المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المراد بأهل البيت - فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - سيرتها، فضائلها، مسندها - رضي الله عنها - - جـ ٤

[إبراهيم بن عبد الله المديهش]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثاني: الأحاديث الواردة في فضائلها، وفيه خمسة فصول:

- ‌الفصل الأول: منزلتها عند أبيها صلى الله عليه وسلم وفيه سبعة مباحث:

- ‌المبحث الأول:محبة النبي صلى الله عليه وسلم لها، واحتفاؤه بها

- ‌معنى قول الإمام البخاري في الرجل: (فيه نظر):

- ‌ محبة النبي صلى الله عليه وسلم لها

- ‌ هل فاطمة أفضل بنات النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الأحاديثُ الدالَّةُ على اختصاصِ فاطمةَ بشئٍ من المحبَّةِ والاحتفاءِ والفضلِ إنما وردَتْ بعدَ وفاةِ أخواتِها، وتفرُّدِها عنهم، وذلك بعد…(شعبان 9 هـ)

- ‌ أحاديث موضوعة تدل على عظم محبة النبي صلى الله عليه وسلم وعنايته بفاطمة رضي الله عنها، مع تضمن بعضها قدحاً في مقام النبيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌آلُ البيت لهم من الفضائل الصحيحة ما يغنيهم عن هذه الأكاذيب المشينة

- ‌المبحث الثاني:زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لها في بيتها رضي الله عنها

- ‌مكان بيت فاطمة رضي الله عنها

- ‌المبحث الثالث:غيرة النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وأنها بضعة منه

- ‌ متى كانت الخِطْبَة من علي، والخُطبَة من النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ إشكال في قول المِسْوَر بن مَخْرَمَة رضي الله عنه: «وأنا يومئذ محتلم»، ومنه يُعلم وقت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌هل قوله: «فاطمة بضعة مني» في وقت حياة بعض أخواتها كزينب، وأم كلثوم رضي الله عنهن

- ‌ لماذا بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر في خُطبَة؟ وواجه عليَّاً بما يُعاب به

- ‌المبحث الرابع:دخولها وزوجها وذريتها في آل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ المراد بأهل البيت

- ‌المبحث الخامس:أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سِلْم لمَن سالمَها وزوجَها…وولدَيْها، وحَربٌ لمَن حارَبَهُم

- ‌الحديثُ تقلَّب بأيدي الشيعة الغلاة منهم ومَن دونهم، فذهب على أوجه شتَّى، لا يذهب مع طريق إلا ومعه وَهَنُه الشديد

- ‌المبحث السادس:اختياره صلى الله عليه وسلم لها الدار الآخرة

- ‌المبحث السابع:حثُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فاطمةَ على حُبِّ عائشةَ رضي الله عنهما

- ‌ العلاقة بين فاطمة، وعائشة رضي الله عنهما علاقة حميمية

- ‌الفصل الثاني: منزلة أبيها صلى الله عليه وسلم عندهاوفيه مبحثان:

- ‌المبحث الأول:برها بأبيها صلى الله عليه وسلم

- ‌نصرتها لأبيها صلى الله عليه وسلم

- ‌إطعامها والدها صلى الله عليه وسلم

- ‌معالجتها إياه صلى الله عليه وسلم

- ‌حزنها في مرض أبيها ووفاته صلى الله عليه وسلم

- ‌برها بوالدتها خديجة رضي الله عنهما

- ‌ يُلحظ أن لفاطمةَ رضي الله عنها حضوراً في أسفار والدها صلى الله عليه وسلم ومشاهده

- ‌المبحث الثاني:حفظها لسِرِّ أبيها صلى الله عليه وسلم

- ‌ يجوز إظهار السِّرِّ إذا انتهى وقتُه، بإظهارِ اللَّهِ له، أو أظهرَهُ صاحبُه الذي أسرَّ بِهِ

- ‌الفصل الثالث: منزلتها عند الشيخين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهم.وفيه مبحثان:

- ‌المبحث الأول:محبة أبي بكر ورعايته لها رضي الله عنهما

- ‌(مراسيل الشعبي)

- ‌ طعن الرافضة في أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه

- ‌المسألة الأولى: المحبة بين الصحابة وآل البيت

- ‌ حصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من بعض قريش جفوة على بني هاشم، بسبب الغَيرة

- ‌ومن الأمارات الكبيرة الظاهرة في تلك العلاقة الطيبة المتينة:

- ‌المسألة الثانية: طلبُ فاطمة الميراث، وغضبُها على أبي بكر، ولمَ غضبت بعد علمها بالحديث

- ‌وكان لفاطمة رضي الله عنها من أبي بكر رضي الله عنه طلبان اثنان:

- ‌ حديث لا نورث، مروي أيضاً في كتب الرافضة

- ‌المسألة الثالثة: هل وقع أبو بكر في أذية فاطمة وإغضابها، مما يُغضِبُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم؟ولِمَ امتنع من إجابتها؟وبيان تأكيد آل البيت والصحابة حُكَمَ أبي بكر رضي الله عنهم

- ‌المسألة الرابعة: خُطبة فاطمة على ملأئٍ من الصحابة

- ‌المسألة الخامسة: إكرامُ أبي بكر فاطمة، وإحسانُه لها، وإعطاؤها المال الوفير

- ‌ تأثر متأخري الزيدية بالرافضة

- ‌المسألة السادسة: هل كشف أبو بكر بيت فاطمة رضي الله عنهما

- ‌ لم أجد أحداً ذكره كما ذكرَته الرافضة:لم أكبس بيت فاطمة

- ‌المسألة السابعة: صحة الجملة الواردة في الحديث المخرَّج في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: «فهجرَتْه حتى ماتت»، وإجابةٌ على شُبهَة مَن أنكرها

- ‌ مراسيل الزهري

- ‌ تعريف الهجر لغة وشرعاً:

