، أنشأته لقاضي القضاة جمال الدين الأقفهسيّ «1» ، وهي:

الحمد لله الذي زيّن معالم المدارس من أعلام العلماء بجمالها، وميّز مراتب الكملة بإجراء سوابق الأفكار في ميادين الدّروس وفسيح مجالها، وعمّر معاهد العلم بأجلّ عالم إذا ذكرت وقائع المناظرة كان رأس فرسانها وريّس رجالها، وناط مقاصد صلاح الدين بأكمل حبر إذا أوردت مناقبه المأثورة تمسّك أهل الدّيانة منها بوثيق حبالها.

نحمده على اختيار الجواهر والإعراض عن العرض، والتوفيق لإدراك المرامي وإصابة الغرض.

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي خصّ أهل العلم بكريم حبائه، وشرّف مقامهم في الخليقة فجعلهم في حمل الشريعة ورثة أنبيائه، شهادة تعذب لقائلها بحسن الإيراد وردا، وتجدّد لمنتحلها بمواطن الذّكر عهدا فيتّخذ بها عند الرحمن عهدا، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أفضل نبيّ علم وعلّم، وأكرم رسول فصّل الأحكام إذ شرع وندب وأوجب وحلّل وحرّم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين عنوا بتفسير كتاب الله تعالى فأدركوا دقيق معانيه، واهتمّوا بالحديث رواية ودراية ففازوا بتأسيس فقه الدّين وإقامة مبانيه، صلاة تحيط من بحار العلم بزاخرها، وتأخذ من الدّروس بطرفيها فتقارن الحمد في أوّلها وتصحب الدعاء في آخرها، ما تتبّع بالمنقول مواقع الأثر، وعوّل في المعقول على إجالة الفكر وإجادة النّظر، وسلّم تسليما كثيرا.

وبعد، فإنّ أولى ما صرفت النفوس إليه هممها، وأخلصت فيه نيّتها

ص: 233

وخلّصت من تبعاته ذممها، وتبعت فيه آثار من سلف من الملوك الكرام، وأعارته كلّيّ نظرها وقامت بواجبه حقّ القيام- أمر المدارس التي هي مسقط حجر الاشتغال بالعلم ومستقرّ قاعدته، وقطب فلك تطلابه ومحيط دائرته، وميدان فرسان المشايخ ومدار رجالها، ومورد ظماء الطّلبة ومحطّ رحالها؛ لا سيّما المدارس الأيّوبية التي أسّس على الخير بناؤها، وكان عن صلاح الدين منشؤها فتألّق برقها واستطار ضياؤها.

ومن أثبتها وثيقة، وأمثلها في الترتيب طريقة، المدرسة القمحية بالفسطاط الآخذة من وجوه الخير بنطاقها، والمخصوص بالسادة المالكيّة امتداد رواقها؛ إن اعتبرت رعاية المذاهب قالت: مالك وما مالك، وإن عملت حسبة المدارس في البرّ، كانت لها فذالك؛ قد رتّب بها أربعة دروس فكانت لها كالأركان الأربعة، وجعلت صدقتها الجارية برّا فكانت أعظم برّا وأعمّ منفعة.

