الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدراسة الموضوعية:
إنَّ
العلاقة بين فاطمة، وعائشة رضي الله عنهما علاقة حميمية
، ملؤها المحبة والصلة والوفاء،
(1)
ولم يُنقَل عنهما شئ يدل على منافرة؛ فضلاً عن عداء وبغض، وهذه المحبة والألفة لا تنافي وجود خلافات عائلية، تقع في البيوت كلها، منشؤها النَزَعات الإنسانية، والاختلافات الشخصية، مع قرب الجوار، وكثرة المخالطة، وهما رضي الله عنهما غير معصومتين.
الحديث الأول في هذا المبحث، حديث مطوَّل يكشف ما يقع من الغَيرة والخلافات المعتادة بين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلق وأكملهم هدياً، ولا ينبغي حمل هذه الاختلافات إلى قضايا عامة: عقدية أو غيرها، كما يلوكها زوراً وبهتاناً مدَّعُو محبة آل البيت، ومُبغِضُو صحابة
…
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وثمَّةَ أحاديث عديدة صحيحة تُصوِّر لنا حال بيوت النبي صلى الله عليه وسلم من داخلها، وما يقع من الخلاف بين النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه، وما يقع بين زوجاته رضي الله عنهن.
(2)
(1)
انظر للفائدة: «عائشة أم المؤمنين» تأليف مجموعة من الباحثين ـ ط. الدرر السنية ـ
…
(ص 326)، «سيرة السيدة عائشة أم المؤمنين» لسليمان الندوي (ص 121).
(2)
انظرها مجموعة في كتاب: «الأساليب النبوية في معالجة المشكلات الزوجية ـ بحوث تحليلية للحياة الزوجية في بيت النبوة ـ» د. عبدالسميع الأنيس.
فإذا كان ذلك في بيت النبوة مع أفضلِ الخلق، وأصدَقِهم، وأتقاهم، وأكملِهم هَدْياً، وأحسنِهم خُلُقاً، وأكرمِهم صلى الله عليه وسلم، فالحال بين الزوجات، أو فاطمة مع غيرها من باب أولى.
وإني أرى أن قبول فاطمة الوساطة والرسالة من حزب أم سلمة رضي الله عنهن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم حديثها بالطلب صراحةً مع وجود عائشة، يشئ بأمر يسير من الاختلافات العائلية بين فاطمة وعائشة رضي الله عنهما.
لكن لم يُنقل شئٌ مفصَّل من ذلك، لعدم بلوغه درجة الاهتمام والنقل، ولكونه من الأحداث اليومية الظاهرة التي تُمحى سريعاً، ولعدم تمكنها في القلب، ولوجود الصلاح والتقى الذي يحمي صاحبها عن الاستمرار، فضلاً عن القطيعة والافتراء.
ومما يدلُّ على وجود مثل هذا المعتاد في البيوت، ما رُوي في حديث عائشة رضي الله عنها:«ما رأيتُ أحداً قط أصدق من فاطمة غير أبيها ـ وكان بينهما شئ ـ فقالت: يا رسول اللَّه، سَلْهَا فإنها لا تكذب» .
(1)
فقولُ الراوي: «وكان بينهما شئ» ـ إن صحَّت هذه الجملة ـ، لا يدل
(1)
سيأتي تخريجه في الفصل الرابع: المبحث الثالث.
على نزاع مستمر، أو نزاع شديد مؤثِّر، بل هو شئ محدد في موضوع عارض.
ولو كان بينهما نزاعٌ كبير، وبغضاءُ ظاهرة، وتنافرٌ بيِّن، لظهر في أحاديث عديدة، ونُقِل بأسانيد صحيحة، وهذا ما لم يحدث، بل نُقِل خلافه ـ ولله الحمد ـ.
ونلحظ في الحديث الأول الطويل برواية مسلم أن عائشة تحكي موقفها من زينب رضي الله عنهما وتصف صراحةً سبب الغيرة، وما فعلتْه، وردَّها، ومع ذلك تُقدِّم بين يدي حديثها مَدحاً تفصيلياً لزينب رضي الله عنها، وكأنها تُبيِّن عُذرها فيما يصدرُ منها، وهي حِدَّة طبَعِية، سرعان ما تفئ منها، ومع وصفها بما يعرض لها إلا أنها بادَرَتْ ببيان عدم تأثير ذلك لسرعة فَيئها، فبدأ الحديث عنها وانتصف واختتم بالمدح والثناء، رغم الاختلافات.