- ‌خلاصة ما قيل في هجر فاطمة رضي الله عنها

- ‌المسألة التاسعة:هل ترضَّى أبو بكر فاطمةَ قبل وفاتها رضي الله عنهما

- ‌المسألة العاشرة:لماذا لم يخبر عليٌّ أبا بكر بوفاة فاطمة، ليصلِّي عليها

- ‌المسألة الحادية عشرة: ما قيل في بيعة علي وآل هاشم أبا بكر ــ اختصاراً ــ مما يستفاد منه في علاقة فاطمة بأبي بكر رضي الله عنهم

- ‌المسألة الثانية عشرة:موقف فاطمة رضي الله عنها من بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌ لم تشارك في الحياة السياسية، ولم تحضر المجالس الشورية مع الرجال في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين المهديين، بل وبعدهم أيضاً فترة طويلة

- ‌من شروط أهل الحل والعقد: الذكورية، وليس للنساء…مدخل فيه

- ‌ما يُلقَى مُشَافَهَةً جواباً لسؤال عابر، يختلِفُ عما يُكتب تحريراً، بل يختَلِفُ عما يُشرَحُ في متن عِلمِيٍّ يجمَعُ أطرافَ ما يُلقِيه الشارِحُ

- ‌لم يَرِدْ في موروث أهلِ السنة والجماعة حديثاً وعقيدةً وتاريخاً شئٌ عن مبايعة فاطمة أبا بكر رضي الله عنهما، وموقفها من البيعة

الفصل: ‌ المراد بأهل البيت

الدراسة الموضوعية:

لا خلاف عند أهل العلم بأن أولاد النبي صلى الله عليه وسلم وأسباطه: أولاد: فاطمة، وزينب، رضي الله عنهم من آل بيتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، بل من أخصهم.

وقد بوَّب ابن حبان في «صحيحه» (15/ 432) على حديث واثلة رضي الله عنه بقوله: (ذكر الخبر المصرِّح بأن هؤلاء الأربع الذي تقدم ذكرنا لهم أهل بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم).

وسبق في «التمهيد» : المبحث الثالث، بيان معنى آل البيت.

والمراد هنا في هذا المبحث تحديد معنى أهل البيت المذكورين في آية التطهير:

قال ابن الجوزي رحمه الله: (وفي‌

‌ المراد بأهل البيت

ها هنا ثلاثة أقوال:

أحدها: أنهم نساءُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، لأنهنَّ في بيته، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال: عكرمة، وابن السائب، ومقاتل.

ويؤكِّد هذا القولَ أن ما قبله وبعده متعلِّق بأزواج رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وعلى أرباب هذا القول اعتراض، وهو: أن جمع المؤنَّث بالنون، فكيف قيل:«عنكم» «ويطهركم» ؟ فالجواب: أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فيهنَّ، فغلَّبَ المذكَّر.

ص: 217

والثاني: أنه خاصٌّ في رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وعليِّ وفاطمة والحسن والحسين رضوان اللَّه عليهم، قاله: أبو سعيد الخدري.

وروي عن أنس وعائشة وأمِّ سلمة نحو ذلك.

والثالث: أنهم أهلُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأزواجه، قاله: الضحاك.

وحكى الزجَّاج

(1)

أنهم نساءُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم والرجال الذين هم آله قال: واللغة تدل على أنها للنساء والرجال جميعاً، لقوله تعالى:«عَنْكُمُ» بالميم، ولو كانت للنساء، لم يجُزْ إِلَاّ «عنكنَّ» «ويُطهِّرَكُنَّ» ). ا. هـ

(2)

(1)

انظر: «معاني القرآن» للزجاج (4/ 226).

(2)

«زاد المسير» لابن الجوزي (3/ 462 ـ 463).

وانظر في الآية: «تفسير الطبري» (19/ 101 ـ 108)، «معاني القرآن» للزجاج

(4/ 226)، «مشكل الآثار» للطحاوي (2/ 245)، «الشريعة» للآجري

(5/ 2205)، «البسيط» للواحدي (18/ 239)، «تفسير الثعلبي» (8/ 42)،

«السنن الكبرى» للبيهقي (2/ 150)، «الجامع في أحكام القرآن» للقرطبي

(14/ 182)، «تفسير ابن كثير» (6/ 415 ـ 416)، «روح المعاني» للآلوسي

(22/ 12)، «أضواء البيان» للشنقيطي ـ ط. المجمع ـ (6/ 635 ـ 638) ـ مهم ـ،

«تفسير سورة الأحزاب» لابن عثيمين (ص 235).

وانظر ما سيأتي في كلام ابن تيمية من «منهاج السنة» .

ص: 218

والصواب الأول، لأن سياق الآيات في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما ورد في بعض روايات حديث أم سلمة رضي الله عنها أن في بيتي نزلت الآية، وفي بعضها: أنه صلى الله عليه وسلم قرأها لما جلَّلهم بالكساء، وبينهما فرق، فالقراءة لا تدل على نزولها ذلك الوقت، ولو صحت رواية: نزلت، فالمراد أن الأربعة داخلون في الآية، لا أن ذلك الحدث كان سبباً لنزولها، قال ابن تيمية رحمه الله: (والآية التي لها سبب معيَّن: إن كانت أمراً أو نهياً، فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته، وإن كانت خبراً بمدح أو ذم، فهي متناولة لذلك الشخص وغيره ممن كان بمنزلته .... إلى أن قال: وقولهم:

«نزلت هذه الآية في كذا» يراد به تارةً أن ذلك داخل في الآية، وإن لم يكن السبب، كما تقول: عنى بهذه الآية كذا).

(1)

قال الشيخ: محمد العثيمين رحمه الله: بعد أن ذكر أن المراد في الآية زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تساءل هل ينافي ذلك ما ورد في حديث الكساء، وأنه وضعه على أربعة: علي وفاطمة، والحسن، والحسين، وقال: هؤلاء أهل البيت

؟

فأجاب بقوله: (لا ينافيه؛ لأنَّ هؤلاء أهلُ البيتِ من حيث القرابة،

(1)

«مقدمة في أصول التفسير» لابن تيمية ـ المطبوعة بشرح الشيخ: محمد العثيمين

(ص 47)، وشرح د. مساعد الطيار (ص 29، و 129) ـ مهم ـ، والمقدمة موجودة في

«مجموع فتاوى شيخ الإسلام» (13/ 339).

