الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الشأم أقوال، فمنهم من لا يجعله إلا شاما واحدا [ومنهم من يجعله شامات، فيجعلون بلاد فلسطين والأرض المقدّسة إلى الأردنّ شاما]«1» ويقولون الشام الأعلى؛ ويجعلون دمشق وبلادها من الأردنّ إلى الجبال المعروفة بالطّوال شاما، ويقع على قرية النّبك وما هو على خطها؛ ويجعلون سوريّا: وهي حمص وبلادها إلى رحبة مالك بن طوق شاما، ويجعلون حماة وشيزر من مضافاتها. وثمّ من يجعل منها حماة دون شيزر؛ ويجعلون قنّسرين وبلادها وحلب مما يدخل في هذا إلى جبال الروم وبلاد العواصم والثّغور وهي بلاد سيس شاما. ثم قال: أما عكّا وطرابلس وكل ما هو على ساحل البحر فكلّ ما قابل منه شيئا من الشامات حسب منه. قال: ونبهنا على ذلك كله ليعرف. ثم قال: أما ما هو في زماننا وعليه قانون ديواننا فإنه إذا قال سلطاننا بلاد الشام ونائب الشام لا يريد به إلا دمشق ونائبها.
وسيأتي الكلام على حدود ولايته في الكلام على نيابة دمشق إن شاء الله تعالى.
المقصد الثاني في ذكر قواعده المستقرّة وأعمالها، وهي ستّ قواعد، كلّ قاعدة منها تعدّ مملكة بل كانت كلّ قاعدة منها مملكة مستقلة بسلطان في زمن بني أيوب
القاعدة الأولى دمشق؛ وفيها جملتان
الجملة الأولى في حاضرتها
وهي بكسر الدال المهملة وفتح الميم وسكون الشين المعجمة وقاف في الآخر. وتسمى أيضا جلّق- بجيم مكسورة ولام مشدّدة مفتوحة وقاف في الآخر.
وبذلك ذكرها حسّان بن ثابت رضي الله عنه في مدحه لبني غسّان: ملوك العرب بالشأم بقوله:
لله درّ عصابة نادمتهم
…
يوما بجلّق في الزّمان الأوّل
وحكى في «الروض المعطار» تسميتها جيرون- بفتح الجيم وسكون الياء المثناة تحت وضم الراء المهملة وسكون الواو ونون في الآخر- وسماها في موضع آخر العذراء- بفتح العين المهملة وسكون الذال المعجمة وفتح الراء المهملة وألف بعدها- وموقعها في أواخر الإقليم الثالث من الأقاليم السبعة. قال في «القانون» «1» : وطولها ستون درجة وعرضها ثلاث وثلاثون درجة وثلاثون دقيقة.
وقد اختلف في بانيها: فقيل بناها نوح عليه السلام؛ وذلك أنه لما نزل من السفينة أشرف فرأى تلّ حراف «2» بين نهري حراف وديصاف «3» ، فأتاه فبنى حراف، ثم سار فبنى دمشق، ثم رجع إلى بابل فبناها. وقيل بناها جيرون بن سعد بن عاد، وبه سميت جيرون. ويقال إن جيرون وبريدا كانا أخوين وهما ابنا سعد بن لقمان بن عاد، وبهما يعرف باب جيرون وباب البريد من أبوابها. وقيل بناها العازر: غلام إبراهيم الخليل عليه أفضل الصلاة والسلام، وكان حبشيّا وهبه له نمرود بن كنعان حين خرج إبراهيم من النار، وكان اسمه دمشق فسماها باسمه.
وفي «كتاب فضائل الفرس» لأبي عبيد «4» أن بيوراسب ملك الفرس بناها. وقيل إن الذي بناها ذو القرنين عند فراغه من السدّ ووكّل بعمارتها غلاما له اسمه دمشقش وسكنها دمشقش ومات فيها فسميت به. وهي مدينة عظيمة البناء ذات سور «5» شاهق ولها سبعة «6» أبواب: باب كيسان، وباب شرقيّ، وباب توما،
وباب الصغير، وباب الجابية، وباب الفراديس، والباب المسدود.
