المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ مراسيل الزهري - فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - سيرتها، فضائلها، مسندها - رضي الله عنها - - جـ ٤

[إبراهيم بن عبد الله المديهش]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثاني: الأحاديث الواردة في فضائلها، وفيه خمسة فصول:

- ‌الفصل الأول: منزلتها عند أبيها صلى الله عليه وسلم وفيه سبعة مباحث:

- ‌المبحث الأول:محبة النبي صلى الله عليه وسلم لها، واحتفاؤه بها

- ‌معنى قول الإمام البخاري في الرجل: (فيه نظر):

- ‌ محبة النبي صلى الله عليه وسلم لها

- ‌ هل فاطمة أفضل بنات النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الأحاديثُ الدالَّةُ على اختصاصِ فاطمةَ بشئٍ من المحبَّةِ والاحتفاءِ والفضلِ إنما وردَتْ بعدَ وفاةِ أخواتِها، وتفرُّدِها عنهم، وذلك بعد…(شعبان 9 هـ)

- ‌ أحاديث موضوعة تدل على عظم محبة النبي صلى الله عليه وسلم وعنايته بفاطمة رضي الله عنها، مع تضمن بعضها قدحاً في مقام النبيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌آلُ البيت لهم من الفضائل الصحيحة ما يغنيهم عن هذه الأكاذيب المشينة

- ‌المبحث الثاني:زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لها في بيتها رضي الله عنها

- ‌مكان بيت فاطمة رضي الله عنها

- ‌المبحث الثالث:غيرة النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وأنها بضعة منه

- ‌ متى كانت الخِطْبَة من علي، والخُطبَة من النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ إشكال في قول المِسْوَر بن مَخْرَمَة رضي الله عنه: «وأنا يومئذ محتلم»، ومنه يُعلم وقت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌هل قوله: «فاطمة بضعة مني» في وقت حياة بعض أخواتها كزينب، وأم كلثوم رضي الله عنهن

- ‌ لماذا بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر في خُطبَة؟ وواجه عليَّاً بما يُعاب به

- ‌المبحث الرابع:دخولها وزوجها وذريتها في آل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ المراد بأهل البيت

- ‌المبحث الخامس:أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سِلْم لمَن سالمَها وزوجَها…وولدَيْها، وحَربٌ لمَن حارَبَهُم

- ‌الحديثُ تقلَّب بأيدي الشيعة الغلاة منهم ومَن دونهم، فذهب على أوجه شتَّى، لا يذهب مع طريق إلا ومعه وَهَنُه الشديد

- ‌المبحث السادس:اختياره صلى الله عليه وسلم لها الدار الآخرة

- ‌المبحث السابع:حثُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فاطمةَ على حُبِّ عائشةَ رضي الله عنهما

- ‌ العلاقة بين فاطمة، وعائشة رضي الله عنهما علاقة حميمية

- ‌الفصل الثاني: منزلة أبيها صلى الله عليه وسلم عندهاوفيه مبحثان:

- ‌المبحث الأول:برها بأبيها صلى الله عليه وسلم

- ‌نصرتها لأبيها صلى الله عليه وسلم

- ‌إطعامها والدها صلى الله عليه وسلم

- ‌معالجتها إياه صلى الله عليه وسلم

- ‌حزنها في مرض أبيها ووفاته صلى الله عليه وسلم

- ‌برها بوالدتها خديجة رضي الله عنهما

- ‌ يُلحظ أن لفاطمةَ رضي الله عنها حضوراً في أسفار والدها صلى الله عليه وسلم ومشاهده

- ‌المبحث الثاني:حفظها لسِرِّ أبيها صلى الله عليه وسلم

- ‌ يجوز إظهار السِّرِّ إذا انتهى وقتُه، بإظهارِ اللَّهِ له، أو أظهرَهُ صاحبُه الذي أسرَّ بِهِ

- ‌الفصل الثالث: منزلتها عند الشيخين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهم.وفيه مبحثان:

- ‌المبحث الأول:محبة أبي بكر ورعايته لها رضي الله عنهما

- ‌(مراسيل الشعبي)

- ‌ طعن الرافضة في أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه

- ‌المسألة الأولى: المحبة بين الصحابة وآل البيت

- ‌ حصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من بعض قريش جفوة على بني هاشم، بسبب الغَيرة

- ‌ومن الأمارات الكبيرة الظاهرة في تلك العلاقة الطيبة المتينة:

- ‌المسألة الثانية: طلبُ فاطمة الميراث، وغضبُها على أبي بكر، ولمَ غضبت بعد علمها بالحديث

- ‌وكان لفاطمة رضي الله عنها من أبي بكر رضي الله عنه طلبان اثنان:

- ‌ حديث لا نورث، مروي أيضاً في كتب الرافضة

- ‌المسألة الثالثة: هل وقع أبو بكر في أذية فاطمة وإغضابها، مما يُغضِبُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم؟ولِمَ امتنع من إجابتها؟وبيان تأكيد آل البيت والصحابة حُكَمَ أبي بكر رضي الله عنهم

- ‌المسألة الرابعة: خُطبة فاطمة على ملأئٍ من الصحابة

- ‌المسألة الخامسة: إكرامُ أبي بكر فاطمة، وإحسانُه لها، وإعطاؤها المال الوفير

- ‌ تأثر متأخري الزيدية بالرافضة

- ‌المسألة السادسة: هل كشف أبو بكر بيت فاطمة رضي الله عنهما

- ‌ لم أجد أحداً ذكره كما ذكرَته الرافضة:لم أكبس بيت فاطمة

- ‌المسألة السابعة: صحة الجملة الواردة في الحديث المخرَّج في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: «فهجرَتْه حتى ماتت»، وإجابةٌ على شُبهَة مَن أنكرها

- ‌ مراسيل الزهري

- ‌ تعريف الهجر لغة وشرعاً:

- ‌خلاصة ما قيل في هجر فاطمة رضي الله عنها

- ‌المسألة التاسعة:هل ترضَّى أبو بكر فاطمةَ قبل وفاتها رضي الله عنهما

- ‌المسألة العاشرة:لماذا لم يخبر عليٌّ أبا بكر بوفاة فاطمة، ليصلِّي عليها

- ‌المسألة الحادية عشرة: ما قيل في بيعة علي وآل هاشم أبا بكر ــ اختصاراً ــ مما يستفاد منه في علاقة فاطمة بأبي بكر رضي الله عنهم

- ‌المسألة الثانية عشرة:موقف فاطمة رضي الله عنها من بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌ لم تشارك في الحياة السياسية، ولم تحضر المجالس الشورية مع الرجال في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين المهديين، بل وبعدهم أيضاً فترة طويلة

