المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المقالة النقدية: - التحرير الأدبي

[حسين على محمد]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌مقدمة الطبقة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌القسم الأول: الكتابة الصحيحة

- ‌الفصل الأول: الكتابة قديما وحديثا

- ‌مدخل

- ‌أنواع التأليف

- ‌اللغة الموضوع، واللغة الأداة

- ‌اللغة والفكر

- ‌ترتيب عناصر كل فكرة:

- ‌نموذج للتحليل:

- ‌التحليل:

- ‌الرجولة الحقة

- ‌عناصر الموضوع:

- ‌الفصل الثاني: اللفظة

- ‌مدخل

- ‌حرف الميم

- ‌الفصل الثالث: الفقرة

- ‌الفصل الرابع: كيف تقرأ النص الأدبي

- ‌مدخل

- ‌نص القصيدة

- ‌التعريف بالشاعر:

- ‌من الصور الجمالية التي ضمنها الشابي قصيدته: التشبيه:

- ‌الموسيقا في النص

- ‌رأيٌ في النص:

- ‌المراجع:

- ‌التعليق على القراءة:

- ‌الفصل الخامس: كيف تكتب موضوعا

- ‌كيف تنشئ موضوعا جيدا

- ‌ من قواعد الكتابة:

- ‌ألف الوصل وهمزة القطع

- ‌ علامات الترقيم

- ‌ تقويم عام للأخطاء التي يقع فيها الطلاب أثناء الكتابة

- ‌أخطاء الطلاب في التحرير:

- ‌ من الأخطاء اللغوية الشائعة في وسائل الإعلام:

- ‌الفصل السادس: كيف تكتب تلخيصا

- ‌مدخل

- ‌النموذج الأول: المصادر الغربية لنقاد الحداثة

- ‌النموذج الثاني: نجيب الكيلاني في ذمة الله

- ‌الفصل السابع: كيف تكتب بحثًا

- ‌ أهمية البحوث:

- ‌ اختيار موضوع البحث:

- ‌طريقة جمع المادة العلمية

- ‌مدخل

- ‌ المصادر الأولى للبحث:

- ‌ الكتب التي عالجت الموضوع معالجة كلية:

- ‌ الكتب التي عالجت الموضوع معالجة جزئية:

- ‌ كتب التاريخ

- ‌ كتب المعارف

- ‌ تسجيل المعلومات في بطاقات

- ‌كتابة البحث

- ‌مدخل

- ‌ المقدمة:

- ‌ هيكل البحث:

- ‌ الخاتمة:

- ‌ الفهارس:

- ‌ كشاف المصادر والمراجع:

- ‌القسم الثاني: من أنواع الكتابة الموضوعية والفنية

- ‌الفصل الأول: التقرير

- ‌مدخل

- ‌تقرير عن كتاب: قصص للأشبال رجال أحبهم الرسول صلى الله عليه ةسلم

- ‌الفصل الثاني: التقويم

- ‌مدخل

- ‌نموذج للتقويم

- ‌الفصل الثالث: الرسالة

- ‌تعريف الرسالة

- ‌تاريخ الرسالة:

- ‌أنواع الرسالة:

- ‌الوصايا:

- ‌ الرسائل الشخصية:

- ‌ الرسالة الرسمية "الإدارية

- ‌نماذج تطبيقية:

- ‌من نماذج الرسائل:

- ‌من نماذج الوصايا:

- ‌من نماذج الرسائل الأدبية:

- ‌من نماذج الرسالة الإدارية

- ‌الفصل الرابع: المقالة

- ‌مفهوم المقالة وتطورها

- ‌في اللغة

- ‌مفهوم المقالة عند النقاد:

- ‌البناء الفني للمقالة

- ‌ أنواع‌‌ المقالة الأدبية

- ‌ المقالة الأدبية

- ‌ المقالة الدينية

- ‌ المقالة الاجتماعية

- ‌ مقالة الوصف

- ‌ المقالة السياسية

- ‌ المقالة النقدية:

- ‌ المقالة الفلسفية

- ‌ المقالة الانطباعية

- ‌ المقالة العلمية:

- ‌ مقالة الصورة الشخصية

- ‌المقالة الصحفية وأنواعها

- ‌مدخل

- ‌ المقالة الافتتاحية:

- ‌ العمود الصحفي:

- ‌ مقالة الرأي:

- ‌ مقالة عرض الكتب:

- ‌ مقالة المتابعة "أو التغطية الصحفية

- ‌خصائص المقالة الأدبية

- ‌مدخل

- ‌ فرعونيون وعرب

- ‌ فلسفة القصة

- ‌ أمي

- ‌ أدب المهجر الشرقي

- ‌ نقاد الحداثة وموت القارئ

- ‌الفصل الخامس: القصة

- ‌مدخل

- ‌الفرق بين الخبر والقصة

- ‌أنواع القصة "من حيث القالب

- ‌تعريف القصة:

- ‌ الحكاية:

- ‌ الأقصوصة:

- ‌ القصة:

- ‌ الرواية:

- ‌أشكال السرد القصصي

- ‌ المقال القصصي:

- ‌المذكرات اليومية:

- ‌ المقامة:

- ‌ الرسالة:

- ‌ القصة الشعرية:

- ‌عناصر الفن القصصي

- ‌مادة العمل القصصي

- ‌ الموقف النقدي من هذه المادة:

- ‌ عناصر الفن القصصي

- ‌الاتجاهات العامة للقصة

- ‌القصة الرومانسية

- ‌ القصة الواقعية:

- ‌ القصة التاريخية:

- ‌ القصة الاجتماعية:

- ‌ القصة التحليلية النفسية:

- ‌ القصة البوليسية:

- ‌ القصة العلمية:

- ‌دراسة تطبيقية لعناصر العمل القصصي في قصة "أبو الفوارس"عنترة بن شداد

- ‌ملخص القصة

- ‌عناصر القصة:

- ‌نمودجان للقصة القصيرة

- ‌شندويل يبحث عن عروس

- ‌ حدث استثنائي في أيام الأنفوشي

- ‌الفصل السادس: المسرحية

- ‌تعريف المسرحية

- ‌مدخل

- ‌ مرحلة النشأة

- ‌ مرحلة النضج

- ‌ مرحلة الازدهار

- ‌العناصر المميزة للمسرحية

- ‌مدخل

- ‌ البناء

- ‌ الحوار:

- ‌ الصراع:

- ‌أنواع المسرحية

- ‌مدخل

- ‌ المأساة:

- ‌ الملهاة:

- ‌نماذج

- ‌تطبيق عناصر المسرحية على النص

- ‌مدخل

- ‌ الحادثة:

- ‌ الشخوص

- ‌ الفكرة:

- ‌ الزمان والمكان:

- ‌ البناء:

- ‌ الحوار:

- ‌ الصراع:

- ‌نموذجان لمسرحية الفصل الواحد

- ‌مدخل

- ‌ جابر عثرات الكرام

- ‌ بائع الوهم

- ‌العناصر المشتركة بين المسرحية والقصة

- ‌مدخل

- ‌ الحادثة:

- ‌ الشخوص:

- ‌ الفكرة:

- ‌ الزمان والمكان:

- ‌الفصل السابع: المحاضرة

- ‌مدخل

- ‌ المحاضرات الجامعية:

- ‌المحاضرات المتخصصة

- ‌محاضرات في المؤتمرات والمهرجانات المتخصصة

- ‌ محاضرات التثقيف العام:

- ‌مرحلتا المحاضرة

- ‌مرحلة الإعداد

- ‌ تقديم المحاضرة:

- ‌نموذج لمحاضرة: نحو طريقة مثلى لتحليل النص الأدبي

- ‌ الهدف من دراسة النص الأدبي:

- ‌ ما قبل تحليل النص الأدبي:

- ‌ تحليل النص:

- ‌ ما بعد تحليل النص:

- ‌المصادر والمراجع

- ‌المصادر والمراجع من الكتب

- ‌الصحف والدوريات

- ‌للمؤلف

- ‌الفهرس

الفصل: ‌ المقالة النقدية:

6-

‌ المقالة النقدية:

الغالب عليها هو منهج البحث العلمي وما يقتضيه من جمع المادة وترتيبها وتنسيقها وعرضها بأسلوب واضح جلي لا يورط القارئ في اللبس، ولا يقوده إلى مجاهل التعمية والإبهام، ولذا يعنى الكاتب بوضع تصميم دقيق، وخطة محكمة لما يكتب حتى لا يضل قارئه السبيل، ولا بد في هذا النوع من المقالة أن يكون له مقدمة، وعرض، وخاتمة، وخطة يسير عليها، ويصل إلى نتائج في النهاية. وتعتمد على قدرة الكاتب على تذوق الأثر الأدبي أو مناقشة القضية التي يعرض لها، ثم تعليل الأحكام وتفسيرها وتقويم الأثر بوجه عام. ومن أشهر كتابها: المازني، وسيد قطب، ووديع فلسطين، وعبد الحميد إبراهيم، وشكري عياد، ومحمد مصطفى هدارة، وعبد القدوس أبو صالح، ومحمد رجب البيومي، ومحمد بن سعد بن حسين، وأحمد هيكل، وحسين سرحان، ومحمد بن عبد الرحمن الربيع، ورجاء النقاش، وفاروق عبد القادر.. وغيرهم. ومن نماذجها: مقالة الدكتور عبد القادر القط: "إلى أين يسير الشعر؟ "1.