ص: 219

وهؤلاء أهل البيت من حيث الزوجية، فكلُّهم أهل البيت بلا شَكٍّ، لا أهل علي رضي الله عنه

(1)

، بل إن أهل البيت أعم من هؤلاء الأربعة؛ لأنَّ أهل البيت تشمل كل من تحرم عليهم الصدقة من بني هاشم، فدخل فيهم: آل علي، وآل جعفر، وآل العباس، وآل الحارث بن عبدالمطلب، وكلُّ من كان من ذرية هاشم، فالرسولُ صلى الله عليه وسلم محمد بن عبداللَّه بن عبدالمطلب بن هاشم، فكل مَن كان من آل هاشم، فإنه من آل البيت لا تحلُّ له الصدقة).

(2)

شبهة وجوابها:

حديث الكساء ـ وفيه آية التطهير ـ خاصةً ما ورد مفصَّلاً في حديث أم سلمة رضي الله عنها برواياته المتعددة، محلُّ اهتمام من لدن الرافضة، يعيدونه ويُكررونه؛ محتجين به على شُبَهٍ باطلةٍ، كدعوى عصمتهم، وأحقية عليٍّ في الخلافة دون أبي بكر رضي الله عنهما، وغيرها من المسائل، لذا أسوق نقض شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، على شبههم المتعلِّقة بأحاديث المبحث، وهو مع طوله في غاية النفاسة، وفيه فوائد عظيمة لهذه المسألة المهمة:

قال ابن تيمية رحمه الله: (وأما آية الطهارة، فليس فيها إخبار بطهارة أهل البيت وذهاب الرجس عنهم، وإنما فيها الأمر لهم بما يوجب طهارتهم

(1)

لعله سقطت كلمة: (فحسب) أو (فقط).

(2)

«تفسير سورة الأحزاب» لابن عثيمين (ص 236).

ص: 220

وذهاب الرجس عنهم، فإن قوله:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب، آية 33)، كقوله تعالى:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (سورة المائدة، آية 6) وقوله:

{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)}

(سورة النساء، 26 ـ 28).

فالإرادة هنا متضمنة للأمر والمحبة والرضا، وليست هي المشيئة المستلزمة لوقوع المراد، فإنه لو كان كذلك لكان قد طهَّرَ كُلَّ مَنْ أراد اللَّه طهارته، وهذا على قول هؤلاء القدَرَيَّة الشيعة أوجه، فإن عندهم أنَّ اللَّهَ يريد ما لا يكون، ويكون ما لا يريد.

فقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب، آية 33) إذا كان هذا بفعل المأمور وترك المحظور، كان ذلك متعلقاً بإرادتهم وأفعالهم، فإن فعلوا ما أُمِرُوا به؛ طُهِّرُوا، وإلا فلا.

وهم يقولون: إنَّ اللَّه لا يخلق أفعالهم، ولا يقدر على تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم، وأما المثبتون للقدر فيقولون: إن اللَّه قادر على ذلك، فإذا ألهمهم فعل ما أمَر، وتركَ ما حَظَر؛ حصلت الطهارة وذهاب الرجس.

ص: 221

ومما يبين أنَّ هذا مما أُمِروا به، لا مما أُخبِرُوا بوقوعه، ما ثبت في

«الصحيح» : أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أدار الكساء على علي وفاطمة وحسن وحسين، ثم قال:«اللَّهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» .

وهذا الحديث رواه مسلم في «صحيحه» عن عائشة، ورواه «أهل السُّنَن» عن أم سلمة.

وهو يدل على ضِدِّ قول الرافضة من وجهين:

أحدهما: أنه دعا لهم بذلك، وهذا دليل على أن الآية لم تخبر بوقوع ذلك، فإنه لو كان قد وقع؛ لكان يثني على اللَّه بوقوعه ويشكره على ذلك، لا يقتصر على مجرد الدعاء به.

الثاني: أن هذا يدلُّ على أنَّ اللَّهَ قادِرٌ على إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم، وذلك يدل على أنه خالق أفعال العباد.

ومما يبين أن الآية متضمنة للأمر والنهي قوله في سياق الكلام:

{

يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ

ص: 222

وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)} (سورة الأحزاب، آية 30 ـ 34).

وهذا السياق يدل على أن ذلك أمرٌ ونَهْيٌ، ويدل على أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته، فإن السياق إنما هو في مخاطبتِهن، ويدل على أن قوله: {

لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} (سورة الأحزاب، آية 33 (عَمَّ غيرَ أزواجه، كعلي وفاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم، لأنه ذكره بصيغة التذكير لما اجتمع المذكر والمؤنث، وهؤلاء خُصُّوا بكونهم من أهل البيت من أزواجه، فلهذا خصَّهُم بالدعاء لما أدخلهم في الكساء، كما أنَّ مسجد قُباء أُسِّسَ على التقوى، ومسجدَه صلى الله عليه وسلم أيضاً أُسِّسَ على التقوى، وهو أكمل في ذلك، فلما نزلَ قولُه تعالى: {

لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (سورة التوبة، آية 108) بسبب مسجد قباء، تناول اللفظ لمسجدِ قباء ولمسجدِه صلى الله عليه وسلم بطريق الأَولى.

وقد تنازع العلماء: هل أزواجه مِن آلِه؟

على قولين، هما روايتان عن أحمد، أصحُّهما أنهنَّ من آله وأهل بيته، كما

ص: 223

دلَّ على ذلك ما في «الصحيحين» من قوله: «اللَّهم صَلِّ على محمدٍ، وعلى أزواجه، وذريته» . وهذا مبسوط في موضع آخر).