ولما كان المجلس العاليّ، القاضويّ، الشيخيّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، الأفضليّ، الأكمليّ، الأوحديّ، البليغيّ، الفريديّ، المفيديّ، النّجيديّ، القدويّ، الحجّيّ، المحقّقّ، الإماميّ، الجماليّ: جمال الإسلام والمسلمين، شرف العلماء العاملين، أوحد الفضلاء المفيدين، قدوة البلغاء زين الأمة، أوحد الأئمّة، رحلة الطالبين، فخر المدرّسين، مفتي الفرق لسان المتكلمين، حجّة المناظرين، خالصة الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين، أبو محمد «عبد الله الأقفهسيّ» المالكيّ- ضاعف الله تعالى نعمته- هو عين أعيان الزمان، والمحدّث بفضله في الآفاق وليس الخبر كالعيان؛ ما ولي منصبا من المناصب إلا كان له أهلا، ولا أراد الانصراف من مجلس علم إلا قال له مهلا، ولا رمى إلى غاية إلا أدركها، ولا أحاط به منطقة طلبة إلا هزّها بدقيق نظره للبحث وحرّكها، إن أطال في مجلسه أطاب، وإن أوجز قصّر محاوره عن الإطالة وأناب، وإن أورد سؤالا عجز مناوئه عن جوابه، أو فتح بابا في المناظرة أحجم مناظره عن سدّ بابه، وإن ألمّ ببحث أربى فيه وأناف، وإن أفتى بحكم اندفع عنه المعارض وارتفع فيه الخلاف؛ فنوادره المدوّنة فيها البيان والتحصيل،

ص: 234

ومقدّماته المبسوطة إجمالها يغني عن التفصيل، ومشارقه النيّرة لا يأفل طالعها، ومداركه الحسنة لا يسأم سامعها، وتهذيبه المهذّب جامع الأمّهات، وجواهره الثمينة لا تقاوم في القيمة ولا تضاهى في الصّفات- اقتضى حسن الرأي الشريف أن ننوّه بذكره، ونقدّمه على غيره، ممن حاول ذلك فامتنع عليه وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ

«1» فلذلك رسم بالأمر الشريف العاليّ، المولويّ، السّلطانيّ، الملكيّ، الناصريّ، الزينيّ- لا زالت مقاصده الشريفة في مذاهب السّداد ذاهبة، ولأغراض الحقّ والاستحقاق صائبة- أن يستقرّ المجلس العاليّ المشار إليه في تدريس المدرسة الصّلاحية بمصر المحروسة المعروفة بالقمحية عوضا عن فلان الفلانيّ، على عادة من تقدّمه.

فليتلقّ ذلك بالقبول، ويبسط في مجالس العلم لسانه فمن كان بمثابته في الفضل حقّ له أن يقول ويطول؛ وملاك الأمر تقوى الله تعالى فهي خير زاد، والوصايا كثيرة وعنه تؤخذ ومنه تستفاد؛ والله تعالى يبلّغه من مقاصده الجميلة غاية الأمل، ويرقّيه من هضاب المعالي إلى أعلى مراتب الكمال وقد فعل؛ والاعتماد على الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.

وهذه نسخة توقيع أيضا بتدريس المدرسة الصلاحيّة المذكورة، أنشأته للقاضي شمس الدين محمد ابن المرحوم شهاب الدين أحمد الدّفريّ المالكيّ، في شعبان سنة خمس وثمانمائة، وهو:

الحمد لله مطلع شمس الفضائل في سماء معاليها، ومبلّغ دراريّ الذّراريّ النبيهة الذّكر بسعادة الجدّ غاية غيرها في مباديها، وجاعل صلاح الدّين أفضل

ص: 235

قصد فوّقت العناية سهامها بأصابة غرضه في مراميها، ومجدّد معالم المدارس الدارسة بخير نظر يقضي بتشييد قواعدها وإحكام مبانيها.

نحمده على أن صرف إلى القيام بنشر العلم الشريف اهتمامنا، وجعل بخيرته العائدة إلى التوفيق في حسن الاختيار اعتصامنا.

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مفيض نتائج الأفكار من وافر إمداده، ومخصّص أهل التحقيق بدقيق النّظر تخصيص العامّ بقصره على بعض أفراده، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أوفر البرية في الفضل سهما، والقائل تنويها بفضيلة العلم:«لا بورك لي في صبيحة يوم لا أزداد فيه علما» صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين حلّوا من الفضل جواهره الثمينة، والتابعين وتابعي التابعين الذين ضربت آباط الإبل منهم إلى عالم المدينة «1» وبعد، فإنّ أولى ما صرفت إليه الهمم، وبرئت بتأدية حقّه الذّمم، وغدت النفوس بالنظر في مصالحه مشتغلة، والفكر لشرف محلّه منه إلى غيره منتقلة، النظر في أمر المدارس التي جعلت للاشتغال بالعلم سببا موصولا، ولطلبته ربعا لا يزال بمجالس الذكر مأهولا؛ لا سيّما المدارس التي قدم في الإسلام عهدها، وعذب باستمرار المعروف على توالي الأيّام وردها.

