الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: الفقرة
يعبر الكاتب عما يحس به، ويفكر فيه بأسلوب، وهذا الأسلوب يتكون من فقرات، والفقرة بكسر الفاء، وجمعها فِقَر، وفِقْرات. ومعناها في أصل اللغة: حلي يصاغ على شكل فِقرة الظهر، ومعناها الاصطلاحي: مجموعة جمل تطور فكرة واحدة.
ومن الممكن أن تكون الفقرة جملة واحدة، في مثل هذا الحوار من مسرحية "الدودة والثعبان" لعلي أحمد باكثير:
"يدخل الحاجب"
الحاجب: رجل أعمي يا سيدي، زعم أنك قابلته في قصر مراد بك في الجيزة، قبل دخولك القاهرة.
نابليون "كأنه يحاول أن يتذكر":
…
سليمان الجوسقي؟
الحاجب: نعم، هذا اسمه يا سيّدي.
بوسيلج: رجل أعمى؟
نابليون: رجل عجيب، ما رأيت أذكى منه.
بوسيلج: خذ حذرك منه، لعله..
نابليون: كلا، لا خوف منه، دعه يدخل.
بوسيلج: فتشه أولًا قبل أن تُدخله.
نابليون: لا بأس.. فتشه بلطف.
الحاجب: سمعًا يا سيدي.
بوسيلج: ماذا عساه يريد؟
نابليون: أنا كنت أريده، جاء في الوقت المناسب.
بوسيلج: أنت يا سيدي الرجل العجيب.
"يدخل الحاجب ومعه الجوسقي"1
وقد اقتصرت الفقرة في الحوار السابق على جملة بعينها -وأحيانا جملتين أو ثلاثة- لأن الكاتب في حواره قد يطرح فكرة ما، أو يطورها، أو يريد أن يؤكد شيئًا معينًا.
لكن الفقرة أحيانًا قد تطول وفقًا للفكرة المطروحة التي تعالجها الفقرة، ويمكننا أن نطبق ذلك على هذه الفقرة التي تتحدث عن الشعر:
"تعريف الأقدمين عمومًا للشعر يدور حول العبارة الآتية:
الشعر هو الكلام الموزون المقفّى قصدًا، حيث ترددها كتب العروض والأدب واللغة، ثم تشرح قيودها من "الوزن والقافية والقصد" مع إخراج محترزات هذه القيود مما لا داعي لتكراره والإطالة فيه بنقل ما أورده الأقدمون عنه.
والملاحظ أن هذا التعريف اتجه في تمييز الشعر عن النثر إلى الشكل العروضي الذي يلتزمه الشعر العربي من توالي مقاطع الكلام على طريقة خاصة، حيث
1 علي أحمد باكثير: الدودة والثعبان، مطبعة مصر، القاهرة، د. ت، ص64.
يتكون من كميات نغمية تتكرر عدة مرات لتؤدي الإيقاع الموسيقي الذي هو أهم خصائص الشعر.
كما يلاحظ أيضًا أنه أخذ في هذا التعريف تردُّد القوافي وتكرارها على نظام خاص وشروط محددة تفصلها كتب العروض، وكأنما تصنع القافية وقفة موسيقية في نهاية البيت، يبدأ بعدها التفاعل في البيت الذي يأتي بعد ذلك.
أما تقييد مفهوم الشعر"بالقصد" فيبدو أن الدافع لهذا القيد ديني لا علمي، كيلا يدخل الشعر بعض آيات القرآن الكريم التي تصادف مجيئها على وزن بعض البحور، مثل:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وكذلك ما نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم من عبارات موزونة "بدون قصد"، مثل:"أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب"، والقرآن ورسول الله منزهان عن الشعر وقوله، فقد وضع هذا القيد إذن لسب ديني، يؤيد ذلك أن هذه العبارات الموزونة أو سامعها لا يعْلَق بذهنه منها أنها تنتمي بسببٍ إلى الشعر.
على أنه ينبغي أن يُعلم مع ذلك أن علماءنا الأقدمين -وإن فهموا الشعر هذا الفهم الذي يعتمد على شكله الموسيقي- عرفوا للشعر قيمًا أخرى يحملها وحده، وتعد من سماته المميزة، وهي قيم فنية نص عليها بعض الدراسين منهم.
قال الجاحظ: "الشعر شيء تجيش به صدورنا، فتقذفه على ألسنتنا".
