الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما فاطمة: فظاهر حديث عائشة السابق أنها لم ترضَ، فغضِبَتْ وهجَرَتْ ـ وسيأتي بيان هذه بعد قليل ـ.
وقد ذكر العلماءُ أنَّ أزواجَ النبي صلى الله عليه وسلم ـ عدا عائشة ـ، والعباسُ، وفاطمةُ، وعليٌّ لم يسألوا الميراث بعدما علموا بالحديث من أبي بكر رضي الله عنهم، فقد انتهوا إلى ما سمعوا.
وسبق أيضاً ذكر حديث أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أعطى فاطمة فدكاً.
(1)
وكان لفاطمة رضي الله عنها من أبي بكر رضي الله عنه طلبان اثنان:
1.
طلبها الميراث.
2.
طلبها أن يتولى زوجها صدقات النبي صلى الله عليه وسلم.
فلم يجبها أبو بكر في هذين الأمرين؛ طاعةً للهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم، وأما تولي عليٌّ الصدقات، فرأى أبو بكر أنه الخليفة والمسؤول المؤتمن عليها، وسيفعل فيها ماكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، وقد فعَلَ رضي الله عنه، وقام بالأمانة خير قيام.
وقد رُويت لفظة في حديث دلَّت على أن أبا بكر أقرَّ لها بأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يرثُه أهله، وهي لفظة ضعيفة، أنكرها العلماء، وهي:
(1)
في الباب الأول: الفصل الأول: المبحث الرابع: نفقة النبي صلى الله عليه وسلم عليها، الحديث رقم (14).
ما جاء في حديث أَبِي الطُّفَيْلِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَتْ فَاطِمَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهم: أَنْتَ وَرِثْتَ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، أَمْ أَهْلُهُ؟ قَالَ: فَقَالَ: لَا، بَلْ أَهْلُهُ. قَالَتْ: فَأَيْنَ سَهْمُ
…
رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ عز وجل، إِذَا أَطْعَمَ نَبِيَّاً طُعْمَةً، ثُمَّ قَبَضَهُ جَعَلَهُ لِلَّذِي يَقُومُ مِنْ بَعْدِهِ» .
فَرَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. قَالَتْ: (فَأَنْتَ، وَمَا سَمِعْتَ مِنْ
…
رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَعْلَمُ).
وهذا حديث حسن، لكن اللفظةَ الواردةَ منكرة.
(1)
وروي في حديث طويل أنها قاوَلَتْ أبا بكر، وناقَشَتْهُ في المسألة:
أخرج حماد بن إسحاق (ت 267 هـ) في «تركة النبي صلى الله عليه وسلم»
…
(ص 87 ـ 88) قال:
حدثنا يحيى بن أكثم
(2)
، قال: حدثنا علي بن عياش بن مسلم الألهاني الحمصي
(3)
، عن أبي معاوية صدقة الدمشقي
(4)
، عن محمد بن عبداللَّه بن
(1)
سبق تخريجه وبيان ضعف العبارة، وتوجيه بعض العلماء لها، في الحديث رقم (29).
(2)
فقيه، صدوق. «تقريب التهذيب» (ص 619).
(3)
ثقة، ثبت. «تقريب التهذيب» (ص 435).
(4)
صدقة بن عبداللَّه السمين، ضعيف. «تقريب التهذيب» (ص 309).
محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق
(1)
، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قالت لأبي بكر فيما قاولته فيه: «قد علمتَ الذي ظلفنا عنه أهل البيت من الصدقات، ومالنا فيما أفاء اللَّهُ عز وجل علينا من الغنائم، وما في القرآن مِن ذكر حق ذي القربى قول اللَّه عز وجل:
…
{
…
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} الآية
…
(سورة الأنفال، آية 41) فقرأَتْهَا عليه.
…
(سورة الحشر، آية 7)
فقال لها أبو بكر: فبأبي أنتِ، وبأَبِي والِدِ ولدِكِ، وعَلى السمع والبصر كتاب اللَّه عز وجل، وحقُّ رسولِه صلى الله عليه وسلم، وحقُّ قرابته أنا أقرأ من الكتاب مثل ما تقرئين، ولم يبلغ عِلْمي فيه أنَّ لذي قُربى رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم هذا السهم كلَّه يجري بجماعته عليهم.
