الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الميراث، كما خَفِيَ على أزواجِ النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخبرتْهُنَّ عائشةُ بذلك، ووَافَقْنَها عليه.
وليس يُظَنُّ بفاطمة رضي الله عنها أنها اتَّهمَت الصديق رضي الله عنه فيما أخبرها به، حاشاها وحاشاه من ذلك، كيف وقد وَافَقَهُ على رواية هذا الحديث:
…
عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن
…
عبد المطلب، وعبدالرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيداللَّه، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وعائشة؟ ! رضي الله عنهم أجمعين، كما سنبينه قريباً.
ولو تفرَّد بروايته الصديق رضي الله عنه؛ لوجب على جميع أهل الأرض قبول روايته، والانقياد له في ذلك.
(1)
وإن كان غضبُها لأجل ما سألَتِ الصديقَ ــ إذْ كانت هذه الأراضي صدقةً لا ميراثاً ــ أن يكون زوجُها ينظرُ فيها، فقد اعتذر بما حاصله أنه لما كان خليفةَ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فهو يرى أنَّ فرضاً عليه أن يعملَ بما كان يعملُه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويَلِيَ ما كان يليه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: «وإني واللَّهِ لا أدعُ أمراً كان يصنعُه فيه
…
(1)
حديث لا نورث، مروي أيضاً في كتب الرافضة
كما في «الأصول من الكافي» (1/ 32 ـ 34)، أفاده: الشيخ: إحسان إلهي ظهير في كتابه: «الشيعة وأهل البيت» (ص 87).
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا صنعته». قال: فهجرته فاطمة، فلم تُكلِّمه حتى ماتت.
وهذا الهجران ـ والحالة هذه ـ فَتَحَ على فِرقة الرافضة شرَّاً عرِيضَاً، وجَهْلاً طويلاً، وأدخلوا أنفسهم بسببه فيما لا يعنيهم، ولو تفهَّموا الأمور على ما هي عليه؛ لعرفوا للصديق فضلَه، وقبلوا منه عذرَه الذي يجبُ على كُلِّ أحدٍ قبوله، ولكنهم طائفةٌ مخْذُولَةٌ، وفِرقَةٌ مَرذُولَةٌ، يتمسَّكُون بالمتشابه، ويتركون الأمور المحكمةَ المقرَّرَة عند أئمةِ الإسلام، من الصحابة والتابعين فمَن بعدهم مِن العلماء المعتبرين في سائر الأعصار والأمصار، رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين). انتهى
(1)
(1)
«البداية والنهاية» (8/ 189).
وانظر: «التوضيح لشرح الجامع الصحيح» لابن الملقن (18/ 372).
وذكر رشيد الكنكوهي الحنفي الهندي (ت 1323 هـ) في «لامع الدراري على صحيح البخاري» (7/ 290) ـ ط. الإمدادية ـ ما خلاصته: أن الغضب من فاطمة إنما هو ظن من الراوي، وفاطمة نادمة فيما بدرت إليه، وأما عدم كلامها مع أبي بكر، فلأجل ندمها عما بدر منها من السؤال عن الميراث! ! أو عدم الكلام معه في الميراث مرة أخرى،
…
أو غضبت على نفسها لأنها طلبت من الخليفة شيئاً من الدنيا.
قلت: وهذا اجتهاد من الكنكوهي لم أجد أحداً قال به، وهو بعيد.
إشكال:
قد يقول قائل: بأن فاطمة لم تقبل قول أبي بكر، لتأويلها على غير ما رآه أبو بكر وأيَّدَه عامةُ الصحابة، بدليل أن العباسَ بنَ عبدالمطلب عمَّ النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجَها عليَّ بنَ أبي طالب رضي الله عنهم استمرَّا في طلب الميراث، فطلباه من عمر بن الخطاب في خلافته ــ كما في حديث مالك بن أوس بن الحدَثَان
(1)
ــ، وهو قول عمر لهما: (ثُمَّ جِئْتُمَانِي تُكَلِّمَانِي، وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ، وَأَمْرُكُمَا وَاحِدٌ، جِئْتَنِي يَا عَبَّاسُ، تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، وَجَاءَنِي هَذَا ــ يُرِيدُ عَلِيَّاً ــ يُرِيدُ نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا، فَقُلْتُ لَكُمَا: إِنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» ، فَلَمَّا بَدَا لِي أَنْ أَدْفَعَهُ إِلَيْكُمَا
…
)
فدلَّ هذا على أنهما لم يقبلا حكم أبي بكر رضي الله عنه، ورأيُهما ورأي فاطمة في المسألة واحد.