إلى أين يسير الشعر؟

للدكتور عبد القادر القط

حين ظهر الشعر الحر -أو شعر التفعيلة- منذ أكثر من أربعين عاما، وقف معظم محبي الشعر حينذاك منه موقف الخصومة، إذ رأوا فيه خروجا على المألوف في العروض والمعجم الشعري وبناء العبارة الشعرية. لكنهم ما لبثوا

1 مجلة "القافلة"، عدد صفر 1413هـ، ص12، 15.

ص: 185

بمرور الزمن ومتابعة نماذج شعرية متميزة فيه أن اطمأنوا إليه وكفوا عن قياسه إلى القديم، وأخذوا يتذوقونه بمعايير جديدة مستمدة من نظريته التي بينها النقاد، ومن نماذجه التي أبدعها الرواد من الشعراء. وقد أعانهم على ذلك التحول من موقف الخصومة الحادة إلى موقف القبول أنهم أدركوا بعد أن زالت صدمة المواجهة الأولى أن الصلة لم تكن مقطوعة بين التراث والنماذج الجيدة من ذلك الشعر في مرحلته الباكرة، وأن رواده الأوائل قد بدأوا حياتهم الشعرية في الشكل العمودي المألوف، وإن جاءت قصائدهم ذات طابع عصري في التجربة والمعجم والصورة الفنية بوجه عام. وهكذا ظلت نماذجهم الأولى من الشعر الحر محتفظة بشيء غير قليل من سمات الشعر العربي قبل ظهور ذلك الشكل الجديد.

وتلا جيلَ الرواد جيلٌ آخر ساروا بتجربة التجديد إلى مدى أبعد، وخلا شعرهم من عثرات التجربة الأولى، وبدا أقل حفاظًا على مقومات الشعر العمودي ليصل إلى "صيغة" شعرية جديدة لا تخلو من امتداد للتراث لكنها تحاول أن تبتكر لنفسها أسلوبها الخاص وإيقاعها المتميز.

وعاشت النماذج الجيدة في ذلك الشكل الجديد جنبًا إلى جنب مع القصيدة العمودية العصرية، وإن زاد شعراؤه يوما بعد يوم، وزاد إقبال الناس على نماذجه حتى كاد يطغى لدى شباب القراءة على الشكل القديم، وإن ظلوا يطربون لإيقاع القصيدة العمودية إذا كانت ذات طابع حديث متميز ولم تكن مجرد تقليد نمطي للشعر العربي القديم.

على أن طائفة من هؤلاء الشعراء في الوطن العربي كله تجاوزت تجديد جيل الرواد ومن تلاهم إلى ضروب من التجريب والتجديد التي تواجه قارئ الشعر

ص: 186

بنماذج من طراز غريب عليه، يثير في نفسه كثيرًا من القلق والعجب، وينسب هؤلاء الشعراء أنفسهم -وينسبهم النقاد- إلى ما أصبح يعرف بالحداثة ويتميز عن اتجاهات الشعر الحر الأولى سواء في طبيعة التجربة أم الصور الشعرية.

أما التجربة فارتدَّت -في أغلب الأحوال- من الواقع الخارجي إلى العالم النفسي الباطني للشاعر، فأصبح الواقع الخارجي مجرد "مثير" لما يختزنه عقله الباطن من ذكريات وتجارب. وأما الصور فتمثلت في معجم شعري جديد قد يستخدم الشاعر فيه الألفاظ في غير معناها المألوف، وقد يصوغ منها مشتقات جديدة، وقد يورد عن قصد ألفاظا هي عربية في الأصل ولكنها أصبحت لصيقة بالعامية. كما تمثلت في بناء خاص للعبارة يخرج في كثير من الأحيان على منطق اللغة ليستجيب لطبيعة التجربة الباطنة ومنطقها الخاص الذي يقوم على أوهى الروابط، أو يقفز من خاطرة إلى خاطرة ومن إحساس إلى إحساس بأسلوب "التداعي الحر" للمعاني والألفاظ. وقد يبني الشاعر بعض عباراته وصوره على مقتبسات من التاريخ أو الأسطورة أو المعاني الصوفية أو الدينية.