ويقول ابن خلدون: "قول العروضيين في حَدِّهِ: "إنه الكلام الموزون المقفَّى" ليس بحد لهذا الشعر الذي نحن بصدده ولا رسم له، وصناعتهم إنما تنظر في الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب والبلاغة والوزن والقوالب الخاصة، فلا جرم أن حدهم لا يصلح له عندنا، فلا بد من تعريف يعطينا حقيقته من
هذه الحيثية، فنقول: الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصَّل بأجزاء متفقة في الوزن والرويّ".
فالجاحظ يضيف إلى خصائص الشعر الناحية الشعورية القوية فيه، فما كل كلام موزون مقفى شعر، بل الشعر ما يجيش في الصدر، فيقذف إلى اللسان تعبيرًا مشحونًا بالعواطف والأحاسيس.
أما ابن خلدون فلا يرضيه تحديد العروضيين للشعر بأنه الكلام الموزون المقفى فقط، بل لا بد لهذا الكلام أن يكون بليغًا، مبنيًّا على الاستعارات والأوصاف، أو بعبارة أقرب إلى فهمنا: لا بد أن يكون بناؤه اللفظي قائمًا على صور شعرية، تدل على خيال رائع.
فالذي يحصله المرء عن فهم الأقدمين للشعر، تلخصه الأمور الآتية:
أ- أن الشعر موسيقا تؤديها الألفاظ بالوزن والقافية.
ب- أنه يحمل الشعور الذي يجيش في الصدور، ويقذف على اللسان.
جـ- أن نسجه يتألف من صور فنية للمعاني والمشاعر.
فهذه الأمور الثلاثة "الموسيقا، والعواطف، والتصوير" تكوِّن سمات الشعر لدى علمائنا الأقدمين، ولا أظن المشتغلين بالشعر في العصر الحديث قد زادوا عليها شيئًا كثيرًا في تحديد مفهومه.
وبناء على ذلك فإن مقابل الشعر -وهو "النثر"- لا يؤخذ في مفهومه الصفات السابقة في الشعر، أوبعبارة أخرى: ليس من اللازم أن تتحقق فيه، وربما حمل بعضها أحيانًا بطريقة عفوية"1.
1 د. محمد عيد: المستوى اللغوي للفصحى واللهجات، للنثر والشعر، ط1، عالم الكتب، القاهرة 1981م، ص106-108.
ونلاحظ على الفقرِ السابقة ما يأتي:
1-
تعلن عنوان الموضوع، أو تصرح بعنوان الجزء الرئيس منه الفقرة الأولى التي تبدأ بقوله "تعريف الأقدمين للشعر.." فكأنها تحدد أن الفقرت التالية ستتناول هذا التعريف، نقلًا، وشرحًا، وتوضيحًا.
2-
الانتقال من فكرة جزئية إلى أخرى، فالفقرة الثانية تتناول دور تكرار القوافي في تحديد مفهوم الشعر، والفقرة الثالثة تتناول مفهوم القصد الذي يخرج بعض الآيات، وبعض الأحاديث التي تصادف مجيئها على وزن بعض البحور
…
الخ.
3-
تلخيص الموضوع أو جزء منه: وغالبًا ما يكون في الفقرات الأخيرة، وهنا نلمح تلخيص الموضوع في الفقرة قبل الأخيرة التي تبدأ بقوله "فهذه الأمور الثلاثة
…
".
4-
الربط بين الأجزاء الفكرية المختلفة "ويكون ذلك من خلال حروف الصلات والرباطات، من قبيل: بالإضافة إلى، أحرى، وأولى، إن قيل، لأنه، إنما، وليس هذا، فما من، وإذا كان، إلى سواهم، وأنت، إذا، فأينما"1.
والملاحظ أن فقرات الموضوع السابق، استخدمت الربط، وهي من الفقرة الثانية إلى الأخيرة، جاءت على هذا النحو: "والملاحظ، كما يلاحظ، أما..، على أنه، قال....، ويقول
…
، فالجاحظ، أما ابن خلدون، فالذي، فهذه الأمور الثلاثة، وبناء على ذلك".
1 محمد علي أبو حمدة: فن الكتابة والتعبير، ط1، مكتبة الأقصى، عمّان 1401هـ-1981م، ص123.
1-
الجملة الأولى في الفقرة:
1-
الفقرة تتضمن عادة فكرة عامة واحدة.