- ‌من شروط أهل الحل والعقد: الذكورية، وليس للنساء…مدخل فيه

- ‌ما يُلقَى مُشَافَهَةً جواباً لسؤال عابر، يختلِفُ عما يُكتب تحريراً، بل يختَلِفُ عما يُشرَحُ في متن عِلمِيٍّ يجمَعُ أطرافَ ما يُلقِيه الشارِحُ

- ‌لم يَرِدْ في موروث أهلِ السنة والجماعة حديثاً وعقيدةً وتاريخاً شئٌ عن مبايعة فاطمة أبا بكر رضي الله عنهما، وموقفها من البيعة

الفصل: ‌ مراسيل الزهري

قال يحيى بن سعيد القطان: مرسل الزهري شرٌّ من مرسَلِ غيره؛ لأنه حافظ، وكلَّما قدر أن يسمِّي سمَّى، وإنما يترك مَن لايستحب أن يسمِّيَه.

وقال ابن معين والشافعي وغيرهما:‌

‌ مراسيل الزهري

ليست بشئ.

(1)

9.

الزيادة في متون الأحاديث قضيةٌ بالغة الدِّقة، بالنسبة لعدِّ الزيادة التي يقف عليها الباحث اختلافاً يجب النظر فيها، وتطبيق قواعد الاختلاف عليه

لذا نرى في الأحاديث الطوال تقطيعاً، فيُذكر الجزء المراد الاستشهاد به

(2)

، وحديثنا هذا في «الصحيحين» جاوز القنطرة، وليس ثمَّ اختلاف،

أو تغاير، فضلاً عن التغاير الشديد والاضطراب.

قال ابن رجب: (فاختلاف الرجل الواحد في الإسناد: إنْ كان متهماً، فإنه ينسب به إلى الكذب.

وإن كان سيئ الحفظ، نُسِب به إلى الاضطراب وعدم الضبط.

وإنما يُحتَمَل مثل ذلك ممن كثُرَ حديثُه، وقَوِيَ حفظُه، كالزهري، وشعبة، ونحوهما).

(3)

(1)

«المراسيل» لابن أبي حاتم (ص 3)، «الكفاية» للخطيب ـ ط. ابن الجوزي ـ (2/ 189) رقم (1212) وما بعده، «تاريخ دمشق» لابن عساكر (55/ 368)، «سير أعلام النبلاء» (5/ 338)، «شرح علل الترمذي» لابن رجب (1/ 284)، «تدريب الراوي» ـ ط. ابن الجوزي ـ (1/ 314).

(2)

«مقارنة المرويات» د. إبراهيم اللاحم (1/ 403).

(3)

«شرح علل الترمذي» (1/ 143).

ص: 466

وقال ابن رجب في مسألة زيادة الثقة: (إذا روى الحفاظ الأثبات حديثاً بإسناد واحد، وانفرد واحدٌ منهم بإسناد آخر:

فإن كان المنفردُ ثقةً حافظاً، فحكمُه قريبٌ من حكم زيادةِ الثقة، في الأسانيد أو في المتون، وقد تقدَّم الكلام على ذلك.

وقد تردد الحفاظُ كثيراً في مثل هذا، هل يُردُّ قول من تفرَّد بذلك الإسناد، لمخالفة الأكثرين له؟ أم يقبل قوله، لثقته وحفظه؟

ويقوَى قَبُولُ قَولِه إن كان المرويُّ عنهُ واسعَ الحديث، يُمكن أن يحمِلَ الحديثَ من طُرُقٍ عديدة كالزهري، والثوري، وشعبة، والأعمش).

(1)

وقال ابن حجر: (فالتعليل بجميع ذلك من أجل مجرد الاختلاف غير قادح؛ إذْ لا يلزم مِن مُجرَّدِ الاختلافِ اضطرابٌ يُوجِبُ الضَّعْفَ؛ فينبغي الإعراض أيضا عما هذا سبيله).

(2)

قال ابن حجر في حديث ما: (وصنيع البخاري يقتضي أن الطريقين صحيحان، فإنه وصل طريق معمر هنا، ووصل طريق شعيب في كتاب الأدب؛ وكأنه رأى أن ذلك لا يقدح؛ لأن الزهري صاحب حديث فيكون الحديث عنده عن شيخين، ولا يلزم من ذلك اطِّرَادُه في كل من اختُلِفَ عليه في شيخه إلا أن يكون مثل الزهري في كثرة الحديث والشيوخ، ولولا ذلك

(1)

«شرح علل الترمذي» (2/ 719).

(2)

«هدي الساري» لابن حجر (ص 347).

ص: 467

لكانت رواية يونس ومن تابعه أرجح، وليست رواية معمر مدفوعة عن الصحة لما ذكرته

).

(1)

مثال على سعة مرويات الزهري، أنه اختُلف عليه في حديث اختلافا واسعاً، فقال ابن حجر: (والذي اتضح لي أن الحديثين محفوظان عن الزهري، وأنه كان يحدِّث تارةً بهذا، وتارةً بهذا

).

(2)

إذن، من أسباب اختلاف الأصحاب على الشيخ: سعة روايته، واتساع حفظه، كقتادة والزهري، وغيرهما من جماعة الثقات، فيُقبَل الوجهان في حالات، ويمكن في حالات أخرى الترجيح بقرائن.

(3)

الخلاصة:

أنَّ هجرَ فاطمة لأبي بكر رضي الله عنهما، ثابتٌ في الصحيحين، وهي جملة متصلة من قول عائشة رضي الله عنها، ولم أجد أحداً من الأئمة والمحققين طعن فيها، وذكر أنها مدرجة، بل لم أجد مَن أشار إلى اضطراب الزهري، واختلافه

(1)

«فتح الباري» (13/ 15).

(2)

«فتح الباري» (12/ 90)، وانظر أيضاً:(13/ 18).

فائدة: للدكتور عبداللَّه دمفو رسالةٌ مطبوعة في أربع مجلدات بعنوان: «مرويات الإمام الزهري المعلَّة في كتاب العلل للدارقطني ـ تخريجها ودراسة أسانيدها والحكم عليها ـ» .

(3)

انظر: «معرفة أصحاب الرواة وأثرها على التعليل» د. عبدالسلام أبو سمحة (1/ 171 ـ 174)، «قواعد العلل وقرائن الترجيح» د. عادل الزُّرَقِي (ص 91)، وللشيخ د. عبدالرحمن العواجي بحثٌ بعنوان:«قرائن تصحيح الوجهين عن الراوي» .

