المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الحادية عشرة: ما قيل في بيعة علي وآل هاشم أبا بكر ــ اختصارا ــ مما يستفاد منه في علاقة فاطمة بأبي بكر رضي الله عنهم - فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - سيرتها، فضائلها، مسندها - رضي الله عنها - - جـ ٤

[إبراهيم بن عبد الله المديهش]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثاني: الأحاديث الواردة في فضائلها، وفيه خمسة فصول:

- ‌الفصل الأول: منزلتها عند أبيها صلى الله عليه وسلم وفيه سبعة مباحث:

- ‌المبحث الأول:محبة النبي صلى الله عليه وسلم لها، واحتفاؤه بها

- ‌معنى قول الإمام البخاري في الرجل: (فيه نظر):

- ‌ محبة النبي صلى الله عليه وسلم لها

- ‌ هل فاطمة أفضل بنات النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الأحاديثُ الدالَّةُ على اختصاصِ فاطمةَ بشئٍ من المحبَّةِ والاحتفاءِ والفضلِ إنما وردَتْ بعدَ وفاةِ أخواتِها، وتفرُّدِها عنهم، وذلك بعد…(شعبان 9 هـ)

- ‌ أحاديث موضوعة تدل على عظم محبة النبي صلى الله عليه وسلم وعنايته بفاطمة رضي الله عنها، مع تضمن بعضها قدحاً في مقام النبيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌آلُ البيت لهم من الفضائل الصحيحة ما يغنيهم عن هذه الأكاذيب المشينة

- ‌المبحث الثاني:زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لها في بيتها رضي الله عنها

- ‌مكان بيت فاطمة رضي الله عنها

- ‌المبحث الثالث:غيرة النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وأنها بضعة منه

- ‌ متى كانت الخِطْبَة من علي، والخُطبَة من النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ إشكال في قول المِسْوَر بن مَخْرَمَة رضي الله عنه: «وأنا يومئذ محتلم»، ومنه يُعلم وقت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌هل قوله: «فاطمة بضعة مني» في وقت حياة بعض أخواتها كزينب، وأم كلثوم رضي الله عنهن

- ‌ لماذا بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر في خُطبَة؟ وواجه عليَّاً بما يُعاب به

- ‌المبحث الرابع:دخولها وزوجها وذريتها في آل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ المراد بأهل البيت

- ‌المبحث الخامس:أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سِلْم لمَن سالمَها وزوجَها…وولدَيْها، وحَربٌ لمَن حارَبَهُم

- ‌الحديثُ تقلَّب بأيدي الشيعة الغلاة منهم ومَن دونهم، فذهب على أوجه شتَّى، لا يذهب مع طريق إلا ومعه وَهَنُه الشديد

- ‌المبحث السادس:اختياره صلى الله عليه وسلم لها الدار الآخرة

- ‌المبحث السابع:حثُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فاطمةَ على حُبِّ عائشةَ رضي الله عنهما

- ‌ العلاقة بين فاطمة، وعائشة رضي الله عنهما علاقة حميمية

- ‌الفصل الثاني: منزلة أبيها صلى الله عليه وسلم عندهاوفيه مبحثان:

- ‌المبحث الأول:برها بأبيها صلى الله عليه وسلم

- ‌نصرتها لأبيها صلى الله عليه وسلم

- ‌إطعامها والدها صلى الله عليه وسلم

- ‌معالجتها إياه صلى الله عليه وسلم

- ‌حزنها في مرض أبيها ووفاته صلى الله عليه وسلم

- ‌برها بوالدتها خديجة رضي الله عنهما

- ‌ يُلحظ أن لفاطمةَ رضي الله عنها حضوراً في أسفار والدها صلى الله عليه وسلم ومشاهده

- ‌المبحث الثاني:حفظها لسِرِّ أبيها صلى الله عليه وسلم

- ‌ يجوز إظهار السِّرِّ إذا انتهى وقتُه، بإظهارِ اللَّهِ له، أو أظهرَهُ صاحبُه الذي أسرَّ بِهِ

- ‌الفصل الثالث: منزلتها عند الشيخين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهم.وفيه مبحثان:

- ‌المبحث الأول:محبة أبي بكر ورعايته لها رضي الله عنهما

- ‌(مراسيل الشعبي)

