الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5-
نقاد الحداثة وموت القارئ
1للأستاذ أحمد فضل شبلول
شاع في السنوات الأخيرة العديد من الأفكار والمصلطحات النقدية والأدبية التي تسللت إلى حياتنا الثقافية بحجة التطوير والتحديث، والمتأمل في هذه المصطلحات يجد أن نقادنا العرب القدماء تحدثوا عنها وبحثوها، وقاموا باختبار صلاحيتها عن طريق الدرس التطبيقي على بعض النصوص، ولكن لأنها وردت إلينا في الفترة الأخيرة عن طريق الترجمة أو النقل أو الاقتباس من لغات أجنبية، فقد تم الاحتفاء بها، واعتبرها نقادنا العرب المحدثون فتحًا جديدًا، ولم يتنبه إلا القليل منهم إلى وجود مثيلها في تراثنا النقدي والأدبي، ويرى بعض النقاد أن الأفكار والمصطلحات النقدية والأدبية غير الموجودة في تراثنا القديم والواردة من الخارج قد لا تصلح ـ في أغلبها ـ لبيئتنا العربية والإسلامية لأنها ترتد إلى جذور إغريقية وثنية، تتمرد على صورة الإله في تراثها، وتراه يحد من انطلاقة الإنسان، وتفترض صراعًا أو تعارضًا بين الإله والإنسان.
وقد أدت هذه الأفكار إلى انبثاق فكرة "موت المؤلف" التي تجر وراءها تداعيات فلسفية، ترتد إلى جذور إلحادية تؤدي في النهاية إلى اختفاء القيمة وتحويل النص إلى شكلية ميتة، وهذه الفكرة "موت المؤلف" تعني انتهاء عالم الميتافيزيقيا، أي ما وراء النص، وطرح النص كعالم مستقل بنفسه لا يعتمد على شيء خارجه.
1 جريدة الجزيرة"، العدد "8209" الصادر في 20/ 1/ 1415هـ - 21/ 3/ 1995م، ص12.
وفي مقابل "موت المؤلف" تم تطرح فكرة مشاركة القارئ، فالقارئ هو المسئول وحده عن كشف معميات العمل الفني، وبالتالي فقد استبد هذا القارئ بالساحة وحل محل المؤلف، وأخذ ينتهك النص كي يفسره حسب هواه، وإذا قيل له: إن المؤلف لا يريد ذلك أجاب بأن المؤلف قد مات فيرحمه الله، وأنه -أي القارئ- هو الوريث الشرعي للنص.
من أجل هذا، ومن أجل تحديد المواقع، موقع المؤلف، وموقع النص وموقع القارئ، جاءت هذه الدراسة الجديدة للدكتور عبد الحميد إبراهيم "نقاد الحداثة وموت القارئ"، التي صدرت مؤخرًا في كتاب وقع في 160 صفحة من القطع المتوسط، عن نادي القصيم الأدبي ببريدة.
وتأتي هذه الدراسة دعوة إلى موت القارئ لكي ينتعش النص، ويمنح إمكاناته بلا تردد ولا حدود، ولكي يلتقي على أرضيته المؤلف والقارئ معًا في حوار، ودون أن يقتات أحدهما على جسد الآخر، ولكن كيف يقوم هذا الحوار مع قارئ ميت؟ إنني كنت أفضل أن تكون دعوة د. عبد الحميد إبراهيم إحياء للمؤلف ودوره في إنشاء النص، بدلا من دعوته إلى موت القارئ. ذلك الحوار الذي لا يقوم إلا بإحياء المؤلف والقارئ معًا، بدلا من الدعوة إلى موتهما، أو موت أحدهما على حساب الآخر.
تنقسم الدراسة إلى شقين: شق نظري؛ يرد فيه المؤلف على الكثير من أفكار النقاد الحداثيين في عالمنا العربي. وشق تطبيقي، على كتاب "الخطيئة والتكفير" للدكتور عبد الله الغذامي، وما ورد فيه من نماذج تطبيقية على شعر حمزة شحاته.