ص: 468

في الحديث إلا بعض المتأخرين والمعاصرين، مثل: الكنكوهي، ثم محمد نافع بن عبدالغفار بن عبدالرحمن

(1)

،

ثم تلميذه: محمد تقي العثماني الباكستاني،

(1)

. ذكر رشيد بن أحمد الكنكوهي الحنفي الهندي (ت 1323 هـ) في كتابه «لامع الدراري في شرح صحيح البخاري» (7/ 290) ـ ط. الإمدادية ـ: (أن هذا الغضب ظنٌّ من الراوي حيث استنبط من عدم تكلمها إياه ـ كذا ـ أنها غضبت عليه، مع أنها كانت نادمة فيما بدرت إليها ـ كذا ـ، وكان عدم التكلم لأجل الندامة، أو المنفي: التكلم في هذا الباب، أو المعنى: غضبت على نفسها حيث ذهبت إلى الخليفة تطلب شيئاً من الدنيا، مع أنه رضي الله عنه كان باراً راشداً غير ظلوم، ولو سلِّم أنها غضبت عليه لذلك ولم تكلِّمْه مطلقاً، فإن الأمر والجناية عائد إليها لا إليه، حيث غضبت على أبي بكر لأنه عمل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وتركَتْه لأجل الدنيا، مع أن هجران المسلم لا لوجه شرعي قد ورد فيه ما ورد). ا. هـ

وذكر المعلِّق عليه: محمد زكريا الكاندهلوي أن الغضب لا لأجل عدم حصولها على الميراث، لأنها لا تغضب لأجل مال، لما علم من زهدها ومعالجة الفقر مدة عمرها

قال بل ذلك من التصلب في الدين ـ كذا ـ وطلب الحق الواجب، وذكر أنها خالفت الصديق في فهمه للحديث وأن عدم الإرث ليس عاماً، فكان سخطها لأجل أمر شرعي لا لأجل المال وحبه. وبناء عليه، لا ضير على هجرها أبا بكر، واحتج ببعض الأحاديث الواردة في الهجر أكثر من ثلاثة أيام، لأمر شرعي. انتهى ملخصاً من تعليقاته.

ثم جاء الشيخ: محمد نافع بن عبدالغفور بن عبدالرحمن الباكستاني ـ معاصر ـ، في كتابه:

«رحماء بينهم» باللغة الأردية ـ تعريب: لقمان حكيم ـ (ص 82 ـ 107) وأطال الحديث بما لا طائل علمي وراءَه في بيان هذه الجمل الواردة: الغضب من فاطمة، والهجر

إلخ =

ص: 469

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وبيَّن أنه استفاد كثيراً من كتاب: «تحقيق فدك» لشيخه: سيد شاه البخاري [سيد أحمد أجنالوي]ـ ط. الأولى 1344 هـ ـ وذكر أنه أجاد وأطال في مباحث هذه المسألة ـ ويبدو أنه بالأردية ـ وقد ذهب محمد نافع لرد حديث البخاري، لأن تلك العبارات غير موجودة في كثير من الروايات، وقد روى الحديث ثلاثة عن الزهري عند أبي داوود، ولم يذكروا الهجر! وكذا في مواضع عند البخاري في «صحيحه» ، وقد استدل بكلام البيهقي في الإدراج، وأفاد أن قصة مراجعة فاطمة أبا بكر مروية بست وثلاثين طريقاً، وأن أحد عشر طريقاً منها مروية عن غير الزهري، وليس في واحد منها أدنى ذكر لغضب فاطمة أو هجرانها، وأن خمسة وعشرين طريقاً تدور على الزهري، تسعة منها خالية عن ذكر الغضب والهجران، وإنما ورد ذكرهما في ستة عشر طريقاً كلها تنتهي إلى الزهري، فالظاهر من هذا التتبع أن قصة الغضب والهجران مدرجة في هذا الحديث من قِبَل الزهري

ثم ذكر أن من عادة الزهري الإدراج

وإذا ثبت ذلك فإما أن يكون ظناً منه، فلا حجة فيه! ! أو سمعه من غيره ولم يسنده، فهو مرسل، ومراسيله ضعيفة بل من شر المراسيل

ثم أورد عدداً من الأحاديث تعارض هذا، تدل على أنها سلَّمت لأبي بكر، وأنه ترضَّاها، وأنها لم تكلمه أي في ذلك المال

أقول: وكلها أحاديث ضعيفة جداً، ومراسيل، وبعضها موضوع.

ووجدتُ توافقاً كثيراً بين كتاب محمد نافع، وكتاب د. عثمان الخميس، والأول أسبق.

ثم جاء الشيخ: محمد تقي العثماني الباكستاني ـ معاصر ـ في كتابه: «تكملة فتح الملهم بشرح صحيح الإمام مسلم» ـ ط. دار العلوم في كراتشي ـ (3/ 92 ـ 105) وفي ط. إحياء التراث ـ (3/ 78 ـ 81) فنقل كلام شيخ شيوخه الكنكوهي السابق ذكره، ولخص كلام شيخه: محمد نافع. وذكر العثماني (3/ 95) ماملخصه: أن فاطمة طلبت أمرين: =

ص: 470

ثم د. إبراهيم علي شعطوط ـ مصري ـ

(1)

، ثم الشيخ: عبد الفتاح سرور

ـ مصري معاصر ـ في «تسديد الملك» ـ كما سبق ـ، ثم محمد بن عبداللَّه

= الميراث، والقيام بشؤون الصدقات، ولما لم يجبها حصل في نفسها شئ، قال: فلم تبق في قلبها بشاشة كاملة لأبي بكر! ! وليس ذلك من المعاداة ولا من الهجران، وإنما هو انقباض يسير، ينشأ من اختلاف الآراء، وكان أبو بكر يشعر بذلك، فأراد أن يزول هذا الانقباض، فذهب إليها في مرضها وترضاها حتى رضيت، وعادت بينهما البشاشة الكاملة! ! كذا قال.

وذكر العثماني في (3/ 101) أن الجملة عن وفاة فاطمة: «ولم يؤذن بها عليٌّ أبا بكر» بأنها ضمن الجمل المدرجة، ورجح أنه شهد جنازتها واستدل بمرويات ضعيفة ومراسيل ومرويات رافضية كل ذلك بمنهج ضعيف ـ واللَّه المستعان ـ.

وقد نقل من «تكملة فتح الملهم» معتمداً عليه، ومؤيداً له الأستاذُ: عبدالستار الشيخ في كتابه: «أبو بكرالصديق رضي الله عنه خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم» (ص 422)، ثم في كتابه الآخر «فاطمة الزهراء» (ص 319 ـ 326).