وكلما اهتدى الشاعر إلى اقتباس جديد أسرع الشعراء الآخرون فأخذوه عنه، حتى تشابهت أشعارهم في كثير من الأحيان، وقلت فيها الأصوات المتميزة بسمات وخصائص معروفة.

ومع أن إضفاء دلالات على الألفاظ وبناء العبارة على نحو مبتكر هما من الغايات الأولى لأي شعر أصيل، فإن الأمر عند هؤلاء الشعراء يتجاوز الحد المقبول في كثير من الأحيان ليبدو في صورة حذلقة لغوية أحيانًا أو يبدو عبثًا أسلوبيًّا وسعيًا مقصودًا وراء الغموض المغلق الذي لا يشف عن معنى أو

ص: 187

يوحي بدلالة. وقد لا يكون أصحابه أقدر المواهب الشعرية العربية، لكنهم بلا شك أعلى الشعراء صوتًا وأكثرهم شغبًا على من يساندهم من النقاد ومن لا يسير على نهجهم من العراء، وهكذا غطوا على أصوات أكثر اعتدالًا وأسمى موهبة حتي بدا أن اتجاههم أصبح يمثل التيار الرئيس للشعر العربي المعاصر. وبدأ محبو الشعر يحسون من جديد بشيء غير قليل من الغربة أمام نماذج ذلك الشعر الذي قلت فيه الرموز المشتركة بينهم وبين مبدعيه. فالتجربة المستمدة من العقل الباطن قد يكون لها رموزها الإنسانية العامة، لكن لها مع ذلك رموزها الشخصية الخاصة بالنابعة من الطفولة والنشأة والبيئة. وتظل تلك الرموز الشخصية عالمًا مغلقًا يعز فهمه حتى على الشاعر نفسه كما يعز تفسير الأحلام. ويزيد الغموض انغلاقا بما يقصده إليه الشعراء من إسراف في تفكك العبارة والنقلات السريعة من خاطرة إلى خاطرة، وما أشرنا إليه من استخدام الألفاظ بمدلولات بعيدة لا تجيء من طبيعة الأصالة والابتكار بمقدار ما تأتي من الاعتقاد بأن الغموض قرين العمل وأن الوضوح نظير السطحية في كل الأحوال.

وبدأ المتلقون والمبدعون يتبادلون الاتهام. المتلقون يرمون الشعراء بأنهم يتجاهلون هموم العصر وقضايا الحياة ويقصدون قصدًا إلى الحذلقة ويتعالون على الناس. والشعراء يتهمون القراء بالتخلف والعجز عن مسايرة "الحداثة" ويحتجون بأنهم لا يمكن أن يفرضوا على مواهبهم "الذوق العام" الذي يلتمس في الشعر معاني واضحة ومعجمًا مألوفًا وصورًا مكررة. وهم في كلامهم عن "الحداثة" يصورونها كأنها "مذهب" أدبي خاص كالواقعية، والوجدانية أو الرمزية على حين أنها في الحقيقة ليست مذهبًا في الأدب بل هي صفة للأدب.

ص: 188

تدل على أنه يستجيب لمقتضيات العصر في تجربته ولغته وصورته الفنية. ولكل عصر حداثته الخاصة، وقد يكون للحداثة في العصر الواحد أكثر من مظهر واتجاه. ومن حق أبناء كل عصر أن يجدوا أنفسهم في أدب عصرهم وإلا انتفت عنه الحداثة. ولكل عصر تياره الأدبي العام السائد، تواكبه تيارات فرعية نابعة منه أو مستقلة عنه، لكنها لا تزعم لنفسها السيطرة التامة على المواهب والأذواق ما دامت عاجزة عن الوصول إلى متلقي الأدب الذين يدركون بثقافتهم ووعيهم التحول من القديم إلى الجديد، ويحسنون الظن بالجديد ولا يقيسونه دائمًا إلى القديم، ومع ذلك لا يستطيعون أن يعايشوا تلك التيارات المسرفة في التجريب والتجديد. فاللغة ليست مجرد أصوات كالموسيقا ولا مجرد خطوط كالرسم، بل هي كلمات ذات دلالات مألوفة وأبنية معروفة يكسبها الشاعر الموهوب دلالات جديدة ويستخرج منها أبنية مبتكرة، ولكنه لن يستطيع أن يخلصها تمامًا من معانيها وأبنيتها المعروفة لدى الناس.

ولا شك أن "التجريب" وسيلة مشروعة ومطلوبة في أي فن من فنون الأدب. وهو الطريق إلى تجنب الجمود وإلى مسايرة المراحل الحضارية المتعاقبة. لكنه لا ينبغي أن يكون مقصودًا لذاته ولا أن يتجاهل استجابة المعاصرين أو إعراضهم عنه إذا أتيح له المدى الزمني المعقول ليخلص من عثرات التجربة وتقترب نماذجه من النضج وتمحو معايشة المتلقي له ما قام في نفسه في البداية من شعور بالغرابة.