إن الغذامي في نظر الدكتور عبد الحميد إبراهيم يعد من أفضل نقاد الحداثة؛ لأنه يحاول أن يعود في بعض الأمثلة إلى التراث، ولأنه يمتلك موهبة نقدية تتميز بالخصوصية، ولأنه يدعم حديثه النظري بنموذج تطبيقي، ولكنه من ناحية أخرى يخلط في القسم النظري في كتابه "الخطيئة والتكفير" المدارس بعضها ببعض، وما يقوله عن إحداها ينقله إلى الأخرى، وقد يقتبس من كلام بارت عناصر السيميلوجيا وهو بصدد الحديث عن البنيوية، ويخرج القارئ في النهاية دون تعريف محدد للمدارس، وهو يثني على الجميع، ولا يفرق بين واحد وآخر من الكتاب، وكل كاتب يصبح مدرسة، وكل مدرسة تعتبر فتحًا في مسير النقد العالمي.. إلخ.
لقد اختار الدكتور عبد الحميد إبراهيم الغذامي نموذجًا لنقاد الحداثة، لأنه يرى أنهم جميعًا يكررون أنفسهم، وأنهم طبعات متكررة لنسخة واحدة، فيقول في صدر كتابه "أقرأ لواحد من نقاد الحداثة فكأنني قد قرأت للجميع، وأقرا كتاب الواحد منهم فكأنني قد قرأت جميع كتبه.. وما أظن أن ذلك بسبب ذكاء نادر عندي، وإنما لأن المصادر واحدة، واللغة واحدة، بل إن المصطلحات والأعلام تكاد تتكرر من ناقد إلى ناقد، ومن كتاب إلى آخر".
أما رأيه في كتاب "الخطيئة والتكفير" فيتلخص في أن مقدماته تختلف عن نتائجه، وأن أول الكتاب حديث عن الموضوعية العلمية، وهتاف بسقوط التحليلات النفسية، وآخره تجسس على شخصية الشاعر، وبحث عن دوافعه، وتحليل لعقده واتجاهاته، ونبش لحياته الخاصة، وحديث عن فلسفة الرفض عنده
وفي رأيه فإن عنوان الكتاب "الخطيئة والتكفير" يحمل مسحة مسيحية أدتا إلى دخول الناقد بفكرة مسبقة يحاول أن يفرضها على أدب حمزة شحاتة، وفي رأي الدكتور عبد الحميد إبراهيم فإن شعر حمزة شحاته يقدم لنا شخصية قلقة، لم تستطع أن تحقق ذاتها، ولم تناضل كثيرًا من أجل هذا التحقيق، فوقعت فريسة الشكوى والمرارة، وبالتالي فهو لم يجد في شعره إشارة صريحة إلى قصة الخطيئة والتكفير التي ذهب إليها الغذامي بعناصرها الست وهي:
آدم "الرجل/ البطل/ البراءة"، حواء "المرأة / الوسيلة/ الإغراء"، الفردوس " المثالي/ الحلم"، الأرض "الانحدار/ العقاب"، التفاحة "الإغراء/ الخطيئة"، إبليس "العدو/ الشر".
وبالتالي فإن الدكتور عبد الحميد إبراهيم يرى تكلفًا في شرح الغذامي للقصائد، حتى يستجيب للرموز التي وضعها، فالقارئ يقرأ الشعر ثم يقرأ شرحًا مخالفًا، إنها أفكار مسبقة عن نموذج عقدي وجداني، يحاول المؤلف أن يفرضه على واقع القصيدة.
وفي رأي الدكتور عبد الحميد إبراهيم أيضًا أن دراسة الغذامي، في شعر شحاتة لم تخلص تمامًا للجوانب الفنية؛ لأنه استطرد في شروح نظرية استبدت بمعظم صفحات كتابه "348 صفحة من القطع الكبير"، ولم يتبق منها سوى خمسين صفحة للناحية الجمالية، وهنا تبدو المفارقة فالغذامي منذ الصفحات الأولى يتبنى منهجًا يزعم أنه يتجاهل كل الإسقاطات التي هي
خارج البنية الشكلية للنص الأدبي، ولكن كتابه يسرف في التجريد النظري من ناحية، وفي اقتراح نموذج فلسفي من ناحية ثانية، ثم يأتي الحديث عن الجماليات في صفحات أخيرة متقطعة الصلة عن نموذجه في الخطيئة والتكفير من ناحية ثالثة.
