الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
أمي
لعبد العزيز الرفاعي1
كنت في أؤخر كتابة هذا المقال من حين إلى حين.. وربما لأكثر من سبب، لعل منها أنني لا أجد في نفسي الشجاعة الكافية لاسترجاع ذكرى تلك اللحظة المؤلمة التي تلقيت فيها نبأ وفاة والدتي، فشعرت شعورًا حادًّا أنها لحظة فطام مريرة، ولكنها شدة ما تختلف عن ذلك الفطام القديم.. حقًّا إنني الآن أفتقد حنانها فقدانًا لا رجعة فيه ما دمنا في هذه الحياة الدنيا.
ولعل منها أنني لا أجد هذه الكلمات التي أستعملها كلما عمدت إلى إعداد مقال ما، لا أجدها تطاوعني على التعبير الدقيق عن حقيقة مشاعري تجاه هذا الحدث الكبير، فليس من السهل أن يعبر كاتب مهما أوتي من بلاغة التعبير عن مرارة فقدان ذلك النهر الدافق من الحنان الذي كان ينهمر من ذلك الصدر الحنون.
ولعل منها، أنني كثيرًا ما تساءلت: وماذ يهم القارئ خاصة في هذا العصر العجيب المضطرب بالأحداث أن أحدثه عن أشجاني الخاصة، مع ما يغلف هذا الحديث من مرارة، ومع ما يطفح به العالم من أحداث مؤلمة تملأ النفس أسًى وشجنًا.. أليس من تلك الأحداث الكفاية؟
ومع وجاهة هذا السبب الأخير، فقد كنت أحاول أن أجد له مسوغًا.. أليس في كثير مما يكتب الكتاب أحاديث ذاتية، تدور حول ذواتهم
1 عبد العزيز الرفاعي، أمي، المجلة العربية، العدد "178"، شعبان 1413هـ، ص54 فما بعدها.
وخصوصياتهم وأشجانهم؟ وقد وجد عشاق الأدب في هذه الخصوصيات أصداء لمشاعرهم، إلى المتعة الأدبية، وإلى جوانب من الإبداع، ترضي النفس والقلب والعقل؟
وأبادر فأقول: إنني لست من هؤلاء القادرين على الإمتاع والإبداع، ولكنني أجد في مثل هذه النفثات راحة نفسية هي راحة الإفضاء، وأحسبني أجد في هذه النفثة شيئًا آخر يهمني جدًّا، هو أن تكون أيضًا تحية لروح والدتي، التي جاهدت كثيرًا، واحتملت كثيرًا، وضحت كثيرًا، لكي يكون هذا القلم الواهن قادرًا على شيء من التعبير.. إذن فلتكن هذه الكلمة لمسة وفاء معلنة لها.
ولا يعني هذا بطبيعة الحال أن تكون أمي قد روضت حروفي
…
كلا.. فلم تكن قد نالت حظًّا من التعليم، فشأنها في ذلك شأن جيلها، الذي لم يتجاوز الكتاب الذي حفظت فيه بعض قصار السور، ثم انبترت صلتها بالحرف، فلم تعد تدرك منه شيئًا، وإن ظلت طوال حياتها المديدة وثيقة الصلة بثقافة السماع، تأخذ وتروي، وقد تبدع.
لقد روضت قلمي بمؤازرتها الفذة.. بوقوفها بكل قواها إلى جواري، في كل تلك الظروف الصعبة التي أحاطت بنشأتي صبيًّا فقيرًا، يقف وحيدًا تجاه قسوة الحياة إلا من حنانها وثباتها وصبرها وجهادها.. أليس من حق هذه الأم المجاهدة الصابرة، أن أقول عنها كلمة هي بعض واجب هذا القلم، الذي كان لها الفضل الكبير في ترويضه؟
ثم أليس من حق قرائي عليّ أن يعرفوا من كان يقف ورائي، لأكون هذا الذي كنت، مع التحفظ الشديد عند هذا التعبير.. ورحم الله امرءًا عرف قدر نفسه!
كانت أمي كلَّ دنياني، كما كنت كل دنياها، فقد كنت وحيدها إلا من أختين، كما كنتُ شجرةً مفردةً في البرية.. ليس لي أعمام ولا أخوال، كما فقدت عطف أبي وأنا صغير.. وفي وقت كنت في أمس الحاجة إلى مساندته، أقول: فقدت عطفه، ولم أفقده!