ولما كانت المدرسة الصّلاحية بفسطاط مصر المحروسة قد أسّس على التقوى بنيانها، ومهّدت على الخير قواعدها وأركانها، واختصّت طائفة المالكية منها بالخصّيصة التي أغنى عن باطن الأمر عنوانها، وكان المجلس الساميّ هو الذي خطبته الرّتب الجليلة لنفسها، وعيّنته لهذه الوظيفة فضائله التي قد آن ولله الحمد بزوغ شمسها، وعهدت منه المعاهد الجليلة حسن النظر فتاقت في يومها إلى ما ألفت منه في أمسها- اقتضى حسن الرأي الشريف أن نفرده بهذه الوظيفة التي يقوم إفراده فيها مقام الجمع، ونجمع له من طرفيها ما يتّفق على حسنه

ص: 236

البصر ويقضي بطيب خبره السّمع.

فلذلك رسم بالأمر الشريف، العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الناصريّ، الزّينيّ:- لا زال يقيم للدّين شعارا، ويرفع لأهل العلم الشريف مقدارا- أن يستقرّ في الوظيفة المذكورة لما اشتهر من علمه وديانته، وبان من عفّته المشهورة ونزاهته، واتّصف به من الإفادة، وعرف عنه من نشر العلوم في الإبداء والإعادة، وشاع من طريقته المعروفة في إيضاحه وبيانه، وذاع من فوائده التي قدّمته على أبناء زمانه، ورفعته إلى هذه المرتبة باستحقاقه على أقرانه.

فليباشر تدريسها مظهرا من فوائده الجليلة ما هو في طيّ ضميره، مضمرا من حسن بيانه ما يستغنى بقليله عن كثيره، مقرّبا إلى أذهان الطلبة بتهذيب ألفاظه الرائقة ما يفيد، موردا من علومه المدوّنة ما يجمع له بين نوادر المقدّمات ومدارك التمهيد، موفّيا نظرها بحسن التدبير حقّ النظر، موفّرا رزقها بما يصدّق الخبر فيه الخبر، قاصدا بذلك وجه الله الذي لا يخيّب لراج أملا، معاملا فيه الله معاملة من يعلم أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا. وملاك الوصايا تقوى الله تعالى فليجعلها إمامه، ويتخيّلها في كل الأحوال أمامه؛ والله تعالى يسدّده في قوله وعمله، ويبلّغه من رضاه نهاية سؤله وغاية أمله، إن شاء الله تعالى.

وهذه نسخة توقيع بالتدريس بقبّة الصالح «1» ، أنشأته لقاضي القضاة جمال الدين «يوسف البساطيّ» بعد أن كتب له بها مع قضاء القضاة المالكية، في العشر الأخير من شعبان سنة أربع وثمانمائة، وهي:

الحمد لله الذي جعل للعلم جمالا تتهافت على دركه محاسن الفضائل،

ص: 237

وتتوارد على ثبوت محامده المتواردة قواطع الدلائل، وتحقّق شواهد الحال من فضله ما يتلمّح فيه من لوائح المخايل.