فالجواب:
العبارة موضع إشكال بين العلماء، وقد اتفقوا على تأويلها بأن المراد:
احتجاج كل واحد منها بحكم حقِّه من النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يُورَث.
(1)
سبق ذكره بطوله في الباب الأول: الفصل الأول: المبحث السابع.
وأن طلبهما التولية لا التمليك، يتولونها لتصريفها كما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتصرف فيها، ولما أخذاها من عمر بعد سنتين من خلافته، اختصما، فأرادا قسمتها بينهما في التصرف فيها لا في تمليكهما.
ولم أجد مِن العلماء مَن طعن في ثبوت هذه الجملة؛ لأن الحديث في الصحيحين ـ جاوز القنطرة ـ، وسياقه بتمامه يدل على ضبط رواته، فهو متفَّقٌ عليه ـ ولله الحمد ـ.
ثم وجدتُ كلاماً جديداً في تفسير الإشكال، ذكره الصنعاني في رسالة مفردة في هذه المسألة، سيأتي نقل كلامه بعد كلام الأئمة السابقين:
قال المازري (ت 536 هـ) رحمه الله: (وأمَّا الاعتذارُ عن عليٍّ وعبَّاس رضي الله عنهما في أنهما تردَّدا إلى الخليفتين مع قوله: صلى الله عليه وسلم «لا نورث ما تركنا صدقة» ، وتقريرُ عُمَر عليهما أنهما يعلمان ذلك؛ فأمثل ما فيه، ما قاله بعض الأئمة: أنهَّما طلبا أن يقسماها بينهما نصفين ينتفعان بهما على حسب ما ينفعهما الإِمام بها لو وليها بنفسه؛ فكَرِهَ عُمَر أن يوقع اسم القسمة عليها؛ لئلا يظن بذلك مع تطاول الأزمنة أنّها ميراث، وأنَّه صلى الله عليه وسلم وُرِث، لا سيما وقسمةُ الميراث بين العم والبِنت نصفان
(1)
فتكون مطابقة الشَّرع لما يقع اتَّفاقاً واجتهاداً من آكد ما يُلْبِسُ ويُوهم في ذلك أنّه صلى الله عليه وسلم وُرِث ما تَرك،
(1)
بل في هذه المسألة: للبنت النصف، وللزوجات الثمن، وللعم الباقي تعصيباً.
وإن كان منهما ومن فاطمة رضي الله عنهم قبل ذلك ما يُوهم أنهم طلبوا التَّمليك فلَعلَّهم قبل سماعهم خبر: «لا نورث» .
ومما يدل على ما قلناه: ما قاله أبو داود: أنه لم يختلف علي رضي الله عنه أنه لما صارت الخلافة إليه لم يغيِّرها عن كونها صدقة
(1)
…
).