لقد فرَّقت ظروف قاسية بين والدتي ووالدي، وكان في ذلك بدء لمرحلة شقاء أليمة بالنسبة لي، اضطررت بعدها أن أعتمد على أمي في تأمين حياتي، وحياة الأسرة الصغيرة التي تضمنا.
كان البؤس يحيط بنا من كل جانب، ولكني وجدت أمامي شخصًا صلب العزيمة، ثابتًا، جلدًا، مثابرًا، كان هذا الشخص هو أمي.. لقد استمدت من ضعفها قوة عجيبة، وصنعت المستحيل لكي تؤمِّن لنا، ولو أدنى مستوى ممكن من العيش بما كانت تبيعه من منسوجات نسوية لم تكن تُدِرُّ إلا القليل.
كنت في مفترق طريق صعب جدًّا.. وأنا بعد في حوالي الثالثة عشرة من عمري، فإما أن أفارق الدراسة لألتمس عملًا يؤمّن حياتنا، وأستطيع أن أضع حدًّا لمتاعب والدتي، فقد كنت أحس بما تعاني من شقاء جسمي ونفسي.. وهي تحاول أن تعول هذه الأسرة، وإما أن أواصل دراستي، ولو
إلى الشهادة الابتدائية على الأقل، وفي هذه الحالة سيظل كفاح والدتي مكتملًا، وإن كان الأمر فوق احتمالها.. فقد أخذ المرض والإعياء ينالان منها!
كنت حقًّا بين أمرين أحلاهما مر، ولكني لم ألبث أن اخترت بالاتفاق -معها- طريقًا وسطًا، هو أن أعمل في وقت فراغي، وهكذا كان، فعملت في الأمسيات، وعملت في الإجازات.. وهكذا وضعت كتفي الصغير إلى جوار كتفها الواهن، وواصلنا حياة صعبة المراس! ولكن ظل كتفها هو الذي يحمل العبء الأكبر.
وهكذا كانت أمي لي أبًا منذ صباي الباكر، وكانت هي عمي وخالي وإخواني وكل أقاربي، إذ لم يكن لي من هؤلاء أحد.
وهكذا استطاعت مع وسائلي الواهنة أن تحمل العبء إلى حين تخرجت من المعهد العلمي السعودي الذي حملت شهادته سنة 1361 هـ، عندئذ فقط أزحت كتفها من عبء النفقة، وهو لم يكن إلا أحد أعبائها الكثيرة.
أما العبء الأكبر فقد كان عبء التربية والرعاية، في هذا المجال كان عليها أن تكون أمًّا، وأن تكون أبًا.. وكان طبيعيًّا أن تمنح أمومتها لي ولأختي، ولكن أن تقوم بدور الأب أيضًا، فتلك هي المهمة الشاقة، كان عليها أن تكون مفتوحة العينين تمامًا لروحاتي وغدواتي وسائر تصرفاتي.. وأن تراقب صداقاتي وانتظامي في المدرسة، وأن تؤمن طلباتي المدرسية، وكان كل ذلك يتطلب نوعًا من الحزم، قلما يتوفر لدى الأمهات. وكان عليها
هنا أن تتخلى عن بعض حنانها، وأن -تنسى إلى حد ما- أني وحيدها، وقد نجحت في هذا الدور الصعب، فكنت أحسب لحزمها ألف حساب، ذلك الحزم الذي كنت أجده في الكلمة القارصة العنيفة في غير ما إسراف، أو في "علقة من مقبض "المروحة" التكروني أو الطائفي أو "المدك" الذي كان يستعمل في ضم "دكك" السراويل.. كان هو الآخر أداة إرهاب، وكان كثيرًا ما يكفي التلويح بأحد هذين السلاحين.. فقد كان أحدهما كافيًا تمامًا لروعي.
