الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني:
حفظها لسِرِّ أبيها صلى الله عليه وسلم
-
94.
[1] عَنْ مَسْرُوقٍ، قال: حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ أُمُّ المُؤْمِنِيِنَ رضي الله عنها، قَالَتْ: إِنَّا كُنَّا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهُ جَمِيعَاً، لَمْ تُغَادِرْ مِنَّا وَاحِدَةٌ، فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام تَمْشِي، لا وَاللهِ مَا تَخْفَى مِشْيَتُهَا مِنْ مِشْيَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَآهَا رَحَّبَ قَالَ:«مَرْحَباً بِابْنَتِي» . ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ سَارَّهَا، فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدَاً، فَلَمَّا رَأَى حُزْنَهَا سَارَّهَا الثَّانِيَةَ، فَإِذَا هِيَ تَضْحَكُ، فَقُلْتُ لَهَا أَنَا مِنْ بَيْنِ نِسَائِهِ: خَصَّكِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالسِّرِّ مِنْ بَيْنِنَا، ثُمَّ أَنْتِ تَبْكِينَ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلْتُهَا: عَمَّا سَارَّكِ؟ قَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سِرَّهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ، قُلْتُ لَهَا: عَزَمْتُ عَلَيْكِ بِمَا لِي عَلَيْكِ مِنَ الحَقِّ لَمَا أَخْبَرْتِنِي، قَالَتْ: أَمَّا الآنَ فَنَعَمْ، فَأَخْبَرَتْنِي، قَالَتْ: أَمَّا حِينَ سَارَّنِي فِي الأَمْرِ الأَوَّلِ، فَإِنَّهُ أَخْبَرَنِي:
…
قَالَتْ: فَبَكَيْتُ بُكَائِي الَّذِي رَأَيْتِ، فَلَمَّا رَأَى جَزَعِي سَارَّنِي الثَّانِيَةَ، قَالَ:«يَا فَاطِمَةُ، أَلا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ المُؤْمِنِينَ، أَوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ» .
الحديث في الصحيحين.
وجاء في بعض طُرقِه خارج الصحيحين:
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَيْ بُنَيَّةُ، أَخْبِرِينِي مَاذَا نَاجَاكِ أَبُوكِ؟
فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: نَاجَانِي عَلَى حَالٍ سِرٍّ، ظَنَنْتِ أَنِّي أُخْبِرُ بِسِرِّهِ وَهُوَ حَيٌّ. فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى عَائِشَةَ أَنْ يَكُونَ سِرَّاً دُونَهَا، فَلَمَّا قَبَضَهُ اللَّهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ لِفَاطِمَةَ: يَا بُنَيَّةُ، أَلَا تُخْبِرينِي بِذَلِكَ الْخَبَرِ؟ قَالَتْ: أَمَّا الْآنَ، فَنَعَمْ
…
الحديث.
(1)
وقد روي من حديث أمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا فَاطِمَةَ عَامَ الْفَتْحِ فَنَاجَاهَا فَبَكَتْ، ثُمَّ حَدَّثَهَا فَضَحِكَتْ.
قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم سَأَلْتُهَا عَنْ بُكَائِهَا وَضَحِكِهَا.
الحديث في «السنن» ـ وهو ضعيف ـ.
(2)
* * *
(1)
سيأتي تخريجه، مع الزيادات عليهما، في الباب الثالث: مسند فاطمة، حديث رقم (33).
(2)
سيأتي تخريجه في الباب الثالث: مسند فاطمة، حديث رقم (28).
الدراسة الموضوعية:
من كمال دِين فاطمة رضي الله عنها، وعَقْلِها، ومحبَّتِها للنبي صلى الله عليه وسلم وبِرِّها به، أنها حفظت سِرَّ أبيها ونبيها صلى الله عليه وسلم، ولم تخبر به أحداً حياة النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وعِلمُهَا بأنه سِرٌّ؛ إمَّا لكونِ النبي صلى الله عليه وسلم صرَّحَ لها بأنه سِرٌّ، لا يرغبُ أن يعلمَ به أحدٌ، أو عَلِمَتْ هي بالقرينة الفعلية والحالية، حينما أسرَّ الحديثَ إليها من بين سائر زوجاته في المجلس.
قال ابن عثيمين رحمه الله: (والسِّرُّ هو ما يقع خُفيةً بينك وبين صاحبك، ولا يحل لك أن تفشي هذا السِّرَّ أو أن تُبيِّنَه لأحد، سواءٌ قال لك: لا تبيِّنَه لأحد؛ أو عُلِم بالقرينة الفعلية أنه لا يُحِبُّ أن يطَّلِعَ عليه أحدٌ؛
…
أو عُلِمَ بالقرينة الحالية أنه لا يحبُّ أن يطَّلِعَ عليه أحدٌ.