قالت فاطمة عليها السلام: «فلَكَ هُوَ ولِقَرابتكَ» ؟ !
فقال أبو بكر: لا، وأنت عندي مصدَّقَةٌ أمِينةٌ، فإن كان رسول اللَّه
(1)
مقبول. «تقريب التهذيب» (ص 520). وذكر المزي في «تهذيب الكمال» (25/ 549)(أنه روى عن أنس ـ إن كان محفوظاً ـ).
- صلى الله عليه وسلم عهِدَ إليكِ في ذلك عَهْداً، أو وَعَدَكِ منه وَعْدَاً أوجبه لكم صدقتك وسلمتُه إليك.
قال أبو بكر: صدَقَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وصدَقْتِ، فلَكُم الغِنَى، ولم يبلُغْ عِلْمِي بتأويل هذه الآية أنْ أُسلِمَ هذا السهم إليكم كامِلاً، فلكم الغنى الذي يَسعُكم ويفضُلُ عنكم، وهذا عُمَرُ بنُ الخطاب وأبو عبيدة بنُ الجراح وغيرُهما، فاسألي عن ذلك، فانظري هل يوافقك على قولك أحدٌ منهم؟
فانصَرفَتْ إلى عمر، فذكَرَتْ له مثلَ الذي ذكرَتْ لأبي بكر بقَصَصِهِ وحُدُودِهِ، فقال لها عمر رضي الله عنه مثل الذي راجعها أبو بكر».
وأخرجه ابن شبَّة في «تاريخ المدينة» (1/ 209) من طريق الوليد بن مسلم، عن صدقة، عن محمد بن عبداللَّه ابن أبي عتيق، عن يزيد الرقاشي
(1)
، عن أنس رضي الله عنها.
(1)
ضعيف. «تقريب التهذيب» (ص 630).
فأضاف بين محمد وأنس: يزيد الرقاشي.
ــ لفظ ابن شبه بنحوه وفي آخره: (فعجبت فاطمة وظنَّتْ أنهما قد تذاكرا ذلك، واجتمعا عليه).
وأورده من كتابِ حماد بنِ إسحاق: ابنُ ناصر الدين في «جامع الآثار» (7/ 362) وعلَّق عليه بقوله: (ورواه الوليد بن مسلم وعمر بن عبدالواحد، عن صدقة أبي معاوية، وزاد آفة بين محمد بن أبي عتيق وأنس: يزيد الرقاشي، وهو الأشبه).
وأورده الذهبي في «تاريخ الإسلام» (2/ 17) عن الوليد بن مسلم، وعمر بن عبدالواحد، عن صدقة، به.
وفيه زيادة: يزيد الرقاشي، والزيادة الأخيرة التي عند ابن شبة.
ومع ضعف الحديث، علَّق حماد بنُ إسحاق (ت 267 هـ) رحمه الله
…
ـ بعد روايته له ـ بقوله:
(فقد بيَّنَتْ هذه الرواية جلالة قدر فاطمة عليها السلام عند أبي بكر، ولعلَّه لا يكون أحدٌ من العالمين أشدَّ حُبَّاً لها من أبي بكر عليهما السلام، كما كان أشدَّ الناسِ حُبَّاً لأبيها صلى الله عليه وسلم، وتصديقُه إياها في كُلِّ ما تحكيه أو ترويه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لا يَشُكُّ في أنها تقول الصِّدْقَ والحَقَّ، وأنه يَعمَلُ بروايتها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويقبل قولها وينتهي إليه، ليس كما ذكر هؤلاء أنها قالت لأبي بكر: إنَّ رسُولَ صلى الله عليه وسلم أقطعها فدَك،
وشهد لها بذلك عليٌّ، فلم يقبل أبو بكر قولها لأنها مدعية لنفسها،
…
ولم يقبل شهادة علي لأنه زوج، بل قد قال لها فيما ادَّعَت: أنتِ عندي مُصدَّقَةٌ أمِينَةٌ
…
).