ولعل أدق مهامها أن تراقب صداقاتي، فلم تكن تسمح لي أن أكوّن صداقات إلا مع من تثق بهم، وكانت ضنينة بثقتها، وكان شكها كبيرًا، وهو مظهر من مظاهر ذكائها الحاد الذي كانت تستطيع أن تقرأ به الملامح، وأن تتفحص به اللهجة الصادقة، وابنة عمها المزيفة. ولكنها مع كل شكوكها لم تكن تضيِّق الخناق عليّ، بل تدرك بحسها المرهف أنه لا بد من منحي شيئًا من الحرية. وحينما تجاوزت العاشرة، وأخذت أسعى إلى أن تكون لي "خصوصية" لأنفرد بكتبي ولعبي، كانت تجتهد في أن تهيئ لي هذا المناخ، في ذلك الحد الضيق الذي كان يسمح به فقرنا!
لقد استطرت من الفرح حينما أعطتني بقايا "شنطة سفر" كبيرة لأجمع فيها أوراقي وكتبي، إنها أول مكتبة كونتها، وكانت هي صاحبة الفضل فيها، ثم أخذت بعد ذلك تحترم هذه الخصوصية، وتفسح الطريق لظهورها.
وكانت لا تتسامح مع الخطأ إن أخطأتُ، كما كانت تشجع التصرفات السليمة.
في بعض الأحايين كانت تبدي بعض الضيق بكتبي وأوراقي، وبالفوضى التي تنجم عنها، ولكنها سرعان ما تستسلم، وكأنها كانت تدرك أهمية الكتاب بالنسبة لي.
وحاولت في يوم من الأيام -حينما أصبحتُ موظفًا، وأصبحت سيد البيت- أن تلفت نظري إلى أنني أنفق الكثير على اقتناء الكتب، وكان هذا الكثير لا يزيد معدله على عشر مرتبي، فكانت حجتي أنني لا أدخن مثل الكثير من لِداتي، وأن ما ينفقه أمثالي مبدِّدًا في الهواء أنفقه على شراء الكتب التي تغذي فكري، ثم إن الكتب تعد من المدخرات مهما كسدت أثمانها، ومهما ضاق بعض الناس بها ذرعًا.
وكانت حجتي مقنعة لها، ولم تعد تناقشني بعد ذلك في تلك الكتب التي تكاثرت بعد ذلك تكاثر الفئران، وأصحبت ظاهرة مستشرية لا سبيل إلى دفعها وإن صدق فيَّ قول القائل: وعند الشيخ كتب مكدسة، ولكن ما قرأها.
ولعل مما كان يعزي أمي عن هذه الكتب التي أخذت تغزو دارنا، هي أنها نشأت هي الأخرى في مناخ كتبي، فعندما كانت "نفيسة" ـ وهذا اسمها ـ طفلة صغيرة كانت تجلس في دكان والدها السيد عبد الفتاح الرشيدي، وتراه وهو يبيع الكتب التي كانت شائعة تلك الأيام كصحيح البخاري، وفتوح الشام، والقصص الشعبية، وحينما كان والدها يتغيب عن الدكان لبعض شأنه، كان يتركها لحراسته، ولم تكن تتردد في البيع، وإن كانت تخطئ.
بحكم سنها، في بعض تصرفاتها، وكان هذا طبيعيًّا.
كان تحدثني بذلك، وعندما دارت الأيام وسكنتُ جدة عام 1375هـ. وترددت على الأفندي محمد نصيف آخذ من علمه وأدبه وأحاديثه، وأتنسم هواء مكتبته الرائعة، قلت له ذات يوم خلال أحاديثنا المنفردة: إن والدتي من مدينته، من جدة، سألني متطلعًا:
- ابنة من هي؟
فلم أكد أذكر اسم والدها، حتى قال:
هل تعلم أن جدك هذا أول من استورد الكتب في جدة؟
قلت: كيف كان ذلك؟
قل: لقد كان جدك رجلًا ربعة القامة، نحيلًا، قمحي اللون، وكان له دكان في "زقاق الحبال" الذي كان هو الآخر يبيع الكتب، ثم نقل دكانته إلى جوار مدخل بيت باناجه المعروف في سوق الندى، وكان من عاداته أن يأخذ بضاعته من الكتب من آل الفدّا في باب السلام بمكة المكرمة، ولكنه جاءني ذات يوم، -الكلام للأفندي نصيف- وكان سني آنذاك حوالي العشرين، وقال لي: يا أفندي، أبغاك تكلفني عند فرج يُسر، وكان هذا رجلًا موسرًا، يقرض المحتاجين، وله مشاريع خيرية، أهمها أنه أجرى العين التي كانت معروفة باسمه آنذاك، أي عين فرج يسر، ومكانها تقريبًا في مكان جامعة الملك عبد العزيز اليوم، فاستفسرت منه عن الغرض من الضمان، قال: إنني أحتاج
إلى عشرين ذهبية أرسلها مع فلان إلى مصر، ليرسل لي بضاعة من الكتب فإن ذلك أوفر لي من شرائها محليًّا، وسأرد المبلغ إليه بعد انقضاء موسم الحج القادم، فذهبت معه إليه، وأخرج الشيخ فرج يسر المبلغ المطلوب من "البشتخته" أي من الصندوق الصغير المخصص لحفظ النقود والأوراق المهمة، وسلمه إليه، فكتبنا له سندا به، وتمكن جدك من استيراد كمية من الكتب، كانت أول كتب يستوردها كتبي في جدة من مصر رأسًا.