2-
الجملة الأولى في الفقرة تسمى" الجملة المفتاحية" وهي تتضمن فكرة رئيسة، تتبعها أفكار فرعية.
3-
هذه الجملة المفتاحية قد تكون جملة دعاء، أو استفهام، أو اقتباس من القرآن الكريم أو الحديث الشريف أو قول مأثور، أو أسلوب نهي، أو أسلوب خبري، أو بإثارة قضية.
نموذج تطبيقي:
قال مصطفي صادق الرافعي في فصل عنوانه "الشيخ أحمد" يرثي فيه ابن عمه، زوج أخته الشيخ أحمد الرافعي، الذي ذهب لأداء فريضة الحج، فأفضى إلى ربه من هناك ودفن بمكة:
"يرحمك الله يا صديقي الكريم، تركتنا مصعدًا إلى الله في سلم كانت الأولى من درجاتها عتبة هذا البيت في مصر، وكانت الأخرى تلك العتبة الطاهرة من بيت الله في مكة"1.
والفكرة العامة التي تناولتها الفقرة: وفاة الشيخ أحمد الرافعي.
- والجملة المفتاحية هنا: يرحمك الله يا صديقي الكريم".
- وهي جملة دعاء.
1 مصطفى صادق الرافعي: السحاب الأحمر، ط3، مطبعة الاستقامة، القاهرة 1361 هـ - 1942م، ص134.
2-
بناء الفقرة
تبدأ الفقرة بجملة رئيسه تامة تمثل الفكرة، ثم توضح هذه الجملة بعدة طرق، منها:
1-
بالتعريف: إذا كانت الفقرة تتناول شخصية أو بلدة، أو حدثًا تاريخيًّا، أو موقعة حربية.
2-
بالتفريع: إذا كانت مجملة.
3-
بالتمثيل: ضرب الأمثلة، لتأكيد الكلام.
4-
بالوصف: إذا كانت الفقرة تتناول شيئًا تاريخيًّا أو زمانيًّا. فتبدأ الفقرة من القديم إلى الحديث، أما إذا كانت تصف شيئًا مكانيًّا فيكون الوصف من اليمين إلى اليسار، ومن الأعلى إلى الأسفل.
5-
الموازنة: تعتمد عليها الفقرة في بنائها، إذا كانت تتحدث عن شيئين متشابهين.
6-
الاقتباس: لا بد من أهمية القول المقتبس ومكانة صاحبه، ويشترط في المقتبس الدقة والأمانة في النقل.
7-
الإحصاء: لا بد فيه من الفهم والدقة في نقل الإحصائيات للتوصل إلى حكم عام دقيق، ويكثر في الكتابة العلمية، ومن الممكن أن يصوغ الكاتب هذه الإحصائيات ويوظفها في أسلوب أدبي جميل، فيكون أسلوبه علميًّا متأدبًا.
نموذج تطبيقي:
من النص السابق للرافعي:
"لهفي لذكراه صديقًا، كانت نفسه العالية كالنجمة وهبت قوة النزول إلى الأرض، وحبيبًا لو انقسمت روحي في جسمين لكان جسمها الثاني.
كان دائمًا كالذي يشعر أنه لا بد ميت وتارك ميراث مودته، فلا أعرف أني رأيت منه إلا أحسن ما فيه، وكأنما كان يضاعف حياتي بحياته، ويجعلني معه إنسانين، وكان له دين غض كعهد الدين بأيام الوحي: لا تزال تحته رقة قلب المؤمن وفوقه رقة جَناح الملَك، يخالط نوره القلوب.
وكان حييًا، صريح الحق، ترى صدق نيته في وجهه كما يريك الحق صدق فكره في لسانه، ساميًا في مروءته ليس لها أرض تسفل عندها1، وإنما هي إلى وجه الله فلا تزال ترتفع، ودودًا لا يعرف البغض، محبًّا لا يتسع للحقد، ألوفًا لا يُسرُّ الموجِدَةَ على أحد.
وكان رحيبَ الصدر، كأن الله زاد فيه سعة الأعوام التي سينتقصها من حياته، ففي قلبه قوة عمرين، وكان طيب النفس فكأن الله لم يمد في عمره طويلًا لأنه نفى منه الأيام الهالكة التي يكون فيها الإنسانُ للإنسان معنى من معاني الموت2"3.
