الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصنف الثالث- أرباب الوظائف الديوانية
وهذه نسخة توقيع بوزارة، من إنشاء بعض بني الأثير «1» ، وهي:
الحمد لله الذي فضّلنا على كثير من عباده، وأغنانا بمزيد عطائه عن ازدياده، وجعلنا ممن استخلفه في الأرض فشكر عواقب إصداره ومباديء إيراده.
نحمده- ولسان أنعمه أفصح مقالا وأفسح مجالا، وإذا اختلفت خواطر الحامدين رويّة كاثرها ارتجالا- ونسأله أن يوفّقنا لتلقّي أوامره ونواهيه بالاتباع، وأن يصغي بقلوبنا إلى إجابة داعي العدل الذي هو خير داع، وينقذنا من تبعات ما استرعاناه يوم يسأل عن رعيّته كلّ راع.
أما بعد، فإن الله قرن استخارته برشده، وجعلها نورا يهتدى به في سلوك جدده «2» ، ويستمدّ من يمن صوابه ما يغني عن الرأي ومدده، ومن شأننا أن نتأدّب بآداب الله في جليل الأمر ودقيقه، وإذا دلّ التوفيق امرءا على عمله دلّ عملنا على توفيقه، فمن عنوان ذلك أنّا اصطفينا لوزارتنا من تحمدنا الأيام من أجله، وتحسدنا الملوك على مثله، ويعلم من أتى في عصره أنه فات السابقين من قبله، وهو الوزير الأجل السيد الصدر الكبير، جلال الدين، شرف الإسلام،
مجتبى الإمام فخر الأنام؛ وليست هذه النعوت مما تزيد مكانه عرفا، ولا تستوفي من أوصافه وصفا، وإن عدّها قوم جلّ ما يدّخرونه من الأحساب، ومعظم ما يخلّفونه من التّراث للأعقاب، ولا يفخر بذلك إلا من أعدم من ثروة شرفه، ورضي من الجوهر بصدفه؛ وأنت فغير فاخر به ولا بما ورثته من مجد أبيك الذي أضحت الأيّام به شهودا، والجدود له جدودا، وغدا وكأنّ عليه من شمس الضّحى نورا ومن الصّباح عمودا، وقد علمت أنه كان إليه نسب المكارم وسيمها، وكان ما بلغه منها أعظم ما بلغه من دنياه على عظمها، لكنّك خلّفت لنفسك مجدا منك ميلاده، وعنك إيجاده، وإذا اقترن سعي الفتى بسعي أبيه فذلك هو الحسب الذي تقابل شرفاه، وتلاقى طرفاه، وغضّ الزمان عنه طرفه كما فتح بمدحه فاه؛ وإذا استطرفت سادة قوم بنيت بالسّؤدد الطريف التّليد، ولقد صدّق الله لهجة المثني عليك إذ يقول: إنّك الرجل الذي تضرب به الأمثال، والمهذّب الذي لا يقال معه: أيّ الرجال «1» ؛ وإذا وازرت مملكة فقد حظيت منك بشدّ أزرها، وسدّ ثغرها، وأصبحت وأنت صدر لقلبها وقلب لصدرها؛ فهي مزدانة منك بالفضل المبين، معانة بالقويّ الأمين، فلا تبيت إلا مستخدما ضميرك في ولائها، ولا تغدو إلا مستجديا كفايتك في تمهيدها وإعلائها.