كما تدربت على العيش في مناخ الكتب بعد أن تزوجت والدي الذي كان -يرحمه الله- قارئًا مولعًا بالمطالعة، يقرأ كل شيء.. الصحف والمجلات، والقصص، والروايات القديمة والحديثة، وكتب التراث، وبعض الأدب الجديد، ولكنه كان في تنقلاته الكثيرة ـ بحكم وظيفته ـ من بلد إلى بلد وبما كان يتعرض له من أزمات، كان يحسن التخلص من الكتب، فيبيعها إلى حين يستطيع شراء غيرها، وقد يهديها إلى من يراه قادرًا على الاستفادة منها.
وقصة اشتغال جدي لأمي ببيع الكتب في جدة، ثم العمل على استيرادها من مصر، ذكرها الشيخ عبد القدوس الأنصاري -يرحمه الله- في كتابه الضخم "تاريخ جدة" استقاها من الأفندي نصيف الذي كان يكثر من التردد عليه، خاصة حينما كان مشتغلًا بإعداد مادة كتابه ذلك.
وكان هذا الجو المليء بالكتب في طفولتها الباكرة، ثم في شبابها، ثم في مرحلة ما بعد الشباب، قد تعاون مع موهبتها الذاتية في تنمية معلوماتها، حيث كانت تتمتع بذاكرة حية، تستوعب وتختزن، وتحسن استعمال مخزونها من المعلومات.
حفظت الأحداث والتواريخ، والأمثال البلدية التي كانت تحفظ منها الشيء الكثير، وإذا كانت بعض الأمثال تعود إلى أصل شعبي مصري، فقد كانت تحرص على أن تنسبها لهذا المصدر، فتقول: قالت المصرية، ثم تورد المثل بلهجته المصرية. وقد استطعت أن ألتقط بعض الأمثال من روايتها، ولكن إلى حد ما. أما مخزونها من الشعر العامي، سواء العامية الحضرية المستعملة في مكة المكرمة وجدة وأمهات المدن الحجازية، أو العامية البدوية الشائعة في بادية الحجاز، خاصة ما يمكن أن أسميه بالودياني، نسبة إلى الوديان الخضراء المحيطة بمكة وجدة، فقد ساعدها هذا المخزون على أن تنظم شيئًا من الشعر العامي، الذي يخيل إلَّى أنه لقاء ما بين الشعر والنثر المسجوع. على أنها كانت تخفي عني هذه الأشعار، فهي كثيرًا ما تكون أشعارًا نقدية لبعض ما يقع في المجتمع من نشاز التصرفات، ولم أقف على شيء من هذه المقولات إلا في وقت متأخر جدًّا.
كانت ذاكرتها اللاقطة الحية تساعدها على تسجيل الأحداث التي مرت بها، فكانت تقص علينا قصة حياتها وكأنها تقرأ في كتاب مفتوح، وهي قصة مليئة بالمتاعب، فقد تغربت عن بلدها "جدة" وهي في ريعان الشباب في صحبة أبي الذي كان يتنقل بحكم عمله في الجمارك من بلد ساحلي إلى آخر على طول البحر الأحمر، من العقبة إلى ضبا وأملح وينبع والليث، وكانت هذه البلدة الأخيرة آخر المطاف، حيث استقر به المقام بعدها في مكة المكرمة، وقد صحب هذا الاستقرار بداية حياة بائسة غنية بالبؤس والفقر!