ويرى الدكتور عبد الحميد إبراهيم أن المنهج التفكيكي قد استبد بالغذامي، وأوقعه في أحكام جزئية، حجبت عنه الرؤية الكلية، كما يأخذ على الغذامي التوقف طويلًا عند عنوان قصيدة "ياقلب مت ظمأً" حيث راح يريق حديثًا فلسفيًّا تجريديًّا حول العنوان، في حين أن الشاعر نشر هذه القصيدة في ديوان آخر تحت عنوان آخر هو "المعاناة"، وكل هذا يدل على أن الحديث عن دلالة العنوان في شعر شحاتة، واستنتاج بعض الأحكام الفنية من عنوان قصائده، حديث لا يعتمد على أساس علمي.
وإذا كان الدكتور عبد الحميد إبراهيم قد أخذ على الغذامي العديد من المآخذ في محاولاته لقراءة النصوص الثلاثة لحمزة شحاتة، فإنه يقدم قراءته الخاصة لهذه القصائد فيرى أن الشاعر لم يدخل في صراع مع أدواته يتكافأ مع موهبته المتدفقة، كما أنه لم يدخل في صراع مع مجتمعه، ومن هنا لم يحتمل معاناة القصيدة طويلًا، وآثر أن يقذفها بسرعة، فبدت عليها علائم عدم النضج الذي يتخذ مظاهر عديدة منها: ترهل القصيدة، ووقوع مفردات وجمل في حالة غير شعرية، ووقوفه عند عتبات التوظيف الخارجي للأسطورة، مما يفقدها بعدها التاريخي، ووقوفه عند سطح الملحمة.
ويرى د. عبد الحميد إبراهيم في النهاية أن التقيد بمنهج واحد في النقد هو نوع من العبودية تخمد الموهبة الفنية عند النقاد، لذا فإنه يقترح ألا يكون للناقد منهج في النقد بشرط أن يستوعب كل المناهج، فإخلاص الغذامي لمنهج التشريحية، على سبيل المثال، كانت نتيجته أن شاعره حمزة شحاتة يفوق الأوائل والأواخر على الرغم من نقاط الضعف التي بدت في شعره.
وهذا تعليق على مقالتين من المقالات السابقة:
1-
تعليق على مقالة "فرعونيون وعرب1
تميزت المقالة ببراعة الاستهلال؛ حيث بدأها الكاتب بمقدمة لطيفة فافتتح بجملة دعائية: "عفا الله عن كتابنا الصحفيين" حتى يجذب القارئ مهما كانت ميوله واتجاهاته، حتى وإن كان من المعارضين لوجهة نظر الكاتب.
ثم أتبعها بأسلوب تعجب رائع: "ما أقدرهم على أن يثيروا عاصفة من غير ريح ويبعثوا حربًا من غير جند".
وتتوالى أساليب الكاتب وتتنوع بين الخبر والإنشاء، مما يمتع القارئ ويجبره على إتمام القراءة إلى أن ينهي المقالة، فقد عرض الموضوع عرضًا شيقًا ممتعًا بعبارات متناسقة وألفاظ عذبة سهلة ليس فيها غرابة ولا سوقية.
1 بقلم: الطالب/ عبد العزيز على الصالح 2/ 1"ج" بكلية اللغة العربية بالرياض ـ الفصل الأول من العام الجامعي 1415هـ-1416 هـ.
ولا تخلو المقالة من السجع الحسن غير المتكلف كما في قوله: "هي أدعى إلى الفخر، وأبقى على الدهر".
ومما تميزت به هذه المقالة قوة العاطفة؛ فهي تفيض بالحب للعرب.