(1)

ذكر أنها من فهم الزهري، وأنه من صغار التابعين، وشنَّع على المؤرِّخين فهمهم لمعنى الهجر

ذكر ذلك وغيره مما يستنكر في كتابه: «أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ»

(ص 113).

والكتاب فيه أباطيل بيَّنها الأستاذ: حسني شيخ عثمان في كتابه: «أباطيل الأباطيل نقد كتاب أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ» ـ ط. دار الصدِّيق في الطائف ـ، وقد أبان حسني عن منهج شعطوط الضعيف في دراسة التاريخ، أفدته من:«كتب حذر منها العلماء» للشيخ: مشهور بن حسن سلمان (2/ 118).

ص: 471

العلوي الهرري الشافعي المكي ـ معاصر ـ

(1)

، ثم: د. عثمان الخميس الكويتي ـ كما سبق ـ.

وإن من خلل المنهج العلمي أن يَضرب بعضُ من ذُكر ـ مثلُ: محمد نافع، وغيره ـ الحديثَ الموصول في الصحيحين عن عائشة، بمرسل الشعبي، مبينين أن عائشة تنفي، والشعبي يثبت، والمثبت مقدم على النافي، لأنه معه زيادة علم! ! وعائشة امرأة لا تعلم ما يدور بين الرجال بخلاف مرسل الشعبي الذي يغلب على الظن أنه نقله من رجل كعلي مثلاً! !

أبمثل هذه الطريقة الغريبة في الموازنة والترجيح يسلكها طالب علم؟ !

يضيق بقضية صحيحة في الصحيحين، لم ينقدها أحد من الأئمة، مع تتابع العلماء على قراءتها وشرحها وتوجيهها، ثم يأتي معاصر يريد دفعها بما شاء، كيف شاء، ولو طوَّع القواعد العلمية، وأنزلها لتصل ما يريد أن يوصل، أو تقطع ما يريد ـ واللَّه المستعان ـ.

وفَّقَ اللَّهُ الجميع للصواب، وهدانا لما اختُلف فيه من الحق بإذنه، إنَّ ربي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

ص: 472

وأما زيادة الزهري: عدم بيعة علي وآل هاشم، فهذه واضحة كالشمس في رواية عبدالرزاق، وهي ليست ضمن الحديث بل مدرجة، وقد بيَّنها البيهقي ـ كما سبق ـ، وذكرتُ أن معناها موجود ضمن حديث عائشة، عدا قوله: ولا أحدٌ من بني هاشم ـ.

فائدة: ذكر المسعودي ـ عنده تشيع ـ (ت 346 هـ) رحمه الله أنَّ الذي (تولَّى غسلها أمير المؤمنين علي بن أبى طالب رضي الله عنه ودفَنَها ليلاً بالبقيع، وقيل غيره، ولم يُؤذِن بها أبا بكر رضي الله عنه، وكانت مهاجرةً له منذ طالبتْهُ بإرثها من أبيها صلى الله عليه وسلم من فدَك وغيرها، وما كان بينهما من النزاع في ذلك إلى أن ماتت، ولم يبايع عليٌّ عليه السلام أبا بكر رضي الله عنه إلى أن توفيت، وتنوزع في كيفية بيعته إياه، وقد أتينا على ما قيل في ذلك في كتاب

«الاستذكار لما جرى في سالف الأعصار» ).

(1)

* * *

(1)

«التنبيه والإشراف» للمسعودي (1/ 249). وكتابه «الاستذكار» لا أعلمه مطبوعاً.

ص: 473

المسألة الثامنة: معنى الهجر

عبارة الهجر وردت في «الصحيحين» هكذا: (فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهَجَرَتْهُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حتَّى تُوفِّيَتْ).

(1)

وفي لفظ: (فهَجَرَتْهُ فاطمَةُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حتَّى ماتَتْ).

(2)

وقد جاء في رواية عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها:(فهجَرَتْهُ فاطِمَةُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ في ذلِكَ حتَّى مَاتَتْ).

(3)

وجاء من طريق محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: (فهجرته فاطمة رضي الله عنه، فلم تكلمه في ذلك المال حتى ماتت».

(4)

وجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن فاطمة جاءت تسأل أبا بكر

وعمر ميراثها فذكرا لها الحديث: «إني لا أورث» . فقالت لهما: «واللَّهِ لا أكلِّمُكما أبَدَاً، فماتَتْ ولا تُكلِّمُهُما» .

(1)

كما سبق في «صحيح البخاري» رقم (4240)، و «صحيح مسلم» رقم (1759) من طريق عُقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.

(2)

في «صحيح البخاري» رقم (6726) من طريق هشام، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.

(3)

سبق تخريج هذه الرواية قبل قليل في المسألة السابعة.

(4)

أخرجها: ابن شبَّة في «تاريخ المدينة» (1/ 197).

ص: 474

قال علي بن عيسى ـ شيخ الترمذي ـ: معنى لا أكلمكما، تعني: في هذا الميراث، أبداً أنتما صادقان.

(1)

وجاء في حديث آخر، أنها قالت لأبي بكر: أنتَ ورسولُ اللَّهِ أعلم، ما أسألُكه بعد مجلسي هذا.

وهذا الحديث واهٍ لايصح.

(2)

ليس بين العبارات السابقة اختلاف، والعمدة على حديث الصحيحين، وهي لم تُكلِّمْهُ حتى تُوفِّيت، لم تكلمه في الميراث ولا غيره، وقد اقتنعت بالحديث رضي الله عنها وقبِلَتْ وسَلَّمَتْ، ومع ذلك وجدَتْ في نفسها عدم حصولها على أمرين طلبتهما من أبي بكر رضي الله عنه، فتركت الطلب:

(الميراث، وقيام عليٍّ على الصدقات)، وطلباتها الأخرى العامة، وانشغلت بمرضها، وكان في نفسها شئ على أبي بكر.

(1)

والصحيح في هذا الحديث: أنه مرسل ضعيف. سبق تخريجه ضمن حديث رقم (29).

قال ابن حجر في «فتح الباري» لابن حجر (6/ 202): (وتعقَّبَهُ الشاشيُّ بأن قرينة قوله: «غضبت»، تدلُّ على أنها امتنَعَتْ من الكلام جُملَةً، وهذا صريحُ الهَجْر). وسبق ذكر تعقب المقريزي أيضاً، وانظر:«جامع الآثار» لابن ناصر الدين (7/ 352 ـ 353).

(2)

سبق تخريجه ضمن حديث رقم (29).