نحمده على نعمه التي ما استهلّت على وليّ فأقلع عنه غمامها، ولا استقرّت بيد صفيّ فانتزعت من يده حيث تصرّف زمامها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تزهر بمعالم الدّين غروسها، وتينع بثمار الفوائد المتتابعة دروسها، وأن سيدنا محمدا عبده ورسوله أشرف الأنبياء قدرا، وأوّلهم في علوّ المرتبة مكانا وإن كان آخرهم في الوجود عصرا؛ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الحائزين بقربه أفخر المناقب، والفائزين من درجة الفضل بأرفع المراتب، صلاة تكون لحلق الذّكر نظاما، ولأوّلها افتتاحا ولآخرها ختاما، وسلّم تسليما كثيرا.

وبعد، فإنّ من شيمنا الشريفة، وسجايانا الزاكية المنيفة، أنّا إذا منحنا منحا لا نستعيده، وإذا أعطينا عطاء لا ننقصه بل نزيده، وإذا قرّبنا وليّا لا نقصيه، وإذا أنعمنا على صفيّ إنعاما لا نعدّه عليه ولا نحصيه.

ولمّا كان تدريس المدرسة المالكية بقبّة الصالح من أعلى دروسهم قدرا، وأرفعها لدى التحقيق ذكرا، وأعظمها إذا ذكرت الدروس فخرا؛ إذ بمجال جداله تنفطر المرائر، وبميدان مباحثه تشتهر البلق من مضمرات الضمائر، وبسوق مناظرته يتميز النّضار عن الشّبه، وبمحكّ مطارحته تتبيّن الحقائق من الشّبه، وبمظانّ مجلسه يعرف العالي والسافل، وبمعركة فرسانه يعرف من المفضول والفاضل؛ ومن ثمّ لا يليه من علمائهم إلا الفحول، ولا يتصدّى لتدريسه إلا من أمسى بحسام لسانه على الأقران يصول؛ ولم يزل في جملة الوظائف المضافة لقضاء القضاة في الأوّل والآخر، تابعا لمنصب الحكم في الولاية كلّ زمن إلا في القليل النادر؛ وكان المجلس العاليّ، القاضويّ، الكبيريّ (إلى آخر ألقابه) أدام الله تعالى نعمته قد اشتملت ولايته عليه لابتداء الأمر استحقاقا، وحفظه كرمنا عليه فلم يجد الغير إليه استطراقا- اقتضى حسن الرأي

ص: 238

الشريف أن نتبع ذلك بولاية ثانية تؤكّد حكم الولاية الأولى، ونردفه بتوقيع يجمع له شرف القدمة والجمع ولو بوجه أولى.

فلذلك رسم بالأمر الشريف العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الناصريّ، الزّينيّ- لا زال يعتمد في مشاهد الملوك أتمّ المصالح، ويخصّ الصالح منهم بمزيد النّظر حتّى يقال ما أحسن نظر الناصر في مصالح الصّالح! - أن يستمرّ المجلس العالي المشار إليه على ما بيده من الولاية الشريفة بالتدريس بقبّة الصالح المذكورة، ومنع المعارض وإبطال ما كتب به وما سيكتب ما دام ذلك في يده، على أتمّ العوائد وأكملها، وأحسن القواعد وأجملها.

فليتلقّ ما فوّض إليه بكلتا يديه، ويشكر إحساننا الشريف على هذه المنحة فإنّها نعمة جديدة توجب مزيد الشكر عليه، وليتصدّر بهذا الدرس الذي لم تزل القلوب تتقطّع على إدراكه حسرات، ويتصدّ لإلقاء فوائده التي إذا سمعها السامع قال: هنا تسكب العبرات، ويبرز لفرسان الطّلبة من