- ‌ طعن الرافضة في أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه

- ‌المسألة الأولى: المحبة بين الصحابة وآل البيت

- ‌ حصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من بعض قريش جفوة على بني هاشم، بسبب الغَيرة

- ‌ومن الأمارات الكبيرة الظاهرة في تلك العلاقة الطيبة المتينة:

- ‌المسألة الثانية: طلبُ فاطمة الميراث، وغضبُها على أبي بكر، ولمَ غضبت بعد علمها بالحديث

- ‌وكان لفاطمة رضي الله عنها من أبي بكر رضي الله عنه طلبان اثنان:

- ‌ حديث لا نورث، مروي أيضاً في كتب الرافضة

- ‌المسألة الثالثة: هل وقع أبو بكر في أذية فاطمة وإغضابها، مما يُغضِبُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم؟ولِمَ امتنع من إجابتها؟وبيان تأكيد آل البيت والصحابة حُكَمَ أبي بكر رضي الله عنهم

- ‌المسألة الرابعة: خُطبة فاطمة على ملأئٍ من الصحابة

- ‌المسألة الخامسة: إكرامُ أبي بكر فاطمة، وإحسانُه لها، وإعطاؤها المال الوفير

- ‌ تأثر متأخري الزيدية بالرافضة

- ‌المسألة السادسة: هل كشف أبو بكر بيت فاطمة رضي الله عنهما

- ‌ لم أجد أحداً ذكره كما ذكرَته الرافضة:لم أكبس بيت فاطمة

- ‌المسألة السابعة: صحة الجملة الواردة في الحديث المخرَّج في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: «فهجرَتْه حتى ماتت»، وإجابةٌ على شُبهَة مَن أنكرها

- ‌ مراسيل الزهري

- ‌ تعريف الهجر لغة وشرعاً:

- ‌خلاصة ما قيل في هجر فاطمة رضي الله عنها

- ‌المسألة التاسعة:هل ترضَّى أبو بكر فاطمةَ قبل وفاتها رضي الله عنهما

- ‌المسألة العاشرة:لماذا لم يخبر عليٌّ أبا بكر بوفاة فاطمة، ليصلِّي عليها

- ‌المسألة الحادية عشرة: ما قيل في بيعة علي وآل هاشم أبا بكر ــ اختصاراً ــ مما يستفاد منه في علاقة فاطمة بأبي بكر رضي الله عنهم

- ‌المسألة الثانية عشرة:موقف فاطمة رضي الله عنها من بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌ لم تشارك في الحياة السياسية، ولم تحضر المجالس الشورية مع الرجال في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين المهديين، بل وبعدهم أيضاً فترة طويلة

- ‌من شروط أهل الحل والعقد: الذكورية، وليس للنساء…مدخل فيه

- ‌ما يُلقَى مُشَافَهَةً جواباً لسؤال عابر، يختلِفُ عما يُكتب تحريراً، بل يختَلِفُ عما يُشرَحُ في متن عِلمِيٍّ يجمَعُ أطرافَ ما يُلقِيه الشارِحُ

- ‌لم يَرِدْ في موروث أهلِ السنة والجماعة حديثاً وعقيدةً وتاريخاً شئٌ عن مبايعة فاطمة أبا بكر رضي الله عنهما، وموقفها من البيعة

الفصل: ‌المسألة الحادية عشرة: ما قيل في بيعة علي وآل هاشم أبا بكر ــ اختصارا ــ مما يستفاد منه في علاقة فاطمة بأبي بكر رضي الله عنهم

‌المسألة الحادية عشرة: ما قيل في بيعة علي وآل هاشم أبا بكر ــ اختصاراً ــ مما يستفاد منه في علاقة فاطمة بأبي بكر رضي الله عنهم

-.

في المسألة قولان:

1.

لم يبايع عليٌّ أبا بكر إلا بعد وفاة فاطمة، كما ورد صريحاً في حديث عائشة في «الصحيحين» ، حتى وإنْ قيل بزيادة وإدراج الزهري في رواية معمر المخرجة في «مصنف عبدالرزاق» ـ كماسبق ـ فإن حديث عائشة فيه ما يدل على عدم المبايعة ـ وسبق بيان ذلك في المسألة السابعة ـ.

2.