فإذا كان ذلك بين عائشة وزينب وهما كما يُسمَّى (ضرَّات
…
وجارات)
(1)
فأي شئ يكون بين عائشة وفاطمة، ولكل منهما محبة خاصة عند النبي صلى الله عليه وسلم، مع كمال عقلهما ودينهما.
وإن مما يدل على المحبة والصفاء والنقاء بينهما:
أولاً: أنَّ الأصل بين المتقين: الصدق والوفاء والمحبة والصفاء، ولم يرد شئ يخالف هذا بين أم المؤمنين: عائشة، وبنت النبي صلى الله عليه وسلم: فاطمة.
(1)
انظر: «مشارق الأنوار» للقاضي عياض (1/ 164)، «النهاية» لابن الأثير (1/ 313).
ثانياً: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم لعائشة يومين، يومَها ويوم سودة، لأنها تنازلت عنه لعائشة رضي الله عنهما، وكان بيتُ ابنة النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة مجاوراً لبيت عائشة، والزيارة متبادلة بينهما متكررة يومياً أو شبهه، فلو كان بين عائشة وفاطمة شيئاً؛ لظهر في عدد من الوقائع، وهذا لم يحصل.
ثالثاً: ورود عدد من الأحاديث المنبئة عن صفاء ومودة، من ذلك:
ــ وصف عائشة لفاطمة، وأنها شبيهة النبي صلى الله عليه وسلم في مِشيَتِها وهَديها ودَلِّها، وقيامها، وقعودها، مع احتفاء النبي صلى الله عليه وسلم بها، واحتفائها به، وأنه صلى الله عليه وسلم خصَّها بالسرار حينئذ من بين الحاضرات، وهُنَّ جميع أزواجه
…
(1)
ــ وكذلك مدحها بقولها: ما رأيتُ أحداً قط أصدق لهجةً من فاطمة غيرَ أبيها صلى الله عليه وسلم.
(2)
ــ وخبرها بأنَّ أحبَّ النساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فاطمةُ.
(3)
ــ أيضاً مبادرة عائشة من بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كلهن
…
ـ وكُنَّ في المجلس ـ بسؤال فاطمة عن إسرار النبي صلى الله عليه وسلم لها، فبكت،
(1)
كما سبق في الحديث رقم (10).
(2)
كما سبق في الحديث رقم (9)، وسيأتي أيضاً في الفصل الرابع: المبحث الثالث.
(3)
حديث حسن، سبق في الحديث برقم (75).
ثم أسرَّ لها فضحكت؛ لأن الموقف ملفت للانتباه، ومستغرب
…
لو كان بينهما شئ؛ لما سألتها، ولأوكَلَت السؤال إلى إحدى الحاضرات.
ــ ثم إعادة السؤال لها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وإجابة فاطمة، وهذا كله يدُلُّ على المودة بينهما، وعدم وجود ما يدفع القرب والاتصال، وكان السؤال الثاني في وقت تدَّعي الرافضة اغتصاب أبي بكر الخلافة، وما جرى في قضية الميراث! فلو كان بينهما عداوة لما تجرأت عائشة على السؤال عن السِّرِّ، ولما أجابت فاطمة رضي الله عنهما.
ــ أيضاً كان بينهما حقٌّ لم يُذكر تفاصيله، وإنما أشارت إليه عائشة في قولها: «
…
فَلَمَّا تُوُفِّيَ، قُلْتُ لَهَا: عَزَمْتُ عَلَيْكِ بِمَا لِي عَلَيْكِ مِنَ الحَقِّ لَمَّا أَخْبَرْتِنِي، قَالَتْ: أَمَّا الآنَ فَنَعَمْ، فَأَخْبَرَتْنِي
…
الحديث.
(1)
ــ وكذلك رواية عائشة حديث الكساء، وروايتها أصح ما ورد فيه، والحديث من أعلى الأحاديث في فضل بعض آل البيت الأقربين: فاطمة، وزوجها، وولدَيها رضي الله عنهم
(2)
(1)
كما سبق برقم (10).
(2)
في «صحيح مسلم» ، وقد سبق تخريجه برقم (83).
ــ أيضاً حملُ عائشة طلب فاطمة
(1)
لما أرادت خادماً، وأتت إلى أبيها صلى الله عليه وسلم ولم تجده، فعادت؛ ثم أخبرت عائشةُ النبيَ صلى الله عليه وسلم بمَقدَمِها وطلبها، فزارها في بيتها وحدَّثها.