وقد أتيح لشعراء "الحداثة" هذا المدى الزمني المفروض، فانقضى على بداية اتجاههم نحو عشرين سنة، ولقي من وسائل النشر ما يسر وصوله إلى القراء. ومع ذلك ما زال يتعثر في تجربته وتزداد عزلته يومًا بعد يوم عن القراء، برغم

ص: 189

جهود كثيرة من النقاد لبيان نظريته وتقديم نماذجه.. والمألوف في أي تيار أدبي جديد أن يلقى شيئًا من الصد أو الخصومة في البداية، لكنه -إذا كان مبشرا بمذهب يوشك أن يظهر ويسود لأنه يعبر عن مرحلة جديدة يوشك المجتمع أن ينتقل إليها- لا بد أن يجد طريقه إلى الناس في النهاية بقراءة نصوصه ومتابعة نظرياته. أما إذا طال الأمد على هذا النحو وظلت الغربة قائمة بين النص والمتلقي فلا بد أن يعيد الشعراء والنقاد النظر في ذلك المذهب الجديد، فليس الشعر مجرد "تنفيس" عن هموم الشاعر دون تفكير في التواصل مع الآخرين، وليست لحظة الإبداع "غيبوبة" فنية تأتي بما لا مجال لإعادة النظر فيه على ضوء موقف أبناء العصر منه، وبمقدار قدرته على التأثير في حياة الناس وإمتاعهم أو عجزه عن التأثير والإمتاع.

ولن يغني عن الشعراء في هذا المقام ما يقولونه ويقوله بعض النقاد المنتصرين لذلك الاتجاه من تعبيرات ذات إيقاع ضخم ودلالة غير محدودة، كقولهم: إن الشاعر لا بد أن "يفجر" اللغة. ولن يستطيع شاعر مهما تكن قدرته وموهبته أن يفجر اللغة، فيعيد صياغة ألفاظها وعباراتها وأساليبها على نحو جديد. وغاية الشاعر المجدد الموهوب أن يخلع على بعض الألفاظ بعض الدلالات الجديدة ويضعها في سياق غير مألوف، ويبني عبارته الشعرية بناء متميزا يتجنب الأنماط المكررة والصيغ المستهلكة والمجازات التي فقدت أصالتها لطول ما استخدمها الشعراء. لكن أنصار هذا الاتجاه من النقاد يجارون الشعراء في أساليبهم الغامضة ويدرسون شعرهم بمناهج نقدية لا تعترف بالتقويم، وتقنع بالتحليل الشكلي للنص الشعري فيتساوى عندها الجيد والرديء إذ يشتركان في ظواهر شكلية واحدة. وهم بهذا يبررون للمغالين في التجريب ما في شعرهم

ص: 190

من غموض وتفكك. ولا شك أن بعض هؤلاء المجربين من ذوي المواهب والثقافة يدركون حقيقة ما يصنعون، لكن كثيرًا منهم أيضًا شعراء غير موهوبين يسيرون في ركاب ذلك الاتجاه على غير هدى ويغطون عجز الموهبة وقلة الثقافة بما يبدو أنه تجريب وتجديد، وهو في الحقيقة عبث لغوي وأسلوبي يباعد بين الشعراء والمتلقين. فليس من اليسير أن يخرج الشاعر على قوانين اللغة وأعرافها ويقدمها إلى الناس في شكل جديد، إلا إذا أوتي الموهبة القادرة والمعرفة الواسعة بالتراث والسيطرة الكاملة على اللغة في ألفاظها وأساليبها وإيقاعها، مع إدراك لطبيعة العصر الذي يعيش فيه، وقدرات قراء شعره وأذواقهم وما يلتمسون في الشعر من متعة ومعرفة.

ومن الإنصاف لشعراء هذا الاتجاه أن نذكر أنهم ليسوا بدعًا في الشعر العالمي الحديث، وإن ما يجري في الوطن العربي من نزوع إلى التجريب والتجديد له نظائر كثيرة في الشعر الغربي، وأن بعض الاتجاهات العربية الحديثة قد تأثرت في نشأتها بنظريات ونماذج غربية أو بشعراء كبار في الوطن العربي، صادفت تلك النظريات والنماذج هوى في نفوسهم ثم انتقلت على أيديهم إلى تلاميذهم ومريديهم من الشباب. على أن أمر التجديد في الغرب والوطن العربي يختلف في ظروفه الفكرية والحضارية، وفي طبيعة من يتلقى ذلك التجديد هنا وهناك.