ولكن رب ضارة نافعة، فقد كانت هذه البداية البائسة عهدًا مباركًا بالنسبة لي أنا بالذات، فقد أدخلني والدي ـ يرحمه الله ـ وأنا في حوالي السادسة أو السابعة المدرسة، وصدق القائل: إن مصائب قوم عند قوم فوائد، فقد بدأت صحبتي مع الحرف.. مع كل ما يحيط بحياتي من جفاف شديد، واجهته منذ تلك السن المبكرة. ولكن والدتي ـ يرحمها الله ـ كانت تحرص على أن أتعلم رغم غرامي باللهو، والإهمال، وما كنت أمنيها به من خسائر تتمثل في ضياع الدفاتر والكتب والحذاء، والإحرام.. الذي كان يستعمل للوقاية من الشمس.
وكان إذا تيسر لها أن تمر عليَّ خلال "الفسحة الكبيرة" تتحفني بقرش كبير في استدارة القمر، ليلة أربعة عشرة، وكان هذا بالنسبة لي يشكل ثروة هائلة، دونها ميزانية الولايات المتحدة الأمريكية! وقد ظلت على حرصها هذا إلى أن أصبحت على أبواب الشباب، وعلى أبواب المعهد، وكان الإجهاد قد نال منها كل منال، فقد تضافرت عليها الأحداث والأمراض وحياة الجفاف، فلم يكن في وسعها أن تستمر في الكفاح، فحملت عنها العبء قبل أن أكمل السنة الدراسية النهائية في المعهد، فاستقبلت حياة العمل مدرسًا، وإن ظللت على دراستي بالمنزل حتى حصلت على شهادة المعهد العلمي السعودي، وبذلك قرت عينها، وانتهت متاعب العيش.
كنت أعدها مرجعًا في تاريخ جدة، فهي تعرف بيوتها وتعرف حاراتها، وتعرف مشاهير أهلها، فتعرف -مثلًا- أن حمزة شحاته -يرحمه الله- كان
في شبابه يسكن "حارة الشام" وكان أهل الحي يعدونه زينة شباب الحي، وأن لأهل الحي في ذلك شعرًا عاميًّا، وأنه كان يتمتع بوسامة تجعل فتيات الحي يهرعن إلى الرواشين ليرينه إذا مر، وكما هو معلوم، فإن مدرسة "الفلاح" التي كان يدرس بها تقع في هذا الحي إذا لم أكن مخطئًا.
وكانت تقص عليّ أن والدها ـ يرحمه الله ـ اشترك مع بعض جيرانه في استقدام مدرس مصري ـ كان اسمه "شاهين" ـ يعلم أولادهم الصغار، وأن أحدهم تبرع بإخلاء غرفة في داره لتكون نواة هذه المدرسة، وأهل جدة أدرى بهذه المعلومة وتفاصيلها، وأحسب أن الأستاذ عبد القدوس الأنصاري ـ يرحمه الله ـ قد أوردها في كتابه الضخم "تاريخ جدة".
وكثيرًا ما حدثتني عن الأحداث الكبيرة التي تعرضت لها جدة، كالحروب والحصار والمجاعة، كما حدثتني عن كبار البيوتات بها، وعن الأصول التي تنتمي إليها بعض البيوتات، وتجاراتها، وبدايات أعمالهم، وتقاليد الأسر
…
إلخ، ولكني لم أحفل بتدوين شيء من أحاديثها، وأعترف أن ذلك كان تفريطًا مني.. ربما كان مرده أني كنت أفضل أن تكون جلساتي إليها عائلية محضة.. أقول ربما، وإن ظللت غير مقتنع بهذا العذر.
وإذا ذهبت أبحث عن أهم ما تميزتْ به في حياتها فقد كان يتمثل ذلك في صبرها واحتمالها.
