الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة: هل وقع أبو بكر في أذية فاطمة وإغضابها، مما يُغضِبُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم؟
ولِمَ امتنع من إجابتها؟
وبيان تأكيد آل البيت والصحابة حُكَمَ أبي بكر رضي الله عنهم
-.
لم يحكُم الخليفةُ الراشدُ البارُّ العادِلُ أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه إلا بما في ثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أيَّدَهُ الصحابةُ أجمعون حتَّى آل البيت منهم رضي الله عنهم.
قال ابن كثير (ت 774 هـ) رحمه الله: (وقد اعترف علماءُ أهل البيت بصحة ما حكَمَ به أبو بكر في ذلك
…
ثم ذكر حديث البيهقي الآتي).
(1)
وهو ما أخرجه: إبراهيم بن حماد بن إسحاق الأزدي في زوائده على كتاب أبيه: «تركة النبي صلى الله عليه وسلم» (ص 86)، والبيهقي في «الاعتقاد» (ص 497)، وفي «السنن الكبرى» (6/ 302)، وفي «دلائل النبوة»
…
(7/ 281) عن إسماعيل بن إسحاق القاضي
(2)
ـ وهو عمُّ إبراهيم بن حماد ـ
(1)
«البداية والنهاية» (8/ 196)، وانظر:«تسديدُ الملِك لحكم أبي بكر رضي الله عنه في فدَك، وردُّ الفرية المزعومة: مظلومية الزهراء» لعبدالفتاح محمود سرور.
(2)
ابن إسماعيل بن حماد بن زيد، ثقة. «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (2/ 158)،
…
«تاريخ بغداد» (7/ 272).
قال: حدثنا نصر بن علي
(1)
، قال: حدثنا ابن داود
(2)
، عن فضيل بن مرزوق
(3)
، قال زيد بن علي بن الحسين بن علي
(4)
رحمه الله: (أمَّا أنا فلو كنتُ مكان أبي بكر لحكمتُ بمثل ما حكمَ بِه أبو بكر في فَدَك).
وذكر الصنعاني رحمه الله تأييد علماء الزيدية لقضاء أبي بكر رضي الله عنه، قالوا: لو كان باطلاً؛ لنقضَهُ عليٌّ رضي الله عنه في خلافته، ولأنكرَهُ بنو هاشم والمسلمون.
(5)
أورد الرافضة أكاذيب ملفَّقَةً تشِينُ آلَ البيتِ والصحابةَ كلَّهم رضي الله عنهم، وذكروا أنَّ أبا بكر منع فاطمة حقَّها، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (قاتَلَ اللَّهُ الرافضةَ، وانتصفَ لأهل البيت منهم، فإنهم ألصقوا بهم من العيوب والشَّينِ مالا يخفى على ذِي عَين.
ولو قال قائل: فاطمةُ لا تطلُبُ إلا حقَّها، لمْ يكُن هذا بأولى من قول القائل: أبو بكر لا يَمنَعُ يهوديَّاً ولا نصرَانِياً حقَّه، فكيف يمنَعُ سيِّدَةَ نساء العالمين حقَّها؟ !
(1)
ابن نصر بن علي الجهضمي الصغير، ثقة، ثبت. «تقريب التهذيب» (ص 590).
(2)
عبداللَّه بن داوود الهمْداني الخُريبي، ثقة عابد. «تقريب التهذيب» (ص 336).
(3)
الأغَرُّ الرَّقَاشي، صدوق يهم، ورمي بالتشيع. «تقريب التهذيب» (ص 477).
(4)
ثقة. «تقريب التهذيب» (ص 259).
(5)
ينظر: «رفع الالتباس عن تنازع الوصي والعباس» للصنعاني (ص 72).
فإن اللَّهَ تعالى، ورسولَه صلى الله عليه وسلم قدْ شهِدَا لأبي بكرٍ أنَّه يُنفِقُ مالَه للهِ، فَكَيف يمنَعُ الناسّ أموالهم؟ !
وفاطمةُ رضي الله عنها قَدْ طلَبَتْ مِن النبي صلى الله عليه وسلم مالاً، فلَمْ يُعطِهَا إيَّاه. كما ثبت في «الصحيحين» عن علي رضي الله عنه في حديث الخادم، لما ذهَبَتْ فاطمةُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم تسأله خادِمَاً، فَلَمْ يُعْطِهَا خادِمَاً، وعلَّمَهَا التسبيح.
وإذا جازَ أنْ تطلُبَ مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما يمْنَعُهَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم إيَّاه، ولا يجِبُ عليه أنْ يُعطِيَهَا إيَّاه؛ جازَ أنْ تطلُبَ ذلكَ مِن
…
أبي بكرٍ خَليفةِ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعُلِمَ أنَّها ليسَتْ مَعصُومَةً أنْ تطلُبَ مَا لا يجِبُ إعطاؤهَا إيَّاه.
وإذا لم يجِبْ عليه الإعطاءُ لم يكنْ مَذمُومَاً بتَرْكِهِ مَا ليس بواجِبٍ، وإنْ كانَ مُبَاحَاً.