(1)
أما ما روي من الأحاديث، بأن أبا بكر أعطاها جزءاً من الميراث؛ فمنكر جداً، من ذلك:
ما رواه عمر بن صالح الأزدي
(2)
، قال: حدثنا أبو جمرة نصر بن عمران
(3)
، عن ابن عباس، قال: كتبَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى حيٍّ من العرب يدعوهم إلى الإسلام فلم يقبلوا الكتاب، ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه، فقال:«أما إني لو بعثت به إلى قوم بِشَطِّ عُمَان من أزْدِ شَنُوْءَة، وأسلَمَ؛ لقبلوه» .
ثم بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الجلندى يدعوه إلى الإسلام فقَبِلَه، وأسَلَمَ، وبعثَ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بهدية، فقدمت وقد قُبض رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجعل أبو بكر الهديةَ مورثاً، فقسمَهَا بين
(1)
«تركة النبي صلى الله عليه وسلم» لحماد بن إسحاق (ص 89).
(2)
عمر بن صالح بن أبي الزاهرية البصري، أبو حفص الأزدي، سكن دمشق، متروك.
…
«لسان الميزان» (6/ 115).
(3)
نصر بن عمران بن عصام الضُّبَعِي، أبو جمرة البصري، نزيل خراسان، مشهور بكنيته، ثقة، ثبت. «تقريب التهذيب» (ص 590).
فاطمة، وبين العباس». لفظ الطبراني.
(1)
قال أبو محمد ابن قتيبة الدينَوَري (ت 276 هـ) رحمه الله: (وأما منازعة فاطمة، أبا بكر رضي الله عنهما في ميراث النبي صلى الله عليه وسلم فليس بمنكر؛ لأنها لم تعلَمْ ما قالَهُ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وظنَّتْ أنها ترِثُهُ كما يرثُ الأولادُ آباءَهم، فلمَّا خبَّرَها بقولِه، كفَّتْ.
وكيف يسوغُ لأحدٍ أن يَظُنَّ بأبي بكر رضي الله عنه أنه منعَ فاطمةَ حقَّها من ميراث أبيها، وهو يُعطِي الأسود وَالأحمرَ حقوقَهم؟ !
وما معناه في دفعها عنه، وهُوَ لم يأخذ لنفسه، ولا لِوَلَدِه، ولا لأحَدٍ من عشِيرَتِه؟ !
(1)
أخرجه: ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (4/ 269) رقم (2290) ـ مطوَّلاً ـ، والطبراني في «المعجم الكبير» (12/ 221) رقم (12947)، المعجم الأوسط (7/ 47) رقم (6808) من طريقين عن عمر بن صالح، به.
ــ ذكر الطبراني في «الأوسط» أنه لم يرو هذا الحديث عن أبي جمرة إلا عمر بن صالح.
وهذا حديث باطل، تفرد به عمر بن صالح، وهو متروك ـ كما سبق ـ.
والحديث مخالف للأحاديث الصحيحة وإجماع الأمة بأن الأنبياء لايورثون.
وقد حكم على هذا الحديث بالنكارة: أبو زرعة الرازي، كما في «علل الحديث» لابن أبي حاتم (6/ 369) رقم (2596).
وذكر الحديثَ الذهبيُّ في «الميزان» وابن حجر في «اللسان» ضمن منكرات عمر بن صالح.
وإنما أجراه مجرى الصدقة، وكان دفعُ الحقِّ إلى أهلِه أولى به.
وكيفَ يركَبُ مثلَ هذا، ويستحلها من فاطمة رضي الله عنها، وهوَ يرُدُّ إلى المسلمين ما بَقي في يديه من أموالهم منذُ وَلِيَ؟ ! وإنما أخذَه على جِهَةِ الأجْرَةِ، فجعل قيامَه لهم، صدَقةً عليهم.
وقال لعائشة رضي الله عنها: «انظُرِي يا بُنَيَّة، فما زادَ في مالِ أبي بكر، منذ وَلِيَ هذا الأمرَ، فرُدِّيْهِ على المسلمين، فواللَّهِ ما نِلْنَا مِن أموالهم إلا مَا أكلْنَا في بطوننا مِن جَرِيش طَعامِهِم، ولَبِسْنَا على ظهورنا من خُشُن ثيابهم» .