في صدر شبابها فقدت زوجها الأول، الذي توفي شابًّا، ثم فقدت ابنها منه وهو في حوالي العاشرة، وفقدت بعض أطفالها من أشقائي قبل أن
يتجاوزوا سن الرضاع في بلدان صغيرة نائية لا تعرف الطب والأطباء، واغتربت عن بلدها ووالدها في رحلات متعددة، وعاشت في بلدان أشبه بالقرى، تقل فيها وسائل الراحة، ثم تعرضت للفقر والحاجة، وتحملت شظف العيش، وسكنت بمكة في بيوت خربة، لم تجد أمامها غيرها، وكانت عرضة أن تنقض علينا في أية لحظة، وكانت الأمطار عنصرًا مروِّعًا لنا، بل كنا نضطر إذا اشتد هطولها إلى الهجرة إلى دور بعض معارفنا حتى تنقشع الأمطار. ونالت منها الأمراض نيلًا غير يسير، واضطرت أن تعكف هي وابنتها الكبرى على ماكينة الخياطة، وعلى "المنسج" لحياكة الملابس وما إليها، لتأمين حياة الأسرة التي كنت أنا رجلها الوحيد قبل أن أبلغ مرحلة الشاب.
احتملت كل ذلك بصبر وإيمان وعزيمة، وكان إيمانها بالله عظيمًا، كان تدينها وحرصها على فروضها منذ شبابها، يعينها على ذلك الاحتمال العجيب!
إنني لا أكتب عن امرأة مثالية، ولكني أكتب عن "أمي"، هذه اللفظة الساحرة التي لم أعد أجد لها مكانًا في حياتي إلا الذكرى، وإلا نفثات تعتادني الحين بعد الحين.
أمي.. إنني أحاول أن أكتب عنكِ كلمة رثاء، ولكنك أخذتني برفقك المعهود إلى عالم الذكريات، فدخلته برفق أيضًا، وأنا أشفق على قرائي من أن أقحمهم في أمر لا يعنيهم، إلا بقدر ما يعني الصديق أمر الصديق، فيصغي إلى ثرثرته.
وماذا عسى أن أقول في رثائك؟ لم أشعر بالكلمات تخذلني قط كما أحس بها اليوم، إنها تتفلت مني تمامًا، كما كانت تتفلت مني كلما وقفت أمامك وأنا ألتمس كلمة اعتذار.
إنني اليوم أبحث عن تلك الكلمة، كلمة الاعتذار عن هذا العِيِّ، وعن هذا الوجوم، لو اعتصرت عمري كله دموعًا لأبكيك يا أمي، لما وفيت بحق دمعة واحدة من عينيك الغاليتين، انسكبت ذات يوم من أجلي.. وكم سكبت من أجلي من دموع!
كانت الأسفار -وأنا بها مولع- تأخذني منك كثيرًا، وتذهب بي بعيدًا.. وكثيرًا ما كنت أجد نفسي سعيدًا وأنا أستقبل رحلة جديدة أطل بها على العالم. ولكنك كنت كلما جد لي للرحيل عزم، تستقبلين عالمًا من الأحزان، وتشرق عيناك بالدموع، ولكنني كنت في كل مرة أعلل النفس بأن ألقاك على ما أحب وتحبين، وإن كنت في الأيام الأخيرة قد أصبحت أقل تفاؤلًا، يخامرك شعور غريب أنني لن أكون جوارك.. حينما يحين موعد رحلتك البعيدة.
وهكذا كان، فقد رحلت وكان بيني وبينك آلاف الأميال حيت فقدت الأمل في أن ألقي عليك النظرة الأخيرة، لولا أن رحمة الله كانت أوسع لي
…
فاستدعاني شوقك، واستجاب الله دعاءك، فأتاح لي أن أقبل جبينك الوضيء في نظرة أخيرة.
فلم يكد أخي معالي الشيخ أحمد ذكي يماني يعلم بمحنة وجودي بعيدًا جدًّا عنك، حتى وضع بين يدي -جزاه الله أوفى الجزاء- بساطًا من بسط الريح، تقلني في ساعات، فإذا أنا بين يديك.. فإذا بي إلى جوار جثمانك الحبيب، وإذ بي من جملة المصلين عليه، الواقفين على ثراه.
يرحمك الله يا أمي، رحمة عباده الأبرار، وجمعني الله بك في دار القرار مع الصالحين والأخيار.