وأفكار المقالة مترابطة، وقد أيدها الكاتب بكثير من الحجج والبراهين العقلية، إلا أن الكاتب لم يوفق في الخاتمة حيث جانبه الصواب كثيرًا عندما قال:"وبعد فإن ثقافتنا الحديثة إنما تقوم في روحها على الإسلام والمسيحية، وفي أدبها على الآداب العربية والغربية، وفي علمها على القرائح الأوروبية الخالصة".
وهذا يعد تناقضًا من الكاتب من نفسه؛ لأنه قال قبل عدة أسطر: لا تستطيع مصر الإسلامية إلا أن تكون فصلًا من كتاب المجد العربي لأنها لا تجد مددًا لحيويتها ولا سندًا لقوتها ولا أساسًا لثقافتها إلا في رسالة العرب".
ثم أي ثقافة هذه التي تقوم على دينين في آن واحد؟
والله سبحانه يقول في كتابه الكريم: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
وعن أي مسيحية يتحدث؟
لا أظن أن هناك غير المسيحية المحرفة التي تؤمن بعقيدة التثليث، والعياذ بالله.
2-
تعليق على مقالة "نقاد الحداثة وموت القارئ"
1-
قراءة الكاتب للكتاب الذي عرض له قراءة جيدة، وقد عرفنا ذلك من خلال تلخيصه الجيد للكتاب.
2-
أشار الكاتب إلى القضايا التي قدمها الكتاب، وقد أيد بعضها، ونقد فكرة "موت القارئ" عند مؤلف الكتاب.
3-
وضع عناوين جانبية للفقرات1، ليساعد القارئ على تحديد الفكرة، والإحاطة بها.
4-
نقل بعض فقرات الكتاب، ليطلع القارئ على أسلوب المؤلف، وليؤيد فكرته.
5-
تقترب مقالة عرض الكتاب -عند أحمد فضل شبلول- من "التقويم":
أ- ففيها تلخيص موجز للكتاب، ولأهم قضاياه.
ب- وفيها نقل لبعض فقرات الكتاب، للتمثيل.
جـ- وفيها إبداء للرأي، موافقة للكتاب، أو نقدًا له.
د- وهي تبغي تكوين رأي عند القارئ تجاه الكتاب، والقضايا التي يعرض لها.
1 العناوين كانت على التوالي كالتالي: موت المؤلف، مشاركة القارئ، تحديد المواقع، كيف يقوم الحوار مع قارئ ميت، الشق النظري والشق التطبيقي، الغذامي نموذجًا، المقدمات تختلف عن النتائج، العنوان يحمل مسحة مسيحية، الغذامي متكلفًا، الشروح النظرية استبدت بالكاتب.
نماذج من إنتاج الطلاب في المقالة
1-
جزاء سنِّمار! لنويِّر العنزي1
منذ أيام عاودني الحنين إلى قلمي الذي أحب، فأردت أن أرمق هذا المجتمع، وأسطر الأحداث كما هي، فقمت بزيارة إلى بعض المرافق الحكومية، ومن بين تلك الزيارات ذهبت إلى دار يقال لها "دار المسنين"، واتجهت إلى إحدى الغرف القريبة.
طرقت الباب وولجته مشفقة على من في الداخل، فإذا بعجوز دامعة العينين، تخنقها آهاتٌ تسعون من الزمن. جلست بالقرب منها، وقلت لها: حدثيني عما يجيش في نفسك من ألم، حدثيني ولا تزرفي هذه الدموع الحزينة.
بقيت واجمة ولم تتحدث، فانتظرت مليّا.. وبعد ذلك نطقت. وردد القلم صداها، يكتب ويقول:
ما أجمل الليل! يحمل في سكونه وهدوئه جمال الطبيعة، ويؤنس قلب عجوز حزينة بكت دمًا من شدة المصيبة، ودائمًا تتذكر في هذا الليل الطويل من احتضنته صغيرًا، وكان في المهد بريئًا، تعبت وذاقت المر حلوًا من أجله، تمنت أن يكبر وترى فيه الأمل، ترعرع شيئًا فشيئًا، وأصبح رجلًا، نسي ذلك المعروف، وأصبحت أمه نسيًا منسيًّا.