فأمَّا إذا قدَّرْنَا أنَّ الإعطاءَ ليسَ بمُبَاحٍ، فإنه يستحقُّ أنْ يُحمَدَ عَلى المَنْعِ.
وأمَّا أبو بكر فَلَمْ يُعْلَمْ أنَّه منَعَ أحَدَاً حَقَّهُ، ولا ظَلَمَ أحدَاً حقَّهُ، لَا في حَياةِ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ولَا بَعْدَ مَوْتِهِ).
(1)
(1)
«منهاج السنة النبوية» لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 246).
ولقد أجاد كثيراً شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله، وأفادَ، في بيان دعوى الرافضة ظلم أبي بكر فاطمةَ رضي الله عنهم بمنعها من الميراث، أتى على جميع شبههم ثم نقضَها بما لا مزيد عليه، فليُراجع، وفيما يلي جزء منه.
(1)
هل أغضب أبو بكر فاطمة وآذاها، مما يترتب عليه إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم؟
قال ابن تيمية رحمه الله عن الرافضة: (
…
وإن قالوا بجهلهم: إن هذا الذنب كُفْرٌ؛ لِيُكَفِّرُوا بذلك أبا بكر، لَزِمَهُم تكفيرَ عليٍّ، واللازم باطل فالملزوم مثله.
وهم دائماً يعيبون أبا بكر وعمر وعثمان، بل ويُكفِّرُونَهم بأمور قد صدَرَ مِن عليٍّ ما هو مثلها أو أبعَدَ عن العُذْرِ منها، فإن كان مأجوراً أو معذوراً فهم أولى بالأجر والعذر، وإن قيل باستلزام الأمر الأخف فِسْقَاً أو كُفْرَاً، كان استلزام الأغلظ لذلك أولى.
وأيضاً فيقال: إنَّ فاطمة رضي الله عنها إنما عظُم أذاها لما في ذلك من أذى أبيها، فإذا دار الأمر بين أذى أبيها وأذاها؛ كان الاحتراز عن أذى أبيها أوْجَبَ.
(1)
«منهاج السنة» (4/ 193 ـ 264)، و (6/ 345 ـ 347)، وانظر ما سبق في الباب الأول: الفصل الأول: المبحث الرابع: الدراسة الموضوعية.
وهذا حالُ أبي بكر وعمر، فإنهما احترزا عن أن يؤذيا أباها أو يريباه بشيء، فإنه عهد عهداً وأمرَ بأمْرٍ، فخافا إن غيَّرَا عهدَه وأمرَه؛ أن يغضب لمخالفة أمرِه وعهدِه ويتأذى بذلك.
وكلُّ عاقل يعلمُ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا حكَمَ بحُكْمٍ، وطلبَتْ فاطمةُ أو غيرُها ما يخالف ذلك الحكم، كان مراعاةُ حُكْمِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أولى؛ فإن طاعتَه واجبةٌ، ومَعصِيتَه محرمةٌ، ومَن تأذى لطاعته كان مخطئاً في تأذيه بذلك، وكان الموافق لطاعته مصيباً في طاعته.
وهذا بخلاف مَن آذاها لغرضِ نفسه، لا لأجل طاعةِ اللَّه ورسولِه.
ومَن تدبَّرَ حالَ أبي بكر في رعايتِه لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه إنما قصدَ طاعةَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم لا أمراً آخر، يحكم أنَّ حالَه أكملُ وأفضلُ وأعلى من حالِ علي رضي الله عنهما، وكلاهما سيِّدٌ كَبيرٌ من أكابر أولياء اللَّهِ المتقين، وحزبِ اللَّه المفلحين، وعبادِ اللَّه الصالحين، ومِن السابقين الأولين، ومِن أكابر المقربين، الذين يشربون بالتسنيم.
ولهذا كان أبو بكر رضي الله عنه يقول: «واللَّه لَقَرابةُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم أحبُّ إليَّ أن أصل مِن قرابتي» . وقال: «ارقُبُوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته» . رواه البخاري عنه.
لكنَّ المقصودَ أنه لو قُدِّرَ أنَّ أبا بكر آذاها، فلم يؤذِها لغرضِ نفسِه، بل ليطيعَ اللَّهَ ورسولَه، ويُوصِلَ الحقَّ إلى مُستحِقِّه.
وعليٌّ رضي الله عنه كان قصدُه أن يتزوج عليها، فله في أذاها غرض
(1)
، بخلاف أبي بكر.
فعُلم أن أبا بكر كان أبعد أن يذم بأذاها من علي، وأنه إنما قصد
…
طاعة اللَّهِ ورسولِه بما لا حظ له فيه، بخلاف علي؛ فإنه كان له حظ فيما رابها به.
وأبو بكر كان من جنس من هاجر إلى اللَّهِ ورسولِه، وهذا لا يشبه من كان مقصوده امرأة يتزوجها.
