المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شندويل يبحث عن عروس - التحرير الأدبي

[حسين على محمد]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌مقدمة الطبقة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌القسم الأول: الكتابة الصحيحة

- ‌الفصل الأول: الكتابة قديما وحديثا

- ‌مدخل

- ‌أنواع التأليف

- ‌اللغة الموضوع، واللغة الأداة

- ‌اللغة والفكر

- ‌ترتيب عناصر كل فكرة:

- ‌نموذج للتحليل:

- ‌التحليل:

- ‌الرجولة الحقة

- ‌عناصر الموضوع:

- ‌الفصل الثاني: اللفظة

- ‌مدخل

- ‌حرف الميم

- ‌الفصل الثالث: الفقرة

- ‌الفصل الرابع: كيف تقرأ النص الأدبي

- ‌مدخل

- ‌نص القصيدة

- ‌التعريف بالشاعر:

- ‌من الصور الجمالية التي ضمنها الشابي قصيدته: التشبيه:

- ‌الموسيقا في النص

- ‌رأيٌ في النص:

- ‌المراجع:

- ‌التعليق على القراءة:

- ‌الفصل الخامس: كيف تكتب موضوعا

- ‌كيف تنشئ موضوعا جيدا

- ‌ من قواعد الكتابة:

- ‌ألف الوصل وهمزة القطع

- ‌ علامات الترقيم

- ‌ تقويم عام للأخطاء التي يقع فيها الطلاب أثناء الكتابة

- ‌أخطاء الطلاب في التحرير:

- ‌ من الأخطاء اللغوية الشائعة في وسائل الإعلام:

- ‌الفصل السادس: كيف تكتب تلخيصا

- ‌مدخل

- ‌النموذج الأول: المصادر الغربية لنقاد الحداثة

- ‌النموذج الثاني: نجيب الكيلاني في ذمة الله

- ‌الفصل السابع: كيف تكتب بحثًا

- ‌ أهمية البحوث:

- ‌ اختيار موضوع البحث:

- ‌طريقة جمع المادة العلمية

- ‌مدخل

- ‌ المصادر الأولى للبحث:

- ‌ الكتب التي عالجت الموضوع معالجة كلية:

- ‌ الكتب التي عالجت الموضوع معالجة جزئية:

- ‌ كتب التاريخ

- ‌ كتب المعارف

- ‌ تسجيل المعلومات في بطاقات

- ‌كتابة البحث

- ‌مدخل

- ‌ المقدمة:

- ‌ هيكل البحث:

- ‌ الخاتمة:

- ‌ الفهارس:

- ‌ كشاف المصادر والمراجع:

- ‌القسم الثاني: من أنواع الكتابة الموضوعية والفنية

- ‌الفصل الأول: التقرير

- ‌مدخل

- ‌تقرير عن كتاب: قصص للأشبال رجال أحبهم الرسول صلى الله عليه ةسلم

- ‌الفصل الثاني: التقويم

- ‌مدخل

- ‌نموذج للتقويم

- ‌الفصل الثالث: الرسالة

- ‌تعريف الرسالة

- ‌تاريخ الرسالة:

- ‌أنواع الرسالة:

- ‌الوصايا:

- ‌ الرسائل الشخصية:

- ‌ الرسالة الرسمية "الإدارية

- ‌نماذج تطبيقية:

- ‌من نماذج الرسائل:

- ‌من نماذج الوصايا:

- ‌من نماذج الرسائل الأدبية:

- ‌من نماذج الرسالة الإدارية

- ‌الفصل الرابع: المقالة

- ‌مفهوم المقالة وتطورها

- ‌في اللغة

- ‌مفهوم المقالة عند النقاد:

- ‌البناء الفني للمقالة

- ‌ أنواع‌‌ المقالة الأدبية

- ‌ المقالة الأدبية

- ‌ المقالة الدينية

- ‌ المقالة الاجتماعية

- ‌ مقالة الوصف

- ‌ المقالة السياسية

- ‌ المقالة النقدية:

- ‌ المقالة الفلسفية

- ‌ المقالة الانطباعية

- ‌ المقالة العلمية:

- ‌ مقالة الصورة الشخصية

- ‌المقالة الصحفية وأنواعها

- ‌مدخل

- ‌ المقالة الافتتاحية:

- ‌ العمود الصحفي:

- ‌ مقالة الرأي:

- ‌ مقالة عرض الكتب:

- ‌ مقالة المتابعة "أو التغطية الصحفية

- ‌خصائص المقالة الأدبية

- ‌مدخل

- ‌ فرعونيون وعرب

- ‌ فلسفة القصة

- ‌ أمي

- ‌ أدب المهجر الشرقي

- ‌ نقاد الحداثة وموت القارئ

- ‌الفصل الخامس: القصة

- ‌مدخل

- ‌الفرق بين الخبر والقصة

- ‌أنواع القصة "من حيث القالب

- ‌تعريف القصة:

- ‌ الحكاية:

- ‌ الأقصوصة:

- ‌ القصة:

- ‌ الرواية:

- ‌أشكال السرد القصصي

- ‌ المقال القصصي:

- ‌المذكرات اليومية:

- ‌ المقامة:

- ‌ الرسالة:

- ‌ القصة الشعرية:

- ‌عناصر الفن القصصي

- ‌مادة العمل القصصي

- ‌ الموقف النقدي من هذه المادة:

- ‌ عناصر الفن القصصي

- ‌الاتجاهات العامة للقصة

- ‌القصة الرومانسية

- ‌ القصة الواقعية:

- ‌ القصة التاريخية:

- ‌ القصة الاجتماعية:

- ‌ القصة التحليلية النفسية:

- ‌ القصة البوليسية:

- ‌ القصة العلمية:

- ‌دراسة تطبيقية لعناصر العمل القصصي في قصة "أبو الفوارس"عنترة بن شداد

- ‌ملخص القصة

- ‌عناصر القصة:

- ‌نمودجان للقصة القصيرة

- ‌شندويل يبحث عن عروس

- ‌ حدث استثنائي في أيام الأنفوشي

- ‌الفصل السادس: المسرحية

- ‌تعريف المسرحية

- ‌مدخل

- ‌ مرحلة النشأة

- ‌ مرحلة النضج

- ‌ مرحلة الازدهار

- ‌العناصر المميزة للمسرحية

- ‌مدخل

- ‌ البناء

- ‌ الحوار:

- ‌ الصراع:

- ‌أنواع المسرحية

- ‌مدخل

- ‌ المأساة:

- ‌ الملهاة:

- ‌نماذج

- ‌تطبيق عناصر المسرحية على النص

- ‌مدخل

- ‌ الحادثة:

- ‌ الشخوص

- ‌ الفكرة:

- ‌ الزمان والمكان:

- ‌ البناء:

- ‌ الحوار:

- ‌ الصراع:

- ‌نموذجان لمسرحية الفصل الواحد

- ‌مدخل

- ‌ جابر عثرات الكرام

- ‌ بائع الوهم

- ‌العناصر المشتركة بين المسرحية والقصة

- ‌مدخل

- ‌ الحادثة:

- ‌ الشخوص:

- ‌ الفكرة:

- ‌ الزمان والمكان:

- ‌الفصل السابع: المحاضرة

- ‌مدخل

- ‌ المحاضرات الجامعية:

- ‌المحاضرات المتخصصة

- ‌محاضرات في المؤتمرات والمهرجانات المتخصصة

- ‌ محاضرات التثقيف العام:

- ‌مرحلتا المحاضرة

- ‌مرحلة الإعداد

- ‌ تقديم المحاضرة:

- ‌نموذج لمحاضرة: نحو طريقة مثلى لتحليل النص الأدبي

- ‌ الهدف من دراسة النص الأدبي:

- ‌ ما قبل تحليل النص الأدبي:

- ‌ تحليل النص:

- ‌ ما بعد تحليل النص:

- ‌المصادر والمراجع

- ‌المصادر والمراجع من الكتب

- ‌الصحف والدوريات

- ‌للمؤلف

- ‌الفهرس

الفصل: ‌شندويل يبحث عن عروس

‌نمودجان للقصة القصيرة

"‌

‌شندويل يبحث عن عروس

"