فنظرت فإذ بَكر، وجُرد قطيفة، لا تُساوِي خمسة دراهم، وحبشية.
فلما جاء به الرسولُ إلى عمر رضي الله عنه، قال:«رحِمَ اللَّه أبا بكر، لقَدْ كلَّفَ مَنْ بعدَهُ تَعَبَاً» .
ولو كَان ما فعلَه أبو بكر مِن هذا الأمرِ ظُلماً لفاطمة رضي الله عنها، لرَدَّهُ عليٌّ رضي الله عنه حينَ وَلِيَ عَلى ولَدِهَا).
(1)
قال ابن ناصر الدمشقي (ت 842 هـ) رحمه الله: (قال أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين المروذي (ت 385 هـ) في الجزء الذي جمعه في «ذِكْرِ ما جرى في أمر الخُمُسِ وفَدَك» قال: «فاعلَمْ ـ رحمكَ اللَّهُ ـ أنَّ فاطمةَ سيدة
النساء عليها السلام ما سألَتْ أبا بكر الصديق رضي الله عنه إلا ما ظنَّتْ أنه حقٌّ واجِبٌ، مع عِلْمِها بموضِعِ أبي بكر رضي الله عنه مِن رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، ومِن الإسلام، ومِن الأمان الذي ائتمنه اللَّهُ عز وجل على الدِّين والإسلام، وكان عندَها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُورَث، ولم تكن سمِعَت مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئاً.
ولم يجئ إليها أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلا وهو عارفٌ بفضلها وقدرها عند اللَّه عز وجل؛ فأعطيت فاطمة عليها السلام خصلةً لا يشاركها في القدر، ولا في النسب، ولا المرتبة، ولا العِزِّ، ولا الشرَفِ، من الأولين والآخرين أحد، وهو: أنَّ اللَّهَ عز وجل اختار رجلين من الخلق لها: أحدهما: أباها وهو النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر: زوجها وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ومات النبي صلى الله عليه وسلم وليس على الأرض أعرف بقدرها من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فجاء إليها، فقال لها: .... ثم ذكر حديث مراضاتها وهو السابق برقم (98).
(1)
قال القاضي عياض المالكي (ت 544 هـ) رحمه الله: (وقد تأول قوله: إن طلب فاطمة رضي الله عنها ميراثها من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يحتمل أنها تأولت الحديث إن كان بلغها فيما له بال ويختص بالأصول من الأموال، فهي
(1)
«جامع الآثار» لابن ناصر الدين الدمشقي (7/ 360 ـ 361).
التي لا تورث عن الأنبياء ـ صلوات اللَّه عليهم ـ لا ما يتركون من طعام أو دابَّة وأسباب وسلاح.
واحتجوا بقوله: «ما تركت بعد نفقة نسائي» ، وأن ظاهر هذا ما تأولوه، ولم يكن الأمر كذلك؛ لأن نفقة نساء النبي صلى الله عليه وسلم أوجبها لهذا فيما ترك لا على طريق الميراث، بل يحق كونهن محبوسات عن الأزواج بسببه، أو لما لهن من الحقوق فى بيت المال؛ لقدم هجرتهن وفضلهن. والأول أظهر؛ لتخصيصه صلى الله عليه وسلم إياهن بالذكر، وكذلك اختصاصهن بمساكنهن لحياتهن؛ بدليل أنه لم يرثها ورثتهن عنهن.
وحكى الماوردي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أعطاهن ذلك، ووصَّى لهن بدورهن.
ولا امتراء أنَّ الحديثَ كان مشهوراً أيام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إذْ كان قد قرَّرَه أبو بكر على عليٍّ والعباسِ وفاطمةَ رضي الله عنهم، وذكرتْه عائشة لأزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حينئذ، وأيضاً في الحديث في كتاب مسلم: أنَّ فاطمة رضي الله عنها سألته ميراثها مما أفاء اللَّهُ سبحانه على رسولِه صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وفدَك، وبقية خُمُسِ خَيبر.