«1» . صدره من كمينه، ويفض على جداولهم الجافّة ماسحّ به فكره من ينابيع معينه، مستخرجا لهم من قاموس قريحته درر ذلك البحر الزاخر، مظهرا من مكنون علمه ما لا يعلم لمدّه أوّل ولا يدرك لمداه آخر، وينفق من ذخائر فضله ما هو بإنفاقه مليّ، متفقّدا بفضل غنائه من هو عن فرائده المربحة غير غنيّ، مقرّرا للبحث تقريرا يزول معه الالتباس، مسندا فروعه النامية إلى أثبت الأصول من الكتاب والسنّة والإجماع والقياس، معتمدا لما عليه جادّة مذهبه في الترجيح، جاريا على ما ذهب إليه جهابذة محقّقيه من التصحيح، مقبلا بطلاقة وجهه في درسه على جماعته، باذلا في استمالتهم طاقة جهده محسنا إليهم جهد طاقته، مربّيا لهم كما يربّي الوالد الولد، موفّيا من حقوقهم في التعليم ما يبقى له ذكره على الأبد، منمّيا ناشئتهم بالتدريب الحسن تنمية الغروس، جاهدا في ترقّيهم بالتدريج حتّى يؤهّل من لم يكن تظنّ فيه أهلية الطلب لأن يتصدّى للفتاوى وإلقاء الدّروس؛

ص: 239

سالكا من مناهج التقوى أحسن المسالك، موردا من تحقيقات مذهبه ما إذا لمحه اللّامح لم يشكّ أنه لزمام المذهب مالك؛ والله تعالى يجريه على ما ألفه من موارد إنعامه، ويمتّع [هذه الرتبة] «1» السنيّة: تارة بمجالس دروسه وتارة بمجالس أحكامه؛ والاعتماد................

وهذه نسخة توقيع بتدريس الحديث بالجامع الحاكميّ «2» ، من إنشاء الشّهاب «محمود الحلبيّ» للشيخ قطب الدين «عبد الكريم» »

وهي:

الحمد لله الذي أطلع في أفق السنّة الشريفة من أعلام علمائها قطبا، وأظهر في مطالعها من أعيان أئمّتها نجوما أضاء بهم الوجود شرقا وغربا، وأقام لحفظها من أئمة أعلامها أعلاما أحسنوا عن سندها دفاعا وأجملوا عن متونها ذبّا، وشرّف بها أهلها فكلّما بعدت راحلتهم في طلبها ازدادوا من الله قربا، واختار لحملها أمناء شغفت محاسنهم قلوب أهل الفرق على اختلافها حبّا، وسلكوا باتباعها سنن السّنن فأمنوا أن تروّع لهم الشّبه سربا، وألهمنا من تعظيم هذه الطائفة ما مهّد لهم في ظل تقرّبنا إليه مقاما كريما ومنزلا رحبا، وعصم آراءنا في الارتياد له من الخلل فلا نختار له إلا من تسرّ باختياره طلبة وتغبط بتعيينه أئمة ونرضي بارتياده ربّا.

ص: 240

نحمده على نعمه التي صانت هذه الرتبة السنيّة بأكفائها، وزانت هذه المرتبة الشريفة بمن لم تمل عينه في تأثيل قواعدها إلى إغفائها، وجعلت هذه الدرجة العليّة فلكا تشرق فيه لأئمّة الحديث أنوار علوم تفنى الدّهور دون إطفائها.

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مجادل عن سنّته الشريفة بألسنة أسنّته، مجالد عن كلمتها العالية بقبض معاقد سيوفه وإطلاق أعنّته، باعث بالجهاد دعوتها إلى كلّ قلب كان عن قبولها في حجب أكنّته، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أوتي جوامع الكلم، ولوامع السّنّة التي من اعتصم بها عصم ومن سلّم بها سلم؛ فهي مع كتاب الله أصل شرعه القويم، وحبل حكمه الذي لا تتمكّن يد الباطل من حلّ عقده النظيم، وكنوز دينه التي لا يلقّاها إلا ذو حظّ عظيم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين عضّوا على سنّته بالنّواجذ، وذبّوا عن شريعته بسيوف الجلاد القواطع وسهام الجدال النوافذ، صلاة لا يزال يقام فرضها، ويملأ بها طول البسيطة وعرضها، وسلّم تسليما كثيرا.

