المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ مقالة الصورة الشخصية - التحرير الأدبي

[حسين على محمد]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌مقدمة الطبقة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌القسم الأول: الكتابة الصحيحة

- ‌الفصل الأول: الكتابة قديما وحديثا

- ‌مدخل

- ‌أنواع التأليف

- ‌اللغة الموضوع، واللغة الأداة

- ‌اللغة والفكر

- ‌ترتيب عناصر كل فكرة:

- ‌نموذج للتحليل:

- ‌التحليل:

- ‌الرجولة الحقة

- ‌عناصر الموضوع:

- ‌الفصل الثاني: اللفظة

- ‌مدخل

- ‌حرف الميم

- ‌الفصل الثالث: الفقرة

- ‌الفصل الرابع: كيف تقرأ النص الأدبي

- ‌مدخل

- ‌نص القصيدة

- ‌التعريف بالشاعر:

- ‌من الصور الجمالية التي ضمنها الشابي قصيدته: التشبيه:

- ‌الموسيقا في النص

- ‌رأيٌ في النص:

- ‌المراجع:

- ‌التعليق على القراءة:

- ‌الفصل الخامس: كيف تكتب موضوعا

- ‌كيف تنشئ موضوعا جيدا

- ‌ من قواعد الكتابة:

- ‌ألف الوصل وهمزة القطع

- ‌ علامات الترقيم

- ‌ تقويم عام للأخطاء التي يقع فيها الطلاب أثناء الكتابة

- ‌أخطاء الطلاب في التحرير:

- ‌ من الأخطاء اللغوية الشائعة في وسائل الإعلام:

- ‌الفصل السادس: كيف تكتب تلخيصا

- ‌مدخل

- ‌النموذج الأول: المصادر الغربية لنقاد الحداثة

- ‌النموذج الثاني: نجيب الكيلاني في ذمة الله

- ‌الفصل السابع: كيف تكتب بحثًا

- ‌ أهمية البحوث:

- ‌ اختيار موضوع البحث:

- ‌طريقة جمع المادة العلمية

- ‌مدخل

- ‌ المصادر الأولى للبحث:

- ‌ الكتب التي عالجت الموضوع معالجة كلية:

- ‌ الكتب التي عالجت الموضوع معالجة جزئية:

- ‌ كتب التاريخ

- ‌ كتب المعارف

- ‌ تسجيل المعلومات في بطاقات

- ‌كتابة البحث

- ‌مدخل

- ‌ المقدمة:

- ‌ هيكل البحث:

- ‌ الخاتمة:

- ‌ الفهارس:

- ‌ كشاف المصادر والمراجع:

- ‌القسم الثاني: من أنواع الكتابة الموضوعية والفنية

- ‌الفصل الأول: التقرير

- ‌مدخل

- ‌تقرير عن كتاب: قصص للأشبال رجال أحبهم الرسول صلى الله عليه ةسلم

- ‌الفصل الثاني: التقويم

- ‌مدخل

- ‌نموذج للتقويم

- ‌الفصل الثالث: الرسالة

- ‌تعريف الرسالة

- ‌تاريخ الرسالة:

- ‌أنواع الرسالة:

- ‌الوصايا:

- ‌ الرسائل الشخصية:

- ‌ الرسالة الرسمية "الإدارية

- ‌نماذج تطبيقية:

- ‌من نماذج الرسائل:

- ‌من نماذج الوصايا:

- ‌من نماذج الرسائل الأدبية:

- ‌من نماذج الرسالة الإدارية

- ‌الفصل الرابع: المقالة

- ‌مفهوم المقالة وتطورها

- ‌في اللغة

- ‌مفهوم المقالة عند النقاد:

- ‌البناء الفني للمقالة

- ‌ أنواع‌‌ المقالة الأدبية

- ‌ المقالة الأدبية

- ‌ المقالة الدينية

- ‌ المقالة الاجتماعية

- ‌ مقالة الوصف

- ‌ المقالة السياسية

- ‌ المقالة النقدية:

- ‌ المقالة الفلسفية

- ‌ المقالة الانطباعية

- ‌ المقالة العلمية:

- ‌ مقالة الصورة الشخصية

- ‌المقالة الصحفية وأنواعها

- ‌مدخل

- ‌ المقالة الافتتاحية:

- ‌ العمود الصحفي:

- ‌ مقالة الرأي:

- ‌ مقالة عرض الكتب:

- ‌ مقالة المتابعة "أو التغطية الصحفية

- ‌خصائص المقالة الأدبية

- ‌مدخل

- ‌ فرعونيون وعرب

- ‌ فلسفة القصة

- ‌ أمي

- ‌ أدب المهجر الشرقي

- ‌ نقاد الحداثة وموت القارئ

- ‌الفصل الخامس: القصة

- ‌مدخل

- ‌الفرق بين الخبر والقصة

- ‌أنواع القصة "من حيث القالب

- ‌تعريف القصة:

- ‌ الحكاية:

- ‌ الأقصوصة:

- ‌ القصة:

- ‌ الرواية:

- ‌أشكال السرد القصصي

- ‌ المقال القصصي:

- ‌المذكرات اليومية:

- ‌ المقامة:

- ‌ الرسالة:

- ‌ القصة الشعرية:

- ‌عناصر الفن القصصي

- ‌مادة العمل القصصي

- ‌ الموقف النقدي من هذه المادة:

- ‌ عناصر الفن القصصي

- ‌الاتجاهات العامة للقصة

- ‌القصة الرومانسية

- ‌ القصة الواقعية:

- ‌ القصة التاريخية:

- ‌ القصة الاجتماعية:

- ‌ القصة التحليلية النفسية:

- ‌ القصة البوليسية:

- ‌ القصة العلمية:

- ‌دراسة تطبيقية لعناصر العمل القصصي في قصة "أبو الفوارس"عنترة بن شداد

- ‌ملخص القصة

- ‌عناصر القصة:

- ‌نمودجان للقصة القصيرة

- ‌شندويل يبحث عن عروس

- ‌ حدث استثنائي في أيام الأنفوشي

- ‌الفصل السادس: المسرحية

- ‌تعريف المسرحية

- ‌مدخل

- ‌ مرحلة النشأة

- ‌ مرحلة النضج

- ‌ مرحلة الازدهار

- ‌العناصر المميزة للمسرحية

- ‌مدخل

- ‌ البناء

- ‌ الحوار:

- ‌ الصراع:

- ‌أنواع المسرحية

- ‌مدخل

- ‌ المأساة:

- ‌ الملهاة:

- ‌نماذج

- ‌تطبيق عناصر المسرحية على النص

- ‌مدخل

- ‌ الحادثة:

- ‌ الشخوص

- ‌ الفكرة:

- ‌ الزمان والمكان:

- ‌ البناء:

- ‌ الحوار:

- ‌ الصراع:

- ‌نموذجان لمسرحية الفصل الواحد

- ‌مدخل

- ‌ جابر عثرات الكرام

- ‌ بائع الوهم

- ‌العناصر المشتركة بين المسرحية والقصة

- ‌مدخل

- ‌ الحادثة:

- ‌ الشخوص:

- ‌ الفكرة:

- ‌ الزمان والمكان:

- ‌الفصل السابع: المحاضرة

- ‌مدخل

- ‌ المحاضرات الجامعية:

- ‌المحاضرات المتخصصة

- ‌محاضرات في المؤتمرات والمهرجانات المتخصصة

- ‌ محاضرات التثقيف العام:

- ‌مرحلتا المحاضرة

- ‌مرحلة الإعداد

- ‌ تقديم المحاضرة:

- ‌نموذج لمحاضرة: نحو طريقة مثلى لتحليل النص الأدبي

- ‌ الهدف من دراسة النص الأدبي:

- ‌ ما قبل تحليل النص الأدبي:

- ‌ تحليل النص:

- ‌ ما بعد تحليل النص:

- ‌المصادر والمراجع

- ‌المصادر والمراجع من الكتب

- ‌الصحف والدوريات

- ‌للمؤلف

- ‌الفهرس

الفصل: ‌ مقالة الصورة الشخصية

10-

‌ مقالة الصورة الشخصية

يترجم فيها الكاتب صورة إنسان حي أو ميت، ويبين مدى التأثر والتأثير عنده، وجوانب التفوق وجوانب الإخفاق، ورأي النقاد فيه، وصورته في عصره، والكاتب لهذه المقالة يعتمد على حسن التنسيق، وجلال التعبير، حتي تبدو الشخصية الموصوفة كأنها تحدثنا، فنعجب بها إذا راقتنا، وننفر منها إذا ساءتنا1.

والفارق بين التاريخ ومقالة الصورة الشخصية "أن الأول سرد للوقائع والأحداث والمواقف والأعمال في حياة المترجم أو عالمه، وتقديمها في إطار علمي يقوم على الدقة والتفصيل والتحقيق وإحكام التنسيق وسلامة العرض. والثانية يأخذ الكاتب فيها من التاريخ المادة التي تسعفه مع ما يتمتع به من ثقافة وخبرة في أن "يصور لنا موقفًا إنسانيًّا خاصًّا من شخصية إنسانية، فيعكس لنا تأثره بها، وانطباعاته الخاصة عنها، ويحاول أن يخطط معالمها الإنسانية تخطيطًا فنيًّا واضحًا، معتمدًا على التنسيق والاختيار، بحيث تتراءى لنا الشخصية الموصوفة وكأنها حية متحركة تحدثنا ونصغي لها، وتروقنا بعض صفاتها فنعجب لها، وتسوؤنا فننفر منها2.