أنه بايع مع الناس

(1)

، ثم انشغل بمرض فاطمة ومراعاة خاطرها

(1)

فائدة: ذكر ابن البنَّاء الحنبلي (ت 471 هـ) في كتابه «الرد على المبتدعة» (ص 610) آثاراً فيها ثناء علي بن أبي طالب على أبي بكر رضي الله عنهما، ثم قال:(وفي هذا إسقاطٌ لقولِ مَن قال: إنَّ عليَّاً والزبيرَ تأخرا عن بيعته).

وانظر: «الأنباء المستطابة في مناقب الصحابة والقرابة» لابن سيد الناس القفطي

(ص 225).

أقول: لا تلازم بين الثناء ومعرفة حق أبي بكر مع البيعة؛ لأن علياً لم ير أنه أحق بالخلافة مِن أبي بكر، أو أنه كان يُنقِص قدر أبي بكر، بل لأمور أخرى أشار إليها كما في حديث عائشة في الصحيحين، وورود الثناء من علي، ليس فيه أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقبل وفاة فاطمة رضي الله عنها أي قبل مبايعته إياه ـ واللَّهُ أعلم ـ.

ص: 497

بعد عتبها، ثم بايع أبابكر ثانية بعد وفاة فاطمة، ويعبِّر بعضهم بتجديد البيعة. قالوا: وقد ذُكرت بيعته الأولى في حديث أبي سعيد الخدري ـ وهو حديث فيه اختلاف ـ مخرَّج في «سنن البيهقي» ، وغيره.

قال البيهقي (ت 458 هـ) رحمه الله: (والذي روَى أن علياً لم يبايع أبا بكر ستة أشهر ليس من قول عائشة، إنما هو من قول الزهري، فأدرَجَه بعض الرواة في الحديث في قصة فاطمة رضي الله عنهم، وحَفِظَه معمر بن راشد فرواه مفصلاً وجعله من قول الزهري منقطعاً من الحديث.

وقد روينا في الحديث الموصول، عن أبي سعيد الخدري ومَن تابعه من أهل المغازي، أنَّ علياً بايعه في بيعة العامة التي جرَت في السقيفة

(1)

، ويُحتمَل أن علياً بايعَه بيعةَ العامة، كما روينا في حديث أبي سعيد الخدري، وغيره، ثم شجر بين فاطمة وأبي بكر كلام بسبب الميراث إذْ لَمْ تسمَعْ من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في باب الميراث ما سمِعَهُ أبو بكر وغيرُه؛ فكانت معذورة فيما طلبتْهُ، وكان أبو بكر معذورَاً فيما مَنع؛ فتخلَّفَ عليٌّ عن حضور أبي بكر حتى توفيَّتْ، ثم كان منه تجديد البيعة، والقيام بواجباتها، كما قال الزهري.

ص: 498

ولا يجوز أن يكون قعود عليٍّ في بيته على وجه الكراهية لإمارته، ففي رواية الزهري: أنه بايَعَهُ بعدُ، وعظَّمَ حقَّه، ولو كان الأمر على غير ما قلنا، لكانت بيعته آخر خطَأً.

ومَن زعم أنَّ علياً بايعه ظاهراً وخالفه باطناً، فقد أساءَ الثناءَ على عليٍّ، وقال فيه أقبح القول، وقد قال عليٌّ في إمارته وهو على المنبر: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعدَ نبيِّهَا صلى الله عليه وسلم، قالوا: بلى، قال: أبو بكر ثم عمر.

ونحن نزعم أن عليَّاً كان لا يفعل إلا ما هُو حقٌّ، ولا يقول إلا ما هو صِدقٌ، وقد فعلَ في مبايعة أبي بكر ومؤازرة عمر ما يليق بفضلِه، وعلمِه، وسابقَتِهِ، وحُسْنِ عقيدته، وجميلِ نيتِه في أداء النُّصحِ للراعي والرعية، وقال في فضلهما ما نقلناه في كتاب «الفضائل» ، فلا معنى لقولِ مَنْ قال بخلاف ما قالَ وفعَلْ.

وقد دخل أبو بكر الصديق على فاطمةَ في مرضِ موتها وترضَّاها حتى رضيَتْ عنه، فلا طائل لسُخْطِ غيرها ممن يدَّعِي موالاة أهل البيت، ثم يطعن على أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ويُهجِّنُ مَن يواليه، ويرميه بالعجز والضعفِ واختلافِ السرِّ والعلانية في القول والفعل، وباللَّهِ العصمة والتوفيق).