وبعد، فإن أولى ما توجّهت الهمم إلى ارتياد أئمّته، وتوفّرت الدّواعي على التقرّب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفويض مناصبه إلى البررة الكرام من أمّته- علم الحديث النبويّ صلوات الله وسلامه على قائله، وحفظه بدروسه التي جعلت أواخر زمنه في صحّة نقله ومعرفة أسراره كأوائله؛ وأن «1» نختار لذلك من نشأ في طلبه حتّى اكتهل، وسرى في تحصيله سرى الأهلّة حتّى اكتمل، وغذّي بلبان التبحّر فيه حتى امتزج بأديمه، وجدّ في تحصيله واجتهد حتّى ساوى في الطلب بين حديث عمره وقديمه، وحفظ من متونه، ما بمثله يستحقّ أن يدعى حافظا، وغلب على فنونه، حتّى قلّ أن يرى بغير علومه والنظر في أحكامه لافظا؛ فإنّه بعد كتاب الله العزيز مادّة هذا الدّين الذي يحكم بنصوصه، وتتفاوت

ص: 241

رتب العلماء في حسن العمل بمطلقه ومقيّده وعمومه وخصوصه، وعنهما تفرّعت أحكام الملّة فملأت علومها جميع الآفاق، وزكت أحكامها الشرعية على كثرة الإنفاق، وسرى الناس منها على المحجّة التي استوى في الإشراق ليلها ونهارها، وعلا على الملل بالبراهين القاطعة نورها ومنارها؛ وكفى أهلها شرفا أنهم يذبّون عن سنّة نبيهم ذبّ اللّيوث، ويجودون على الأسماع بما ينفع الناس في أمر دينهم ودنياهم منها جود الغيوث، ويحافظون على ألفاظها محافظة من سمعها منه صلى الله عليه وسلم، ويعظّمون مجالس إيرادها ونقلها حتّى كأنهم لحسن الأدب جلوس بين يديه، ويغالون في العلوّ طلبا للقرب منه وذلك من أسنى المطالب، ويرحلون لضمّ شوارده من الآفاق فياقرب المشارق عندهم من المغارب! ولما كان المجلس الساميّ الفلانيّ: هو الذي عني بكلّ ما ذكر من وصف كريم، وحديث ورع قديم، وقدم هجرة في علم الحديث اقتضت له حسن أولويّة ووجوب تقديم، وتلقّى هذا العلم كما وصف عن أئمّته حتّى صار من أعيانهم، ولقي منهم علماء أضحى باقتفائهم كما كانوا رحلة زمانهم، ونظر في علومه فأتقنها فكأنه ينطق فيها بلسان ابن الصّلاح «1» ، وأحرز غايات الكمال، في أسماء الرّجال، فإلى اطّلاعه يرجع في تجريح المجرّح وتعديل الصّحاح؛ وكان منصب تدريس الحديث الشريف النبويّ الذي أنشأناه بالجامع الحاكميّ تكثيرا لنشر أحاديث من لا ينطق عن الهوى، ونويناه لارتواء الرّواة من بحر هذا العلم الشريف بالإعانة على ذلك وإنّما لكلّ امريء ما نوى، قد استغرقت أوقات مباشره بتفويضنا الحكم العزيز على مذهبه إليه، وتوفير زمانه على...... «2»

قلت: وتختلف أحوال التواقيع التي تكتب بالتداريس باختلاف

ص: 242

موضوعاتها: من تدريس التفسير، والحديث، والفقه، واللّغة، والنحو، وغير ذلك، في براعة الاستهلال والوصايا، وهو في الوصايا آكد.