ص: 475

وكونها لم تطلب الميراث مرة ثانية بعد علمها بالحديث، لا إشكال فيه، قال القاضي عياض المالكي (ت 544 هـ) رحمه الله: (وفي ترك فاطمة منازعة أبي بكر رضي الله عنهما بعد احتجاجه عليها بالحديث التسليم والإجماع على القضية، وأنها لما بلغها الحديثُ أو بُيِّن لها التأويلُ؛ تركَتْ رأيَها إذْ لم يكن بعدُ ولا أحَدٌ من ذُرِّيتها في ذلك طلبٌ بالميراث، وإذْ قَدْ وَليَ عليٌّ رضي الله عنه الأمرَ فلَمْ يعدِل به عما فعَلَ فيه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما

).

(1)

وذكر الوزير ابن هبيرة (ت 560 هـ) رحمه الله حديث مراضاة أبي بكر فاطمةَ رضي الله عنهما ثم قال: (ولشأن فاطمة رضي الله عنها من الزهد في الدنيا فوق أن يُظَنَّ بها إلا ما يناسب ذلك.

ولهذا المعنى قال في الحديث الذي نحن في تفسيره: «فهجرته فاطمة فلم تكلمه في ذلك» ، أي: لم تكلمه في الميراث؛ لأنها هجرته فلم تكلمه في غير ذلك).

(2)

قال أبو العباس القرطبي (ت 656 هـ) رحمه الله: (ثم إنها لم تلتق بأبي بكر؛ لِشُغْلِهَا بمصيبتها برسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولملازمتها بيتها، فعَبَّر

(1)

«إكمال المعلم بفوائد مسلم» للقاضي عياض (6/ 80 ـ 81)، وعنه: النووي في «شرح مسلم» (12/ 73). وذكر مثل ذلك غيرهما من العلماء.

(2)

«الإفصاح عن معاني الصحاح» لابن هبيرة (1/ 74).

ص: 476

الراوي عن ذلك بالهجران، وإلا فقد قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:«لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث» ، وهي أعلمُ الناس بما يحلُّ مِن ذلك ويحرُمُ، وأبعدُ الناس عن مخالفةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كيف لا يكون كذلك؟ ! وهي بَضْعةٌ من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وسيدةُ نساء أهل الجنة).

(1)

قال الكرماني (ت 768 هـ) رحمه الله: (قوله: «وجدَتْ» أي: غضبت، وكان ذلك أمراً حصل على مقتضى البشرية، ثم سكن بعد ذلك؛ أو الحديث كان مؤولاً عندها بما فضُل عن ضرورات معاش الورثة، وأما هجرانها فمعناه: انقباضها عن لقائه، وعدم الانبساط، لا الهجران المحرَّم من ترك السلام ونحوه).

(2)

قال ابن الملقِّن (ت 804 هـ) رحمه الله: (وإنما كان هجرانها له انقباضَاً عن لقائه، وترك مواصلته.

وليس هذا من الهجران المحرَّم، وإنما المحرَّمُ من ذَلِكَ أن يلتقيَا

(1)

«المفهم» للقرطبي (3/ 568).

(2)

«الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري» للكرماني (16/ 111 ـ 112)، وعنه: البرماوي (ت 831 هـ) في «اللامع الصبيح شرح البخاري» (11/ 287)، وزكريا الأنصاري في «منحة الباري شرح البخاري» (7/ 377).

ص: 477

فلا يُسلِّمُ أحدُهما على صاحبه. ولم يَروِ واحِدٌ أنهما التقيا وامتنعا من التسليم، ولو فعَلا ذلك لم يكونا بذلك متهاجرين، إلا أن تكون النفوسُ مُضمِرةً للعداوة والهجران.

وإنما لازَمَتْ بيتَها، فعبَّر الراوي عنه بالهجران؛ هذا وجه هجرانها له، لكنَّها وَجَدَتْ عليه أن حَرَمَها ما لم يُحرَم أحدٌ، ولسنا نظن بها إضمارَ الشحناء والعداوة، وإنما هُمْ كما وصفهم اللَّهُ: رُحَمَاءُ بينهم).

(1)

أورد ابن حجر العسقلاني (ت 952 هـ) رحمه الله بعض الروايات التي ذُكرَت في أول هذه المسألة، ثم حديث أبي الطفيل، وفيه أنه فاطمة قالت لأبي بكر:(فَأَنْتَ، وَمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَعْلَمُ).

(2)

سبق قول علي بن عيسى ـ شيخ الترمذي ـ بأن معنى «لا أكلمكما» أي: في الميراث، ونقل ابنُ حجر تعقُّبَ الشاشيِّ، فقال:(وتعقبَهُ الشاشيُّ بأن قرينة قوله: «غضبت»، تدلُّ على أنها امتنعت من الكلام جملةً، وهذا صريحُ الهجر).

(1)

«التوضيح لشرح الجامع الصحيح» (18/ 372 ـ 373).

(2)

سبق تخريجه في الحديث رقم (29) وهو حديث حسن، لكن فيه لفظة منكرة ضعفها العلماء، وهي قول أبي بكر لفاطمة: بأنَّ أهلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يرثونه.

ص: 478

تعقَّبَهُ الصنعاني (ت 1182 هـ) رحمه الله بقوله: (قلتُ: ولا أدري من أين عُرِفَ هجرُها أبا بكر؟ ! فإنه لا ريب أنها أجنبيةٌ بالنسبة إلى أبي بكر،

لا يحل لها مواجهته ولا له مواجهتها، وإذا كان كذلك فما معنى نسبة الهجر إليها له؟ ! فإنَّ التزاور، والتواصل، والاجتماع الذي هو ضُدُّ الهجر إنما يكون بين الحريم والرجال، إذا كان تحل المواجهة بينهم وتجوز الخلوة بهنَّ ونحو ذلك؛ والبتول رضي الله عنها أجنبيةٌ عن أبي بكر قطعاً، وقد أُذِن للأجنبي إذا سألَ نساءَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم متاعاً أن يسألوهنَّ من وراء حجاب، فلا يتحقق هجْرُهَا إياه من وراء الحجاب، إلا إذا ثبت أنه وصَلَ إليها ثم ردَّتْهُ مِن مَنْزِلها ولمْ تُخاطِبْهُ، وهذا شيءٌ لم يُنقَلْ أصْلاً، فَلْيُنْظَرْ).

(1)

ثم قال ابن حجر: (فلا يعارض ما في الصحيح من صريح الهجران ولا يدل على الرضا بذلك، ثم مع ذلك ففيه لفظة منكرة وهي قول أبي بكر:«بل أهله» ؛ فإنه معارِض للحديث الصحيح أنَّ النبيَّ لا يُورث.