(1)

(1)

«الاعتقاد» للبيهقي (ص 494 ـ 495).

ص: 499

وقال البيهقي ـ أيضاً ـ: (وقول الزهرى فى قعود عليٍّ عن بيعة أبى بكر رضي الله عنه حتى توفيت فاطمة رضي الله عنها منقطعٌ،

(1)

وحديث أبى سعيد رضي الله عنه فى مبايعته إياه حين بويع بيعة العامة بعد السقيفة أصحُّ.

ولعلَّ الزهريَّ أراد قعودَه عنها بعد البيعة، ثم نهوضَهُ إليها ثانياً، وقيامَهُ بواجباتها، واللَّه أعلم).

(2)

قال القاضي عياض (ت 544 هـ) رحمه الله: (قال الإمام المازَرِي: إنما تأخر عليٌّ عن البيعة، فقد ذكر عذرَه عنه في «كتاب مسلم» واعتذار الصديق عنه.

ويكتفى فى بيعة الإمام بآحادٍ من أهل الحل والعقد، ولا يفتقر إلى بيعة كل الأمة، ولا يلزم كل الأمة أن يأتوا إليه يضعون أيديهم بيده، وإنما يلزم إذا عقد أهل الحل والعقد انقياد البقية ألا يظهروا خلافاً ولا يشقوا العصا.

وهكذا كان عليٌّ رضي الله عنه، ما ظهر على أبي بكر رضي الله عنه خلافاً ولا شق عصاه، ولكنه تأخَّرَ عن الحضور عنده فى هذا الأمر العظيم، مع عِظَم قَدرِه هو نفسه؛ لموجدَةٍ فى نفسِه ذكرَها في الكتاب، وهو أنه قال: نرى لنا في هذا الأمر نصيباً، فاستبدَّ علينا به، فوجدنا فى أنفسنا.

(1)

. لكن في حديث عائشة في «الصحيحين» ما يدل على هذا ـ كما سبق في المسألة السابعة ـ.

(2)

«السنن الكبرى» للبيهقي (6/ 300).

ص: 500

ولعله أشار إلى أن أبا بكر استبدَّ عنه بقَصصٍ وأمورٍ عظام، وحقُّ مثلِه أنْ يحضُرَ فيها، ويُشَاوَر عليها.

إلى أن قال عياض:

وقد يكون الذى وجدَ عليٌّ رضي الله عنه ما في نفسِه من الحق الذى استبدَّ عليه فيه؛ أنه لم يُشاوَر عند عقد البيعة لأبي بكر رضي الله عنه، ولا عُقِدَت لمحضرِه، وكان من حقِّ مثله ذلك. لكن عُذرُ ذلك بيِّنٌ، المبادرة خوف الخلاف حينئذٍ).

(1)

(1)

«إكمال المعلم بفوائد مسلم» (6/ 84 ـ 86)، وانظر:«شرح النووي على مسلم»

(12/ 78).

وذكر ابن سيد الناس القفطي (ت 697 هـ) في كتابه: «الأنباء المستطابة في مناقب الصحابة والقرابة» (ص 226 ـ 228) أن عتب علي على أبي بكر لأمرين: لم يدخلهم ـ هو وآل هاشم ـ في المشورة عند عقد البيعة في سقيفة بني ساعدة، والثاني: عتب علي وفاطمة وآل هاشم من عدم توليتهم صدقات النبي صلى الله عليه وسلم.

وذكر عبدالملك بن أبي القاسم التوزري المعروف بابن الكردبوس (ت 605 هـ تقريباً) في كتابه: «الاكتفاء في أخبار الخلفاء» ـ ط. الجامعة الإسلامية ـ (1/ 237) أن الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر من المهاجرين: علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وخالد بن سعيد بن العاص، ثم بايعوه بعد.

قال: فأما علي فلم يبايعه حتى ماتت فاطمة رضي الله عنها وعنهم، وكان وفاتها بعد وفاة أبيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بستة أشهر. انتهى.

=

قلت: قارن ذلك بما ذكره المحب الطبري (ت 694 هـ) في «الرياض النضرة»

(1/ 244 وما بعدها).

