الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"وشفَّ الدجى عن جمال عميق
…
يشب الخيال ويذكي الفكر"
"ومد على الكون سحر غريب
…
يصرفه ساحر مقتدر"
"وضاءت شموع النجوم الوضاء
…
وضاع البخور بخور الزهر"
"ورفرف روح غريب الجمال
…
بأجنحة من ضياء القمر"
"ورنَّ نشيد الحياة المقدَّ
…
سُ في هيكلٍ حالمٍ قد سُحر"
"وأُعلن في الكون أن الطموح
…
لهيب الحياة وروح الظفر"
"إذا طمحتْ للحياة النفوس
…
فلا بد أن يستجيب القدر"1
1 الأعمال الكاملة، أبو القاسم الشابي، الجزء الأول، الدار التونسية للنشر، ص236-240.
التعريف بالشاعر:
هو أبو القاسم بن محمد بن أبي القاسم بن إبراهيم الشابّي
اتفق المؤرخون على أن مولده كان في سنة 1909م أما الشهر واليوم فيظلان حائرين بين 24/ 2و 3/ 4 على أقوال عدة وروايات مختلفة.
ولد أبو القاسم ببلدة الشابيّة إحدى ضواحي مدينة توزر بالجنوب التونسي وهي بلاد معروفة بالجمال وحسن الطبيعة، ولم ينشأ بمسقط رأسه بل ظل والده يتنقل به من منطقة إلى أخرى في البلاد التونسية حيث كان يعمل قاضيًا شرعيًّا فتنقل في بيئات اجتماعية مختلفة غذت خياله الغض؛ مما كان له أكبر الأثر في شاعرية أبي القاسم.
درس شاعرنا في الكتاتيب وفيها حفظ القرآن حين بلغ التاسعة من عمره، ثم أخد والده يعلمه العربية والعلوم الدينية بنفسه، ثم أرسله إلى جامع الزيتونة
ومنها إلى مدرسة الحقوق التونسية حتي تخرج فيها.
كان لأبي القاسم نشاطات ومساهمات، كقيادة حركة استهدفت إصلاح التعليم والإدارة في الكلية، كما أسهم في قيام النادي الأدبي بالعاصمة، وجمعية الشبان المسلمين، ونادي الطلاب بتوزر، وكل هذه الأنشطة تبرز لنا جانبًا من حياة الشاعر المليئة بالنشاط والحيوية، كما أنها توضح لنا شيئًا من التطلع للثورة على الأوضاع الخاطئة.
عانى الشابي في حياته من مآسٍ عديدة لكن أكبر مأساة أحاطته هي مأساة مرضه الخطير الذي أصاب قلبه وكان سببًا بعد إرادة الله في قصر حياته التي انطفأت وهو في الخامسة والعشرين من عمره فجر يوم الثلاثاء التاسع من أكتوبر سنة 1934م1.
جو النص
نشأ الشابي في بيئة ومجتمع تضافرت عليه قوى الشر وعوامل الإبادة، فالاستعمار الفرنسي البغيض يستغل إمكانات تونس وشعبها ويسلبها خيرات البلاد وثمارها، ويحول بينها وبين النهوض والتنمية، والمجتمع التونسي آنذاك كان مجتمعًا مريضًا جسدًا وروحًا، نائمًا في شقائه مستسلمًا لهذه الأوضاع المزرية، فكان يسيرًا على المستعمر أن يسيِّر شعبًا هذه حالته ومثل هذا وضعه. كانت هذه هي البيئة، ولكن ما حال شاعرنا فيها؟!!
1 للاستزادة انظر: الأعمال الكاملة لأبي القاسم الشابي، ص12، و: أبو القاسم الشابي لريتا عوض، ص15، و: الشابي حياته وشعره لأبي القاسم محمد كرو ص35، و: ديوان أبي القاسم الشابي ورسائله شرح مجيد طراد، ص 35 وغيرهم.
كان الشابي وقّاد الفكر فتيًّا طموحًا كحال غيره من الشباب والغيورين، لكنه تميز عنهم بالخيال، ورقة الحس، ورهافة الشعور، والشاعرية المنطلقة، فلم يرضَ عن المجتمع ولم يطمئن لنوع الحياة التي يحياها ولا لأصناف الظلم التي يعانيها ويكابدها، فكانت هذه القصيدة التي فاضت بها نفس هذا الفتى الثائر الطموح، فأخذ يطلقها صيحات في شعبه ليتحرر من عبودية المستعمر وينطلق من أغلاله.