ثم أوردَ حديث مراضاة فاطمة أبا بكر من مرسل الشعبي ـ وقد سبق ـ

ثم قال ابن حجر: (وقد قال بعض الأئمة إنما كانت هجرتها انقباضاً عن لقائه والاجتماع به، وليس ذلك من الهجران المحرم؛ لأنَّ شرطَهُ أنْ يلتقيا فيُعرِضُ هذا، وهذا، وكأنَّ فاطمةَ عليها السلام لما خرَجَتْ غَضْبَى مِن عندِ

ص: 479

أبي بكر، تمادت في اشتغالها بحُزنِها، ثم بمَرَضِهَا).

(1)

تعقبه الصنعاني بقوله: (وقوله: «عن لقائه والاجتماع به» فيه ما عرفتَ مِن أنه أجنبيٌ عنها، فلا تَلاقِي بينهما، ولا اجتماع).

(2)

وقال ابن حجر أيضاً: (وتمسَّك أبو بكر بالعموم، واختلفا في أمر محتمل للتأويل، فلما صمَّمَ على ذلك؛ انقطَعَتْ عن الاجتماعِ به؛ لذلك).

(3)

تعقبه الصنعاني بقوله: (ولا يخفى أنَّ هذا مبنيٌ على صحة هجْرها إياه، على أنَّا نُنَازع في غضبها أيضاً، فإنها رضي الله عنها أجلُّ قدراً، وأعظمُ تقوى، وأوفر عقلاً أنْ تغضبَ في منعها مِن أمرٍ قد رُوِي فيه مانِعُها عن

النبي صلى الله عليه وسلم نصَّاً سمِعَهُ منه، ولم تكُن ذاتَ حِرصٍ على الدنيا، فقد قنِعَتْ عن خادمٍ تَخدِمُهَا بما علَّمَها رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من التسبيح والتحميد والتكبير عند النوم، وأخبرها أنه خيرٌ لها من خادِم، وكان يكره لها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم كما هو معلوم.

(4)

وغايةُ الواقِع أنَّ البتولَ رضي الله عنها طلبَتْ ميراثها فأخبرَها مَن طلبتْه منه

(1)

«فتح الباري» (6/ 202).

(2)

«التحبير لإيضاح معاني التيسير» (3/ 763).

(3)

«فتح الباري» (6/ 202).

(4)

. يحتمل أن في الكلام سقطاً، والمراد: يكره لها التعلق بالدنيا ـ وقد سبقت أحاديث تدل على ذلك ـ.

ص: 480

أنه نصُّ صلى الله عليه وسلم بأنه لا يُورث، وأن الذي تركه صدقةٌ، فقَبِلَتْ ذلك، ولم تَشتُمْ ـ وحاشاها ـ أبا بكر، ولا كذَّبتْهُ فيما رواهُ، ولا كرَّرَتْ الطلَبَ بعد ذلك؛ فما معنى غضبها وهجرها له؟ !

وإنْ كان الأمران قد صارَا قطعيين عند المتعصبين، بل عند الناس أجمعين، حتى قال القائل من الآل:

أتموت البتول غَضْبَى ونَرْضَى

ما كذا تفعل البنون الكرام).

(1)

وقال الصنعاني أيضاً: (وقولُ عائشة: «أنها غضِبَتْ وهَجَرَتْ» محمولٌ على فهمِهَا ذلك من القرائن؛ والفهمُ منها يُخطُئ ويُصيبُ، وليس كالرواية بالمعنى، فإنَّها عن لفظٍ سمعَهُ الراوي فعبَّر عنه بلفظ مرادفٍ له، بخلافِ هذه القصَّة، فإنَّه عبَّر عنها بما فِهَمَهُ من القرائن، لا عنْ لفظٍ صدَرَ مِن البَتُولِ دَالٍّ على غَضبِهَا، ومَا كُلُّ قرينةٍ صَحِيحَةٍ، سِيَّما عن الأمرِ الوجدانيِّ القَلْبِيِّ، فَليَتَأمَّل مَنْ لَهُ إنصَافٌ وإخلاصٌ، وكيفَ تغضَب بَضْعَةُ الرسول صلى الله عليه وسلم من الحقِّ؟ ! ــ حاشا ــ).

(2)

قلت: لو قالها أجنبي عنها، لاحتمل تخطئة فهمه، لكن قالتْها امرأةٌ من النساء، بل أفقَهُ النساء عائشة رضي الله عنها، وهي ملازمةٌ لفاطمةَ حياةَ النبيِّ

ص: 481

- صلى الله عليه وسلم، وهي جارتها، وأقربُ الناس إليها ـ بعد زوجها إلى وفاتها ـ

والشأن يتعلق بفاطمة مع والدها أبي بكر، لا مع رجل غريب عن عائشة، فأي إشكال في وقوع معاتبة من فاطمة؛ لعدم تحقق ما تريد، على الأقل في طلبها أن يتولى زوجُها صدقاتِ النبي صلى الله عليه وسلم، وقد امتنع الصديق من ذلك رضي الله عنهم

ففاطمة رضي الله عنها لم تحصل على الأمرين معاً، مع أن قلبها في غاية الحزن والإنكسار لقرب موت والدها صلى الله عليه وسلم، ولاشكَّ أن ما حملَه القلب سينزل أغلبه ـ دون قصد ـ على عدم تحقق ما تريد، فكان الشأن على أبي بكر رضي الله عنهما، وهو لم يخطئ في حقها، ولم يقصِّر، بل أحسن وبالغ في الإحسان، وحثَّ الناسَ على رعاية آل النبي صلى الله عليه وسلم، لكن النفس البشرية بالغة الدقة والتجاويف، مع نوازع غريبة، ومواقف داخلية تؤثر خارجياً لا العكس ـ وهذا ما حصل من وجهة نظري ـ تأثرها النفسي الداخلي بعد فقد

النبي صلى الله عليه وسلم، مع حرص زوجها عليها بمثل هذه المطالبات، ومرضها، أثَّرت على علاقتها الخارجية، بعتبٍ على أبي بكر أو دون عتب، والعتب أقرب؛ لدلالة اللفظة، وعدم إيذان علي والعباس أبابكر بوفاة فاطمة، وغير ذلك.

وكونها لم تحصل على خادمها من أبيها صلى الله عليه وسلم، وصرفها للذكر عند النوم، لا يدل على أنها لا ترغب بالمال، ومع دينها وعقلها وزهدها لا

ص: 482

يجعلها ترى المال كالتراب، فمحبة المال مغروسة في النفس البشرية:

قال تعالى:

{

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (سورة الكهف، آية 46)، وقال تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} إلى آخر الآيتين (سورة آل عمران: 14 ـ 15)

وربما لعلمها بقرب أجلها ـ كما أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم ـ وما تراه في زمن والدها من الجوع والحاجة؛ رغبت السعي في تخفيف مايسد حاجة أولادها الصغار (أيتام الأم عن قريب: الحسن، والحسين، وأم كلثوم، وزينب).