(2)
وذكر القاضي عياض المالكي (ت 544 هـ) رحمه الله أن العباس يحتج بحكم نصيبه وحقِّه من ولاية النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالعمومة، وهذا بحكم حقِّ زوجه ونصيبها من قُربى النبوة، لا أنهما طلبا منه ما قد عرفا منع النبى صلى الله عليه وسلم لهما منه مما منعهما منه أبو بكر رضي الله عنه، وبيَّنَهُ لهما وسلَّمَا له ذلك، ثم لعمر أول أمرهما، ثم جاءا مرَّةً أخرى يطلب كلٌّ واحدٍ منهما الانفراد بذلك
…
ثم ذكر أن عمر بعد سنتين من خلافته أعطاهما التصرَّف فيها
…
ثم قال عياض: فهذا دليل أن نزاعهما أولاً وآخِراً في ولايتها لا في تمليكها، ويدل
(1)
انظر في هذا الإلزام القوي: «تركة النبي صلى الله عليه وسلم والسبل التي وجهها فيها» لحماد بن إسحاق الأزدي (ت 267 هـ)(ص 90)، و «منهاج السنة» لابن تيمية (6/ 346)، ومنه قوله:(فلو كان ذلك ظلماً وقَدِرَ على إزالته، لكان هذا أهون عليه من قتال معاوية وجيوشه. أفتراه يقاتل معاوية، مع ما جرى في ذلك من الشر العظيم، ولا يعطي هؤلاء قليلاً من المال وأمرُه أهون بكثير)؟ !
(2)
«المعلم بفوائد مسلم» (3/ 19)، وعنه: عياض في «إكمال المعلم» (6/ 79)، والنووي في «شرح مسلم» (12/ 73).
على صحة هذا قوله في مسلم: «فدفعها إلى علي وعباس فغلبَه عليها» . يعني علياً).
(1)
وقال أبو العباس القرطبي (ت 656 هـ) رحمه الله: (وأما منازعة علي والعباس، فلم تكن في أصل الميراث، ولا طلبَا أن يتملكا ما تركَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أموال بني النضير؛ لأربعة أوجه:
أحدها: أنهما قد كانا ترافعا لأبي بكر في ذلك، فمنعهما أبو بكر مستدلاً بالحديث الذي تقدَّم، فلما سمعاه أذعنا، وسكتا، وسلَّما، إلى أن توفي
…
أبو بكر، وولي عمر، فجاءاه، فسألاه أن يوليَهُما على النظر فيها، والعمل بأحكامها، وأخذها من وجوهها، وصرفها في مواضعها، فدفعها إليهما على ذلك، وعلى ألا ينفرد أحدهما عن الآخر بعمل حتى يستشيره، ويكون معه فيه، فعملا كذلك إلى أن شق عليهما العمل فيها مجتمعين، فإنهما كانا بحيث لا يقدر أحدهما أن يستقل بأدنى عمل حتى يحضر الآخر، ويساعده، فلما شق عليهما ذلك، جاءا إلى عمر رضي الله عنه مرَّة ثانية، وهي هذه الكرة التي ذكرت هنا، يطلبان منه أن يقسمها بينهما، حتى يستقل كل واحد منهما بالنظر فيما يكون في يديه منها، فأبى عليهما عمر ذلك، وخاف إن فعل ذلك أن يظن ظانٌّ أن ذلك قسمة ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، فيعتقد بطلان قوله:
…
(1)
«إكمال المعلم بفوائد مسلم» للقاضي عياض (6/ 81).
«لا نورث» ، لا سيما لو قسمها نصفين، فإن ذلك كان يكون موافقًا لسُنَّةِ القَسْم في المواريث؛ فإن من ترك بنتَاً، وعمَاً، كان المال بينهما نصفين: للبنت النصف بالفرض، وللعم النصف بالتعصيب
(1)
. فمنع ذلك عمر؛ حسمَاً للذريعة، وخوفَاً من ذهاب حكم قوله:«لا نورث» .
والوجه الثاني: أن عليَّاً لما ولي الخلافة لم يغيرها عما عُمل فيها في عهد أبي بكر، وعمر، وعثمان، ولم يتعرض لتملكها، ولا لقسمة شيء منها، بل كان يصرفها في الوجوه التي كان من قبله يصرفها فيها، ثم كانت بيد حسن بن علي، ثم بيد حسين بن علي، ثم بيد علي بن الحسين، ثم بيد الحسين بن الحسن، ثم بيد زيد بن الحسن، ثم بيد عبداللَّه بن الحسن، ثم تولاها بنو العباس على ما ذكره أبو بكر البرقاني في «صحيحه» .