فالحضارة الغربية -على حداثتها- قد مرت خلال ما لا يزيد على خمسة قرون بمراحل حضارية مختلفة اختلافًا شاملًا وحاسمًا فأصبح لكل مرحلة "مذهبها" الأدبي المتميز الذي يعبر عن طبيعتها ويرضي حاجتها الفنية والفكرية، من "كلاسيكية" جديدة إلى "رومانسية" ثم "واقعية" إلى رمز وتجريد غير ذلك. وأدرك المتلقون سنة التجدد والتحول، وتشكلت أذواق كل عصر حسب طبيعته.

ص: 191

الحضارية فلم يعد ممكنا أن "تتعايش" تلك المذاهب الأدبية الكبرى في عصر واحد، فإذا دخل الأدب عصر الرومانسية لم يعد مقبولا أن يكتب الأديب أدبًا كلاسيكيا، وإذا انقضت الرومانسية ونشأت الواقعية لم يعد للومانسية مكان في العصر الجديد.

ولكثرة ما يطرأ على المجتمع الغربي من تحولات حضارية وما يصاحبها من تجديد في جميع وجوه الحياة ومن بينها الأدب، أصبح التجديد والتجريب شيئًا مألوفًا عند المبدع والمتلقي على السواء، حتى انتهى إلى ما يشبه الترف الفني الذي يغدو معه البحث عن أشكال جديدة مقصودًا لذاته في بعض الأحيان، ولا بأس أن يظهر لديهم من حين إلى آخر اتجاه جديد في المسرحية أو الرواية أو الشعر يستقبله الناس بترحاب وحسن ظن. ثم ما يلبث أن ينقضي بعد حين ويظل هناك تيار رئيس سائد يمثل طبيعة العصر العامة وفهم جمهور الأدب لطبيعة الأدب وغايته.

أما الوطن العربي فإنه -برغم ما طرأ عليه من تحولات حديثة كبيرة- لم يمر بعد بتلك النقلات الحضارية الشاملة والحاسمة التي تستدعي مذهبًا أدبيًّا سائدًا له تميزه الواضح في النظرية والتطبيق، ولم يألف بعد تلك المحاولات التجريبية الفرعية التي لا يجد الناس بأسًا من استقبالها بشيء من حسن الظن ويتركون مصير بقائها أو زوالها للممارسة والزمن، لذلك تبدو دعوى أصحاب شعر "الحداثة" بأنهم وحدهم يمثلون حداثة العصر الشعرية وأن رواد الشعر الحر قد أصبحوا عند القارئ العصري مجرد تراث، ولم يمض على ظهورهم أكثر من خمسين عامًا، وأن من تلا ذلك الجيل الرائد يقفون في برزخ بين العتيق والحداثة، دعوى فيها كثير من الإسراف والغرور وتجاهل طبيعة المجتمع وأذواق محبي الشعر. وهي حين تغطي -من خلال الصخب والحركة الدائبة التي يتسم

ص: 192

بها أصحابها- على المواهب الأصيلة والنماذج المتم يزة في الشعر الحر، تلحق الأذى بالحركة الشعرية كلها وتكاد تصرف محبي الشعر عنه جميعا. وقد أصبحت تلك الحقيقة شيئًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، فأخذت دائرة المتلقين تضيق يومًا بعد يوم، ولم يعد للشعر من منفذ إليهم إلا في أمسية شعرية أو مهرجان شعري يستمعون إلى الشعر فيه من خلال إطار من "السمر الاجتماعي"، ويحاول الشعراء أن يصلوا إلى وجدان المستمعين بحسن الإلقاء والتمثيل ويستجيب الحاضرون بشيء من المجاملة المفروضة. ثم ينفضُّ السامر ولا يبقى منه في نفوس من حضروه إلا نثار من جمل شعرية هنا أو هناك أو بقايا من دعابات وحوار بين الأصدقاء. وقد يكون في الأمسية نماذج شعرية طيبة يضيع صداها في ضجيج الحلقات اللغوية والإلقاء التمثيلي، ويخبو وهجها أمام ظلمة الغموض والتعقيد.