(1)

وقال ابن تيمية ـ أيضاً ـ رحمه الله: (وأما آية الابتهال ففي «الصحيح» أنها لما نزلت أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي وفاطمة وحسن وحسين ليباهل بهم، لكن خصَّهُم بذلك؛ لأنهم كانوا أقرب إليه من غيرهم، فإنه لم يكن ولد ذكر إذ ذاك يمشي معه.

ولكن كان يقول عن الحسن: «إنَّ ابني هذا سيِّد» . فهما ابناه ونساؤه، إذْ لم يكن قد بَقِيَ له بنت إلا فاطمة رضي الله عنها، فإن المباهلة كانت لما قدم وفد نجران، وهم نصارى، وذلك كان بعد فتح مكة، بل كان سنة تسع، وفيها نزل صدر آل عمران، وفيها فرض الحج، وهي سنة الوفود. فإن مكة لما فتحت سنة ثمان قدمت وفود العرب من كل ناحية، فهذه الآية تدل على كمال اتصالهم برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما دلَّ على ذلك حديث الكساء، ولكن هذا لا يقتضي أن يكون الواحدُ منهم أفضلَ من سائر المؤمنين، ولا أعلمَ منهم؛ لأنَّ الفضيلة بكمال الإيمان والتقوى، لا بِقُرْبِ النَّسَبِ.

كما قال تعالى:

{

إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (سورة الحجرات، آية 13). وقد ثبت أن الصِّدِّيق كان أتقى الأمة بالكتاب والسنة، وتواتر عن

(1)

«منهاج السنة النبوية» لابن تيمية (4/ 21 ـ 24).

ص: 224

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو كنتُ متَّخِذَاً من أهل الأرض خليلاً، لاتَّخذْتُ أبا بكر خَلِيلاً» . وهذا مبسوط في موضعه).

(1)

وقال ابن تيمية ـ أيضاً ـ رحمه الله: (وأما حديث الكساء فهو صحيح، رواه أحمد والترمذي من حديث أم سلمة، ورواه مسلم في «صحيحه» من حديث عائشة. قالت: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب، آية 33).

وهذا الحديث قد شَرَكَهُ فيه فاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم، فليس هو من خصائصه.

ومعلوم أن المرأة لا تصلح للإمامة، فعُلِمَ أنَّ هذه الفضيلة لا تختص بالأئمة؛ بل يشركهم فيها غيرهم.

ثم إنَّ مضمون هذا الحديث أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا لهم بأن يُذهِبَ

عنهم الرِّجْس، ويُطَهِّرَهُم تطهيراً. وغايةُ ذلك أن يكون دعا لهم بأن يكونوا من المتَّقِين الذين أذهبَ اللَّهُ عنهم الرِّجْس وطهَّرَهُم؛ واجتنابُ الرِّجْسِ

(1)

«منهاج السنة النبوية» لابن تيمية (4/ 27 ـ 28).

ص: 225

وَاجِبٌ على المؤمنين، والطهارةُ مأمورٌ بها كلُّ مؤمن.

قال اللَّه تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} (سورة المائدة، آية 6). وقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} ) سورة التوبة، آية 103). وقال تعالى:

{

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (سورة البقرة، آية 122).

فغايةُ هذا أن يكون هذا دعاء لهم بفعل المأمور وترك المحظور.

والصِّدِّيق رضي الله عنه قد أخبرَ اللَّهُ عنه بأنه: {

الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى} (سورة الليل، آية (17 ـ 21).

وأيضاً فإنَّ السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتَّبَعُوهُم بإحسان رضي اللَّهُ عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم.

(1)

لا بُدَّ أن يكونوا قد فعلوا المأمور وتركوا المحظور، فإن هذا الرضوان وهذا الجزاء إنما يُنَالُ بذلك.

وحينَئِذٍ فيكون ذهابُ الرِّجْسِ عنهم وتطهيرهم من الذنوب، بعضَ

(1)

كما في سورة التوبة، آية (100).

ص: 226

صفاتهم.

فما دعا بِه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأهل الكساء هُوَ بَعْضُ مَا وَصَفَ بِهِ السابقين الأولين.

والنبيُّ صلى الله عليه وسلم دعا لغير أهل الكساء بأن يُصَلِّيَ اللَّهُ عليهم، ودعا لأقوامٍ كثيرين بالجنة والمغفرة، وغير ذلك مما هو أعظم من الدعاء بذلك، ولم يلزم أن يكون مَنْ دعا له بذلك أفضلَ من السابقين الأولين.

ولَكِنَّ أهلَ الكساء لما كان قَدْ أوجب عليهم اجتناب الرجس وفِعلَ التطهير، دعا لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأنْ يُعينَهم على فِعْلِ ما أمَرَهُمُ بِه، لِئَلَّا يكونوا مستحقينَ للذمِّ والعقاب، ولينالوا المدح والثواب).

(1)

وفي موضع آخر نقل ابن تيمية رحمه الله كلام الرافضي المردود عليه: ابن المطهِّر الحُلِّي، وفيه: استدلاله بآية التطهير، وإيراده حديث واثلة، وأم سلمة رضي الله عنهما، ثم قول الحلِّي: (وفي هذه الآية دلالةٌ على العصمة، مع التأكيد بلفظة:«إنما» ، وإدخال اللام في الخبر، والاختصاص في الخطاب بقوله:

«أهل البيت» ، والتكرير بقوله:«ويُطهِّرَكم» والتأكيد بقوله: «تطهيراً» ، وغيرُهم ليس بمعصوم، فتكون الإمامة في عَليٍّ؛ ولأنه ادَّعَاهَا في عِدَّةٍ من أقواله، كقوله: «واللَّه لقد تقمَّصَها ابنُ أبي قحافة، وهو يعلم أن محلِّي منها

(1)

«منهاج السنة النبوية» لابن تيمية (5/ 13 ـ 15).

ص: 227

محَلُّ القُطْب من الرَّحَى.