وهؤلاء كُبراء أهل البيت رضي الله عنهم، وهم معتمد الشيعة وأئمتهم،
…
لم يُرو عن واحد منهم: أنه تملَّكها، ولا ورِثها، ولا وُرِثَتْ عنه، فلو كان ما يقولُه الشيعة حقَّاً؛ لأخذها علي، أو أحدٌ من أهل بيته لمَّا ظفروا بها،
…
ولَمْ فَلا.
والوجه الثالث: اعتراف علي والعبَّاس بصحة قوله صلى الله عليه وسلم: «لا نورث، ما تركنا صدقة» ، وبعلم ذلك حين سألهما عن علم ذلك، ثم إنهما
(1)
بل في هذه المسألة: للبنت النصف، وللزوجات الثمن، وللعم الباقي تعصيباً.
أذعنا، وسلَّما، ولم يبديا ـ ولا أحدٌ منهما ــ في ذلك اعتراضاً، ولا مَدفعَاً، ولا يحل لمن يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يقول: إنهما اتقيا على أنفسهما؛ لما يُعلَم من صلابتهما في الدين، وقوتهما فيه، ولما يُعلم من عَدْل عمر.
وأيضَاً: فإن المحل محل مناظرة، ومباحثة عن حكم مال من الأموال، ليس فيه ما يفضي إلى شيء مما يقوله أهل الهذيان من الشيعة.
ثم الذي يقطع دابر العناد ما ذكرناه من تمكُّن عليٍّ وأهلِ بيته من الميراث، ولم يأخذوه، كما قلناه.
والوجه الرابع: نصُّ قول عمر لهما، وحكايته عنهما في آخر الحديث، حيث قال لهما:«ثم جئتني أنت وهذا، وأنتما جميع، وأمركما واحد، فقلتم: ادفعها إلينا، فقلت: إن شئتم دفعتها إليكما، على أن عليكما عهداللَّه أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأخذتماها بذلك، قال: أكذلك؟ قالا: نعم» . وهذه نصوص منهم على صحة ما ذكرناه.
وإنما طوَّلنا الكلام في هذا الموضع لاستشكال كثيرٍ من الناس لهذا الحديث، وللآتي بعده، ولخوض الشيعة في هذا الموضع، ولتقوُّلهم فيه بالعظائم على الخلفاء البررة الحنفاء).
(1)
(1)
«المفهم» للقرطبي (3/ 563 ـ 565).
ولمحمد بن إسماعيل الصنعاني (ت 1182 هـ) رحمه الله رسالة بعنوان: «رفع الالتباس عن تنازع الوصي والعباس» ذكر الإشكال في حديث مالك بن أوس بن الحدَثَان، المتضمِّنَ تنازع العباس وعلي، وذكر مراراً أن فاطمة وعلياً والعباس لم يسألوا إرثهم من النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما علموا من أبي بكر حديث:«لانورث» .
وأورد تأويل من تأوَّل كلمة عمر بن الخطاب في مجئيهما لطلب إرثهما، خاصة تأويل ابن حجر: لو كان يورث.
(1)
ورد عليهم تفصيلاً من عدة
(1)
قال ابن حجر في «فتح الباري» (6/ 207): (
…
وفي ذلك إشكال شديد، وهو أن أصل القصة صريحٌ في أن العباس وعلياً قد علما بأنه صلى الله عليه وسلم قال:«لا نورث» .
فإن كانا سمعاه من النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يطلبانه من أبي بكر؟ !
وإن كانا إنما سمعاه من أبي بكر أو في زمنه بحيث أفاد عندهما العلم بذلك، فكيف يطلبانه بعد ذلك من عمر؟ !
والذي يظهر ــ واللَّه أعلم ـ حمل الأمر في ذلك على ما تقدم في الحديث الذي قبله في حق فاطمة، وأن كلا من علي وفاطمة والعباس اعتقد أن عموم قوله:«لا نورث» مخصوصٌ ببعض ما يخلِّفُهُ دون بعض؛ ولذلك نسب عمر إلى علي وعباس أنهما كانا يعتقدان ظلم من خالفهما في ذلك.