وهؤلاء الشعراء حين يتجاهلون ميول المتلقين وطبيعة البيئة والعصر يتجاهلون في الوقت نفسه حقيقة تفرض نفسها على كل من يحرص على وجود الشعر ومستقبله وعلى بقاء الصلة بين مبدعيه ومتلقيه. فقد أصبح من الواضح لمن يتابع حركة الأدب في المجتمع العربي في السنوات الأخيرة أن الشعر لم يعد له مكان الصدارة بين فنون القول، وأن وجوده أخذ في الانحسار أمام الفن القصصي والفن التمثيلي. ويؤثر أغلب الناس في هذه الأيام أن يقرءوا رواية عصرية قصيرة أو مجموعة من القصص أو يشاهدوا تمثيلية أو مسلسلًا على أن يقرأوا ديوانًا من الشعر يواجهون فيه ما لا طاقة لهم به من تجريب لغوي وأسلوبي وتجارب باطنية غامضة بعيدة عن همومهم وعن طبيعة العصر الذي يعيشون فيه. وإذا كان في نفس أغلب الناس نزعة فطرية إلى الشعر فقد أصبح يرضيها حوار شعري في مشهد تمثيلي، أو وصف جيد لشخصية، أو موقف في

ص: 193

رواية أو قصة، أو أداء بارع في التمثيل لمشهد أو شخصية أو موقف. بل لقد أصبحت تلك النزعة الشعرية الفطرية تكتفي أحيانًا بمناظر طبيعية جميلة مصورة يصاحبها شيء من الموسيقا التصويرية الجميلة.

ولا يعود إيثار الناس للقصة والرواية إلى أن الفن القصصي فن محافظ لا يواجه القراء بما يواجهونه في الشعر من تجديد. ففي الوطن العربي نهضة قصصية مرموقة ذات ثمار مختلفة طيبة لا تنقصها الحداثة، لكن أصحابها لا يتعالون على القراء كما يفعل شعراء الحداثة، ولا يتجاهلون قضايا العصر ومشكلاته ونماذجه البشرية، وهم على اختلاف حظوظهم من الحداثة أقرب إلى نفوس القراء من شعراء التجريب والتجريد، ومع ذلك فهم أكثر تواضعًا وأخفض صوتًا وأقل اتهامًا للقراء والنقاد.

ولعل الإحساس الغامض بأزمة شعرية كان من وراء اتجاه بعض الأدباء إلى ما أسموه "قصيدة النثر" مقتبسين اسمها وطبيعتها من الآداب الأوروبية، إلى جانب تأثرهم بمفهوم خاص للشعر لا يتقيد بمعاييره الشكلية المعروفة، ولعلهم قدروا أن ذلك الشكل الذي يجمع بين الشعر والنثر قد ينفذ بالشعر من تلك الدائرة الضيقة إلى جمهور أوسع من المتلقين.

وقد عرف النثر العربي الحديث نماذج كثيرة قريبة من قصيدة النثر عرفها الناس باسم "النثر الفني"، ولم يزعم أصحابها أنهم يكتبون "قصائد نثرية" ويعترض كثيرون على هذه التسمية -لا لمجرد أنها تخلط بين الشعر والنثر - ولكن لما قادت إليه من محاكاة مقصودة لبعض مقومات شعر الحداثة، فاتجهت قصيدة النثر إلى التجريد والغموض، والخروج على العرف اللغوي خروجًا يشبه الطفرة المفاجئة، ومهما يكن الرأي في غموض شعر الحداثة وجرأته المسرفة على اللغة فإن في بعض نماذجه المقبولة عناصر شعرية تكسبه قدرة على الإيحاء دون

ص: 194

أن يلتمس المتلقي فيه فكرًا واضحًا، على حين يظل غموض قصيدة النثر وتهويماتها الأسلوبية واللفظية أقل قدرة على النفاذ إلى الوجدان إذ تفتقد كثيرًا من مقومات الشعر التي تكسبه تلك القدرة الفريدة على تحويل الفكرة إلى إحساس.

ويأتي الخلط بين القصيدة الشعرية وقصيدة النثر -فيما أرى- من نظر هؤلاء الأدباء إلى الوزن في الشعر على أنه قيمة شكلية لا ينقص الشعر كثيرًا بفقدها إذا تحققت له مقوماته الأخرى.