وقد ثبَتَ نفيُ الرِّجْسِ عنه، فيكون صادقاً، فيكُون هُوَ الإمام).

فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: (والجواب: أن هذا الحديث صَحيحٌ في الجملة، فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي وفاطمة وحسن وحسين:«اللَّهم إنَّ هؤلاء أهل بيتي، فأذهِبْ عنهم الرِّجْسَ، وطهِّرْهُم تطهيراً» .

وروى ذلك «مسلم» عن عائشة قالت: «خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غداةً، وعليه مرْط مُرَحَّل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه، ثم جاء عليٌّ فأدخله، ثم قال: {

إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب، آية 33).

وهو مشهور من رواية أم سلمة، من رواية أحمد والترمذي، لكن ليس في هذا دلالة على عصمتهم ولا إمامتهم. وتحقيق ذلك في مقامين:

أحدهما: أنَّ قولَه: {

إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب، آية 33)، كقوله: {

مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (سورة المائدة، آية 6)، وكقوله:

{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (سورة البقرة، آية 185)، وكقوله:

ص: 228

{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)} (سورة النساء، 26 ـ 27).

فإنَّ إرادةَ اللَّه في هذه الآيات مُتضمِّنَةٌ لمحبةِ اللَّه لذلك المراد ورضاه به، وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به، ليس في ذلك أنه خلق هذا المراد، ولا أنه قضاه وقدَّرَه، ولا أنه يكون لا محالة. والدليل على ذلك أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية قال:«اللَّهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرِّجْسَ وطهِّرْهُم تطهيراً» . فطَلَبَ من اللَّهِ لهم إذهاب الرجس والتطهير، فلو كانت الآية تتضمن إخبارَ اللَّه بأنه قد أذهَبَ عنهم الرجس وطهَّرَهُم، لم يحتج إلى الطلب والدعاء؛ وهذا على قول القدرية أظهر، فإنَّ إرادةَ اللَّهِ عندهم لا تتضمنُ وجودَ المراد، بل قد يريد ما لا يكون، ويكون ما لا يريد، فليس في كونه تعالى مريداً لذلك ما يدل على وقوعه.

وهذا الرافضي وأمثالُه قدريَّةٌ، فكيف يحتجون بقوله:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} (الأحزاب، آية 33) على وقُوع المراد؟ ! وعندهم أنَّ اللَّهَ قد أراد إيمان مَنْ عَلى وجه الأرض فلم يقع مراده؟

وأما على قول أهلِ الإثبات، فالتحقيق في ذلك أنَّ الإرادةَ في كتاب اللَّه نوعان:

ص: 229

إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه.

وإرادة كونية قدرية تتضمن خلقه وتقديره.

الأُولى: مثل هؤلاء الآيات.

والثانية: مثل قوله تعالى: {

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}

(سورة الأنعام، آية 125) وقولِ نوح: {

وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} (سورة هود، آية 34)، وكثيرٌ من المُثْبِتَةِ والقدَرِيَّةِ يجعل الإرادة نوعاً واحداً، كما يجعلون الإرادة والمحبة شيئاً واحداً.

ثم القدرية ينفون إرادته لما بيَّن أنه مُرادٌ في آيات التقدير، وأولئك ينفون إرادته لما بين أنه مُرادٌ في آيات التشريع، فإنه عندَهم كل ما قيل:«إنه مراد» ، فلا بد أن يكون كائناً.

واللَّهُ قد أخبر أنه يريد أن يتوبَ على المؤمنين، وأنْ يُطهِّرهُم، وفيهم مَنْ تاب، وفيهم مَنْ لم يتُبْ، وفيهم مَن تطهَّرَ، وفيهم مَنْ لم يتطهَّر؛ وإذا كانت الآية دالةٌ على وقوع ما أراده من التطهير وإذهاب الرجس؛ لم يلزم بمجرد الآية ثبوتُ ما ادَّعَاه.

ومما يُبَيِّنُ ذلك: أنَّ أزواجَ النبي صلى الله عليه وسلم مذكورات في الآية، والكلام في الأمر بالتطهير بإيجابه، ووعد الثواب على فعله، والعقاب على تركه.

ص: 230

قال تعالى:

{

يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} (سورة الأحزاب، آية 30 ـ 33).

فالخطاب كلُّه لأزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومعهُنَّ الأمرُ والنهيُّ والوَعْدُ والوعيد.

لكن لما تبَيَّنَ ما في هذا من المنفعة التي تعمُّهُنَّ وتَعُمُّ غيرَهُنَّ مِن أهلِ البيت، جاء التطهير بهذا الخطاب وغيرِه، وليس مختصَّاً بأزواجه، بل هو متناوِلٌ لأهل البيت كلِّهِم، وعليٌّ وفاطمةُ والحسنُ والحسينُ أخصُّ مِنْ غيرِهِم بذلك؛ ولذلك خصَّهُمْ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالدعاء لهم.

وهذا كما أنَّ قولَه: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ} (سورة التوبة، آية 108) نَزَلَتْ بسَبَبِ «مسجد قُبَاء» ، لكِنَّ الحُكْمَ يتناوَلُه ويتنَاولُ ما هُوَ أحقُّ منهُ بذلك، وهو «مسجد المدينة» .

ص: 231

وهذا يُوجِّهُ ما ثبَتَ في «الصحيح» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن المسجد الذي أُسِّسَ على التقوى، فقال:«هو مسجدي هذا» .

وثبت عنه في «الصحيح» أنه كان يأتي قباء كلَّ سَبْتٍ ماشياً وراكباً.

فكان يقومُ في مسجده يوم الجمعة، ويأتي قُبَاء يوم السبت، وكلاهما مُؤسَّسٌ على التقوى.

وهكذا أزواجه، وعليٌّ، وفاطمةُ، والحسنُ، والحسينُ، كلُّهم من أهل البيت، لكنَّ عليَّاً، وفاطمةَ، والحسنَ، والحسينَ، أخصُّ بذلك من أزواجه، ولهذا خصَّهُم بالدعاء.