نموذجان للقصة القصيرة:

1-

"شندويل يبحث عن عروس" لمحمود تيمور1

كان "شندويل" جالسًا القرفصاء، معتمدًا رأسه براحتيه، وقد ملكه تفكير مضطرب حائر، وران على الدار هدوء ثقيل، يشيع فيه هم وقلق ورتوب. وجب أن يحسم شندويل الأمر على أي نحو يكون. لم يعد طفلًا ولا صبيًّا، إنه شاب مكتمل الشباب، بل إنه بلغ مبلغ الرجولة، وانصرم الوقت وشندويل لم يغير جلسته، يضرب في متاهة لا يعرف له منها مخرجًا. وبغتة ألفى نفسه ينهض، وعلى وجهه يرتسم عزم وتصميم. وأخذ سمته إلى "أم فكرية".

"شندويل" هذا فلاح من قرية "المنشية"، وهي من أعمال "شبين الكوم".. رجل في حاله، لا يعرف العيب ولا يجري لسانه به، مخلص أمين، طيب القلب، لين العريكة، ولكنه معروف بصراحته، لا يداري أحدًا.

نشأ يتيم الأبوين، لم تكتحل عيناه بمرآهما، فكفله رجل خير، مزارع له أرض تفيء عليه رزقًا محدودًا، فضمه إلى أسرته: زوجه وبناته الثلاث،

1 محمود تيمور: شندويل يبحث عن عروس، مجلة "العربي"، العدد "127"، يونيو 1969. وانظر شرحًا ومناقشة تفصيلية لهذه القصة في كتابنا "كتب وقضايا في الأدب الإسلامي"، ط1، دار الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية 1999م، ص99، 112.

ص: 310

وكان "شندويل" يكبرهن بأعوام قلائل، فاختلط بالأسرة كأنه واحد منها، يعمل معهم في خدمة الدار والحقل والماشية.

وبعد سنوات دهم ربَّ الأسرة مرضٌ مفاجئ أودى به في أيام، فكانت فاجعة تجلدت لها الزوجة قدر ما تستطيع، ووقفت حياتها على توفير أسباب العيش لبناتها الثلاث، مع رعاية مرافق الدار والحقل والماشية، يعينها الفتى "شندويل" أحسن العول بما أوتي من قوة بنية، وما طبع عليه من صبر ودأب، وما تميز به من جد ونشاط.

وتواصلت الأيام

وكبر الفتى، واشتد عوده، وانتهى إليه عبء الحقل أجمع، فنهض به راضيًا بعمله، مرضيًّا عنه.

مع الصبح يخرج إلى الحقل محبور النفس، يسوق الماشية أمامه، وهو يردد أغانيه، ويتابع العمل في نشوة، يحرث ويعزق ويروي، ويعنى بكل شيء حواليه من زرع وضرع، لا تهدأ له حركة، ولا يشغله عن عمله شاغل، وتراه يستقبل بزوغ النبتة بفرحة غامرة، فيظل يتحسسها ويتشممها كأنها من لحمه ودمه.

وعند الظهيرة تلوح "أم فكرية" وبناتها الثلاث، يحملن صحاف الطعام، فيلقاهن "شندويل" بترحاب، وبعد أن يمسح عرقه بطرف قميصه، يهيئ لهن مكانًا ظليلًا من كثب من القناة.. وما هي إلا أن يحلّق الجميع حول سماط الطعام، مقبلين على الأكل في شهية. وتسأل "أم فكرية":

ص: 311

- ما خطب المحصول؟

فيؤكد لها "شندويل" جودته، ويبشرها بنمائه، ويقسم لها أنها ظافرة منه يوم الحصاد بما يحقق لها وبناتها الثلاث كل ما تطمح نفوسهن إليه.

وربما طاب للأسرة أن تداعب "شندويل" في أثناء الطعام بالنكات اللاذعة ليثور ثائره ويهيج غضبه، بيد أنه لا يزيد على أن يشرق وجهه بابتسامة سمحة.