ويلاحظ على نص الرافعي أنه يبدأ بجملة ثم يفرعها: وهي وسيلة بلاغية جيدة، فكأنما يجمل ثم يشرح.
1 كناية عنه أنه لا ينحط ولا ينزل سفْلًا.
2 كأيام القطيعة والعداوة والكيد ونحوها، مما يجعل أعمار الناس أقصر مما هي.
3 المرجع السابق، ص139.
3-
متى يقتبس الكاتب النص حرفيًّا؟
يقتبس الكاتب النص حرفيًّا إذا أدى هذا الاقتباس دورًا محددًا، مثل:
1-
تأييد الكاتب في موقفه من قضية ما.
2-
تفنيد الكاتب لرأي معارض بنقده، أو موازنته بآراء غيره.
3-
إذا كان النص المقتبس يجسم المعنى الذي يطرحه الكاتب على نحو أفضل.
4-
إذا احتوى النص على بعض المصطلحات التي يصعب إيجاد بديل لها.
5-
إذا كان الاقتباس ضروريًّا في بناء نسق من البراهين المنطقية.
4-
عناصر الفقرة:
1-
الفقرة تتضمن فكرة عامة واحدة.
2-
لكل فقرة عدد من العناصر "الجمل" تتفرع عنها.
3-
تختلف هذه العناصر قلة وكثرة حسب قدرة الكاتب، وهدفه من كتابته، وجمهور قرائه.
4-
تتعاون هذه العناصر في النهاية لتشكل إطارًا عامًّا للفكرة الرئيسة.
5-
تنظيم الأحداث:
ونقصد بالأحداث الأفكار الفرعية ضمن الفكرة الأساس:
1-
ينظم الكاتب أفكاره الرئيسة في فقرته تنظيمًا سليمًا بحيث تجيء مرتبة ترتيبًا منطقيًّا.
2-
هذا التنظيم له مظاهر كثيرة، فقد يكون من القديم إلى الحديث، أو من المحسوس إلى المجرد، أو من البعيد إلى القريب.
3-
الهدف من هذا الترتيب هو الوضوح، والدقة في نقل الخبرات والأفكار.
6-
الأوصاف المادية:
1-
نعني بالأوصاف المادية ما يلجأ إليها الكاتب في كتابة نصوصه من استخدام الحواس الخمس وهي: البصر، والسمع، والشم، والذوق، واللمس.
2-
هذه الحواس الخمس تعد مصدرًا لإثراء الكتابة الأدبية، وتطوير الجمل، وتأييد الأفكار.
3-
الكاتب الجيد هو الذي يستطيع أن ينقل إحساسه الصادق عن طريق حواسه للتعبير عن الأوصاف المادية التي ينفعل بها.
7-
إثراء الفقرة:
1-
يتضمن الموضوع الواحد في التعبير عددًا من الفقرات تتناول فكرته العامة.
2-
يجب على الكاتب في فقرته أن يحقق جانبي الإقناع والإمتاع معًا للقارئ:
- الإقناع: بالأدلة والبراهين والتفسير والشرح والأمثلة "الشرح والتأييد".
- الإمتاع: بالتصوير والخيال والتأثير النفسي "من خلال الأسلوب".
3-
يلجأ الكاتب إلى إثراء فقرته، واتساع بنائها ليشمل أنماطًا أسلوبية متعددة منها:
أ - الجملة الاسمية والفعلية.
ب - الأسلوب الخبري والإنشائي.
جـ- الجمل البسيطة والمركبة والمعقدة.
8-
إعادة صياغة الفقرة:
1-
كل كاتب له أسلوبه الذي يتميز به في صياغة عباراته بطريقته الخاصة التي تعبر عن شخصيته.
2-
عند إعادة صياغة فقرة من الفقرات يجب أن تعبر الفقرة عن المعنى المراد التعبير عنه تعبيرًا جيدًا من خلال التزامها بالفكرة الرئيسية والأفكار الفرعية.
9-
تلخيص الفقرة:
1-
التلخيص مهارة لغوية مكتسبة، علينا أن نتمكن منها في العصر الحديث، عصر السرعة والانفجار الثقافي.
2-
عند التلخيص لأي فقرة نراعي الآتي:
أ- فهم الفكرة الرئيسية في الفقرة، والأفكار الجزئية التي تندرج تحتها.
