الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1-
فرعونيون وعرب
للأستاذ أحمد حسن الزيات 1
عفا الله عن كتابنا الصحفيين! ما أقدرهم على أن يثيروا عاصفة من غير ريح، ويبعثوا حربًا من غير جند.
حلا لبعضهم ذات يوم أن يكون بيزنطيًّا يجادل في الدجاجة والبيضة، أيتهما أصل الأخرى؟ فقال على هذا القياس: أفرعونيون نحن أم عرب؟ أنقيم ثقافتنا على الفرعونية أم نقيمها على العربية؟
نعم قالوا ذلك القول وجادلوا فيه جدال من أعطي أَزِمَّةَ النفوس وأَعِنَّةَ الأهواء، يقول لها كوني فرعونية فتكون، أو كوني عربية فتكون! ثم اشتهر بالرأي الفرعوني اثنان أوثلاثة من رجال الجدل وساسة الكلام، فبسطوه في المقالات، وأيدوه بالمناطرات، ورددوه في المحادثات، حتى خال بنو الأعمام في العراق والشام أن الأمر جد، وأن الفكرة عقيدة، وأن ثلاثة من الكتاب أمة، وأن مصر رأس البلاد العربية قد جعلت المآذن مسلات، والمساجد معابد، والكنائس هياكل، والعلماء كهنة.
مهلا بني قومنا لا تعتدوا بشهوة الجدل على الحق، ورويدا بني عمنا لا تسيئوا بقسوة الظن إلى القرابة! إن الأصول والأنساب عرضة للزمن والطبيعة؛ تواشج بينها القرون وتفعل فيها الأجواء حتى يصبح تحليلها وتمييزها وراء العلم وفوق الطاقة، فإذا قلنا فلان عربي أو فرنسي أو تركي، فإنما نعني بهذه النسبة انطباعه بالخصائص الثقافية والاجتماعية لهذا الشعب.
1 أحمد حسن الزيات: وحي الرسالة، ط8، نهضة مصر، د. ت، ج1، ص49-52.
كاللغة والأدب والأخلاق والهوى والدين. فمهيار عربي وأصله فارسي، وروسو فرنسي وأصله سويسري، والأمير فلان مصري وأصله تركي؛ لأن كلا من هؤلاء الثلاثة أصبح جزءًا من شعبه، ينطق بلسانه ويفكر بعقله ويشعر بقلبه.
فبأي شيء من هذا يتمارى أخواننا الجدليون وهم لو كشفوا في أنفسهم عن مصادر الفكر ومنابع الشعور ومواقع الإلهام لرأوا الروح العربية تشرق في قلوبهم دينًا وتسري في دمائهم أدبًا، وتجري على ألسنتهم لغة، وتفيض في عواطفهم كرامة
…
؟
لا نريد أن نحاجهم بما قرره العلماء المحدثون من أن المصرية الجاهلية تنزع بعرق إلى العربية الجاهلية، فإن هذا الحجاج ينقطع فيه النفس ولا ينقطع به الجدل.. وكفى بالواقع المشهود دليلًا وحجة. هذه مصر الحاضرة تقوم على ثلاثة عشرة قرنًا وثلثًا من التاريخ العربي نسخت ما قبلها كما تنسخ الشمس الضاحية سوابغ الظلال.. وذلك ماضي مصر الحي الذي يصبح في الدم، ويثور في الأعصاب، ويدفع بالحاضر إلى مستقبل ثابت الأس، شامخ الذرى، عزيز الدعائم.
أزهقوا إن استطعتم هذه الروح، وامحوا ولو بالفرض هذا الماضي، ثم انظروا ما يبقى في يد الزمان من مصر. هل يبقى غير أشلاء1 من بقايا السوط، وأنضاء2 من ضحايا الجور، وأشباح طائفة ترتل "كتاب الأموات"، وجباه ضارعة تسجد للصخور وتعنو للعجماوات، وقبور ذهبية.