فإذا أرخى المساء سدوله أوى شندويل إلى ركن في الزريبة، أعده مكانًا مختارًا له، حتى يكون بمنأى عن حريم الدار، وما أسرع أن يغشاه سبات عميق تتراءى فيه نواعم الأحلام.

على هذا المنوال سارت الأحوال راضية ندية، وترادفت الأيام على الأسرة في طمأنينة وسلام، حتى دب في قلب "شندويل" شعور طارئ لم يكن له عهد به من قبل.

لقد نشأ الفتى، وهو يجد نفسه في مكان الأخ الأكبر للبنات الثلاث، وفي مرتبة الابن لربة الدار، فقنع بهذه العاطفة الحلوة الهادئة المحايدة، يتلقاها ممن حواليه، ويبادلهن إياها في لطف وإيناس، ولكن الطبيعة لا تقر الهدوء والاتزان، ولا تعرف الحياد.. إن لها نزوزاتها، بل قل إن لها قوانينها، وهكذا وجد "شندويل" نفسه على الرغم منه ينظر إلى البنات في ازدهار أنوثتهن نظرة من طراز آخر، نظرة ميل وانعطاف، وراءها مشاعر تتوهج.. أما الرباط الأخوي المحض، فلم يعد له وحده مكان!

ص: 312

وكانت البنات على نمط متشابه من الوسامة، انتقل إليهن من الأم، فكأنهن وإياها نسخ مكررة، إلا فوراق تفرضها السن، وما تتميز به بعضهن من الشمائل والخلال. وقد شاع في المنطقة نبأ أولئك الصبايا الملاح، وطار صيتهن في المناطق المجاورة، وتهادت الألسن حديثهن المستطاب.. فأما الكبرى فكانت أثيرة عند "شندويل" فأزمع أن يخطبها، وأفصح "لأم فكرية" عن عزمه فطأطأت رأسها في صمت، وقد تناولت عودًا يابسًا تنكب به الأرض حيالها، فلما طال صمتها، أعاد "شندويل" الإفصاح عما طلب، وقد حسب أنها لم تسمع حديثه، ولم تدرِ فحواه، فرفعت رأسها، وكست محياها طابع جد، فقلق "شندويل" أشد القلق

وبعد هنيهة، قالت "أم فكرية":

- أأجد لابنتي أعز منك؟ أنت ابن البيت.. كلك خير وبركة، ولكن سبقك غيرك يا "شندويل؟ "..

- من تعنين يا خالة؟

- المشرف يا "شندويل".. المشرف الزراعي طلبها منذ أيام.. وعرض مهرًا قدره مئة جنيه.

فغمغم "شندويل" وقد زاغت عيناه:

- مئة جنيه؟

- وعنده جنينة برتقال يربح منها الذهب!

ص: 313

وانجرّ "شندويل" إلى الزريبة، مثقل الخطا، يكاد يتعثر، وتوخى ركنه المختار، متهالكًا على الفراش يدفن فيه وجهه، ويسلم نفسه للأنين والانتحاب.

وتم الزواج.. وانتقلت إلى دار المشرف الزراعي كبرى البنات في مهرجان من الأغاريد والأضواء ينفح منه أريج البرتقال!

ولم يجد "شندويل" مفرًّا من قبول الأمر الواقع، فشارك القوم فرحتهم، وألفى نفسه ينهض بواجبه نحو حفل الزفاف على أكمل وجه في صدق وإخلاص.

وعادت الحياة إلى سابق مساقها.

وعاد "شندويل" إلى عمله في الحقل يجد ويكد.. ولم يتغير من نظام الأسرة شيء إلا أن عددها قد نقص فردًا.

وأحس "شندويل بقلبه على مر الوقت يخفق حبًّا للابنة الوسطى، وقد اكتملت نضجًا ونضارة، فتملكته فكرة الزواج بها، واختفت خيبته التي واجهته في التجربة الأولى، واختفى معها كل تدبر وموازنة ومنطق، فتقدّم في براءة وبساطة إلى "أم فكرية" يخطب وسطى البنات.. فطأطأت رأسها في صمت، وتناولت عودًا يابسًا تنكت به الأرض حيالها ولم تلبث أن همهمت:

- أأجد لابنتي أعز منك يا "شندويل"؟ أنت ابن البيت.. كلك خير

ص: 314

وبركة، ولكن..