وفي تَرْكِ فاطمة منازعة أبي بكر رضي الله عنهما بعد احتجاجه عليها بالحديث: التسليم والإجماع على القضية، وأنها لما بلغها الحديث، أو بُيِّن لها التأويل؛ تركَتْ رأيها، إذْ لم يكن بعدُ ولا أحدٌ من ذُرِّيتها في ذلك طلب
بالميراث، وإذْ قد وليَ عليٌّ رضي الله عنه الأمرَ، فلَمْ يعدِل به عما فعل فيه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما؛ فدلَّ أنَّ طلبَ عليٍّ والعباسِ إنما كان تولي القيام على ذلك بأنفسهما أو قسمته بينهما كما تقدم).
(1)
وطلبُها رضي الله عنها كان من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة، قال ابن حجر:(هذا يؤيد ما تقدم من أنها لم تطلب من جميع ما خلَّف وإنما طلبت شيئاً مخصوصاً).
(2)
قال أبو العباس القرطبي (ت 656 هـ) رحمه الله: (وكانت رضي الله عنها متمسكةً بما في كتاب اللَّه من ذلك، فلما أخبرها أبو بكر بالحديث؛ توقَّفَتْ عن ذلك، ولم تعُدْ عليه بطَلَبٍ).
(3)
(1)
«إكمال المعلم بفوائد مسلم» للقاضي عياض (6/ 80 ـ 81)، وعنه: النووي في «شرح مسلم» (12/ 73).
(2)
«فتح الباري» لابن حجر (6/ 203). واستظهر أيضاً في موضع آخر (6/ 207) أنها طلبت شيئاً مخصوصاً، وسيأتي بعد قليل تمام كلامه.
(3)
«المفهم في شرح تلخيص صحيح مسلم» (3/ 563).
ذكر ابن تيمية رحمه الله في «منهاج السنة النبوية» (4/ 234) في معرض رده على الرافضي: (أن فاطمة رضي الله عنها طلبت ميراثها من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ما كانت تعرف من المواريث، فأُخبِرَتْ بما كان من رسول اللَّه فسلَّمت ورجَعَتْ، فكيف تطلبها ميراثاً وهي تدعيها ملكا بالعطية؟ ! هذا ما لا معنى فيه
…
).
فائدة: عند الرافضة أن فاطمة اقتنعت ورضيت بحكم أبي بكر رضي الله عنهما، كما في:
…
«شرح نهج البلاغة» للبحراني (5/ 107)، و «شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد
…
(8/ 380)، انظر:«الشيعة وأهل البيت» لإحسان إلهي ظهير (ص 85)، «المرأة عند الشيعة الإمامية ـ عرض ونقد ـ» حسن عوض أحمد حسن (528)، «فاطمة الزهراء» لعبدالستار الشيخ (ص 311 ـ 312).
وقال ابن كثير (ت 774 هـ) رحمه الله: (وقد روينا أن فاطمة رضي الله عنها احتجَّت أولاً بالقياس، وبالعموم في الآية الكريمة، فأجابها الصديق بالنص على الخصوص بالمنع في حقِّ النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها سلَّمَت له ما قال. وهذا هو المظنون بها، رضي الله عنها).
(1)
ومن الأدلة الكثيرة المتواترة على صحةِ حُكمِ أبي بكر فيما ذهب إليه؛ اتباعاً للسُّنَّة: أنَّ أبا بكر صدَّق عدداً من الصحابة الذين جاءوا إليه ومعهم وعودٌ من النبي صلى الله عليه وسلم بالعطاء، فأنفذَها إليهم رضي الله عنه، أفيُعطِي
…
أبو بكر عدداً من الصحابة، ويترك ابنة النبي صلى الله عليه وسلم الوحيدة، فيمنعها عطاءَ والدها لها؟ ! هذا لا يعقل!
(2)
(1)
«البداية والنهاية» (8/ 194).
(2)
انظر: «تركة النبي صلى الله عليه وسلم والسبل التي وجهها فيها» لحماد بن إسحاق الأزدي
…
(ت 267 هـ)(ص 89 ـ 90)، و «جامع الآثار» لابن ناصر الدين الدمشقي
…
(7/ 364).