ص: 501

قال أبو العباس القرطبي (ت 656 هـ) رحمه الله: (وقوله: «وكان لعليٍّ من الناس جهةٌ حياة فاطمة» جهة؛ أي: جاه واحترام، كان الناس يحترمون عليَّاً في حياتها كرامةً لها؛ لأنها بَضعة من رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو مباشرٌ لها، فلما ماتت وهُوَ لم يبايع أبا بكر، انصرف الناس عن ذلك الاحترام؛ ليدخل فيما دخلَ فيه الناس، ولا يفرِّق جماعتهم، ألا ترى أنه لما بايع أبا بكر أقبل الناسُ عليه بكل إكرام وإعظام؟ !

وقوله: «فلم يكن علي بايع تلك الأشهر» يعني: الستة الأشهر التي عاشتها فاطمة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا يُظَن بعلي أنه خالف الناس في البيعة، لكنَّه تأخر عن الناس لمانعٍ منعه، وهو الموجدة التي وجدها حيث استُبِدَّ بمثل هذا الأمر العظيم، ولم يُنتظر مع أنه كان أحق الناس بحضوره ومشورته، لكن العذر للمبايعين لأبي بكر على ذلك: الاستعجال؛ مخافةَ ثوران فتنة بين المهاجرين والأنصار، كما هو معروف في حديث السقيفة، فسابَقُوا الفتنةَ فلم يتَأتَّ لهم انتظاره لذلك).

(1)

(1)

«المفهم» للقرطبي (3/ 569 ـ 570).

ص: 502

قال ابن تيمية (ت 728 هـ) رحمه الله: (وكذلك من يقول: إن علياً وبني هاشم تخلَّفُوا عن بيعة أبي بكر ستة أشهر، يقول: إنهم لم يَضربوا أحداً منهم، ولا أكرهُوهُ على البيعة.

فإذا لم يُكرَهُ أحَدٌ على مبايعةِ أبي بكر، التي هي عنده متعيِّنة، فكيف يأمر بقتل الناس على مبايعة عثمان، وهي عنده غير متعينة؟

وأبو بكر وعمر مدَّة خلافتهما ما زالا مُكرِمين غايةَ الإكرام لعليٍّ وسائر بني هاشم، يقدمونهم على سائر الناس، ويقول أبو بكر:«أيها الناسُ، ارقبوا محمداً في أهل بيته» .

وأبو بكر يذهَبُ وحدَه إلى بيتِ علي، وعنده بنو هاشم، فيذكر لهم فضلَهم، ويذكرون له فضلَه، ويعترفون له باستحقاقِه الخلافة، ويعتذرون من التأخر، ويبايعونَه وهُو عندَهُمْ وحدَهُ.

والآثار المتواترةُ بما كان بينَ القوم من المحبةِ والائتلاف تُوجِبُ كذِبَ مَن نقلَ ما يخالف ذلك.

وعلي رضي الله عنه، ما زالا مكرِمين له غاية الإكرام بكل طريق، مقدِّمين له، بل ولسائر بني هاشم على غيرهم في العطاء، مقدِّمين له في المرتبة والحرمة والمحبة والموالاة والثناء والتعظيم، كما يفعلان بنظرائه، ويفضلانه بما

فضَّلَه اللَّهُ عز وجل به على مَن ليس مثله، ولم يُعرَفْ عنهم كلمةُ سوءِ في عليٍّ قَط، بل ولا في أحدٍ من بني هاشم.

ص: 503

ومن المعلوم أن المعاداة التي في القلب توجِب إرادةَ الأذى لمن يُعادى، فإذا كان الإنسان قادراً اجتمعت القدرة مع الإرادة الجازمة، وذلك يوجب وجودَ المقدور؛

(1)

فلو كانا مريدين بعليٍّ سوءاً، لكان ذلك مما يوجب ظهورَه لقدرتهما، فكيف ولم يظهر منهما إلا المحبة والموالاة؟ !

وكذلك علي رضي الله عنه قد تواتر عنه من محبتهما وموالاتهما وتعظيمهما وتقديمهما على سائر الأمة، ما يُعلم به حاله في ذلك؛ ولم يُعرف عنه قط كلمةُ سوءٍ في حقِّهما، ولا أنه كان أحق بالأمر منهما.

وهذا معروفٌ عند من عَرفَ الأخبار الثابتة المتواترة عند الخاصة والعامة، والمنقولة بأخبار الثقات.