- ماذا يا خالة؟

- وكيل الجمعية طلبها، وعرض شبكة ثمينة.. سوارًا مرصعًا بالجوهر!

ومضغ "شندويل" كلماته يردد:

- سوارًا مرصعًا بالجوهر؟!

وانجرّ إلى مكانه من الزريبة، ودفن في الحشية وجهه وانخرط في بكاء مرير.

ومرة ثانية، استسلم للأمر الواقع، وكان الساعد الأيمن في حفل الزفاف الجديد، وخطف بصره بريق السوار المرصع بالجوهر، وزكمت أنفه روائح ما حمل الزوج لعروسه من خيرات التموين، وفي المقصف العامر أوغل "شندويل" في الأكل، حتى أتخم.

وطوى الزمن أيامًا وأيامًا..

وعادت الحياة إلى مجراها في الدار والحقل، وإن نقص من عدد الأسرة اثنتان، ولم يبق من البنات إلا واحدة.. أتفلت هي الأخرى من بين يديه؟

لن يكون ذلك بحال.. وأحس بحبه القديم للأختين السالفتين يتجمع ويتجدد في الثالثة على نحو مثير، فأقسم أن تكون من نصيبه.. لينتزعها انتزاعًا من

ص: 315

"أم فكرية".

وتقدم لها ثابت الجنان، وخطب الفتاة الصغرى في جرأة.. وكانت "أم فكرية" على وشك أن تطأطئ الرأس، وأن تفزع إلى عود يابس تنكت به الأرض، فصاح بها مبادرًا على غير ما ألفت منه:

- لا أنا خير ولا أنا بركة.. ولا أنا أيضًا ابن البيت.. أنا "شندويل".. "شندويل" وكفى!.. جئت أخطب ابنتك الثالثة، وسأعمل جهدي على إسعادها.

- ولكن.. يا "شندويل"

- ماذا يا ست "أم فكرية"؟

لقد خطب البنت رجل ولا كل الرجال يسكن دارا جديدة على "بحر شبين" فيها ثلاجة وغسالة وجهاز إذاعة.. عقبى لك يا "شندويل"!

فغص "شندويل" بريقه، وهو يجمجم:

- ومن ذلك الخاطب يا "أم فكرية"؟

- سكرتير وحدة رعاية الأسرة وتنظيم النسل.

فما كادت الجملة تصك سمعه حتى خارت قواه، فاستند إلى الحائط وهو يلتقط أنفاسه.. إنه يذكر عندما زار المدينة آخر مرة، مدينة "شبين الكوم"، إنه مر بسرادق فخم يضم جمعًا غفيرًا من الناس، وسمع خطيبًا جهير الصوت يرفع عقيرته، يهز بها السرادق هزًّا، وهو يردد أقوالًا عظيمة يستجيب لها الجمهور بالتصفيق والهتاف، وحين سأل عن الخطيب أخبروه بأنه "سكرتير

ص: 316

وحدة رعاية الأسرة وتنظيم النسل".

وتراجع "شندويل" إلى مكانه المعهود في الزريبة، وألقى نفسه على الحشية يمرغ وجهه عليها، ويشبعها بأسنانه نهشًا وتمزيقًا.

وتكفلت الأيام بتضميد جراح "شندويل"، فكان مع الأسرة في حفل زواج الابنة الصغرى قلبًا وقالبًا، وملأ بطنه بأطايب المطاعم، وشنف سمعه بألحان الموسيقى وأصوات الغناء.

وتقضت أيام.. بل أسابيع.. وخيم على جو الدار هدوء كثيف، وانتشر صمت قابض، وقل الحديث بين أم فكرية و"شندويل" حتى أصبح لا يعدو الضروري من الألفاظ، كل منهما يحيا في ملالة وسهوم.