وأما مخاصمة علي وعباس بعد ذلك ثانياً عند عمر، فقال إسماعيل القاضي فيما رواه الدارقطني من طريقه: لم يكن في الميراث، إنما تنازعا في ولاية الصدقة، وفي صرفها كيف تُصرف.
كذا قال، لكن في رواية النسائي، وعمر بن شبة، من طريق أبي البختري ما يدل على أنهما أرادا أن يَقسِمَ بينهما على سبيل الميراث، ولفظه في آخره: ثم جئتُمَاني الآن تختصمان يقول هذا: أريد نصيبي من ابن أخي، ويقول هذا: أريد نصيبي من امرأتي! واللَّه لا أقضي بينكما إلا بذلك.
أي: إلا بما تقدم من تسليمها لهما على سبيل الولاية. وكذا وقع عند «النسائي» من طريق عكرمة بن خالد، عن مالك بن أوس، نحوه.
وفي «السنن» لأبي داود، وغيره: أرادا أن عمر يقسمها لينفرد كل منهما بنظر ما يتولاه، فامتنع عمرُ من ذلك، وأراد أن لا يقع عليها اسم قَسْمٍ، ولذلك أقسَمَ على ذلك؛ وعلى هذا اقتصر أكثر الشرَّاح واستحسنوه. وفيه من النظر ما تقدَّم، وأعجب من ذلك جزْمُ ابنِ الجوزي ثم الشيخ محيي الدين بأن علياً وعباساً لم يطلبا من عمر إلا ذلك، مع أن السياق صريح في أنهما جاءاه مرتين في طلب شيءٍ واحد، لكن العذر لابن الجوزي والنووي أنهما شرحا اللفظ الوارد في «مسلم» دون اللفظ الوارد في «البخاري» ، واللَّه أعلم.
وأما قول عمر: «جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك» فإنما عبَّر بذلك لبيان قسمة الميراث كيف يُقسم أن لو كان هناك ميراث، لا أنه أراد الغض منهما بهذا الكلام
…
). انتهى كلام ابن حجر رحمه الله.
هذا، وقد استظهر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله كما في «التعليق على صحيح البخاري»
…
ـ ط. مؤسسة الشيخ ـ (8/ 115) رقم (4033) أن الطلب ليس للميراث، وإنما أن يأخذا منها النفقة لأهليهما، والباقي يعملان فيهما، ولا يُعتبر هذا إرثاً.
أوجه، منكراً وقوع التأويل بينهما، وبيَّنَ أن المراد بكلمة عمر ـ وقد عرض رضي الله عنه الموضوع عليهما من أوله ـ: مجيئهما الأول في خلافة أبي بكر
…
ـ
نظراً لقرب عمر منه ـ وطلبهما عرض الموضوع على أبي بكر بطلب قسمة الميراث، ودلَّل الصنعاني على هذا التوجيه من تسعة أوجه، فلتُراجع.
وذكر أن مجئ العباس وعلي إلى عمر ثلاث مرات: مرة في أول خلافة
…
أبي بكر، ومرة بعد سنتين من خلافة عمر واستلامهما رعاية الصدقات، وبعد ذلك بسنة لمَّا وقع الاختلاف بينهما رضي الله عنهم.
(1)
والذي يظهر لي ـ واللَّه أعلم ـ أنَّ علياً لما وجد في نفسه أن أبا بكر استبدَّ بالأمر دونه في المبايعة الأولى في السقيفة ـ كما ذكر ذلك في آخر الحديث الأول في هذا المبحث ـ، جعل زوجته فاطمة المتحدث والمطالب بحقِّها وما يعرض لهما من طلبات واحتياجات أخرى.
لهذا يمكن توجيه «فلم تكلمه» أي عامةً بمعنى أن لا نفهم الهجر وعدم التكليم فيما طالبت به (الميراث)، بل يشمل غير ذلك، فلا يمنع أنها كانت قبل ذلك ترفع حاجاتها ثم انقبضت، ولا يقال بأن زوجها أولى برفع حاجاتها؛ لأن زوجها قد وجد في نفسه بعد البيعة.