وقد تنازع الناس في آل محمد: مَنْ هُمْ؟

فَقِيْلَ: هُم أمَّتُهُ، وهذا قول طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهم.

وقيل: المتقون من أمته، ورووا حديثاً:«آل محمد كلُّ مُؤمنٍ تَقِيٍّ» . رواه الخلال، وتمَّام في «الفوائد» له.

(1)

وقد احتجَّ به طائفةٌ من أصحاب

(1)

«الروض البسام في تخريج وترتيب فوائد تمام» لجاسم الدوسري (5/ 40) رقم

(1648).

والحديث أخرجه: الطحاوي في «أحكام القرآن» (1/ 180)، والطبراني في «الأوسط»

(3/ 338)، وفي «الصغير» (1/ 199) رقم (318)، وابن عدي في «الكامل»

(7/ 41 و 49)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 83)، وغيرهم.

حكم عليه ابن تيمية هنا بالوضع، وذكر ابن حجر في «فتح الباري» (11/ 161) أنَّ سنده واهٍ جداً، وحكمَ عليه الألبانيُّ في «السلسلة الضعيفة» (3/ 468) رقم (1304) بأنه ضعيف جداً.

وانظر: «أنيس الساري في تخريج أحاديث فتح الباري» للبصارة (1/ 29) رقم (8).

ص: 232

أحمد، وغيرهم، وهو حديث موضوع، وبنَى على ذلك طائفة من الصوفية: أنَّ آل محمد هم خواصُّ الأولياء، كما ذكر الحكيم الترمذي.

والصحيحُ أنَّ آل محمد هُمْ: أهْلُ بيتِهِ، وهذا هو المنقول عن الشافعي، وأحمد، وهو اختيار الشريف أبي جعفر، وغيرهم.

لكن هل أزواجه من أهل بيته؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد:

أحدهما: أنهنَّ لَسْنَ من أهل البيت. ويُروى هذا عن زيد بن أرقم.

والثاني: ـ هو الصحيح ـ أنَّ أزواجَهُ مِنْ آلِهِ؛ فإنه قد ثبت في

«الصحيحين» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علَّمَهُم الصلاة عليه: «اللَّهم صلِّ عَلى محمدٍ، وأزواجه، وذرِّيَّتِه» .

ولأنَّ امرأةَ إبراهيم من آله وأهل بيته، وامرأةَ لوطٍ من آله وأهلِ بيته، بدلالةِ القرآن، فكيف لا يكون أزواجُ محمدٍ مِن آلِهِ وأهل بيته؟

ولأنَّ هذه الآية تدلُّ على أنهُنَّ من أهل بيته، وإلا لم يكن لذكر ذلك في الكلام معنى.

ص: 233

وأما الأتقياءُ من أمَّتِهِ فهُم أولياؤه، كما ثبت في «الصحيح» أنه قال:«إنَّ آل بني فلان ليسوا لي بأولياء، وإنما وليِّيَّ اللَّهُ، وصالحُ المؤمنين» .

فبيَّنَ أنَّ أولياءَه صالحُ المؤمنين. وكذلك في حديث آخَر: «إنَّ أوليائِي المتقون حيث كانوا، وأين كانوا» .

وقد قال تعالى:

{

وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} (سورة التحريم، آية 4).

وفي «الصحاح» عنه أنه قال: «ودِدْتُ أنِّي رأيتُ إخواني» ، قالوا: أوَلَسْنَا إخوانُكَ؟ قال: «بلْ أنتم أصحابي، وإخواني قومٌ يأتون مِنْ بَعْدِي يؤمنون بي، ولم يرَوني» .

وإذا كان كذلك؛ فأولياؤه المتقون بينَه وبينهم قرابةُ الدِّينِ والإيمان والتقوى.

وهذه القرابةُ الدينية أعظمُ من القرابةِ الطينِيَّةِ، والقُرْبُ بين القلوب والأرواح أعظم من القُرْبِ بين الأبدان؛ ولهذا كان أفضل الخلقِ أولياؤه المتقون.

وأما أقاربه ففيهم المؤمِن والكافر، والبَرُّ والفاجر؛ فإن كان فاضلاً منهم كعَلي رضي الله عنه، وجعفر، والحسن، والحسين، فتفضيلُهُم بما فيهم من الإيمان والتقوى، وهم أولياؤه بهذا الاعتبار، لا بمجرَّدِ النَّسَبِ، فأولياؤه أعظم درجةً مِنْ آلِهِ، وإنْ صلَّى عَلى آلِهِ تبعَاً لَهُ، لم يقتضِ ذلك أن يكونوا أفضلَ مِنْ أوليائِه

ص: 234

الَّذِينَ لم يُصَلِّ عليهم؛ فإنَّ الأنبياء والمرسلين هُم من أوليائه، وهم أفضلُ مِن أهل بيته، وإن لم يدخلوا في الصلاة معه تبَعَاً، فالمفضولُ قد يختَصُّ بأمرٍ، ولا يلزم أن يكون أفضلَ من الفاضل؛ ودليل ذلك: أنَّ أزواجَه هُم ممَّنْ يُصَلَّى عليه، كما ثبت ذلك في «الصحيحين» ، فقد ثبت باتِّفَاق النَّاسِ كلِّهم: أنَّ الأنبياءَ أفضلُ منهنَّ كُلِّهِنَّ.

فإن قيل: فهَبْ أنَّ القرآنَ لا يدُلُّ على وقوع ما أريدَ من التطهير وإذهَابِ الرِّجْسِ، لكِنَّ دعَاءَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لهم بذلك يدَلُّ على وقُوعِهِ، فإنَّ دعاءَه مُستجَابٌ.

قيل: المقصود أنَّ القرآن لا يدُلُّ ما ادَّعَاه مِن ثبوت الطهارة، وإذْهَابِ الرِّجْسِ، فضلاً عن أن يدُلَّ عَلى العِصمَةِ والإمَامَة.

