الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كذا: فليباشر هذه الوظيفة السنيّة مفجّرا ينابيع العلوم في أرجائها، محقّقا للفتاوى بتسهيل مواردها وتقريب أوجائها «1» ، موضّحا طرقها بإقامة براهينه وأدلّته، مبديا دقائقها التي يشرق بها أفق الفكر إشراق السماء بنجومها والأفق بأهلّته، مظهرا من غوامضها ما يقرّب على الأفهام مناله، ويفسّح لجياد القرائح مجاله، وينقّح لكل ذي تروّ رويّته ولكل مرتجل بديهته وارتجاله؛ فإنه الكامل الذي قطع إلى بلوغ الغاية مسالك اللّيالي، والإمام الذي غاص فكره من كل بحر لجج المعاني فاستخرج منها مكنون اللّالي؛ مع أن علمه المهذّب غنيّ عن تنبيه الوصايا، مليّ بما يلزم هذه الوظيفة من الخصائص والمزايا؛ فإنّ البحر يأبى إلّا تدفّقا، والبدر إلا تألّقا؛ والله تعالى يزيده من فضله، ويزيّن به أفق العلم ويزيد منّا دنوّا قرب محلّه.
الوظيفة الثالثة (الحسبة)
وقد تقدّم أنّ موضوعها التحدّث على أرباب المعايش والصّنائع، والأخذ على يد الخارج عن طريق الصّلاح في معيشته وصناعته. وحاضرة الديار المصريّة تشتمل على حسبتين:
الأولى- حسبة «2» القاهرة: وهي أعلاهما قدرا، وأفخمهما رتبة، ولصاحبها مجلس بدار العدل مع القضاة الأربعة وقضاة العسكر ومفتي دار العدل وغيرهم؛ وهو يتحدّث في الوجه البحريّ من الديار المصرية في ولاية النّوّاب وعزلهم.
قلت: ولم تزل الحسبة تولّى للمتعمّمين وأرباب الأقلام إلى الدولة المؤيدية شيخ، فولّاها للأمير سيف الدّين منكلي بغا الفقيه أمير حاجب مضافة
إلى الحجوبيّة «1» على أنّ في سجلّات الفاطميّين ما يشهد لها في الزمن المتقدّم. وربما أسندت حسبة القاهرة إلى والي القاهرة، وحسبة مصر إلى والي مصر.
وهذه نسخة توقيع من ذلك، وهي:
الحمد لله مجدّد عوائد الإحسان، ومجري أولياء دولتنا القاهرة، في أيّامنا الزاهرة، على ما ألفوه من الرّتب الحسان، ومضاعف نعمنا على من اجتنى لنا بحسن سيرته الدعاء الصالح من كل لسان.
نحمده على نعمه التي لا تحصى بعدّها، ولا تحصر بحدّها، ولا تستزاد بغير شكر آلاء المنعم وحمدها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نقيمها في كلّ حكم، وتحاول سيوفنا جاحديها فتنهض فتنطق بالحجة عليهم وهم بكم، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أشرف من ائتمر بالعدل والإحسان، وأعدل آمر أمّته بالوزن بالقسط وأن لا يخسروا الميزان، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين احتسبوا في سبيل الله جلّ عتادهم، واحتبسوا أنفسهم في مقاطعة أهل الكفر وجهادهم؛ فلا تنتهب جنائبها في الوجود، وتسري نجائبها في التّهائم والنّجود، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من دعاه إحساننا لرفع قدره، وإنارة بدره، وإعلاء رتبته، وإدناء منزلته، وإعلام مخلص الأولياء بمضاعفة الإحسان إليه أنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وأنّ كرمنا لا يخيّب لمن أسلف سوابق طاعته في أيّامنا الشريفة أملا، من لم تزل خدمه السابقة إلى الله مقرّبة، وعن طرق الهوى منكّبة،
وبالله مذكّرة، وعلى الباقيات الصالحات من الأعمال موفّرة، مع ما أضافه إلى ذلك من أمر بمعروف، وإغاثة ملهوف، ونهي عن منكر، واحتساب في الحق أتى فيه بكلّ ما تحمد خلائقه وتشكر، واجتناب لأعراض الدنيا الدّنيّة، واجتهاد لما يرضي الله ويرضينا من اتّباع سيرتنا السّريّة، وشدّة في الحق حتّى يقال به ويقام، ورفق بالخلق إلا في بدع تنتهك بها حرمة الإسلام، أو غشّ إن لم يخصّ ضرره الخاصّ فإنّ ذلك يعمّ العام.