وهذه نسخ وصايا أوردها في التعريف:

وصية مدرّس- وليطلع في محرابه كالبدر وحوله هالة تلك الحلقة «1» ، وقد وقت أهداب ذلك السواد منه أعظم اسودادا من الحدقة، وليرق سجّادته التي هي لبدة جواده إذا استنّ الجدال في المضمار، وليخف [أضواء]«2» أولئك العلماء الذين هم كالنّجوم كما تتضاءل الكواكب في مطالع الأقمار، وليبرز لهم من وراء المحراب كمينه، وليفض على جداولهم الجافّة معينه، وليقذف لهم من جنبات ما بين جنبيه درر ذلك البحر العجّاج، وليرهم من غرر جياده ما يعلم به أنّ سوابقه لا يهولها قطع الفجاج، وليظهر لهم من مكنون علمه ما كان يخفيه الوقار، وليهب من ممنون فضله ما يهب منه عن ظهر غنى أهل الافتقار، وليقرّر تلك البحوث ويبيّن ما يرد عليها، وما يردّ به من منعها وتطرّق بالنقض إليها، حتّى لا تنفصل الجماعة إلا بعد ظهور الترجيح، والإجماع على كلمة واحدة على الصحيح، وليقبل في الدروس طلق الوجه على جماعته، وليستملهم إليه بجهد استطاعته، وليربّهم كما يربّي الوالد الولد، وليستحسن ما تجيء به أفكارهم وإلا فكم رجل بالجبه لبنت فكر وأد؛ هذا إلى أخذهم بالاشتغال، وقدح أذهانهم للاشتغال؛ ولينشّيء الطلبة حتّى ينمّي منهم الغروس، ويؤهّل منهم من كان لا يظنّ منه أنه يتعلّم لأن يعلّم ويلقي الدّروس.

وصية مقريء:

وليدم على ما هو عليه من تلاوة القرآن فإنه مصباح قلبه، وصلاح قربه،

ص: 243

وصباح القبول المؤذن له برضا ربه، وليجعل سوره له أسوارا، وآياته تظهر بين عينيه أنوارا، وليتل القرآن بحروفه وإذا قرأ استعاذ، وليجمع طرقه وهي التي عليها الجمهور ويترك الشّواذّ، ولا يرتدّ دون غاية لإقصار، ولا يقف فبعد أن أتمّ لم يبق بحمد الله إحصار، وليتوسّع في مذاهبه ولا يخرج عن قراءة القرّاء السبعة «1» أئمة الأمصار، وليبذل للطّلبة الرّغاب، وليشبع فإنّ ذوي النّهمة سغاب، ولير الناس ما وهبه الله من الاقتدار فإنه احتضن السّبع «2» ودخل الغاب؛ وليتمّ مباني ما أتم «ابن عامر» و «أبو عمرو» له التعمير، ولفّه «الكسائيّ» في كسائه ولم يقل جدّي «ابن كثير» ؛ وحمّ به «لحمزة» أن يعود ذاهب الزمان، وعلم أنه لا «عاصم» من أمر الله يلجأ معه إليه وهو الطّوفان، وطفق يتفجّر علما وقد وقفت السّيول الدّوافع، وضر أكثر قرّاء الزمان لعدم تفهيمهم وهو «نافع» ؛ وليقبل على ذوي الإقبال على الطّلب، وليأخذهم بالتربية فما منهم إلا من هو إليه قد انتسب؛ وهو يعلم ما منّ الله عليه بحفظ كتابه العزيز من النّعماء، ووصل سببه منه بحبل الله الممتدّ من الأرض إلى السماء؛ فليقدر حقّ هذه النعمة بحسن إقباله على التعليم، والإنصاف إذا سئل فعلم الله ما يتناهى وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ

«3»

ص: 244

وصية محدّث:

وقد أصبح بالسنّة النبويّة مضطلعا، وعلى ما جمعته طرق أهل الحديث مطّلعا؛ وصحّ في الصحيح أنّ حديثه الحسن، وأنّ المرسل منه في الطلب مقطوع عنه كلّ ذي لسن، وأنّ سنده هو المأخوذ عن العوالي، وسماعه هو المرقّص منه طول الليالي، وأنّ مثله لا يوجد في نسبه المعرق، ولا يعرف مثله للحافظين «ابن عبد البرّ» بالمغرب و «خطيب بغداد» بالمشرق؛ وهو يعلم مقدار طلب الطالب فإنه طالما شدّ له النّطاق، وسعى له سعيه وتجشّم المشاقّ، وارتحل له يشتدّ به حرصه والمطايا مرزمة «1» ، وينبّهه له طلبه والجفون مقفلة والعيون مهوّمة، ووقف على الأبواب لا يضجره طول الوقوف حتى يؤذن له في ولوجها، وقعد القرفصاء في المجالس لا تضيق به على قصر فروجها.