وأما مَن رجعَ إلى ما ينقلُه مَن هُو مِن أجهلِ الناس بالمنقولات، وأبعدِ الناس عن معرفةِ أمورِ الإسلام، ومَن هو معروفٌ بافتراء الكذب الكثير، الذي لا يروج إلا على البهائم، ويروج كذِبُه على قومٍ لا يعرفون الإسلام: إما قوم سكان البوادي، أو رؤوس الجبال، أو بلدٍ أهله مِن أقل الناس علماً وأكثرهم كذباً، فهذا هُو الذي يضِلُّ .... إلى آخر كلامه رحمه الله

(2)

(1)

ينظر: «الإفصاح عن معاني الصحاح» لابن هبيرة (1/ 74)، «شرح النووي على مسلم» (12/ 78)، «فتح الباري» لابن حجر (7/ 494).

(2)

«منهاج السنة النبوية» (6/ 176 ـ 179).

ص: 504

أورد ابن كثير (ت 774 هـ) رحمه الله الحديثَ الذي فيه مبايعة علي

أبا بكر مع الناس أوَّل الأمر، وهو ما أخرجه البيهقي

(1)

من طريق ابن خزيمة،

(1)

أخرجه: الحاكم في «المستدرك» (3/ 80) رقم (4457)، وعنه: البيهقي في «السنن الكبرى» (8/ 143)، وفي «الاعتقاد» (ص 490) من طريق جعفر بن محمد بن شاكر. ــ ثقة، كما في «التقريب» (ص 180) ــ.

والبيهقي في «السنن الكبرى» (8/ 143)، وفي «الاعتقاد» (ص 492)، ومن طريقه:[ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (30/ 277)] من طريق ابن خزيمة، عن محمد بن بشار «بندار» ، عن أبي هشام المخزومي.

كلاهما: (عفان بن مسلم، وأبو هشام المخزومي) عن وهيب بن خالد، عن داوود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، فذكره وفيه الشاهد: مبايعة علي أبا بكر رضي الله عنهما.

وقد أخرجه ــ دون ذكر الشاهد هنا: (مبايعة علي) ــ: الطيالسي في «مسنده»

(1/ 495) رقم (603)، وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (3/ 212)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (20/ 571) رقم (38195)، وأحمد في «مسنده» (35/ 489) رقم (21617)، ومن طريقه:[ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (30/ 278)] عن عفان بن مسلم، عن وهيب، به.

خالف وهيبَ بنَ خالد: عبدُالأعلى بنُ عبدالأعلى، فرواه عن داوود بن أبي هند، عن أبي نضرة (مرسلاً). وفيه مبايعة علي والزبير أبا بكر.

أخرجه: عبداللَّه بن أحمد في «السنة» ـ تحقيق الرياشي ـ (2/ 384) رقم (1350).

ورواه حماد بن سلمة، عن سعيد بن إياس الجريري، عن أبي نضرة. (مرسلاً). وفيه مبايعة علي والزبير أبا بكر.

أخرجه: البلاذري في «أنساب الأشراف» (1/ 585) رقم (1183).

فالصحيح في مبايعة علي ـ الواردة هنا ـ الوجه المرسل؛ وعليه فلا يعارض ما دلَّ عليه حديث عائشة المخرَّج في «الصحيحين» ـ واللَّه أعلم ـ.

ص: 505

عن بندار، عن أبي هشام المخزومي، عن وهيب، عن داوود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري .... الحديث وفي آخره: ثم نظر أبو بكر في وجوه القوم فلم يرَ عليَّاً فدعا بعلي بن أبي طالب فجاء. فقال: قلت: ابن عم رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وختَنُه على ابنتِه أردتَ أن تشقَّ عصا المسلمين؟ ! قال: لا تثريبَ يا خليفة رسول اللَّه، فبايَعَه.

ثم أورد قولَ ابن خزيمة: (جاءني مسلم بن الحجاج، فسألني عن هذا الحديث فكتبتُه له في رقعة، وقرأتُه عليه، وقال: هذا حديث يُسوى بدنة

(1)

، فقلت: يسوى بدَنَة؟ ! بل يُسوى بَدْرَة).

