الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السيّن، ولا الضاد، ولا الذّال، بتقديم ولا بتأخير. وهذا باب كبير. وقد يكتفى بذكر القليل حتى يستدلّ به على الغاية التي إليها يجرى».
ب- الغرابة:
اللفظ الغريب: هو الذي مات استعماله، وغدا من الحوشي الذي يحتاج في التعرف إلى دلالته إلى المعجمات.
والحكم في قضية الغرابة الأدباء والشعراء لا العامة، وإلا صار مجمل اللغة غريبا غير فصيح. قال أبو الطيب (الكامل) (1):
جفخت وهم لا يجفخون بها بهم
…
شيم على الحسب الأغرّ دلائل
فالفعل جفخ يعني قاموسيا تكبّر وفخر وقد لجأ إليه المتنبي ليتحدّى أعداءه في البلاط. وإذا كان النقاد قد ذهبوا إلى أن اللجوء إلى الغريب عجز في صاحبه فمن السهل على المتنبي إحلال (فخرت) مكان (جفخت) و (يفخرون)
محل (يجفخون) ليبتعد عن الغريب. ولهذا فإن الضرورة أو العجز لم يلجئاه إلى الغريب، ولكن الرغبة في التمايز والانفراد هي التي دفعته إلى اختيار اللفظ الغريب. ولعل البيت مصاب بعيب آخر غير الغرابة. ألا يصح اتهام اللفظ نفسه (جفخت) بتنافر الحروف؟ ألا يتهم البيت أيضا بالتعقيد اللفظي المتمثل في تكرار الضمائر الموقع في صعوبة ردها إلى أصحابها (بها، بهم). هذا التعقيد اللفظي أوقع في تعقيد معنوي حتى صار البيت بحاجة إلى شحذ الحس اللغوي، وإعادة صياغته لنظم البيت وصولا إلى المعنى. والنظم المعنوي للبيت هو: جفخت بهم شيم على الحسب الأغرّ دلائل، وهم لا يجفخون بها.
(1). ديوان المتنبي، شرح العكبري، 3/ 258.
إن الكلام على غرابة اللفظ حمل النقاد على الحديث عن التفاضل بين لفظ وآخر. ورأى الجرجاني أن الكلمتين المفردتين لا تتفاضلان (1)«من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه، من التأليف والنظم، بأكثر من أن تكون هذه مألوفة مستعملة، وتلك غريبة وحشيّة، أو أن تكون حروف هذه أخف، وامتزاجها أحسن» .
وإذا كان الجرجاني قد فضل الكلمة المألوفة على الغريبة الوحشية، والخفيفة على اللسان على الثقيلة عليه، فإنه في الواقع قد أهمل الدوافع النفسية التي تحمل الشاعر على تفضيل الغريب مع قدرته على استخدام المألوف كتلك التي حملت المتنبي على تفضيل (جفخت) على (فخرت).
ولعل الجرجاني قد أدرك الخلل في نظرته هذه إلى التفاضل فقال: «فقد اتضح إذن اتضاحا لا يدع للشك مجالا أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلمة مفردة، وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ» .
وهكذا يرى الجرجاني أن الفصاحة والبلاغة ليستا في اللفظ المفرد إلا إذا انتظم في سياق. وهو محقّ في ذلك لأن الكلمة بمفردها مشروع معنى يحدّده ويقيّده السياق. وإذا كان الجرجاني قد ذهب إلى أن (2)«الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر» فإنني أذهب إلى أن (جفخت) فصيحة في سياقها على الرغم من تنافر حروفها وحوشيتها؛ لأنها رصفت في سياق لا يليق به غيرها.
(1). دلائل الإعجاز، الجرجاني، ص 36.
(2)
. دلائل الإعجاز، الجرجاني، ص 38.