1 الأشلاء جمع شلو وهو العضو بعد البلى والتفرق.
2 الأنضاء جمع نِضو وهو المهزول.
الأحشاء ابتعلت الدور حتى زحمت بانتفاخها الأرض، وفنون خرافية شغلها الموت حتى أغفلت الدنيا وأنكرت الحياة؟ وهل ذلك إلا الماضي الأبعد الذي تريدون أن يكون قاعدة لمصر الحديثة، تصور بألوانه وتشدو بألحانه وتحيا أخيرًا بروحه؟ ولكن أين تحسون بالله هذه الروح؟ إن أرواح الشعوب لا تنتقل إلى الأعقاب إلا في نتاج العقول والقرائح. فهل كشفتم بجانب الهياكل الموحشة والقبور الصم مكتبة واحدة تحدثكم عن فلسفة كفلسفة اليونان، وتشريع كتشريع الرومان، وشعر كشعر العرب؟ أم الحق أن مصر القديمة دفين فنيت روحه مع الآلهة، وصحائف موت ذهب سرها مع الكهنة، والخامد لا يبعث حياة، والجامد لا يلد حركة؟
لا تستطيع مصر الإسلامية إلا أن تكون فصلًا من كتاب المجد العربي؛ لأنها لا تجد مددًا لحيويتها، ولا سندًا لقوتها، ولا أسسًا لثقافتها، إلا في رسالة العرب. أما أن يكون لأدبها طابعه ولفنها لونه، فذلك قانون الطبيعة ولا شأن "لمينا" ولا "ليعرب" فيه؛ لأن الآداب والفنون ملاكها الخيال. والخيال غذاؤه الحس، والحس موضوعه البيئة، والبيئة عمل من أعمال الطبيعة يختلف باختلافها في كل قطر، فإذا لم يوفق الفنان بين عمله وعمل الطبيعة، ويؤلف بين روحه وروح البيئة فاتته الصبغة المحلية، وهي شرط جوهري لصدق الأسلوب وسلامة الصورة. وقديمًا كان لون الأدب في الحجاز غيره في نجد، وفي العراق غيره في الشام، وفي مصر غيره في الأندلس، دون أن يسبق هذا التغاير دعوة ولا أن يلحق به أثر؟
انشروا ما ضمت القبور من رفات الفراعين، واستقْرُوا من الصخور الصلاب أخبار الهالكين، وغالبوا البلى على ما بقي في يده من أكفان الماضي.
الرميم، ثم تحدثوا وأطيلوا الحديث عن ضخامة الآثار وعظمة النيل وجمال الوادي وحال الشعب، ولكن اذكروا دائمًا أن الروح التي تنفخونها في مومياء فرعون هي روح عمرو، وأن اللسان الذي تنشرون به مجد مصر هو لسان مضر، وأن القيثار الذي توقعون عليه ألحان النيل هو قيثار امرئ القيس، وأن آثار العرب المعنوية التي لا تزال تعمر الصدور وتملأ السطور وتغذي العالم، هي أدعى إلى الفخر وأبقى على الدهر وأجدى على الناس من صفائح الذهب وجنادل الحجارة.
إنما تتفاضل الأمم بما قدمت للخليقة من خير، وتتفاوت الأعمال بما أجدت على الإنسان من نفع. أليس"الخزان" خيرًا من الكرنك، والأزهر أفضل من الأهرام، ودار الكتب أنفس من دار الآثار؟
وبعد فإن ثقافتنا الحديثة إنما تقوم في روحها على الإسلام والمسيحية1، وفي أدبها على الآداب العربية والغربية، وفي علمها على القرائح الأوروبية الخالصة. أما ثقافة "البردي" فليس يربطها بمصر العربية رباط، لا بالمسلمين ولا بالأقباط.
1 انظر نقدًا لهذه الفقرة في التعليق الذي يأتي عقب المقالات.