ولمّا كان فلان هو الذي اختصّ من خدمتنا، بما رفعه لدينا، وأسلف من طاعتنا، ما اقتضى تقريبه منّا واستدعاءه إلينا، ونهض فيما عدقناه به من مصالح الرعايا وكان مشكور المساعي في كل ما عرض من أعماله في ذلك علينا- اقتضى رأينا الشريف أن يفوّض إليه كذا، فليستقرّ في ذلك مجتهدا في كلّ ما يعمّ البرايا نفعه، ويجمل لديهم وقعه، ويمنع من يتعرّض باليسار، إلى ما لهم بغير حقّ، أو يضيّق بالاحتكار، على ضعفائهم ما بسط الله لهم من رزق، ويذبّ عنهم بإقامة الحدود شبه تعطيلها، ويعرّفهم بالمحافظة على الحق في المعاملات قواعد تحريمها وتحليلها، ويريهم بالإنصاف نار القسطاس المستقيم لعلهم يبصرون، ويؤدّب من يجد فيهم من المطفّفين: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ
«1» ويأمر أهل الأسواق بإقامة الجماعات والجمع، ويقابل من تخلّف عن ذلك بالتأديب الذي يردع من أصرّ فيه على المخالفة ويزع، ويلزم ذوي الهيئات بالصّيانة التي تناسب مناصبهم، وتوافق مراتبهم، وتنزّه عن الأدناس مكاسبهم، وتصون عن الشوائب شاهدهم وغائبهم، ولا يمكّن ذوي البيوع أن يغبنوا ضعفاء الرعايا وأغبياءهم، ولا يفسّح لهم أن يرفعوا على الحق أسعارهم ويبخسوا الناس أشياءهم.
وليحمل كلّا منهم على المعاملات الصحيحة، والعقود التي غدت لها الشريعة الشريفة مبيحة، ويجنّبهم العقود الفاسدة، والحيل التي تغرّ بتدليس
السّلع الكاسدة، وهو أخبر بالبيوع المنصوص على فسادها في الشرع الشريف، وأدرى بما في عدم تحريرهم المكاييل والموازين من الإخسار والتطفيف؛ فليفعل ذلك في كل ما يجب، ويحتسب فيه ما يدّخره عند الله ويحتسب؛ ولتكن كلمته في ذلك مبسوطة، ويد تصرّفه في جميع ذلك محيطة وبما يستند إليه من أوامره محوطة، وليوص نوّابه بمثل ذلك، ويوضّح لهم بإنارة طريقته كلّ حال حالك، ويقدّم تقوى الله على كلّ أمر، ويتّبع فيه رضا الله تعالى لا رضا زيد وعمرو؛ والخطّ الشريف أعلاه.
وهذه نسخة توقيع من ذلك بحسبة الفسطاط المعبّر عنه الآن بمصر عودا إليها، وهي:
الحمد لله الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، الشاهد بالعدل الذي تقوى به كلمة الإيمان وتنصر، والغامر بالجود الذي لا يحصى والفضل الذي لا يحصر، العامر ربوع ذوي البيوت بتقديم من انعقدت الخناصر على فضله الذي لا يجحد ولا ينكر.
نحمده على نعمه التي لا تزال ألسنة الأقلام ترقم لها في صحف الإنعام ذكرا، وتجدّد لها بإصابة مواقع الإحسان العامّ شكرا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تصدع بنورها ليل الشرك فيؤول فجرا، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي قمع الله به من اغترّ بالمعاصي وغرّر، وأقام بشريعته لواء الحق الأطهر ومنار العدل الأظهر، وعلى آله وصحبه الذين سلكوا من الهداية بإرشاده منهج الحق الأنور، واحتسبوا نفوسهم في نصرته ففازوا من رضاه بالحظ الأوفى والنصيب الأوفر.
وبعد، فإن الله تعالى لما جعل كلمتنا المبسوطة على العدل والإحسان مقصورة، وأوامرنا الشريفة بإقامة منار المعروف مؤيّدة منصورة، وأحكامنا المشهورة بالإنصاف في صحائف الدّهر بالمحاسن مسطورة، وألهمنا من اتّباع
الشرع الشريف ما غدت به قلوب الرعايا آمنة مسرورة- قصدنا أن نختار لمراتب الدّيانة والعفاف من لم يزل بيته بالصّدارة عليّا، ووصفه بأنواع المحامد والممادح مليّا.