وأعجبتني عبارة الصنعاني في كتابه الآخر عن تنازع العباس وعلي رضي الله عنهما، حيث قال:(لا يُستنكَر ما يقع بين الأعيان من الخِصام والترافع في الأمور الدنيوية، فإنَّ المالَ سببٌ للشجار والتنازع، فلا يُنكَر وقوع الخصومات مِن أفاضِل العِبَاد، لأنَّ ذلك جِبِلَّةٌ بَشَرِيَّةٌ لا يَكادُ يخلُو مِنهُ أحَدٌ مِن البَريَّةِ).

(1)

على أنَّ الحرص على المال الحلال مَشروع، والنزاعُ لأجلِه ليس فيه

ص: 483

مَذمة.

(1)

وثمة احتمالٌ إضافيٌ لانقباضها:

لما أرادَ النبي صلى الله عليه وسلم في مرضِه الذي تُوفي فيه أن ينيب أبا بكر بالصلاة، حاولت عائشة رضي الله عنها أن تعدِلَه إلى عمر رضي الله عنهما.

عن عائشة رضي الله عنها، قالت: لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه أتاه بلال يؤذنه بالصلاة، فقال:«مُروا أبا بكر فلْيُصَلِّ» ، قلت: إنَّ أبا بكر رجل أسيف، إنْ يقم مقامك يبكي، فلا يقدر على القراءة، فقال:

«مروا أبا بكر فليُصَلِّ» ، فقلت: مثله، فقال في الثالثة أو الرابعة:«إنكنَّ صواحبُ يوسف، مُروا أبا بكر فليُصلِّ» .

(2)

وبيَّنت عائشة رضي الله عنها قصدَها فيما ذهبت إليه، قالت:

«لقد راجعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ذلك وما حملني على كثرة مراجعته، إلا أنه لم يقع في قلبي أنْ يُحِبَّ الناسُ بعده رجلاً قامَ مقامَه أبداً، وإلا أني كنتُ أرى أنه لن يقوم مقامَه أحدٌ إلا تشاءَم الناس به، فأردتُ أنْ يعدل

(1)

. ينظر للفائدة: «السرُّ المكتوم في الفرق بين المالَين المحمود والمذموم» للسخاوي ـ بمقدِّمة وتحقيق: مشهور سلمان ـ.

(2)

«صحيح البخاري» رقم (678) و (679) و (712)، و (3385)، وغيرها،

و «صحيح مسلم» رقم (418).

ص: 484

ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر».

(1)

وهنا فاطمة رضي الله عنها استوطن الحزن قلبَها بفراق أبيها صلى الله عليه وسلم ترى وتسمع من بيتها صلاة أبي بكر في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتراه يصعد المنبر كل جمعة، ذلك المنبر الذي لم يصعد عليه إلا والدها صلى الله عليه وسلم، وكون أبي بكر رضي الله عنه الآن أصبح مرجع المسلمين وإمامهم، فتأتي هذه المواقف لِتُذكِّر فاطمة بأبيها فتزداد حزناً على حزن.

ومع محبتها وإجلالها أبا بكر إلا أن نفسها البشرية تجد فيها الحزن الكبير، فإذا انضم إلى ذلك رد طلبها مرتين: مرة في طلبها الإرث، ومرة حينما طلبت أن تُسنَد صدقاتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى زوجها، وامتنع أبو بكر عن الأمرين؛ طاعةً لأبيها، ورعاية للأمانة والمسؤولية؛ هذا كله يُوجِدُ في النفس انقباضاً، لا يدل على كراهة وبغض فضلاً أن يُدَّعى أن عليها مظلمة، واللَّه تعالى أعلم.

وذكر الشيخ: عبدالعزيز بن باز (ت 1420 هـ) رحمه الله أنَّ ما فعلَه الصدِّيقُ هُو الحَقُّ وهو ما أجمع عليه المسلمون ماعدا الرافضة، وأنَّ ما عمِلَهُ أبو بكر، عمِلَهُ الخلفاءُ بعده: عمر، وعثمان، وعلي، ولو كانت دعوى الرافضة

(1)

«صحيح البخاري» رقم (4445)، و «صحيح مسلم» رقم (418)، وانظر:«فتح الباري» لابن حجر (2/ 153).

ص: 485

حقاً، لأخذ الميراثَ عليٌّ ـ إبَّان خلافته ـ وأعطاه أولادَ فاطمة، وغيرهم.

وقال: (المقصود أنَّ الصديق بارٌّ راشِدٌ، وهكذا عمر، وهكذا عثمان، وهكذا علي، كلُّهم بارُّون في عدم التوريث، وفاطمة أخطأت في هذا رضي الله عنها وغلطت، فلعلَّ لها أسباباً ممن يتَّصِل بها من المنافقين، أو غيرهم، وإلا فالأمر واضح .... وذكر أن العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم يروون هذا الحديث .. فكونُها تهجر الصديق، هذا ليس بصحيح، وهو غلط، وليس للرافضة في هذا حجة، لأنَّ قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مقدَّمٌ على فاطمة وعلى غيرِها، والصديقُ أفضل منها وأعلم، وعمر أفضل منها وأعلم، وعثمان أفضل منها وأعلم، وعلي أفضل منها وأعلم من جهة الرجال .... إلخ.

(1)

قال الإمام: محمد العثيمين (ت 1421 هـ) رحمه الله عن هجر فاطمة أبا بكر رضي الله عنهما: (وأمَّا ما جرى لفاطمة رضي الله عنها فإنه من الاجتهاد الذي نرجو اللَّه تعالى أن يعفو عنها به، حيث هجرتْ أبا بكر رضي الله عنه وليس أهلاً لِأَنْ يُهجَر؛ لأنه خليفةُ أبيها، ولكنَّ هذا من باب الاجتهاد الذي إنْ أصابت

(1)

«الفوائد المجنية من التعليقات البازية على صحيح البخاري وفتح الباري» جمعها من دروسِ ابن باز الصوتية د. سعيد بن وهف القحطاني (2/ 1557) تعليق على حديث رقم (6726) في كتاب الفرائض، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لانورث ما تركنا صدقة. والكتاب طَبْعَةٌ وقْفِيَّةٌ 1439 هـ.