ب- معرفة الجملة الرئيسية، والجمل المفسرة الشارحة، والجمل المؤكدة، والمعلِّلة.
جـ- معرفة الجملة المفتاحية التي تبدأ بها الفقرة، وإعادة صياغتها بأسلوبك.
د- إعادة صياغة الفقرة مع المحافظة على الأفكار العامة، وحذف الجمل المترادفة، والتكرار، والحشو، والتطويل.
كيف يكون التلخيص تحريرًا أدبيًّا جيدًا:
أ- التركيز على العناصر الرئيسة للفقرة، واستيفاء الأفكار الرئيسة.
ب- حذف المكرر من الألفاظ والعبارات.
جـ- الحرص على أن يكون التلخيص بأسلوبك لا بأسلوب الكاتب.
د- الدقة والوضوح في عرض التلخيص.
هـ- الاستيعاب الدقيق للمضمون الذي يتناوله الموضوع ثم إبعاده قبل الكتابة، حتى تكون الكتابة واضحة.
11-
نموذج للتحليل:
للأستاذ عبد العزيز البشري1:
كان لي صديق
…
أحب الحياة وغلا في حبها، وأبغض الموت وأسرف في بغضه، وسبيل الموت في العادة هو المرض، فكان إذا ذكر الموت طار قلبه فرقا2 من ذكر الموت.
وكيف يتقي المرض ويتحامى أسبابه؟ لقد جاء بطبيب، والتزمه بياض نهاره وسواد ليله، فلا يهب من فراشه إلا إذا أمره بالهبوب، ولا يطمئن إلى مضجعه إلا إذا آذنه بالاطمئنان، ولا يخرج من داره لطلبه أو لفرجة إلا إذا أشار عليه بالخروج، ولا يبدل أثوابه، أو يتروّى بجرعة الماء إلا إذا أوصى إليه الطبيب.
بل جاء بكتب الحكمة، وطلب المجلات الطبية، وجعل يديم النظر فيها، والانكباب على تفهم مباحثها، وما قال العلماء في اتقاء الأمراض وعلاجها، وما لوح به المستشكفون من إمكان التوصل إلى مدافعة الموت وإطالة الحياة.
1 نقلًا عن: خليل هنداوي: تيسير الإنشاء، ص116-117.
2 خوفًا.
ولكنه قد يصافح إنسانًا، وقد يمس آنية، أو يلمس ثوبًا فسرعان ما يفزع إلى ألوان المطهرات: هذا يغسل به يديه، وهذا يُضَمِّخُ به ثوبه، وهذا للمضمضة، وهذا للاستنشاق.
ولكنه يتنفس ولا غناء عن أن يتنفس، وقد يجر نفسه نسمة مؤذية بما تحمل من المكروبات. فهو دائم على ترجع الأدوية، هذا لتطهير الحلق، وهذا لتنقية الرئتين، وهذا لتنظيف المصران الدقاق.
وإنه لفي نشاطه ونضارته.. حتي يرميه بابه بزائر، فإذا سقط لسانه بأن فلانا قد مات اربدَّ1 وجهه، وتتعتع لسانه2، وتاهت حدقتاه في محاجرها، وشد نفسه شدًّا، ثم تهافت بها على الزائر يسأله:"وهل مرض فلان هذا؟ وهل شكا؟ وماذا كانت علته؟ ومتى ابتدأت شكاته؟ وما الذي كان يظهر عليه من أعراض الداء؟ وهل كان يحس وجعًا؟ وفي أي موضع كان يستشعر الألم؟ وما صفة الدواء الذي كان يتناوله؟ ومن الطبيب الذي كان يعالجه؟ وهل فحص عن قلبه؟ وهل كان يعد ضرباته؟ ".
ثم إنك لتشعر أن قد نشبت في نفس المسكين معركة هائلة بين الرجاء في الحياة وتوقع الموت كما مات فلان.
ثم تكون له فترة يقبل فيها على جس نبضه، ثم تراه قد دخل في الغشية ولحقه الذهول، فزاغت عيناه، وتقلصت شفتاه، وأرعشت يداه، وجعل يطفو ويرسب في كرسيه، وأومأ فتطاير الخدام يطلبون الأطباء من كل مكان.
وكذلك قضى العمر إلى غايته مشغولًا عن متع الحياة ومطالب الحياة، بشدة الحرص على الحياة.
1 اسودّ.
2 اضطرب.