وروى الحافظ بن عساكر عن أبي القاسم تمّام بن محمد «1» : أن بانيها جعل كل باب من هذه لكوكب من الكواكب السبعة، وصوّر عليه صورته، فجعل باب كيسان لزحل، وباب شرقيّ للشمس، وباب توما للزّهرة، وباب الصغير للمشتري، وباب الجابية للمرّيخ، وباب الفراديس لعطارد، والباب المسدود للقمر. وعلى كل حال فهي مدينة حسنة الترتيب، جليلة الأبنية، ذات حواجز بنيت من جهاتها الأربع؛ وغوطتها أحد مستنزهات الدنيا العجيبة المفضلة على سائر مستنزهات الأرض، وكذلك الرّبوة وهي كهف في فم واديها الغربيّ، عنده تنقسم مياهها، يقال إن به مهد عيسى عليه السلام. وبها الجوامع والمدارس، والخوانق والرّبط والزوايا والأسواق المرتبة والديار الجليلة المذهبة السّقف المفروشة بالرخام المنوّع، ذات البرك والماء الجاري. وربما جرى الماء في الدار الواحدة في أماكن منها والماء محكّم عليها من جميع نواحيها بإتقان محكم؛ وهي في وطاءة مستوية من الأرض بارزة عن الوادي المنحطّ عن منتهى ذيل الجبل، مكشوفة الجوانب لممر الهواء إلا من الشّمال فإنه محجوب بجبل قاسيون، وبذلك تعاب وتنسب إلى الوخامة. قال في «مسالك الأبصار» : ولولا جبلها الغربيّ «2» الملبّس بالثلوج صيفا وشتاء، لكان أمرها في ذلك أشدّ، وحال سكّانها أشقّ؛ ولكنه درياق «3» ذلك السم، ودواء ذلك الداء. وهي مستديرة به من جميع نواحيه. قال في «مسالك الأبصار» : وغالب بنائها بالحجر ودورها أصغر مقادير من دور مصر لكنها أكثر زخرفة منها وإن كان الرخام بها أقل، وإنما هو أحسن أنواعا. قال:
وعناية أهلها بالمباني كثيرة، ولهم في بساتينهم منها ما تفوق به وتحسن بأوضاعه؛ وإن كانت حلب أجلّ بناء لعنايتهم بالحجر، فدمشق أزين وأكثر رونقا لتحكم الماء على مدينتها وتسليطه على جميع نواحيها، ويستعمل في عماراتها خشب
الحور- بالحاء والراء المهملتين- بدلا من خشب النخل إلا أنه لا يغشّى بالبياض ويكتفى بحسن ظاهره. وأشرف دورها ما قرب، وأجلّ حاضرتها ما هو في جانبيها:
الغربيّ والشّماليّ.
فأما جانبها الغربيّ ففيه قلعتها؛ وهي قلعة حسنة مرجلة على الأرض، تحيط بها وبالمدينة جميعها أسوار عالية، يحيط بها خندق يطوف الماء منه بالقلعة. وإذا دعت الحاجة إليه أطلق على جميع الخندق المحيط بالمدينة فيعمها؛ وتحت القلعة ساحة فسيحة بها سوق الخيل، على جانب واد ينتهي فيه مما يلي القلعة إلى شرفين محيطين به في جهتي القبلة والشّمال، في ذيل كل منهما ميدان ممرّج بالنجيل الأخضر، والوادي يشق بينهما. وفي الميدان القبليّ منهما القصر الأبلق- وهو قصر عظيم مبنيّ من أسفله إلى أعلاه بالحجر الأسود والأصفر بتأليف غريب، وإحكام عجيب؛ بناه الظاهر بيبرس البندقداريّ في سلطنته، وعلى مثاله بنى الناصر محمد بن قلاوون القصر الأبلق بقلعة الجبل بمصر، وأمام هذا القصر دركاه «1» يدخل منها إلى دهليز القصر، وهو دهليز فسيح يشتمل على قاعات ملوكية مفروشة بالرّخام الملون البديع الحسن، مؤزّر بالرخام المفصل بالصّدف والفصّ المذهب إلى سجف السقوف، وبالدار الكبرى به إيوانان متقابلان تطل شبابيك شرقيهما على الميدان الأخضر، وغربيهما على شاطىء واد أخضر يجري فيه نهر، وله رفارف عالية تناغي السّحب، تشرف من جهاتها الأربع على جميع المدينة والغوطة.
والوادي كامل المنافع بالبيوت الملوكية والإصطبلات السلطانية والحمّام وغير ذلك من سائر ما يحتاج إليه؛ وبالدركاه التي أمام القصر المتقدّم ذكرها جسر معقود على جانب الوادي يتوصّل منه إلى إيوان برانيّ يطلّ منه على الميدان القبليّ، استجدّه أقوش الأفرم في نيابته في الأيام الناصرية ابن قلاوون، وتجاه باب القصر
باب يتوصّل من رحبته إلى الميدان الشماليّ؛ وعلى الشرفين المتقدّم ذكرهما أبنية جليلة من بيوت ومناظر ومساجد ومدارس وربط وخوانق وزوايا وحمّامات ممتدة على جانبين ممتدّين طول الوادي.