ومن صفاتك أنك الواحد في عدم النظير، والمعدود بألف في صواب التدبير، والمؤازر عند ذكر الخير على الإعانة وعند نسيانه على التذكير؛ ولم ترق إلى هذه الدرجة حتّى نكحت عقبات المعالي فقضيت أجلها، وآنست من طور السعادة نارا فهديت لها؛ ولم تبلغ من العمر أشدّه، ولا نزع عنك الشباب برده؛ بل أنت في ريعان عمرك المتجمل بريعان سؤدده، المتقمّص من سيما
الخلال ما أبرز وقار المشيب في أسوده. وهذا المنصب الذي أهّلت له، وإن كان ثاني الملك محلّا، وتلوه عقدا وحلّا، فقد علا بك قدره، وتأبّل «1» بك أمره، وأصبح وشخصك في أرجائه منار، ورأيك وفضلك من حوله سور وسوار، وله من قلمك خطيب يجادل عن أحساب الدولة فينفحها فخرا، وسيف يجالد عن حوزتها فيمنحها نصرا، ولقد كان من قبلك وقبل أبيك مكرها على إجابة خاطبه، والنّزول إليه عن مراتبه، فلمّا جئتماه استقرّ في مكانه، ورضي بعلوّ شأنكما لعلوّ شانه؛ وقد علم الآن بأنك نزلته نزول الليث في أجمه، واستقللت به استقلال الرّمح باحدمه «2» ، وما زالت المعالي تسفر بينك وبينه وأنت مشتغل بالسعي للسيادة وآدابها، عن السعي للسّعادة وطلابها، فخذ ما وصلت إليه باستحقاق فضلك ومناقبه، لا باتفاق طالعك وكواكبه.
واعلم أنّ هذه النعمة وإن جاءتك في حفلها، وأناخت بك بصاحبها وأهلها؛ فلا يؤنسها بك إلا الشكر الذي يجعل دارها لك دارا، وودّها مستملكا لك لا معارا، وقد قيل: إنّ الشكر والنعمة توءمان، وإنه لا يتم إلا باجتماع سرّ القلب وحديث اللسان؛ فاجعله معروفها الذي تمسكها بإحسانه، وتقيّدها بأشطانه «3» وقد أفردنا لك من بيت المال ما تستعين به على فرائض خدمك «4» ونوافله، وتردّ فضله على ابتناء مجدك وفضائله، وذلك شيء عائد على الدولة طيب سمعته؛ فلها محمود ذكره ومنك موارد شرعته، وإذا حمدت مناهل الغدر كان الفضل للسحاب الذي أغدرها. والمفرد باسمك من بيت المال كذا وكذا.
وكلّ ما تضمّنه تقليد غيرك من الوصايا التي قرعت له عصاها، ونبذت له حصاها «1» ، فأنت مستغن عن استماعها، مكتف باطّلاع فكرك عن اطّلاعها؛ غير أنّا نسألك كما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا «2» ، ونسأل الله أن يجعل لك من أمرك يسرا ومن عزمك نفاذا، وقد أجابنا لسان حالك بأنك تأخذ بتقوى الله التي ضمن لها العاقبة، وجعل شيعتها الغالبة، وأنك تجعلها بينك وبينه سببا ممدودا، وبينك وبين الناس خلقا معهودا، حتّى تصبح وقد أمنت من دهرك عثارا، ومن أبنائه أسماعا وأبصارا- ومن شرائطها أن يكون الرجل المسلم الذي سلم الناس من يده ولسانه، وفي هذين كفاية عن غيرهما من الشّيم، التي تحفظ بها سياسات الأمم: فإنّ العدل هو الميزان الذي جعله الله ثاني الكتاب، والإحسان الذي هو الطينة التي شاركتها القلوب في جبلّتها مشاركة الأحباب.
وأمّا ما سوى ذلك من سياسة الملك في تقرير أصوله، وتدبير محصوله:
كالبلاد واستعمارها، والأموال واستثمارها، وولاة الأعمال واختبارها، وتجنيد الجنود واختيارها، فكلّ ذلك لا يصدر تدبيره إلا عن نظرك، ولا يمشى فيه إلا على أثرك؛ وأنت فيه الفقيه ابن الفقيه الذي سرى إليك علمه نفسا ودرسا، وثمرة وغرسا؛ فهذا كتاب عهدنا إليك: فخذه بقوّة الأمانة التي أبت السموات والأرض حملها، وما أطاقت ثقلها، والله يسلك بك سددا، ويتحرّى بك رشدا، ويلزمك التوفيق قلبا ولسانا ويدا، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك نسخة توقيع بإعادة النظر بثغر الإسكندرية لابن بصّاصة «1» في شهور سنة ثمان وسبعين وستمائة، وهي:
الحمد لله الذي أضحك الثّغور بعد عبوسها، وردّ لها جمالها وأنار أفقها بطلوع شموسها، وأحيا معالم الخير فيها وقد كادت أن تشرف على دروسها، وأقام لمصالح الأمة من يشرق وجه الحق ببياض آرائه، وتلتذّ الاسماع بتلاوة أوصافه الجميلة وأنبائه، حمد من أسبغت عليه النّعماء، وتهادت إليه الآلاء، وخطبته لنفسها العلياء.