(2)
ونلحظ في الحديث الأول في هذا المبحث أن النبي صلى الله عليه وسلم
…
لم يجب ابنته فاطمة على الطلب المحمول من أم سلمة ومن معها رضي الله عنهن، ولم يدخل في ذلك؛ لأن الغيرة ظاهرة، ولاحَقَّ لهن فيما طلبنَ، ويظهر أنه صلى الله عليه وسلم خشي على ابنته أن يساكن قلبها شئ من سماعها لحديث الجماعة أم سلمة ومَن معها رضي الله عنهن، فصرف ابنته فاطمة عن الموضوع، وبادَرها
(1)
قال ابن حجر في «فتح الباري» (11/ 124): (قال الطَّيْبي: فيه دلالةٌ على مكانة أم المؤمنين من النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث خصَّتها فاطمة بالسفارة بينها وبين أبيها دون سائر الأزواج).
قلت: ويحتمل أنها لم ترد التخصيص، بل الظاهر أنها قصدت أباها في يوم عائشة في بيتها، فلما لم تجده ذكرتْ حاجتَها لعائشة، ولو اتَّفَق أنه كان يوم غيرها من الأزواج؛ لذكرت لها ذلك.
وقد تقدم أن في بعض طرقه أن أم سلمة ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك أيضاً، فيُحتمل أن فاطمة لما لم تجده في بيت عائشة مرَّت على بيت أم سلمة فذكرت لها ذلك.
ويُحتمل أن يكون تخصيص هاتين من الأزواج لكون باقيهن كن حزبين، كل حزب يتبع واحدة من هاتين كما تقدم صريحاً في كتاب الهبة). انتهى كلام ابن حجر.
(2)
كما في «الصحيحين» ، وقد سبق برقم (56).
بجواب يفيدها ويدلها على الابتعاد، فذكر أنه صلى الله عليه وسلم يحب عائشة، وحثَّ ابنته على حُبِّ عائشة؛ وقد استجابة فاطمةُ فوراً، لأنها تحبُّ ما يحبُّه والدُها صلى الله عليه وسلم، وقد دلَّ على ذلك أنها لم تقبل طلب أم سلمة ومَن معها بمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم في الموضوع مرةً ثانية.
هذا، وإنَّ بينهما رضي الله عنهما تقارباً في السن، وفي المسكن، مما يستدعي أُلفَةً خاصة، ومعاونة بينهما، خاصة فيما يعرض لفاطمة من أمور الزوجية، والولادة، ونحو ذلك، وقول عائشة ـ السابق ذكره ـ: «عزمتُ عليكِ بما لي عليكِ من الحق
…
» يدل على شئ من هذا ـ واللَّه أعلم ـ.
ومما ورد عن زوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أثنى على عائشة رضي الله عنها في قصة الجَمَل:
فقد أخرج: ابنُ عدي في «الكامل» (6/ 363) من طريق مصعب بن سلَّام التميمي الكوفي
(1)
، عن محمد بن سُوقة الغنوي
(2)
، عن عاصم بن كُليب بن شهاب الجَرْمي
(3)
، عن أبيه
(4)
قال: انتهينا إلى عليٍّ فذكر عائشة
(1)
ذكر ابن عدي أن مصعب: لا بأس به. وفي «التقريب» (ص 562): صدوق له أوهام.
(2)
ثقة مرضي. «تقريب التهذيب» (ص 513)
(3)
صدوق رُمي بالإرجاء «تقريب» (ص 322)
(4)
صدوق. «تقريب التهذيب» (ص 492)
فقال: حَلِيلَةُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم.
(1)
وهذا إسناد حسن.
فائدة: سيأتي الحديث عن المفاضلة بين عائشة وفاطمة وخديجة رضي الله عنهن.
(2)
وكذا الحديث عن العلاقة بين آل البيت والصحابة رضي الله عنهم.
(3)
فائدة أخرى: أحد الرافضة المعاصرين، واسمه: جعفر الهادي أصدر كتاباً سمَّاه: «السيدة فاطمة الزهراء على لسان عائشة زوجة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم» جمع فيه نحواً من أربعين حديثَاً، أكثرُها من مصادر أهل السنة، ومن مرويَّات عائشة رضي الله عنها! !
وإن كانت هذه الروايات تشمل الصحيح والضعيف، بل والموضوع، ولكن المهم أنهم يُقِرُّون ويعترفون بهذه الصلة والمكانة بين الكريمتين الطيبتين، لكن لا يُظهِرها منهم إلا المنصفُ السالمُ من الغلو والحقد ـ وهذا نادرٌ جداً ـ.
* * *
(1)
وانظر نحوها في «تاريخ الطبري» (4/ 491).
(2)
الفصل الخامس: المبحث الأول: الدراسة الموضوعية.
(3)
الفصل الثالث: الدراسة الموضوعية.