ص: 486

فيه فلها أجران، وإنْ أخطَأتْ فلها أجرٌ واحد، ونحنُ نُشهِدُ اللَّهَ، وملائكتَه، وجميعَ خلقِه، أنَّ الصواب مع أبي بكر، ومع بقية الصحابة رضي الله عنهم .... إلى أن قال:

ونحن نعلمُ أن قرابةَ الرسولِ عند أبي بكر أحبُّ من قرابةِ أبي بكر لأبي بكر، كما صرَّح به في الحديث نفسه.

مسألة: هل محبة الرسول، ومحبة آل الرسول تقتضي مخالفة ما شرَعه الرسولُ صلى الله عليه وسلم؟

الجواب: لا، بل كلما ازداد الإنسان محبةً للرسولِ صلى الله عليه وسلم ولآلِه، فإنه يتَّبع منهجَهم، ويحذو حذوَهم، ويبرأ من الغلو الذي يبرأون منه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذِّر أصحابه من الغلو فيه عليه الصلاة والسلام).

(1)

وقال العثيمين ــ أيضاً ـ عن هجر فاطمة أبا بكر رضي الله عنهما: (اللَّهم اعفُ عنها، وإلا فإنَّ أبا بكر رضي الله عنه ما استندَ إلى رأي، وإنما استندَ إلى نصٍّ، وكان عليها رضي الله عنها أن تقبلَ قولَ النبيِّ عليه الصلاة والسلام:«لا نورث، ما تركنا صدقةٌ» . ولكن عند المخاصمة لا يبقى للإنسان عقل يُدرك به ما يقول

(1)

«شرح صحيح البخاري» لابن عثيمين ـ ط. مكتبة الطبري في القاهرة ـ (7/ 52 ـ 53) حديث (6727). وفي ط. مؤسسة الشيخ العثيمين (14/ 870) حديث رقم

(6726).

ص: 487

أو ما يفعل أو ما يتصرف فيه

(1)

، فنسأل اللَّه

أن يعفو عنها عن هِجْرَتِها خليفةَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

فإن قال قائل: ما الجمعُ بين فِعلِ فاطمة رضي الله عنها وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث» ؟

(2)

فالجواب: لعلها ترى رضي الله عنها أن الهجر لسبب ـ ولو طال ـ لا بأس به، كما هجرَ ابنُ عمر رضي الله عنهما أحدَ أبنائه لما حدَّثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تمنَعُوا إماءَ اللَّهِ مساجدَ اللَّهِ» .

(3)

قال: واللَّهِ لَنمنَعَهُنَّ، فأقبلَ عليه عبدُاللَّه بنُ عمر، وسبَّه سبَّاً شديداً، وقال: لا أكلِّمُكَ ما حَييتُ.

(4)

(1)

يقصد الشيخ بكلامه هذا ــ وهو من دروسه الشفهية التي نقلها مكتوبةً طلابُه ـ: أنَّ من طبيعة البشر عند الغضب: نقصان الإدراك والفهم، وحُسن التصرف أحياناً، لا أنه حُكْمٌ خاصٌّ بفاطمة في هذه المسألة، بل ذِكْرٌ للسببِ الطبعي لهذا التصرف؛ لذلك ورد حديثُ أبي بكرة الثقفي رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«لا يقضينَّ حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان» . أخرجاه في «الصحيحين» ، ومثله طلاق الغضبان، وتركُ الصلاة عند حضور الطعام، ومدافعة الأخبثان، وذلك كله لتأثير هذه الأمور على الإدراك ـ والله أعلم ـ.

(2)

أخرجه: البخاري في «صحيحه» رقم (6065) و (6076)، ومسلم في «صحيحه» رقم (2559).

(3)

أخرجه: البخاري في «صحيحه» رقم (900)، ومسلم في «صحيحه» رقم (442).

(4)

قول ابن عمر لابنه في: مسلم في «صحيحه» رقم (442).

ص: 488

فكأنهم يرون أنَّ الهجرَ الممنوع فوقَ ثلاثة أيام إذا لم يكُن سَببٌ، وأما مع قيام السبب، فلا بأس.

إلى أن قال الإمام العثيمين رحمه الله:

فإن قال قائل: بعضُ الناسِ يجدُ في صدرِهِ عَلَى عليٍّ وفاطمة رضي الله عنهما فما حُكْمُ ذلك؟

فالجواب: هذا لا يجوز؛ لأنَّ هذا اجتهادٌ منهم، والإنسانُ بشَر).

(1)

قال الشيخ عبدالعزيز بن عبداللَّه الراجحي ـ حفظه اللَّه ـ: (ولم تطل مُدَّتُها بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، ويحتمل أن لو طالت مدتها، لفهمت ذلك من الصحابة.

وهي قد هجرَتْ أبا بكر، لأنها ظنَّتْ أن لها حقاً.

وهذا فيه دليل على أن الإنسان قد يخطئ ولو كان كبيراً أو عظيماً، فليس هناك معصومٌ إلا الرسولُ صلى الله عليه وسلم فيما يبلِّغ عن اللَّهِ؛ أما فاطمة رضي الله عنها ــ وهي سيدة نساء أهل الجنة، ومن أفضل النساء ـ فقد غلطت، حيث اجتهدَتْ وأخطأَتْ، وظنَّتْ أن لها حقَّاً، وكان أبو بكر رضي الله عنه هو المصيبُ .... وذكر أنَّ فاطمة لم تقتنع، وأصرَّت على رأيها، فلم تزل مهاجرة

(1)

«التعليق على صحيح مسلم» لابن عثيمين (9/ 78 ـ 82).

ص: 489

أبا بكر حتى توفيت).

(1)

وذكر الشيخ الراجحي نحوَه في موضع آخر، قال: (إنَّ فاطمة ادَّعت أنَّ لها حقاً في الميراث، وكذلك كان عليٌّ معها، وهما ليسا معصومين،

أما أبو بكر فمَعَهُ النصُّ وهو قولُه صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركنا صدقةٌ» . وقد روى هذا النصَّ جماعةٌ من الصحابة منهم عليٌّ أيضاً، بل رواه أكثرُ العشرة المبشرين بالجنة.

والقاعدةُ في هذا: أنَّ السُّنَّةَ حاكِمَةٌ على كل أحَدٍ من الصحابة فمَن بعدهم، وليس قولُ أحَدٍ حاكماً على السُّنَّة كائناً مَن كان، فالحجةُ

كتابُ اللَّه، وسُنَّةُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وليس هناك أحدٌ مَعصومٌ

ـ وإن كان عظيماً ـ إلا النبيُّ صلى الله عليه وسلم).

(2)

ص: 490