وقد ضمن الشابي قصيدته خواطر وتأملات طالعها الشاعر في حياته، كما حكى فيه بعض مواقفه مع الطبيعة.
الصور الجمالية ودورها في خدمة النص:
إن الدارس لهذه القصيدة بل والقارئ لها أيضًا يرى جليًّا ما حوته من صور بيانية وصور بديعية كثيرة اهتم بها الشاعر بإيرادها ليحسّن الصورة ويقوّي المعنى وهذا هو هدف الشعراء، لكن المتمعن يدرك أن أبا القاسم قد نجح في مهمته أيما نجاح، واستطاع أن يستنطق الجمادات ويبدع فيما يسمى بالتجسيم أو التشخيص، إضافة إلى ذكر الشيء وضده الذي يعرف بالطباق، ولا يخفى ما لهذا الأسلوب من فائدة جمالية، وأخرى معنوية. ولنبدأ في استعراض بعض هذه الصور الجمالية مبينين أثرها في خدمة النص وإبراز المعنى.
نرى الشاعر يستخدم التشخيص، وهو أسلوب يستنطق فيه الجمادات، يبعث إليها خطابه ويصورها وكأنها ذت إرادة، فيحادثها ويحاورها ويناجيها ويكلمها وتكلمه ويضفي عليها صفات الإنسان، فتفعل فعله وليست كذلك في واقع الأمر.
وقد كان التشخيص من الخصائص الأسلوبية التي طرقها أرباب المدرسة الرومانسية التي ثارت -فيما ثارت عليه- على العقل، وأعلت شأن العاطفة، وقدست الخيال حتي جعلت من المعنوي محسوسًا، ومال الرومانسيون إلى الطبيعة يناجونها، ومن الأمثلة التي نراها عند أبي القاسم ما يلي:
- "يستجيب القدر": جعل الشاعر للقدرة إرادة وعقلا فمن يدعوه فإنه يجيبه ومن أصر عليه فإنه لا بد أن ينصاع له.
ولنا مع هذه الصورة الفنية رجعة في التعليق بمشيئة الله تعالى.
وهذا التشخيص" الاستعارة" أفاد المعنى قوة وتمكينًا في النفس، وحضًّا للشعب الذي يخاطبه على العمل والثورة لأن القدر سيبارك سعيهم ولن يضيع عملهم سدى بل النتيجة الحتمية واستجابة القدر مؤذنة بالتغير والتطور؛ لأن من يعمل وهو يعلم بالنتيجة الحسنة لعمله فإنه سيواصل العمل، ويتجاوز العقبات ويتجرع العلقم ليناله عاقبة حلوة في المنتهى.
- " يعانقه شوق الحياة": أبو القاسم يجعل للحياة شوقًا يريد بذلك العمل، ومعاركة الحياة وأحداثها، ويصور شوق الحياة بشخص يعانق كأنه إنسان، وفي هذا استعارة تضمنت تشخيصًا.
فائدة الصور:
- أراد الشابي حض الشعب على العمل والثورة والتفاعل مع الأحداث ومصارعتها، وعبر عن هذه بالمعانقة والتعلق بالشيء، فدلت المعانقة والمفاعلة على العمل. ثم يقول: إن الذي لا يعمل ولا يعانق هذا الشوق فالفشل حليفه والاندثار مصيره.
- "ودمدمت الريح.... إذا ما طمحت.. " يجعل للريح صفة التكلم وهي صفة خاصة بالإنسان فجعل الريح كشخص، وهذه استعارة مكنية، ومثله كذلك "قالت لي الكائنات"، ومثل هذا:"وقالت لي الأرض:....."، و"قال لي الغاب" مشبهًا الأرض والغاب بإنسان يتكلم.
أراد الشاعر بهذه الأمثلة أن يثبت كلامه عن الثورة والطموح والعمل ويقويه في ذهن المخاطب فجمع له المؤيدين، حتي الذين لم يعهد منهم أن يتكلموا استطاع أبو القاسم بحاسته المرهفة أن يخاطبهم وأن يشهدوا له بما قال، فالريح تزأر بقوة، إن الطموح يريد العمل، وإن المتكاسل المتواني ضعيف الهمة يعيش في الحفر بينما يصعد غيره شمم الجبال وقممها، والأرض تحب الطامحين الذين لا تثنيهم المصاعب والأخطار عن تحقيق المنى، وهي تكره أشد الكره الخائنين الذين يرضون بالعيش الذليل، والغاب يتطلع إلى رؤية الحياة الحقة حين تترنم الطيور وتهب النسمات العليلة ويعم المطر الكون بعزفه وقطراته المنعشة.