وأمَّا الاستدلال بالحديث فذاك مَقامٌ آخَر.

ثم نقول في المقام الثاني: هَبْ أنَّ القرآنَ دلَّ على طهارتهم وإذهاب الرجس عنهم، كما أن الدعاء المستجاب لا بدَّ أن يتحقق معه طهارةُ المدعُوِّ لهم وإذهاب الرجس عنهم، لكَنْ ليس في ذلك ما يدُلُّ على العصمة من الخطأ.

والدليل عليه: أنَّ اللَّهَ لم يُرِدْ بما أمرَ بِهِ أزواجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنْ لا يصْدُرَ من واحدةٍ منهن خطأٌ، فإنَّ الخطأَ مغفورٌ لهُنَّ ولِغَيرهِنَّ، وسياق

ص: 235

الآية يقتضي أنه يُريدُ ليذهب عنهم الرِّجْسَ ــ الذي هو الخُبْثُ كالفواحش ــ ويُطهِّرَهُم تطهيراً من الفواحش، وغيرِها من الذنوب.

والتطهيرُ من الذَّنْبِ على وجهين: كما في قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}

(سورة المدثر، آية 4)، وقولِه:{إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (سورة الأعراف، آية 82)، فإنه قال فيها:{مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}

(سورة الأحزاب، آية 30)

والتطهيرُ عن الذنب: إمَّا بأن لا يفعله العبد، وإما بأن يتوب منه، كما في قوله:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} ) سورة التوبة، آية 103) لكِنْ ما أمرَ اللَّه به من الطهارة ابتداءً وإرادةً، فإنَّه يتضمن نهيَهُ عن الفاحشة، لا يتَضمَّنُ الإذنَ فيها بحال، لكنْ هُو سبحانَه ينهَى عنها، ويأمرُ مَنْ فعَلَها بأن يتوب منها.

وفي «الصحيح» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «اللَّهم باعِدْ بينِي وبينَ خطايَايَ كما باعدَتْ بينَ المشرق والمغرب، واغسِلْنِي بالثلج والبرَد والماءَ البارِد، اللَّهم نقِّنِي من الخطايا كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدَّنَس» .

وفي «الصحيحين» أنه قال لعائشة رضي الله عنها في قصة الإفْكِ قَبلَ أن يعْلَمَ النبيُّ براءَتَهَا، وكان قَدْ ارتَابَ في أمْرِهَا، فقال: «يا عائشةُ، إنْ كنتِ بريئةً فسيُبَرئِكِ اللَّه، وإن كُنتِ ألمَمْتِ بذَنب فاستغفري اللَّه وتُوبي إليه، فإنَّ العبدَ

ص: 236

إذا اعترفَ بذَنْبِهِ ثمَّ تابَ؛ تابَ اللَّه عليه».

وبالجملة، لفظ «الرِّجْس» أصلُه القَذَر، ويرادُ به الشرك، كقوله:

{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} (سورة الحج، آية 30).

ويُراد بهِ الخبائثَ المحرَّمَةِ كالمطعومات والمشروبات، كقوله:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا} (سورة الأنعام، آية 145)، وقوله:

{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (سورة المائدة، آية 90)

وإذهابُ ذلك إذهَابٌ لكُلِّهِ، ونحنُ نعلَمُ أنَّ اللَّهَ أذهبَ عن أولئك السَّادَةِ الشِّرْكَ والخبائث، ولفظ «الرجس» عامٌ يقتضي أنَّ اللَّهَ يريد أنْ يُذهِبَ جميعَ الرِّجْسِ، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا بذلك.

وأما قولُه: «وطهِّرْهُم تطهِيراً» ، فهو سؤالٌ مطلَق بما يُسمَّى طهارة، وبعضُ الناس يزعم أن هذا مطلق، فيكتفي فيه بفَرْدٍ من أفراد الطهارة، ويقول مثل ذلك في قوله: {

فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} (سورة الحشر، آية 2)، ونحو ذلك.

والتَّحقِيقُ أنه أمْرٌ بمسمَّى الاعتبار الذي يقال عند الإطلاق، كما إذا قيل: أكرم هذا؛ أي: افعل معَه ما يُسمَّى عند الإطلاق إكراماً؛ وكذلك ما

ص: 237

يُسمى عند الإطلاق اعتباراً.

والإنسانُ لا يُسمَّى معتَبِرَاً إذا اعتبرَ في قِصَّةٍ وتَرَكَ ذلِكَ في نَظِيْرِهَا، وكذلك لا يقال: هُو طَاهِرٌ، أو مُتطَهِّرٌ، أو مُطهَّرٌ، إذا كان متطهِّرَاً من شيءٍ مُتنَجِّسَاً بنظِيرِهِ.

ولفظُ «الطاهِر» كلفظ الطيِّب، قال تعالى: {

وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (سورة النور، آية 26)، كما قال:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} (سورة النور، آية 26) وقد رُوِيَ أنه قال لعمَّار: «ائذَنُوا له، مَرحبَاً بالطيِّب المطيَّبِ» .

وهذا أيضاً كلفظ «المتَّقِي» ، ولفظُ «المزكِّي». قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (سورة الشمس، آية 9 ـ 10). وقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} ) سورة التوبة، آية 103). وقال:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} ) سورة الأعلى، آية 104). وقال:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} ) سورة النور، آية 21) وليسَ من شرطِ المتقين ونحوِهم أن لا يقَعَ منهم ذَنْبٌ، ولا أن يكونوا معصومِين مِنَ الخطأ والذنوب؛ فإنَّ هذا لو كان كذلك، لم يكُن في الأمَّة مُتَّقٍ، بَلْ مَن تابَ من ذنوبه دخَلَ في المتقين، ومَنْ فعَلَ مَا يكفِّرُ سيئاتِهِ دخَلَ في المتقين، كما قال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ

ص: 238

عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}) سورة النساء، آية 31).