فليعامل الطلبة إذا أتوه للفائدة معاملة من جرّب، ولينشّط الأقرباء منهم ويؤنس الغرباء فما هو إلا ممن طلب آونة من قريب وآونة تغرّب، وليسفر لهم صباح قصده عن النّجاح، ولينتق لهم من عقوده الصّحاح، وليوضّح لهم الحديث، وليرح خواطرهم بتقريبه ما كان يسار إليه السّير الحثيث، وليؤتهم مما وسّع الله عليه فيه المجال، ويعلّمهم ما يجب تعليمه من المتون والرجال، ويبصّرهم بمواقع الجرح والتعديل، والتوجيه والتعليل، والصحيح والمعتلّ الذي تتناثر أعضاؤه سقما كالعليل، وغير ذلك مما لرجال هذا الشان به عناية، وما ينقّب فيه عن دراية أو يقنع فيه بمجرّد رواية، ومثله ما يزاد حلما، ولا يعرف بمن رخّص في حديث موضوع أو كتم علما.

وصية نحويّ:

وهو زيد الزّمان، الذي يضرب به المثل، وعمرو الأوان «2» ، وقد كثر من

ص: 245

سيبويه الملل، ومازنيّ الوقت ولكنه الذي لم تستبح منه الإبل، وكسائيّ الدّهر الذي لو تقدّم لما اختار غيره الرشيد للمأمون، وذو السؤدد، لا أبو الأسود، مع أنه ذو السابقة والأجر الممنون؛ وهو ذو البرّ المأثور، والقدر المرفوع ولواؤه المنصوب وذيل فخاره المجرور، والمعروف بما لا ينكر لمثله من الحزم، والذاهب عمله الصالح بكل العوامل التي لم يبق منها لحسوده إلا الجزم؛ وهو ذو الأبنية التي لا يفصح عن مثلها الإعراب، ولا يعرف أفصح منها فيما أخذ عن الأعراب، والذي أصبحت أهدابه فوق عمائم الغمائم تلاث «1» ، ولم يزل طول الدهر يشكر منه أمسه ويومه وغده وإنما الكلمات ثلاث. فليتصدّ للإفادة، وليعلّمهم مثل ما ذكر فيه من علم النحو نحو هذا وزيادة، وليكن للطلبة نجما به يهتدى، وليرفع بتعليمه قدر كل خبر يكون خبرا له وهو المبتدا، وليقدّم منهم كلّ من صلح للتبريز، واستحقّ أن ينصب إماما بالتمييز، وليورد من موارده أعذب النّطاف «2» ، وليجرّ إليه كلّ مضاف إليه ومضاف، وليوقفهم على حقائق الأسماء، ويعرّفهم دقائق البحوث حتّى اشتقاق الاسم هل هو من السّموّ أو من السيماء، وليبيّن لهم الأسماء الأعجميّة المنقولة والعربية الخالصة، وليدلّهم على أحسن الأفعال لا ما يشتبه فيه بصفات كان وأخواتها من الأفعال الناقصة، وليحفّظهم المثل وكلمات الشّعراء، ولينصب نفسه لحدّ أذهان بعضهم ببعض نصب الإغراء، وليعامل جماعة المستفيدين منه بالعطف، ومع هذا كلّه فليرفق بهم فما بلغ أحد علما بقوّة ولا غاية بعسف.

وهذه وصية لغويّ أوردها في التعريف «3»

ص: 246