وكون الطلبات تأتي من فاطمة أوجه وأقوى وأقرب إلى الإجابة؛ لمحبة وإجلال أبي بكر والصحابة لها رضي الله عنهم أجمعين.
(1)
«رفع الالتباس عن تنازع الوصي والعباس» للصنعاني (ص 68 وما بعدها).
والذي لاشك فيه ولا مرية أنها لم تُطِل الحديث، ولم تناقش أبا بكر
(1)
، ولم تتردد عليه وعلى عمر، ولم تطلب الإرث مرة ثانية، ولم تخطب أمام ملائٍ من الصحابة ـ كما في الأحاديث المكذوبة.
(2)
وكانت رضي الله عنها أكمل ديناً، وأرجح عقلاً، وأرق فؤاداً ـ لحزنها المتمكن منها بوفاة والدها صلى الله عليه وسلم ــ، من أن تجعل الميراث قضية، وأن تتردد على الخليفة، وهي امرأة مأمورة بالستر والامتناع عن حضور مجامع الرجال، ولها زوج حاضر، ولها أن ترفع طلبها بواسطة أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهم، لكن الذي يبدو لي ـ والعلم عند اللَّه ـ أن الذي بدأ بها، واستمر ملحاً عليها، جاعلاً إياها الواجهة: زوجها رضي الله عنه، لأنه كان في نفسه شئ على أبي بكر ـ كما في الحديث ـ، ولأن فاطمة طلبت من أبي بكر مرة أخرى أن يتولى صدقات النبي صلى الله عليه وسلم زوجُها، فلِمَ لمْ يطلب هو؟ !
وهل كانت خائفة تظن أن أبا بكر سيُنقِص من حقها من صدقات والدها في النفقة عليها وعلى آل البيت من زوجاته وغيرهم، فخشيت ذلك، وطلبت قيام زوجها وتوليه الصدقات؟
كلا، فهو الصادق الأمين العادل البار الراشد رضي الله عنه.
(1)
سبق ذكر بعضها، وكلُّ الأحاديث التي فيها المقاولة والمناقشة ضعيفة جداً.
(2)
وستأتي الإشارة إليها ضمن مسائل هذا المبحث.
بل يظهر ـ واللَّه أعلم ـ أنها تلقت الطلب والرغبة من زوجها، وكان هو رضي الله عنه خلفها في حثها ورغبته أن تطالب فاطمة بما طالبت به، لوجاهتها ومكانتها.
ومما يدل على ذلك: تكرار طلب علي والعباس أن يتوليا صدقات
…
النبي صلى الله عليه وسلم زمن أبي بكر، ثم زمن عمر كما في الحديث الطويل، حديث مالك بن أوس بن الحدثان في «الصحيحين» .
(1)
ثم وجدتُ ـ ولله الحمد والمنة ـ الصنعانيَّ رحمه الله يذكر أن العباس وعلياً ذهبا لعمر في خلافة أبي بكر رضي الله عنهم يطلبان منه رفع طلبهما بقسمة الميراث، وكان هذا قبل ذهاب فاطمة، واستدلَّ بأمرين:
1.
أن المعروف أن الذي يطلب المواريث: الرجالُ، فإنهم هم الذين يخاطبون الأجانب دون النساء، وإن كان الحقُّ لهنَّ، فهذه أعرافٌ سلفاً وخلفاً.
2.
أنها لو كانت البتول ذهبَت أولاً إلى أبي بكر لطلب الميراث، وأجاب عليها برواية الحديث .. لأَخْبَرتْ بذلك زوجَها، ولما طلَبَ مِن عمر.
وذكر أن علياً لم يخبر فاطمة بالجواب قبل ذهابها؛ لئلا يكدرها بهذا الخبر، ويريد منها أن تعلم به رواية عالية من أبي بكر مباشرة.
(2)
(1)
سبق ذكره بطوله في الباب الأول: الفصل الأول: المبحث السابع.
(2)
«رفع الالتباس عن تنازع الوصي والعباس» للصنعاني (ص 83 ـ 84).