1 طالبة بمركز الطالبات، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المستوى السابع 1420هـ.
وقف على قدميه شامخًا، وأخذ أمه ووضعها في "دار المسنين".
لقد أخطأنا عندما قلنا: "دارًا" ليتنا قلنا: "عالمًا" يضم عبرات حزينة، يضم حرقة قلوب رحيمة! وممن يا ترى؟! من فلذات الأكباد.
أما زلتَ صداحًا يا أيها الطير؟! ارفع الصوت بالأهازيج والغناء، علك تحرك مشاعر الأبناء، علك تضمد جرح الأمهات والآباء!
ما الذي يدفع هذا الابن حتى يلقي بأمه في تلك الدار؟!
لقد كانت بطنها له وعاء، واليوم هذا البيت ضاق بها، أم أن تلك الزوجة لم تعد تحتمل أن ترى عجوزًا مسنة تشاركها في البيت، وربما القيم والعادات الغربية أفسدت النفوس والقلوب.
دع عنك العقوق، فإن الحقوق ضاعت، فهل تجد من يبحث عنها ويرجعها إلى أصحابها؟ ربياك صغيرًا، فارحمهما وأنت كبير.
عبست في وجهك، وبَسَرت في عينيك، فقلت لأمك: دعيني، فسوف أزورك في كل أسبوع، ويمضي أسبوعان، ويفيض حنان الأمومة لديها، وينافس قلبُكَ الصخرَ قساوةً.
وتمضي شهور، ثم تتذكر أن لك أمًّا!
لقد أبعدت ينبوعًا من الحنان يتدفق بشدة، أما أنت مشتاق إلى ذلك الينبوع؟ أم استغنيت عن فيضه؟! تقول: بلى، أنا مشتاق وعندي لوعة.
تُرى أين اللوعة؟ وأين إحسانك إلى والديك؟
ومن ذلك أنادي بأعلى صوتي، فهل من مجيب لهذا النداء؟ ما ذنب تلك الأم الحزينة، وذلك الأب الشيخ الكبير؟
دعوهم يرون الشمس بخيوطها الذهبية، دعوهم يرون قطرات الندى على الأغصان الخضرة الندية، ويسمعون ويتلذذون بضحكات الأحفاد البريئة!
تحدثت تلك الدار وقالت: ارحموا جدراني فإنها لم تعد تقوى على سماع الأنين أو نبرات الشوق والحنين.
ولقد هاج اشتياقي جدة تذكرتها.. تذكرتها وعاودني الحنين إليها، كانت تسرد لي القصص عن الحياة، وعن الغابة التي ملئت بالوحوش المخيفة، ولا أنسى قصتها عن ذلك الابن العاق.
كل ذلك كانت تسرده لي الجدة الحبيبة، واليوم لا أراها، لقد ولت الأنغام الجميلة، وبقيت عبرات حزينة.
هل تعودين يا جدتي لتحدثيني مرة أخرى؟
حدثيني لأعيش الماضي الذي يستكن بين أحضانك الدافئة.
الأمل ما زال يداعبني لأسمع صوتك الحاني، وتلك دموع صادقة، فهل هناك من يكفكفها؟ أم تبقى تلك الدموع تخرق خدي وترهق قلبي؟!
أيها القارئ الكريم، ربما لم تكن تلك مقالة، لكنها زفرات ونبرات، ومشاعر وألحان حزينة، بل هي قصيدة قَصُرَتْ عنها بحورُ الخليل!
2-
للغربة حسنات لزهراء الظفيري1
نعم.. الغربة مرة
وهذه العبارة دارجة على ألسنة الكثيرين، وربما قالها من لم يجرب الغربة أصلًا، لكني أرى أن الغربة خالفت القاعدة، وأذاقتني شيئًا غير المرارة أجهل طعمه، وأعطتني ما لم تعطه لأحد؛ لأنها بالمقابل أخذت مني ما لم تأخذه من أحد، فهي في هذه الحال أنصفتني!