ولهذه القلعة نائب بمفردها غير نائب بمفردها غير نائب دمشق يحفظها للسلطان ولا يمكّن أحدا من طلوعها من النائب أو غيره. وإذا دخل السلطان دمشق نزل بها. وبها تخت ملك لغيرها من ديار الملك.
وأما جانبها الشّماليّ ويسمّى العقيبة، فهو مدينة مستقلة بذاتها ذات أبنية جليلة وعمائر ضخمة، يسكنها كثير من الأمراء والجند، وبإزاء المدينة في سفح جبل قاسيون مدينة (الصالحية) : وهي مدينة ممتدّة في سفح الجبل بإزاء المدينة في طول مدى يشرف على دمشق وغوطتها، ذات بيوت «1» ومدارس وربط وأسواق وبيوت جليلة، وبأعاليها مع ذيل الجبل مقابر دمشق العامّة، ولكل من دمشق والصالحية البساتين الأنيقة بتسلسل جداولها وتغنّي دوحاتها، وبتمايل أغصانها وتغرّد أطيارها، وفي بساتين النّزهة بها العمائر الضّخمة، والجواسق «2» العليّة، والبرك العميقة، والبحيرات الممتدّة، تتقابل بها الأواوين والمجالس، وتحفّ بها الغراس والنصوب المطرّزة بالسّر والملتفّ، والحور الممشوق القدّ والرياحين المتأرجة الطيب، والفواكه الجنيّة، والثمرات الشّهيّة، والأشياء البديعة، التي تغني شهرتها عن الوصف، ويقوم الإيجاز فيها مقام الإطناب.
ومسقى دمشق وبساتينها من نهر يسمّى بردى- بفتح الباء الموحدة والراء والدال المهملتين وبآخره ألف. أصل مخرجه من عينين: البعيدة منهما دون قرية تسمّى الزّبدانيّ، ودونها عين بقرية تسمّى الفيجة، بذيل جبل يخرج الماء من صدع في نهاية سفله قد عقد على مخرج الماء منه عقد روميّ البناء، ثم ترفده منابع في مجرى النهر؛ ثم يقسم النهر على سبعة أنهر: أربعة غربية: وهي نهر داريّا،
ونهر المزّة، ونهر القنوات، ونهر باناس. واثنان شرقية وهما نهر يزيد، ونهر ثورا؛ ونهر بردى ممتدّ بينهما.
فأما نهر باناس ونهر القنوات، فهما نهرا المدينة حاكمان عليها ومسلّطان على ديارها، يدخل نهر باناس القلعة، ثم ينقسم قسمين: قسم للجامع وقسم للقلعة، ثم ينقسم كلّ قسم منهما على أقسام كثيرة ويتفرّق في المدينة بأصابع مقدّرة معلومة، وكذلك ينقسم نهر القنوات في المدينة، ولا مدخل له في القلعة ولا الجامع، ويجري في قنيّ مدفونة في الأرض إلى أن يصل إلى مستحقاتها بالدور والأماكن على حسب التقسيم، ثم تنصبّ فضلات الماء والبرك ومجاري الميضآت «1» إلى قنيّ معقودة تحت الأرض، ثم تجتمع وتتنهّر «2» وتخرج إلى ظاهر المدينة لسقي البساتين.
وأما نهر يزيد، فإنه يجري في ذيل الصالحية المتقدّم ذكرها ويشقّ في بعض عمارتها.
وأما بقية الأنهار، فإنها تتصرف إلى البساتين والغيطان لسقيها، وعليها القصور والبنيان خصوصا ثورا فإنه نيل دمشق، عليه جلّ مبانيها وبه أكثر تنزهات أهلها، من يخاله يراه زمرّدة خضراء، لالتفاف الأشجار عليه من الجانبين «3» .
وبها (جامع بني أميّة) وهو جامع عظيم، بناه الوليد بن عبد الملك بن مروان في سنة ثمان وثمانين من الهجرة، وأنفق فيه أموالا جمّة حتّى يقال إنه أنفق فيه أربعمائة صندوق في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار، وإنه اجتمع في ترخيمه اثنا عشر ألف مرخّم. قال في «الروض المعطار» : وذرعه في الطول من المشرق إلى المغرب مائتا خطوة وهي ثلاثمائة ذراع، وعرضه من القبلة إلى الشمال مائة خطوة وخمس وثلاثون خطوة وهي مائتا ذراع، وقد زخرف بأنواع الزّخرفة من