وأعد "شندويل" مرقدًا لنفسه في الحقل بين شجيرات ظليلة، ويتناول طعامه وحيدًا، ويمضي الليل ساهمًا يرعى النجوم.

لقد تزوجت البنات، وكان زواجهن ناجحًا أيما نجاح:

"المشرف الزراعي" بمهر مائة جنيه وجنينة برتقال.

ووكيل الجمعية التعاونية بسوار مرصع بالجوهر.

وسكرتير وحدة رعاية الأسرة وتنظيم النسل بثلاجاته وغسالاته وأجهزته الإذاعية.

شخصيات مرموقة، تتضاءل بجانبها شخصية "شندويل"، حتى لتبدو تافهة مهينة. حقًّا إنه فلاح مجد نشيط، يستطيع بساعده أن يأتي

ص: 317

بالمعجزات في حقل الزراعة الخصيب، ولكن ما قيمة تلك المعجزات أمام تلك الأسماء الضخمة والمراكز الفخمة التي يعشي ضوؤها العيون؟ .. ومن الملوم؟ "شندويل" أو الأسرة التي كفلته؟ لم يفكر هو لحظة أن يعمل لنفسه. لم يفكر هو لحظة أن يقتني شيئًا.. عِجلة.. أو عنزة.. أو على الأقل دجاجة واحدة.. لم يهمه جمع المال وادخاره قدر ما أهمه أداء واجبه.. كان يسعى أبدًا إلى إرضاء من أحسنوا إليه، لا يتطلع إلى مزيد.. لقد اعتصر دمه في خدمة من آووه وكفلوه.. وأخيرًا يستبين له فقره، وهوان شأنه.. فماذا أفاد من طيبته؟ وماذا أجدى عليه إيثاره.

أيقن " شندويل" الآن أن وجهة نظره في تقييم نفسه بين الأسرة كانت على خطأ من البدء، أو كانت مبالغة فيها.. ماذا كان مصير الأسرة لولاه هو؟ لولا ما أسداه إليها من خير، وما بذل من عون؟ كان هو قوام البيت، وراعي الحقل، وحامي حمى الأسرة.. أليس هو جديرا بأن يأخذ مكانه عاليًا بينها؟

حان له أن يغضب وحق له أن ينصف نفسه، وأن له كرامة عليه أن يحافظ عليها ما وسعه أن يحافظ.

ووجد نفسه ينهض من فوره، وقد ارتسم على وجهه جد وإصرار، واتخذ سبيله إلى "أم فكرية".

كان الصباح صفيًّا رخيًا فتقدم "شندويل" من "أم فكرية"، وهي في جلسة مريحة أمام طست الغسيل، فما رأته قادمًا حتى لملمت أوصالها، وأسدلت ثوبها تغطي ما تعرى من جسدها، ونظرت إلى الشاب تخاطبه.

ص: 318

- خير يا "شندويل"..

- أو قولي شرًّا يا ست "أم فكرية".

- قال ذلك في جهامة ظاهرة، وقد تصلبت قامته، فغدت كجذع شجرة عتيقة فنحّت "أم فكرية" الطست قليلا، ومسحت يديها بطرف ردائها وقالت:

- ماذا في الأمر يا "شندويل"؟

فأجابها في صوت مجلجل:

- لقد اعتزمت الرحيل.

فوضعت المرأة يدها على صدرها، وقالت في دهشة:

- أي رحيل تقصد يا "شندويل"؟

- سأرحل يا ستي.. أرض الله واسعة.. بلاد الله لخلق الله..

- كيف تفكر في أن تتركنا؟

- على الرغم مني أفعل.

فصمتت لحظات وهي تتفحصه، فراعها تجهمه وصلابة ملامحه، وما في صوته الرجولي الأجش من عزم وتصميم.. ثم قالت:

- ألم تعد الحياة تروق لك بيننا؟

- لم يعد لي أمل في العيش في هذه الدار.. رحلت عنها الصبايا ولم أظفر بواحدة منهن.

ص: 319

- قسمة ونصيب يا "شندويل".

- وقسمتي ونصيبي أن أرحل يا ست "أم فكرية".