قال ابن عبدالبر (ت 463 هـ) رحمه الله: (وكيف يسوغ لمسلم أن يظن بأبي بكر رضي الله عنه منع فاطمة ميراثها من أبيها، وهو يعلم بنقل الكافة أنَّ أبا بكر كان يعطي الأحمر والأسود حقوقَهم، ولم يستأثرْ من مالِ اللَّهِ لنفسِه، ولا لبَنِيه، ولا لأحدٍ من عشيرته بشيء؛ وإنما أجراه مجرى الصدقة؟ !
أليس يستحيل في العقول أن يمنع فاطمةَ ويردَّه على سائر المسلمين، وقد أمرَ بنِيهِ أن يردوا ما زاد في مالِه منذ ولي على المسلمين، وقال إنما كان لنا من أموالهم ما أكلنا من طعامهم، ولبسنا على ظهورنا من ثيابهم؟ !
وروى أبو ضمرة أنس بن عياض، عن عبيداللَّه بن عمر، عن
…
عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أنَّ أبا بكر لما حضرته الوفاة، قال لعائشة:«ليس عند آل أبي بكر من هذا المال شيءٌ إلا هذه اللقمة، والغلام الصيقل كان يعمل سيوف المسلمين ويخدمنا، فإذا مِتُّ فادفعيه إلى عمر» .
فلما مات دفعته إلى عمر، فقال عمر رضي الله عنه: رحم اللَّه أبا بكر لقد أتعب من بعده
…
).
(1)
وإنَّ امتناع أبي بكر من توريث النبي صلى الله عليه وسلم للحديث الوارد، مع استفادته من دخول ابنته عائشة في الميراث، ونيل الشرف بذلك؛ لَدَليلٌ على كمال دينِه وخوفِه من اللَّه تبارك وتعالى، وتعظيمِ أوامر اللَّهِ - جل وعلا -
…
(1)
«التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد» (8/ 171 ـ 172).
وأوامرِ رسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، قال ابن هُبيرة رحمه الله (ت 560 هـ): (وقول أبي بكر لهما: «سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: لا نورث، ما تركناه صدقة» ، فإني استدللتُ بهذا من فعل أبي بكر رضي الله عنه على متانةِ دينِه وشدَّةِ ورَعِهِ، وأنه لو كان مسامحاً أحداً من خلقِ اللَّهِ في حقٍّ من حقوق اللَّهِ؛ لكان قد سامحَ فاطمةَ ابنَةَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، والعباسِ عمِّ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال في آخر الحديث:«واللَّهِ لَقرَابَةُ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أحبُّ إليَّ أنْ أصلَ مِن قرابتي» .
لكنه خافَ مِن اللَّهِ عز وجل أن يراه، أو يراهُ العباسُ وفاطمةُ بعين مَن سامحهما في ذاتِ اللَّهِ عز وجل).
(1)
وقال حماد بن إسحاق الأزدي (ت 267 هـ) رحمه الله: (ولو لم يقُلْ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذلك، كان لأبي بكر وعمر فيه الحظُّ الوافر بميراث عائشة وحفصة رضي الله عنهما؛ فآثروا أمرَ اللَّهِ وأمرَ رسولِه، ومنعوا عائشةَ وحفصةَ ومَن سواهما ذلك، ولو كانَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُورَث؛ لكان لأبي بكر وعمر أعظم الفخر به، أن تكون ابنتاهما وارثتَي محمد صلى الله عليه وسلم).
(2)
(1)
«الإفصاح عن معاني الصحاح» لابن هبيرة (1/ 73).
(2)
«تركة النبي صلى الله عليه وسلم والسبل التي وجهها فيه» لحماد بن إسحاق (ص 86).
لِمَ غضبَتْ فاطمة بعد عِلْمِها بالحديث؟
غالب أهل العلماء على أنها صدَّقت أبا بكر في ثبوتِهِ، وخالفتْهُ في تأويله.