وبعد، فأحقّ من [أماس] في أندية الرّياسة عطفا، واستجلى وجوه السعادة من حجب عزّها فأبدت له جمالا ولطفا. واصطفته الدولة القاهرة لمهمّاتها لمّا رأته خير كافل، وتنقّل في مراتبها السنية تنقّل النّيّرات في المنازل «2» ولما كان المجلس السامي، القاضي، الأجلّ، الصدر، الكبير، الرئيس، الأوحد، الكامل، المجتبى، المرتضى، الفاضل، الرشيد، جمال الدين، فخر الأنام، شرف الأكابر، جمال الصّدور، قدوة الأمناء، ذخر الدولة، رضيّ الملوك والسلاطين، الحسين ابن القاضي زكيّ الدين أبي القاسم- أدام الله رفعته- ممن أشارت إليه المناقب الجليلة، وصارت له إلى كل سؤل نعم الوسيلة- رسم بالأمر العالي، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، العادليّ، البدريّ- ضاعف الله علاءه ونفاذه- أن يفوّض إليه نظر ثغر الإسكندريّة المحروس ونظر متاجره، ونظر زكواته ونظر صادره، ونظر فوّة «3» والمزاحمتين، فيقدّم خيرة الله تعالى
ويباشر هذا المنصب المبارك، بعزماته الماضية، وهممه العالية، برأي لا يساهم فيه ولا يشارك، ليصبح هذا الثغر بمباشرته باسما حاليا، وتعود بهجته له بجميل نظره ثانيا، وينتصب لتدبير أحواله على عادته، ويقرّر قواعده بعالي همّته، ويجتهد في تحصيل أمواله وتحصين ذخائره، واستخراج زكاته وتنمية متاجره، ومعاملة التّجار الواردين إليه بالعدل، الذي كانوا ألفوه منه، والرّفق الذي نقلوا أخباره السارّة عنه؛ فإنهم هدايا البحور، ودوالبة الثّغور، ومن ألسنتهم يطّلع على ما تجنّه الصّدور، وإذا بذر لهم حبّ الإحسان نشروا له أجنحة مراكبهم وحاموا عليه كالطّيور، وليعتمد معهم ما تضمّنته المراسيم الكريمة المستقرّة الحكم إلى آخر وقت، ولا يسلك بهم حالة توجب لهم القلق والتظلّم والمقت، وليواصل بالحمول إلى بيت المال المعمور، وليملأ الخزائن السلطانيّة من مستعملات الثغر وأمتعته وأصنافه بكل ما يستغنى به عن الواصل في البرور والبحور، وليصرف همّته العالية إلى تدبير أحوال المتاجر بهذا الثغر بحيث ترتفع رؤوس أموالها وتنمي، وتجود سحائب فوائدها وتهمي، وليراع أحوال المستخدمين في مباشراتهم، ويكشف عن باطن سيرهم في جهاتهم، ليتحقّقوا أنّه مهيمن عليهم، وناظر بعين الرأفة إليهم، فتنكفّ يد الخائن منهم عن الخيانة، وتتحلّى أنامل الأمين بمحاسن الصّيانة؛ وليتفق فيما يأتيه ويذره، ويقدّمه من المهمّات ويؤخّره، مع المجلس السامي، الأمير، الأجلّ، الكبير، المجاهد، المقدّم، الأوحد، النصير شمس الدين، متولّي الثغر المحروس- أدام الله نعمته- فإنه نعم المعين على تدبير المهمّات، ونعمت الشمس المشرقة في ظلم المشكلات. وليطالع بالمتجدّدات في الثغر المحروس، ليرد الجواب عليه عنها بما يشرح الصدور ويطيّب النفوس، وليتناول من الجامكية «1»