- أتترك الدار التي فيها نشأت وربيت؟ أتترك خالتك "أم فكرية" وحيدة بلا ساعد ولا معين؟

- على الرغم مني أفعل.. سأبرح القرية الساعة.. ألتمس عيشي في بلد آخر.. بعيد كل البعد!

- هل ساءك زواج البنات إلى هذا الحد؟

- ثلاث صبايا كالأقمار، ترفضين أن تزوجيني واحدة منهن.. والآن خلت الدار إلا مني ومنك.. لم يعد في البيت سوانا يا خالة.. أسامعة أنت قولي؟

- سامعة..

- ألسنة الناس طوال.. والكلام يتنقل على الأفواه..

- ما هذه الأفكار الغريبة يا "شندويل"؟

- هي الحقيقة التي يجب أن تقال.. لقد صرت رجلًا يا خالة.. رجلًا نبت له شارب محترم.. رجلًا في طول النخلة وعرض الجميزة وقوة فحل الجاموس.. ألم تريني وأنا في "الزعبوط" الجديد؟ ألم تلاحظي كيف أحسن لف الشال الأبيض على رأسي فيغدو عمامة مهيبة تزري بالرءوس العارية من أصحاب المراكز الكبيرة؟

فأرسلت المرأة ضحكة لينة ناعمة، وهي تقول:

ص: 320

- يخبلك ربنا يا "شندويل".

لم يعد في الدار مكان.. شندويل الصبي ذهب لحاله، وأخذ مكانه "شندويل" الرجل..

أنسيت يا شندويل أني في مقام أمك، وأنك في منزلة ابني؟

يفتح الله يا خالة.. هذ كلام لا يعتد به أحد.. وأنا أول من لا يصدقه.. لسنا ابنًا وأمًّا.. بل نحن رجل وامرأة.

ورماها بنظرة ثاقبة، ما كادت تلتقي بنظرتها حتى اضطرت أن تسبل جفنيها، وتحجب بخمارها شطر وجهها..

وعلاها سهوم..

اسمعي يا خالة، وتفهمي قولي.. إنني بصريح العبارة لا أستطيع أن أعايشك.. شريعة الله لا ترضى بذلك.. أنا مسلم موحد لله.. لا أقيم في الدار إلا زوجًا لك..

فضربت صدرها بيدها تقول:

- يا عيب الشوم..

- لا عيب ولا شوم.. إنه الحق الصريح.. لقد أحببت بناتك الثلاثة واحدة بعد الأخرى.. لأنهن يشبهنك.. أحببتهن لأنهن صورة منك يا خالة.. ورق صوته، وهو يواصل الكلام، فكان في منطقه كأنه يغني:

ص: 321

نشأت وأنا أراك مثل البدر.. بناتك من نورك أخذن نورهن.. وكنت دائمًا بدرًا منورًا في سماء حياتي طفلًا وصبيًّا ورجلًا.. في كل مرحلة كنت أحس نحوك شعورًا يلائم سني.. ولكن في كل مراحل حياتي كان هناك إحساس واحد هو الحب.. الحب الغامر الفياض!

وندت من "أم فكرية" شهقة وهي تردد في صوت لين المكاسر:

- الحب.. الحب..

ثم قالت هامسة:

- لقد تقدمت سني يا "شندويل".. أنا كبيرة بالنسبة لك..

- ولكنكِ في نظري في عمر بناتك..

وصاح بصوت كله إيمان وإخلاص:

- والله في عمر بناتك.. بل أحلى وأجمل.. أنت في نظري طبق قشطة.. اعتبريني يا خالة خادمًا لك.. ومريني تجديني رهن ما تشائين..

- ما عشت أنا لتكون خادمي يا "شندويل".

وغضت من بصرها وهي تواصل القول:

- "أنت راجل البيت.. سيد الدار.. وأنا خادمتك يا "شندويل"..

واختلج كيانه بهزة عنيفة، وألفى نفسه يهرع إليها، وينكب على يديها يلثمها، والدموع تسح من عينيه سحًّا!

ص: 322