قَالَ المهلَّب بن أحمد بن أبي صفرة (ت 445 هـ) رحمه الله
(1)
: (لم يكن عندها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركنا صدقة»، ولا علمته؛ ثم أنفِت أن تكون لا ترِثُ أباها كما لا يرث الناس في الجاهلية والإسلام، مع احتمال الحديث عندها أنه أراد به بعضَ المال دون بعض، وأنه لم يرد به الأصولَ والعقارَ، فانقادت وسلَّمت للحديث).
(2)
قال أبو العباس القرطبي (ت 656 هـ) رحمه الله: (لا يظن بفاطمة رضي الله عنها أنها اتَّهمَت أبا بكر فيما ذكرَه عن رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لكنها عظُمَ عليها ترك العمل بالقاعدة الكلية، المقررة بالميراث، المنصوصة في القرآن، وجوَّزت السهو والغلط على أبي بكر، ثم إنها لم تلتق بأبي بكر لشغلها بمصيبتها برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولملازمتها بيتها).
(3)
(1)
الأسدي الأندلسي، وكان أحد الأئمة الفصحاء، الموصوفين بالذكاء، له شرح على صحيح البخاري. تنظر ترجمته في:«سير أعلام النبلاء» (17/ 579).
(2)
«التوضيح لشرح الجامع الصحيح» لابن الملقن (18/ 372 ـ 373).
(3)
«المفهم» للقرطبي (3/ 568).
قال ابن تيمية (ت 728 هـ) رحمه الله: (كونُ النبي صلى الله عليه وسلم
…
لا يُورَثُ، ثَبَتَ بِالسُّنَّة المقطوعِ بها، وبإجماعِ الصحابةِ، وكل منهما دليل قطعي، فلا يعارض ذلك بما يظن أنه عموم، وإن كان عموماً فهو مخصوص؛ لأن ذلك لو كان دليلاً، لما كانَ إلا ظنِّيَّاً، فلا يُعارِض القطعيَّ؛ إذْ الظنيُّ لا يُعارِضُ القَطْعِيَّ.
وذلك أنَّ هذا الخبرَ رواه غيرُ واحِدٍ من الصحابة في أوقاتٍ ومجالِسَ، وليسَ فيهم مَنْ يُنْكِرُهُ، بل كلُّهم تلقَّاهُ بالقبول والتصديق.
ولهذا لم يُصِرَّ أحدٌ مِن أزواجِه على طلبِ الميراث، ولا أصَرَّ العَمُّ عَلى طلبِ الميراث، بلْ مَنْ طلَبَ مِنْ ذلك شيئاً، فأُخْبرَ بقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ رجَعَ عن طلَبِهِ.
واستمَرَّ الأمرُ عَلَى ذلك على عَهدِ الخلفاءِ الراشدين إلى عَلِيٍّ، فلَمْ يُغَيِّرْ شيئَاً مِن ذلكَ، وقسَّم له تَرِكَةً).
(1)
قال ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) رحمه الله: (وأما سبب غضبها مع احتجاج أبي بكر بالحديث المذكور، فلاعتقادها تأويل الحديث على خلاف ما تمسَّك به أبو بكر، وكأنها اعتقدَتْ تخصيص العموم في قوله:«لا نورث» ، ورأت أن منافع ما خلَّفه من أرض وعقار لا يمتنع أن تورث عنه، وتمسَّك
…
(1)
«منهاج السنة النبوية» لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 220).
أبو بكر بالعموم، واختلفا في أمر محتمل للتأويل، فلما صمَّمَ على ذلك؛ انقطَعَتْ عن الاجتماع به، لذلك فإن ثبت حديث الشعبي
(1)
أزال الإشكال وأخلِقْ بالأمر أن يكون كذلك؛ لما عُلِمْ من وفور عقلها
…
ودينها عليها السلام).
(2)
قال السمهودي (ت 911 هـ) رحمه الله معلقاً على قول ابن حجر:
…
(لذلك تتمة، وهي أنها فهِمَت من قوله:«ما تركنا صدقة» الوقفَ،
ورأتْ أنَّ حقَّ النظر على الوقف، وقَبضِ نمائِهِ، والتصرفِ فيه، يُورَث، ولهذا طالبَتْ بنصيبها من صدقتِهِ بالمدينة، فكانت ترى أنَّ الحق في الاستيلاء عليها لها وللعباس رضي الله عنهما، وكان العباس وعلي رضي الله عنهما يعتقدان ما ذهبَتْ إليه، وأبو بكر يرَى الأمر في ذلك إنمَّا هو للإمام.