(2)

ثم قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح

(3)

محفوظ من حديث أبي نضرة

(1)

لا تدل عبارة الإمام مسلم هذه على أنه يرى صحة الحديث، بل هو من الندرة والعزة.

(2)

«السنن الكبرى» للبيهقي (8/ 143).

والبَدْرة: كيس فيه ألف، أو عشرة آلاف درهم، أو سبعة آلاف دينار. «القاموس المحيط» (ص 348).

(3)

وحكمَ ابنُ كثير أيضاً في كتابه: «مسند الفاروق» (2/ 414) على إسناده بالصحة، وذكر أنه ارتضاه مسلم بن الحجَّاج وابن خزيمة.

ص: 506

المنذر بن مالك بن قطعة، عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري، وفيه فائدة جليلة وهي مبايعة علي بن أبي طالب إما في أول يوم، أو في اليوم الثاني من الوفاة.

وهذا حقٌّ فإنَّ عليَّ بن أبي طالب لم يفارق الصِّدِّيقَ في وقتٍ من الأوقات، ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه ....

ثم ذكرَ ابنُ كثير طلبَ فاطمة وعتبها، ثم قال: ولم تُكلِّم الصديق حتى ماتت رضي الله عنها، واحتاجَ عليٌّ أن يراعي خاطرَها بعض الشيء، فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم رأى عليٌّ أن يجدِّدَ البيعةَ مع أبي بكر

(1)

وذكر مثله في موضع آخر، أنَّ البيعةَ المذكورة بعد وفاة فاطمة إنما هي بيعةٌ ثانية؛ لإزالة ما كان قد وقع مِن وحشة بسبب الكلام في الميراث، ومنعِه إياهم

(2)

قال ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) رحمه الله: (وكأنهم كانوا يعذرونه في التخلُّفِ عن أبي بكر في مدة حياة فاطمة، لشغله بها وتمريضها وتسليتها عما هي فيه من الحزن على أبيها صلى الله عليه وسلم؛ ولأنها لما غضبَتْ

(1)

«البداية والنهاية» (8/ 90 ـ 93).

(2)

«البداية والنهاية» (9/ 415 ـ 418 و 490). وانظر (10/ 419).

ص: 507

مِن ردِّ أبي بكر عليها فيما سألتْهُ من الميراث، رأى عليٌّ أن يوافقها في الانقطاع عنه

وقال ابن حجر ـ أيضاً ـ: (وقد تمسَّكَ الرافضةُ بتأخر عليٍّ عن بيعة أبي بكر إلى أن ماتت فاطمة وهذَيَانِهم في ذلك مشهور، وفي هذا الحديث ما يدفع في حجتهم.

وقد صحَّحَ ابنُ حبان

(1)

وغيرُه، من حديث أبي سعيدٍ الخدري وغيرِه، أن علياً بايع أبا بكر في أول الأمر.

وأمَّا ما وقع في «مسلم»

(2)

عن الزهري أن رجلاً قال له: لم يبايع علي أبا بكر حتى ماتت فاطمة؟ قال: لا، ولا أحدٌ من بني هاشم. فقد ضعَّفَه البيهقيُّ بأن الزهري لم يسنده وأن الرواية الموصولة عن أبي سعيد أصح.

وجمعَ غيرُه: بأنه بايعَه بيعة ثانية مؤكِّدَة للأولى؛ لإزالة ما كان وقع بسبب الميراث كما تقدم.

وعلى هذا فيُحمل قولُ الزهري: «لم يبايعه عليٌّ في تلك الأيام» على

(1)

لم أجده، ولعله قصد ابن خزيمة، فقد رواه البيهقي من طريقه.

(2)

هذه الزيادة المدرجة، ليست عند مسلم، وهي من زوائد الحُمَيدي في «الجمع بين الصحيحين» ، ونقلها ابن الأثير في «جامع الأصول» ضمن حديث معزو إلى مسلم، وقد سبق بيان ذلك في المسألة السابعة، واللَّه أعلم.

ص: 508

إرادة الملازمة له، والحضور عنده، وما أشبه ذلك؛ فإنَّ في انقطاع مثلِه عن مثلِه ما يُوهم مَن لا يَعرف باطنَ الأمر أنه بسبب عدم الرضا بخلافته؛ فأطلقَ مَن أطلق ذلك، وبسبب ذلك أظهر عليٌّ المبايعة التي بعد موت فاطمة عليها السلام؛ لإزالة هذه الشبهة).