فدُعَاءِ النبي صلى الله عليه وسلم بأن يطهِّرَهُم تطهيراً، كدُعائِهِ بأنْ يزَكِّيْهِم ويُطيِّبَهُمْ ويجعلَهم متَّقِين، ونحو ذلك.

ومعلومٌ أنَّ مَنْ استقَرَّ أمرُه على ذلك، فهو داخلٌ في هذا، لا تكون الطهارة التي دعا بها بأعظَمَ مما دعَا بِهِ لِنفسِه. وقد قال:«اللَّهم طهِّرْنِي من خطاياي بالثلج، والبَرَد، والماء البارد» .

فمَن وقع ذنبه مغفوراً أو مُكفَّرَاً؛ فقدْ طهَّرَهُ اللَّهُ منه تطهِيرَاً، ولكن مَنْ مات متوسِّخَاً بذنوبه، فإنه لم يُطهَّر منها في حياته، وقد يكون من تمَام تطهيرِهِمْ صيانتُهُم عن الصدَّقَةِ التي هِيَ أوسَاخُ الناس.

والنبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا دعا بدعاءِ؛ أجابَهُ اللَّهُ بحسَبِ استعدَادِ المحَلِّ، فإذا استغفَرَ للمؤمنين والمؤمنات، لم يَلزَم أنْ لا يُوجَدَ مؤمنٌ مُذْنِبٌ، فإنَّ هذا لو كان واقعاً لما عُذِّبَ مُؤمن، لا في الدنيا ولا في الآخرة، بلْ يغفرُ اللَّهُ لهذا بالتوبة، ولهذا بالحسناتِ الماحِيَةِ، ويغفِرُ اللَّهُ لهذا ذنوبَاً كثيرة، وإنْ واحِدَةً بأُخْرَى.

وبالجُمْلَةِ فالتطهير الذي أرادَهُ اللَّهُ، والذي دعا به النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليس هو العِصْمَةُ بالاتِّفَاقِ، فإنَّ أهلَ السُّنَّةِ عندَهم لا مَعصُومَ إلا النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 239

والشيعةُ يقولُون: لا مَعصُومَ غيرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم والإمَامِ. فقد وقع الاتفاق على انتفاءِ العِصمةِ المختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم والإمامِ عن أزواجِهِ، وبناتِهِ، وغيرهن من النساء، وإذا كان كذلك؛ امتنعَ أن يكون التطهير المدعو بِهِ للأربعَةِ متضمِّنَاً للعصمة التي يختصُّ بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم والإمامُ عندَهم، فلا يكون مِن دُعَاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم له بهَذِهِ العِصْمَةِ: لا لِعَليٍّ ولا لغيره، فإنَّه دعَا بالطهارة لأربعة مُشتَرَكِين، لم يختَصَّ بعضُهم بدعوة.

وأيضاً فالدعاء بالعصمة من الذنوب ممتنعٌ على أصلِ القَدَرِيَّةِ، بَلْ وبِالتطهير أيضاً؛ فإنَّ الأفعال الاختيارية ـ التي هي فعل الواجبات وترك المحرمات ـ عندَهُم غيرُ مقدورةِ للرَّبِّ، ولا يُمكِنُهُ أنْ يجعَلَ العبدَ مُطِيعاً ولا عَاصِيَاً، ولا مُتطهِّرَاً من الذنوب ولا غير مُتطهِّر؛ فامتنعَ عَلى أصلِهِم أنْ يدعوَ لأحد بأنْ يجعلَهُ فاعِلاً للواجباتِ تاركَاً للمحرمات، وإنَّما المقدور عندَهُم قدرةٌ تصلُحُ للخيرِ والشر، كالسيْفِ الذي يصلُح لقتلِ المسلمِ والكَافِرِ، والمالِ الذي يُمكِن إنفاقه في الطاعة والمعصية، ثُمَّ العبدُ يفعلُ باختياره: إما الخير وإما الشر بتلك القدرة؛ وهذا الأصلُ يُبْطِلُ حجَّتَهُم.

والحديثُ حجُّةٌ عليهم في إبطال هذا الأصل، حيثُ دعَا النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالتطهير.

ص: 240

فإنْ قالوا: المراد بذلك أنه يغفر لهم ولا يؤاخِذُهُم؛ كان ذلك أدَلَّ على البطلان من دلالَتِهِ على العصمة.

فتَبيَّنَ أنَّ الحديثَ لا حُجَّةَ لهم فيه بحال على ثبوت العصمة.

والعصمةُ مُطلَقَاً ــ التي هي فعل المأمورِ، وتركِ المحظور ـ ليسَتْ مَقدُورَةً عندَهم للَّهِ، ولا يُمكِنُهُ أنْ يجعلَ أحَدَاً فاعِلاً لطاعَة، ولا تاركَاً لمعصية، لا لِنَبِيٍّ ولا لغيرِه، فيمتَنِعُ عندَهم أنَّ مَنْ يعلَم أنَّه إذَا عاشَ يُطيعُهُ باختيارِ نفسِهِ لا بإعانَةِ اللَّهِ وهدايتِهِ.

وهذا ممَّا يُبيِّنُ تناقُضَ قولِهِم في مَسائِل العِصْمَةِ كما تقدم.

ولَو قُدِّرَ ثبوتُ العِصمة، فقد قدَّمْنَا أنَّه لا يُشترَطُ في الإمامِ العِصمَةُ، ولا إجماع على انتفاء العصمة في غيرهم، وحينَئذٍ فتَبْطُلُ حُجَّتُهُمْ بكُلِّ طَريق.

وأما قولُه: «إنَّ عليَّاً ادَّعَاها، وقد ثَبَتَ نفْيُ الرِّجْسِ عنه، فيكون صادقاً» .

فجَوابُهُ من وُجُوْه:

ثم ذكرها رحمه الله رحمةً واسعة.

(1)

* * *

(1)

«منهاج السنة النبوية» لابن تيمية (7/ 69 ـ 85).

ص: 241