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يؤذيه ما يؤذي فاطمة إذا لم يعارض ذلك
…
أمرَ اللَّه تعالى، فإذا أمر اللَّهُ تعالى بشيء فعلَه، وإنْ تأذَّى مَن تأذَّى من أهلِه وغيرهم، وهو في حال طاعته للهِ يؤذيه ما يعارض طاعةَ اللَّهِ ورسولِه. وهذا الإطلاق كقوله:«مَن أطاعني فقد أطاع اللَّه، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى اللَّه، ومن عصى أميري فقد عصاني» ، ثم قد بيَّنَ ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:«إنما الطاعةُ في المعروف» .
فإذا كانت طاعة أمرائه أطلقها ومراده بها الطاعة في المعروف، فقوله:
…
«مَن آذاها فقد آذاني» يُحمَل على الأذى في المعروف بطريق الأولى والأحرى؛
(1)
أي غرضٌ لنفسِه بالزواج، ويترتب عليه أذى فاطمة، ولم يكن قصدُ عليٍّ أذاها؛ وأبو بكر لم يكن منعه لغرضِ نفسِه.
لأنَّ طاعةَ أمرائه فرضٌ، وضدَّها معصيةٌ كبيرة.
وأما فِعْلُ ما يؤذي فاطمة فليس هو بمنزلة معصية أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا لَزِمَ أن يكون عليٌ قد فعلَ ما هو أعظم مِن معصية اللَّهِ ورسولِه، فإن معصية أمرائه معصيتُه، ومعصيتَه معصيةُ اللَّهِ.
ثم إذا عارَض مُعارِض وقال: أبو بكر وعمر ولِيَا الأمرَ، واللَّهُ قد أمرَ بطاعة أولي الأمر، وطاعةُ ولي الأمر طاعةً للهِ، ومعصيتُه معصيةً للهِ، فمَن سخِطَ أمرَه وحُكمَه فقد سخِطَ أمرَ اللَّهِ وحكمَه.
ثم أخذ يُشَنِّع على عليٍّ وفاطمة رضي الله عنهما بأنهما ردَّا أمرَ اللَّهِ، وسخِطَا حكمَه، وكرِهَا ما أرضى اللَّهَ؛ لأنَّ اللَّهَ يُرضيه طاعتُه وطاعةُ ولي الأمر، فمَن كَرِه طاعةَ ولي الأمر فقد كرِهَ رضوانَ اللَّهِ، واللَّهُ يسخط لمعصيتِه، ومعصيةُ وليِّ الأمرِ معصيتَه، فمَن اتَّبَعَ معصيةَ ولي الأمر فقد اتبع ما أسخط اللَّهَ وكَرِهَ رِضوَانَه. وهذا التشنيعُ ونحوُه على عليٍّ وفاطمة رضي الله عنهما أوجُهٌ من تشنيع الرافضة على أبي بكر وعمر؛ وذلك لأنَّ النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في طاعة ولاة الأمور، ولزوم الجماعة، والصبر على ذلك مشهورة كثيرة.
بل لو قال قائل: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَ بطاعة ولاة الأمور وإنْ استأثَروا، والصبرِ على جَورِهِم، وقال:«إنكم ستلقون بعدي أَثَرَة، فاصبِرُوا حتى تلقوني على الحوض» .
وقال: «أدُّوا إليهم حقَّهُم، وسلُوا اللَّهَ حقَّكُم» . وأمثالُ ذلك.
فلو قُدِّر أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا ظالمين مستأثرين بالمال لأنفسهما، لكان الواجبُ مع ذلك طاعتُهما، والصبرُ على جورِهما.
ثم لو أخذ هذا القائل يقدح في علي وفاطمة رضي الله عنهما ونحوِهما بأنهم لم يصبِروا ولم يَلزمُوا الجماعة، بل جزعوا وفَرَّقوا الجماعة، وهذه مَعصيةٌ عَظِيمةٌ؛ لكانت هذه الشناعة أوجه من تشنيع الرافضة على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فإنَّ أبا بكر وعمر لا تقوم حجة بأنهما تركَا واجباً، أو فعَلا محرَّمَاً أصلاً، بخلاف غيرهما، فإنه قد تقوم الحجة بنوع من الذنوب التي لم يفعل مثلها
…
أبو بكر ولا عمر.
وما يُنزَّهُ عليٌّ وفاطمةُ رضي الله عنهما عن ترك واجب أو فعل محظور إلا وتنزيهُ أبي بكر وعمر أولى بكثير، ولا يمكن أن تقوم شبهةٌ بتركهما واجباً أو تعديهما حدَّاً، إلا والشبهةُ التي تقوم في علي وفاطمة أقوى وأكبر.
فطلَبُ الطالبِ مدحَ عليٍّ وفاطمةَ رضي الله عنهما إمَّا بسلامتهما من الذنوب، وإما بغفرانِ اللَّهِ لهما، مع القدح في أبي بكر وعمر بإقامة الذنب والمنع من المغفرة؛ مِن أعظم الجهل والظلم، وهو أجهلُ وأظلمُ ممن يريدُ مثلَ ذلك في علي ومعاوية إذا أرادَ مدحَ معاوية رضي الله عنه، والقدحَ في علي رضي الله عنه).
(1)
(1)
«منهاج السنة النبوية» (4/ 253 ــ 258).