الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين الفصاحة والبلاغة
ألفاظ الأديب التي يستخدمها في فنّه هي نفسها تلك الألفاظ التي يستخدمها جميع الناس في كلامهم، ويتحدثون بها ويكتبون، لكنه يستطيع بهذه الأداة المألوفة حين يحسن التوفيق بين حروفها، وتركيب ألفاظها، واختيار الأصلح منها أن ينطق بالسحر الحلال، الذي تقبله النفس، وينشرح له الصدر، ويمكنه بهذا أن يخرج فنا يفوق جميع الفنون، ويسمو عليها.
وإذا صدر الكلام من المتحدث على تلك الصورة وصفه النقاد والبلاغيون بالفصاحة والبلاغة، وقد شاع استعمالهما في كتب النقد والبلاغة، وعرفهما العرب صنوين تستعملان معا، أو تستعمل الواحدة مكان الأخرى (1).
وكان النقاد والبلاغيون الأوائل لا يفرقون بينهما. فالجاحظ في كتابه «البيان والتبيين» يجعل الفصاحة والبلاغة والبيان مترادفات تدل على معنى واحد. أما أبو هلال العسكري فقد أورد فيهما رأيين:
والثاني يقول فيه: إن الفصاحة مقصورة على اللفظ، والبلاغة مقصورة على المعنى: «ومن الدليل على أن الفصاحة تتضمن اللفظ، والبلاغة تتضمن المعنى، أن الببغاء يسمّى فصيحا ولا يسمى بليغا إذ هو مقيم الحروف وليس له قصد إلى المعنى الذي يؤديه، وقد يجوز مع
(1). المعاني في ضوء أساليب القرآن، د. عبد الفتاح لاشين، ص 59.
(2)
. كتاب الصناعتين، العسكري ص 13.
هذا أن يسمى الكلام الواحد فصيحا بليغا إذا كان واضح المعنى، سهل اللفظ، جيد السبك، غير مستكره فجّ، ولا متكلف وخم، ولا يمنعه من أحد الاسمين شيء فيه من إيضاح المعنى وتقويم الحروف» (1).
أما صاحب الصّحاح فقد قال: البلاغة هي الفصاحة (2). وابن سنان قال عنهما: «إن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ، والبلاغة لا تكون إلا وصفا للألفاظ مع المعاني، لا يقال في كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضل عن
مثلها بليغة وإن قيل فيها فصيحة، وكل كلام بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغا» (3).
وقال عنهما ابن الأثير: «وسمي الكلام بليغا لأنه بلغ الأوصاف اللفظية والمعنوية، والبلاغة شاملة للألفاظ والمعاني، وهي أخص من الفصاحة، كالإنسان والحيوان، فكل إنسان حيوان وليس كل حيوان إنسان وكذلك يقال: كل كلام بليغ فصيح، وليس كل كلام فصيح بليغا» (4).
أما الخطيب القزويني فهو آخر من وقف عند البلاغة من المتأخرين، فجمع بحوث العلماء الذين سبقوه، ورتب بحث الألفاظ ترتيبا علميا فجعل البحث عن معنى «الفصاحة» مقدمة لعلوم البلاغة، وأصبح للفصاحة مضمونها وجعلها صفة للكلمة المفردة، والكلام والمتكلم، فقال:
«للناس في تفسير الفصاحة والبلاغة أقوال مختلفة، لم أجد- فيما بلغني منها- ما يصلح لتعريفها به، ولا ما يشير إلى الفرق بين كون الموصوف بهما الكلام وكون الموصوف بهما المتكلم؛ فالأولى أن نقتصر على تلخيص القول فيهما بالاعتبارين، فنقول:
(1). المصدر نفسه، ص 14.
(2)
. الصحاح مادة «بلغ» .
(3)
. سرّ الفصاحة، ابن سنان، ص 49.
(4)
. المثل السائر، ابن الأثير 1/ 118.
كل واحدة منهما تقع صفة لمعنيين:
احدهما: الكلام، كما في قولك «قصيدة فصيحة، أو بليغة» و «رسالة فصيحة، أو بليغة» .
والثاني: المتكلم، كما في قولك «شاعر فصيح، أو بليغ» «وكاتب فصيح أو بليغ» .
والفصاحة خاصة تقع صفة للمفرد؛ فيقال: «كلمة فصيحة» ولا يقال: «كلمة بليغة» (1).
وعلى هذا فالبلاغة كل والفصاحة جزؤه، وعليه أيضا:
الفصاحة من صفات المفرد كما هي من صفات المركب، وهذا الرأي هو الذي استقرّت عليه بحوث البلاغة أخيرا (2).
(1). الإيضاح، الخطيب القزويني ص 72.
(2)
. المعاني في ضوء أساليب القرآن د. عبد الفتاح لاشين، ص 64.