فالغربة علمتني ما لم أتعلمه في مقاعد الدرس أو في صفوف الحياة؛ إذ لها الفضل في تعليمي كيف أضحك بعيون دامعة، وكيف أبتسم فرحًا بقلب حزين، وكيف أداري جراحي بالكي لا بغيره، علمتني كيف أتكلم دون أن أنطق، وكيف أنطق دون أن أعبر، وكيف أحسب الزمن دون انتظار شيء، وكيف أضيء ليلي بذكريات سوداء!
علمتني كيف أجن بعقلانية، وكيف أصرخ بصوت مهموس، وكيف أضيِّع دربي بخطوة ثابتة!
علمتني أن من يُقتل يموت مرة، ومن يغترب يموت بعدد لحظات غربته، أعطتني دروسًا عدة جعلت مني إنسانة سرابية.
وكان الدرس الأول منها في البلاغة، فعلمتني أن هناك شبهًا كبيرًا بينها
1 زهراء الظفيري: للغربة حسنات، مجلة "الأدب الإسلامي" العدد "22/ 1420هـ"، ص89.
وبين الصبر، وشبهًا كبيرًا أيضًا بين الموت والوحدة.
والدرس الثاني كان في الرسم؛ فعلمتني كيف أرسم قناعًا تعلوه الابتسامة وإشراقة الوجه، أرتديه كل صباح لينتزعه الغير، فيظهر اللا شيء!
والدرس الثالث في علم الأحياء؛ فعلمتني أن جرح الجسد أصعب بكثير من جرح المشاعر، لأنه يحتاج إلى أدوات حادة، لكن المشاعر تحتاج إلى كلمة واحدة فقط لتودي بها.
والدرس الرابع في اللغة والأدب؛ فعلمتي أن ألتزم الصمت مهما وجه إلى من إساءات أو اتهامات؛ وذلك لأنها أنستني اللغة التي تربيت عليها!
والدرس الخامس كان في الحساب؛ فعلمتني أن الواحد إذا أنقصنا منه واحدًا يساوي أناسًا كثيرين لا معنى لهم، فقط: تعرفنا عليهم يومًا ما، وفارقناهم في يوم ما، ليصبحوا بين طيات النسيان.
وأخيرًا أعطتني درسًا في النحو؛ فعلمتني أن الظروف ثلاثة: ظرف زمان، وظرف مكان، وظرف حيرة بينهما!!
3-
القلم الثائر لسلمى محمود شاكر1
ها هو قلمي يصارع أمواج السطور المتلاطمة من حوله، ويعلن حالة استنفار لم يعهد لها مثيل، ويتمطّى أنامل يدي، ويمتزج بها، وكأنه الأصبع السادس لها، ويطالبني بالعزف على أوتاره، والشروع بإزالة حبره الذي سئم من طول الانتظار، ويهمس همسات توحي بالشفقة والاستعطاف بأن أمده بأفكار يشدو بها.
لكن ماذا عساي أن أقول لهذا التمرد، فقد ماتت العبارات في جوفي، واختنقت العبرات في حلقي، فلم يعد يسمع حتى الأنين، وآثر قلبي الصبر على الحنين.
لكن هذا القلم العابث الثائر حرك كل ما بداخلي حتى زلزلني البركان، وهو كياني.
سأكتب، نعم، اليوم سأكتب، وفي هذه الساعة بالذات، سأكتب وسأفرغ كل ما يصول ويجول في صدري، وكل ما يعتمل في نفسي، وأملي على هذا القلم الذي ما زال يحلم بأن تظهر كتاباته إلى النور، ويرى العالم الذي أظل أسيره طويلًا، خوفًا من النظرات التي ستحيط به وتلاحقه.
لكن اليوم عاد وكأن شيئًا لم يكن، والخوف مات ولن يعود. اكتب أيها القلم، اكتب فلا تثريب عليك اليوم!
1 طالبة بمركز الطالبات، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المستوى السابع 1420هـ.