والحق أن قيمة الوزن لا تنبع من ذلك الإيقاع المنتظم الذي تطرب له الأذن فحسب، بقدر ما تنبع من المواجهة بين موهبة الشاعر القدير وقيود الوزن في لحظة الإبداع، وما تنتهي إليه هذه المواجهة عند الشاعر الموهوب -غير النظام- من اختيار صيغة نهائية خلال خيارات عديدة من الألفاظ والمرادفات والأبنية والتراكيب التي تزدحم في خاطره في جيشان وجدان مختلط، يمتزج فيه الوعي بالتلقائية، والخبرة بالموهبة، ويكتسب الشعر بها تلك القدرة الفريدة التي تميزه عن النثر الفني. ولا أدل على هذا من أننا قلَّ أن نقرأ الشعر موقعًا ومقطعًا حسب تفعيلاته العروضية. بل إن ذلك يعد قراءة رديئة للشعر. والأغلب أن يقرأ الشاعر البيت -والسطر- على الناس فيقف ويصل ويسكّن ويحرّك، وينطق بلفظة مفردة أحيانا، أو بجملة مستقلة بنفسها أو متصلة بجملة أخرى حينًا آخر فتتداخل التفعيلات ويختلف وزن البيت وإن بقي له إيقاعه العام.

لكن التأثير الأكبر يظل قائمًا من خلال تلك الصيغ الفريدة التي أثمرتها المواجهة بين موهبة الشاعر وقيود الوزن أمام خيارات كثيرة مختلطة في لحظة الإبداع. وفي قصيدة النثر تظل المواجهة أقل احتدامًا والاختيار أكثر يسرًا، لا يستدعي بالضرورة -كما يحدث عند الشاعر- كل المختزن والمبتكر من ألفاظ.

ص: 195

اللغة وأبنيتها وتراكيبها المتصلة بالتجربة، فلا تبلغ الصورة النثرية حد الشعر ولا تكتسب صفة القصيدة. وقد يفتقد القارئ فيها ما يلتمسه عادة في النثر من بعض مظاهر الفكر.

ويقيني أنه أمام تلك الصلة المقطوعة بين المتلقين وشعراء الحداثة ينبغي للشعراء أن يعيدوا النظر في مفهومهم وفي طبيعة الصلة بين الشاعر وأبناء عصره إذا أريد للشعر أن يصمد أمام الأشكال الأدبية الأخرى وأمام سطوة الفكر العلمي التي تزداد يومًا بعد يوم في هذا المكان.

ومن الملاحظ على هذه المقالة ما يلي:

1-

أنها طويلة نوعًا ما، ولذلك نشرت في مجلة شهرية تتيح لقرائها أن يبقوا مع ما ينشر فيها شهرًا كاملًا، قبل أن تصدر لهم عددًا جديدًا.

2-

أنها تناولت قضية أدبية جديرة بالدرس والمناقشة وهي: مسيرة التجديد والتجريب بلا ضوابط في الشعر العربي الحديث، وهي مسيرة تواجه قارئ الشعر بنماذج من طراز غريب عليه، يثير في نفسه كثيرًا من القلق والعجب.

3-

أنها بسطت رأي المؤلف في هذه القضية، وقد أرجع أسبابها إلى:

أ - ارتداد التجربة الشعرية -عند أصحاب التجريب- من الواقع الخارجي إلى الواقع النفسي الباطني.

ب - استخدامهم الألفاظ في غير معناها المألوف.

جـ- استخدامهم ألفاظًا عربية أصبحت لصيقة بالعامية.

د- بناء خارجي للعبارة يخرج عن منطق اللغة.

ص: 196

هـ- القفز من معنى إلى آخر، ومن إحساس إلى غيره بأسلوب التداعي الحر للمعاني والألفاظ.

و اقتباس الأساطير أو استدعاء التاريخ دون فهم واعٍ لهما.

4-

وضحت المقالة أن هذه الفئة "من أصحاب التجديد بلا ضوابط" ليست بدعًا في الشعر العالمي الحديث، فما يجري في الوطن العربي له نظائر في الغرب، لكنها شددت على أن التجديد في الغرب له ظروفه الموضوعية، والمتلقي الغربي يختلف عن المتلقي العربي.

5-

وضحت المقالة أن هؤلاء المجربين قد يكونون أعلى الشعراء صوتًا وضجيجًا وإثارة للشغب، لكنهم ليسوا أصحاب أقدر المواهب الشعرية الغربية بكل تأكيد.

ومن الملاحظ على كاتب هذه المقالة "الدكتور عبد القادر القط":

1-

أنه ناقد معروف بقدرته على الكتابة النقدية المنضبطة البعيدة عن الهوى.

2-

أنه ناقش قضية حساسة، وأبدى وجهة نظره بوضوح، وبلا مواربة.

3-

أنه أفاد من قدرته على تذوق الشعر العربي، ومعرفته به، وفهمه لحركات التجديد فيه على امتداد تاريخه.

4-

أفاد من متابعته للأدب العالمي، في طرحه للقضية، ومقارنته بين التجريب في الشعر الغربي والشعر العربي.

5-

شخصيته واضحة في مقاله، بقدرته على التناول الحر، وإبداء الرأي.

ص: 197