أما الاستعارة "الخالية من التشخيص" فقد أكثر منها الشاعر مقويًّا بها معانيه ولنستعر شيئًا منها:
ـ "لبست المني وخلعت الحذر": هنا استعارة مكنية شبه فيها الأماني بشيء يلبس كما شبه الحذر والخوف بشيء يخلع.
وقد أفادت الاستعارة هنا أن العمل واجب لتحقيق ما تطمح إليه النفس وما إليه تصبو، ومن مظاهر العمل أن يتمنى الإنسان الأماني العالية، ويعمل على تحقيقها، وأن يترك عنه الخوف، والحذر يخلعه ويتخلص منه ويرمي به.
- "ركوب الخطر": استعارة مكنية، شبه الخطر بما يركب.
- تفيدنا هذه الصورة أن الذين يعملون سوف يعترض طريقهم من المصاعب والأخطار الشيء الكثير. والأرض تمتدح من الناس الذين يستلذون ركوب الخطر كأنهم يركبون دابة ما، ويسيرونها على ما يريدون لا ترهبهم ولا يداخل نفوسهم الخوف، بل هم أعلى شأنًا منها.
-"الكون
…
يجب الحياة ويحتقر الميت": استعارة مكنية شبه الكون بإنسان يحب ويحتقر.
والذي نستفيده من هذه الصور أن الكون يوافق الشاعر في نظرته، فهو يحب الناس الأحياء المتحركين العاملين بينما يكره حتي يصل إلى حد الاحتقار للإنسان الذي لا يعمل، فشأنه شأن الأموات حيث السكون وعدم الحركة.
-"العدم المنتصر": استعارة مكنية شبه العدم بمن ينتصر.
يريد الشاعر أن ينفر الناس من الكسل وترك العمل، فيبين أن الذي يسلم نفسه للدَّعَةِ والسكون والكسل عديم الفائدة حاله كحال المعدوم الذي انتصر عليه العدم وجعله تحت إمرته.
ـ "ليلة
…
مثقلة بالأسى والضجر": استعارة مكنية شبه الليلة بشيء محسوس يشعر بالثقل.
أفادت الاستعارة شدة الأسى والضجر حتي إن الليلة لتحس وتشعر بثقله.
ـ "ويمشي الزمان": استعارة مكنية شبه الزمان بإنسان يمشي.
وتفيد الاستعارة أن الأحوال لا تبقى كما هي، بل إن سنة التغير ماضية، وإذا ذهب يوم وأتى آخر فإنه يحمل معه أحداثًا أخرى. ولعلك تلاحظ عدم
التخلص من الاستعارة حتى في التعبير العادي ذلك أنها من عوامل التحسين للمعنى، أو أنها تفرض نفسها وتصبح على لسان الفرد العادي تعبيرًا لا نحس بمدى جماله.
"سنة التغير ماضية"، "ذهب يوم/ أتى آخر"، "يحمل معه"، "تفرض نفسها"
…
ـ "النبع يغني
…
يرقص" شبه النبع بمن يغني ويرقص، ففيه استعارة مكنية. ويحكي هنا أن الزمان يتساءل أين ضباب الصباح أين؟
…
أين؟
…
فهو يتطلع إلى الحياة الكريمة ثم يذكر أنه يريد أن يرى النبع يغني بين المروج ويرقص فوق الشجر.
وهذا دلالة على السعادة والحياة الجميلة حيث الغناء والرقص -كما يرى الشاعر وليس كما أرى.
ـ كما يحكي عن الزمان وأنه ظامئ إلى النور والنبع ونغمات الطيور والنسيم العليل، وكل هذه مظاهر جيدة يتطلع إليها الزمان ويطمح إليها، فإذا كان غير العاقل يطمح للمعالي فمن باب أولى أن يطمح الإنسان صاحب العقل، وصاحب الإمكانات.
ـ "جاء الربيع": استعارة مكنية شبه الربيع بإنسان يجيء، صاحب إرادة. وفيه تشخيص.
هذه الاستعارة أفادتنا أن الزمان حينما طمح للحياة السعيدة وأراد تحقيقها أتته أمانيه كما يشتهي.