ولما كان فلان هو الذي ورث السّيادة، عن سلف طاهر، وتلقّى السعادة، عن بيت فروعه التقوى فأزرت بالروض الزّاهي الزّاهر، وسرت سرائره بحسن سيرته وسيره، وأبطن من الدّيانة ما أظهرته أدلّة خيره، وتنقّل في المراتب الدّينيّة فأربى في حسن السلوك على غيره، وسلك من الأمانة الطريق المثلى، واعتمد ما عدم به مضاهيا ومثلا، وجنى ما نطق بإنصافه فضل الكيل والميزان، ورجاه من أهل الخير كلّ ذي إحسان وخشيه أهل الزّيغ والبهتان؛ وكانت الحسبة المباركة بمصر المحروسة قد ألفت قضاياه وأحكامه، وعرفت بالخبر معروفه وشكرت نقضه وإبرامه، وفارقها على رغمها منه اختيارا، وعادت له خاطبة عقيلة نزاهته التي لا تجارى.
فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي أن يفوّض إليه كذا. فليقدّم خيرة الله في مباشرة هذه الوظيفة، وليقم منارها بإقامة حدودها الشريفة، ولينظر في الكيل والميزان اللّذين هما لسان الحق الناطق، ولينشر لواء العدل الذي طالما خفقت بنوده في أيامنا حتّى غدا قلب المجرم وهو خافق، وليحسن النظر في المطاعم والمشارب، وليردع أهل البدع ممن هو مستخف باللّيل وسارب؛ وفيه- بمحمد الله تعالى- من حسن الألمعيّة ما يغني عن الإسهاب في الوصايا، ويعين على السّداد في نفاذ الأحكام وفصل القضايا؛ وكيف لا وهو الخبير بما يأتي ويذر، والصّدر الذي لا يعدو الصّواب إن ورد أو صدر؛ والله تعالى يعمر به للعدل معلما، ويكسوه بالإقبال في أيامنا الشريفة ثوبا بالثّواب معلما؛ والخطّ الشريف أعلاه، حجة بمقتضاه.
وهذه وصية محتسب أوردها في «التعريف» وهي:
وقد ولي أمر هذه الرّتبة، ووكل بعينه النظر في مصالح المسلمين لله حسبة؛ فلينظر في الدّقيق والجليل، والكثير والقليل، وما يحصر بالمقادير وما لا يحصر، وما يؤمر فيه بمعروف أو ينهى عن منكر، وما يشترى ويباع، وما يقرّب بتحريره إلى الجنّة ويبعد من النار ولو لم يكن قد بقي بينه وبينها إلا قدر باع أو ذراع؛ وكل ما يعمل من المعايش في نهار أو ليل، وما لا يعرف قدره إلا إذا نطق لسان الميزان أو تكلّم فم الكيل. وليعمل لديه معدّلا لكلّ عمل، وعيارا إذا عرضت عليه المعايير يعرف من جار ومن عدل، وليتفقّد أكثر هذه الأسباب، ويحذّر من الغشّ فإنّ الداء أكثره من الطّعام أو الشّراب، وليتعرّف الأسعار ويستعلم الأخبار، في كل سوق من غير إعلام لأهله ولا إشعار، وليقم عليهم من الأمناء من ينوب عنه في النّظر، ويطمئنّ به وإن غاب إذا حضر، ويأمره بإعلامه بما أعضل، ومراجعته مهما أمكن فإنّ رأي مثله أفضل. ودار الضّرب والنّقود التي منها تنبثّ، وقد يكون فيها من الزّيف ما لا يظهر إلا بعد طول اللّبث؛ فليتصدّ لمهمّاتها بصدره الذي لا يحرج، وليعرض منها على المحكّ من رأيه ما لا يجوز عليه بهرج، وما يعلّق من الذهب المكسور ويروبص «1» من الفضّة ويخرج، وما أكلت النار كلّ لحامه أو بعضه فليقم عليه من جهته الرقباء، وليقم على شمس ذهبه من يرقب منه ما ترقب من الشمس الحرباء، وليقم الضّمّان على العطّارين والطّرقيّة «2» من بيع غرائب العقاقير إلا ممّن لا يستراب فيه وهو معروف، وبخطّ متطبّب ماهر لمريض معيّن في دواء موصوف. والطّرقيّة وأهل النّجامة وسائر الطوائف المنسوبة إلى ساسان، ومن يأخذ أموال الرجال بالحيلة ويأكلهم باللسان، وكل إنسان سوء من هذا القبيل هو في الحقيقة شيطان لا إنسان؛ امنعهم كلّ المنع، واصدعهم مثل الزّجاج حتّى لا ينجبر لهم صدع، وصبّ عليهم النّكال وإلا فما يجدي في تأديبهم ذات التأديب والصّفع، واحسم