مثالُ الأول: اللفظ: أن يُحدِّثَك بحديثٍ ثم يقول: لا تخبر أحداً، هو معك أمانة.
ومثال الثاني: القرينة الفعلية: أن يُحدِّثَك وهو في حال تحديثه إياك يلتفت، يَخشَى أن يكون أحدٌ يَسمَعُ؛ لأنَّ معنى التفاته أنه لا يُحبُّ أن يطلع عليه أحَدٌ.
ومثالُ الثالث: القرينة الحالية: أن يكون هذا الذي حدَّثكَ به أو أخبرك
به من الأمور التي يستحي مِن ذِكْرِها، أو يخشى مِن ذِكْرِهَا، أو ما أشبهَ ذلك؛ فلا يحل لك أن تبِّين وتفشي هذا السِّرَّ).
(1)
لقد فهِمَتْ فاطمةُ رضي الله عنها أنه سِرُّ، فامتنعَتْ من إخبار عائشة رضي الله عنها به، ولما مات صلى الله عليه وسلم، أخبرَتْ بذلك، وقد بوَّب عليه البخاري في «صحيحه» بقوله: باب مَنْ ناجى بين يدي الناس، ومَن لم يُخبِرْ بِسِرِّ صاحبِهِ فإذا مات أخبَرَ بِهِ.
(2)
دلَّ ذلك أنَّ هذا السِّرَّ انتهى بموتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال ابن بطال:(وفيه: أنه لا ينبغى إفشاء السر إذا كانت فيه مضرة على المُسِرِّ، لأن فاطمة لو أخبرت نساءَ النبيِّ ذلك الوقت بما أخبرها به النبيُّ صلى الله عليه وسلم من قُرب أجله؛ لحَزِنَّ لذلك حُزنَاً شديدَاً، وكذلك لو أخبرتهن أنها سيدة نساء المؤمنين، لَعظُم ذلك عليهن، واشتدَّ حُزنهن، فلما أمِنَت ذلك فاطمة بعد موته؛ أخبرت بذلك).
(3)
نقل ابنُ حجر كلامَ ابن بطال ـ السابق ـ وتعقَّبَه، فقال: (قلتُ: أما
(1)
«شرح رياض الصالحين» (4/ 36).
(2)
«صحيح البخاري» (ص 1210)، كتاب الاستئذان، حديث رقم (6285).
(3)
«شرح صحيح البخارى» لابن بطال (9/ 61). وانظر: «التوضيح لشرح الجامع الصحيح» لابن الملقن (29/ 141).
الشق الأول فحقُّ العبارةِ أن يقول: فيه جوازُ إفشاء السر إذا زال ما يترتب على إفشائه من المضرة؛ لأن الأصل في السر الكتمان وإلا فما فائدته.
وأما الشق الثاني فالعِلة التي ذكرها مردودةٌ؛ لأن فاطمة رضي الله عنها ماتت قبلهن كلهن، وما أدري كيف خفي عليه هذا؟ ! ثم جوَّزْتُ أن يكونَ في النسخة سقم، وأن الصواب: فلما أمِنَت من ذلك بعد موته. وهو أيضاً مردود؛ لأن الحزن الذي علَّلَ به لم ينزل بموتِ النبي صلى الله عليه وسلم، بل لو كان كما زعم، لاستمرَّ حزنهن على ما فاتهن من ذلك).
(1)
وحِفظُها سِرَّ أبيها صلى الله عليه وسلم منقبةٌ من مناقبها رضي الله عنها، وكذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يحفظون سِرَّ النبي صلى الله عليه وسلم، من ذلك:
أبو بكر حينما عرض عليه عُمَرُ الزواج بحفصة رضي الله عنهم، وكان يعلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها، ولم يرغب أن يُبدِيَ ذلك، فأعرضَ عن عمر، ثم لما خطبها النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ أخبره أبو بكر عذره في عدم إجابته؛ حيث قال: (لعلك وجدتَ عليَّ حين عرضتَ عليَّ حفصة فلم أرجع إليك؟ قال: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أنْ أرجع إليكَ فيما عرضتَ، إلا أني قد علمتُ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قد ذكرَها، فلم أكُنْ لأفشي سِرَّ رسولِ اللَّه
(1)
«فتح الباري» لابن حجر (11/ 80).