والدليل على ذلك: أنَّ عليَّاً والعباس جاءا إلى عمر يطلبان منه ما طلبَتْ فاطمة من أبي بكر، مع اعترافهما له بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا نورث، ما تركنا صدقة» ؛ لما في «الصحيح» من قصة دخولهما على عمر يختصمان فيما أفاء اللَّهُ على رسولِه صلى الله عليه وسلم من مال بني النضير، وقد دفع إليهما ذلك لِيَعْمَلا فيه بما كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يعملُ به وأبو بكر بعدَه، وذلك
(1)
سبق تخريجه في المبحث وهو مرسل ضعيف.
(2)
«فتح الباري» لابن حجر (6/ 202).
بحضور عثمان، وعبدِالرحمن بن عوف، وسعدٍ، والزبير .. ).
(1)
أما ما ورد أنها قالت لأبي بكر وعمر في الموضوع: «لا أكلمكما» ، فضعيف، جاء ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه أن فاطمة جاءت تسأل أبا بكر وعمر ميراثها فذكرا لها الحديث:«إني لا أورث» .
فقالت لهما: «واللَّه لا أكلمكما أبداً، فماتت ولا تكلمهما» .
قال علي بن عيسى ـ شيخ الترمذي ـ: معنى لا أكلمكما، تعني: في هذا الميراث، أبداً أنتما صادقان.
(2)
والصحيح في هذا الحديث: أنه مرسل ضعيف.
(3)
(1)
«وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى» (3/ 996).
(2)
قال ابن حجر في «فتح الباري» لابن حجر (6/ 202): (وتعقبه الشاشي بأن قرينة قوله غضبت، تدل على أنها امتنعت من الكلام جملةً، وهذا صريح الهجر).
وكذا تعقبه المقريزي أيضاً في «إمتاع الأسماع» (13/ 158) بما في الصحيحين: «فهجرته فلم تكلِّمْه حتى توفيت» ، وفي البخاري أيضاً:«فهجَرَتْ أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت» .
وانظر: «جامع الآثار» لابن ناصر الدين (7/ 352 ـ 353). وستأتي هذه المسألة في بقية هذا المبحث.
(3)
سبق تخريجه ضمن حديث رقم (29).
المسألة الثانية لفاطمة رضي الله عنها:
طلبها أن يتولَّى زوجُها صدقات النبي صلى الله عليه وسلم، فامتنع أبو بكر، لأنه الخليفة بعد رسول اللَّه، ومؤتمن عليها، وسيعمل فيها كما عَمِلَ
…
رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير رحمه الله: (وكأنها سألَتْهُ بعد هذا
(1)
أن يجعل زوجها ناظراً على هذه الصدقة، فلم يجبْهَا إلى ذلك؛ لما قدمناه، فتعتَّبَتْ عليه بسبب ذلك، وهي امرأةٌ من بني آدم، تأسَفُ كما يأسفون، وليسَتْ بواجِبَةِ العِصمة مع وجودِ نصِّ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ومخالفةِ أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وقد رُوِّينا عن أبي بكر رضي الله عنه أنه ترضَّى فاطمةَ وتلاينها قبل موتها، فرَضِيَتْ رضي الله عنها).
(2)
وقال ابن كثير ـ أيضاً ـ: (وأما تغضُّب فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، على أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فما أدري ما وجهه؟ !
فإن كان لمنعه إياها ما سألته من الميراث، فقد اعتذر إليها بعذر يجب قبوله، وهو ما رواه عن أبيها رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا نورث، ما تركنا صدقة» . وهي ممن تنقادُ لنصِّ الشارع الذي خفِيَ عليها قبل سؤالها
(1)
أي بعد طلبها الميراث.
(2)
«البداية والنهاية» (8/ 195)، وانظر:(8/ 92) و (10/ 419).