(1)

(1)

«فتح الباري» لابن حجر (7/ 494 ـ 495).

جاء في «مروج الذهب» للمسعودي (2/ 308 ـ 209) ولم يبايعه أحدٌ من بني هاشم حتى ماتت فاطمة، وذكر أنَّ علياً لم يبايع إلا بعد موت فاطمة، قيل: بعشرة أيام، وقيل: غير ذلك ..

قلت: والمسعودي شيعي، ومع ذلك لم يذكر أنَّ علياً اعترض على خلافة أبي بكر رضي الله عنهما، بل ذكر في (2/ 307): (أنه لما بُويع أبو بكر في يوم السَّقيفة، وجُدِّدَتْ البيعة له يوم الثلاثاء على العامة، خرَجَ عليٌّ فقال: أفسدتَ علينا أمورَنا، ولم تستشر، ولم تَرْعَ لنا حقاً، قال أبو بكر: بلى، ولكني خشيت الفتنة .... إلخ

دلَّ هذا وغيرُه أنَّ غضب علي إنما هو من استبداد أبي بكر ـ في نظره كما في حديث عائشة في «الصحيحين» ـ ومعنى الاستبداد كما في هذا النص: عدم المشاورة، والاستعجال بالأمر.

وانظر: «الأنباء المستطابة في مناقب الصحابة والقرابة» لابن سيد الناس القفطي

(ص 226).

وانظر للفائدة العامة التاريخية في مبايعة عليٍّ أبا بكر رضي الله عنهما: «تسديد الملِك لحكم أبي بكر في فدك» لعبدالفتاح محمود سرور (ص 49 ـ 56)، و «رحماء بينهم» لمحمد نافع بن عبدالغفور بن عبدالرحمن (ص 141 وما بعدها)، «الشيعة وأهل البيت» لإحسان إلهي =

ص: 509

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ظهير (ص 68)، «إمام الأمة وقائدها خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق» د. حامد محمد خليفة (2/ 199 ومابعدها)، وله أيضاً:«يوم السقيفة والموقف من الشبهات على بيعة أبي بكر الصديق» (ص 296 ـ 317)، وله أيضاً:

«الإنصاف فيما وقع في العصر الراشدي من الخلاف» (ص 145)، «أبو بكر الصديق» لعلي الطنطاوي (ص 167)، «جُمَل جوابات العثمانية بجمل مسائل الرافضة والزيدية» للجاحظ (ص 239 ـ 240)، «إتحاف النجباء بعقيدة آل البيت في صحابة المصطفى صلى الله عليه وسلم» لأحمد بن سعيد الأهجري (ص 24 ـ 33)، «أبو بكرالصديق رضي الله عنه خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم» لعبدالستار الشيخ (ص 390)، «علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين» لعبدالستار الشيخ (ص 255).

ولابن سيد الكل القفطي (ت 697 هـ) مناقشة جيدة للرافضة الذين يرون أن علياً أُجبِر على البيعة لأبي بكر رضي الله عنهما، وأثبتَ فيه أنه لم يتخلف هو ولا الزبير عن البيعة، انظر:

«الأنباء المستطابة في مناقب الصحابة والقرابة» (ص 222).

فائدة: اضطرب الأديب: عباس العقاد في كتابه: «فاطمة الزهراء والفاطميون»

(ص 57 ـ 58) اضطراباً شديداً، للتوفيق بين السنة والشيعة، فقد أثنى على أبي بكر وبيعة الصحابة له من جهة، وأثبتَ أن علياً أحق بالخلافة! ! لكنه لم يخرج على أبي بكر، ويخالفه، ولم يطلبها لأنَّ الحقَّ أن يطلبَه الناسُ للخلافة! !

ففي موضع أثنى ثناء جميلاً على البيعة، ودرء الفتنة، وأن كبار الصحابة أبا بكر وعمر وأباعبيدة رضي الله عنهم لم يبتغوا نفعاً لأنفسهم.

وذكر الاختلاف اليسير في «السقيفة» ثم قال: (لكن الحجة الناهضة لهم جميعاً أنهم لم يكدحوا لأنفسهم، ولا لذويهم، ولم يقفوا دون الغاية في خدمة دينهم، ولم يحيَ أحدٌ منهم =

ص: 510