ومن كتّاب هذا اللون من المقالة: إبراهيم عبد القادر المازني، وعباس محمود العقاد، وعبد العزيز البشري، ومحمود تيمور، ومحمد رجب البيومي، وخيري شلبي،

1 د. السيد مرسي أبو ذكري: المقال وتطوره في الأدب المعاصر، ط1، دار المعارف "فرع الإسكندرية"، الإسكندرية 1982م، ص57.

2 د. أحمد محمد علي حنطور: فن المقال في الأدب المصري الحديث، ط1، التركي للكمبيوتر وطباعة الأوفست، طنطا 1996م، ص88.

ص: 208

ومحمد حسن عبد الله، وأحمد بهجت.. وغيرهم.

ومن نماذج هذه المقالة ما كتبه الدكتور محمد رجب البيومي في كتابه "من صحائف التاريخ" تحت عنوان "قوة الإرادة"، وما كتبه الدكتور محمد حسن عبد الله عن نجيب الكيلاني بعنوان "ما أروع أن تقول بغير كلام"، وفي هذه المقالة يرسم صورة شخصية للمتحدث عنه، وهذا نصها:

ما أروع أن تقول بغير كلام1

للدكتور محمد حسن عبد الله

في صمت جليل، يليق برزانته.. رحل نجيب الكيلاني.

أضع صورته أمامي. خمس سنوات لم يجمعنا لقاء. كل مناسبات حضوره في القلب كثيرة؛ مع كل ذكرى عزيزة كان يحضر، أسمع نبرت صوته الهادئ الحكيم حين تعصف من حولي شعارات هي طوفان من الجنون، تظن نفسها طوفان نوح! ما كل هذا السلام في العينين؟ ومن أين جاءت هذه الوداعة في القسمات المصرية الصلبة، لشخص حكم عليه بعشر سنوات في السجن لضلوعه في أعمال خارجة على الشرعية ضمن "الجهاز السري"؟

أقلب الصورة، توقيع "نجيب الكيلاني" واضح تمامًا، وضوح أخلاقه وفكره، التاريخ تحت التوقيع: 14/ 9/ 1962.

أذكر مناسبة الإهداء، كان قد بقي لي في مصر يومان فقط، أغادر ليل القاهرة، وصداقات الجامعة، وأحلام المستقبل، لأعمل مدرسًا في الكويت،

1 د. محمد حسن عبد الله: ما أروع أن تقول بغير كلام، أخبار الأدب، العدد "89"، 25/ 10/ 1415هـ ـ 26/ 3/ 1995م ص31. وانظر مقالته عن الدكتور نجيب الكيلاني في فصل التلخيص.

ص: 209

التي لم أكن أعرف عنها غير اسمها، وأنها بلد فيه بترول، وأن العاملين بها يحضرون معهم قماش بدل "شاركستين" ونظارات "بيرسول"، ولا بد أن يكون أستيك الساعة " فيكس فيلكس".كان قرار السفر حزينًا محبطًا، أقسى شيء يعانيه إنسان الشعور بالظلم في الوطن، وأن تكون أخلصت الحب للصديق، أكثر من استطاعته أن يخلص لك!!

أتأمل الإهداء خلف الصورة، في بساطته يذكرني بالعبارت المحفوظة التي كان يكتبها "أولاد" الإعدادي زمان: كاتب إليك بالقلم الرصاص، علامة المحبة والإخلاص!! يكتب نجيب "إلى الأخ العزيز الأستاذ محمد حسن عبد الله، أهدي صورتي تعبيرًا عما يكنه قلبي من حب ووفاء، وإلى اللقاء، رائحة الفراق تفوح بحدة من "إلى اللقاء" فقد كنت على سفر، لكنها الآن، بعد اثنين وثلاثين عاما تكتسب معنى آخر، فقد سافر نجيب هذه المرة، سبقني، وهأنذا أبادله الحب والوفاء، وأهتف: إلى اللقاء!!

تتداعى الذكريات فلا يطول البحث عن ملابسات اللقاء الأول. كان ذلك مساء الأربعاء 8 أكتوبر 1958، وقد ازدان نادي القصة وفتحت أبوابه على مصارعها في انتظار قدوم العميد الدكتور طه حسين. كان كمال الدين حسين، وزير المعارف، قد تأخر في حلف اليمين الدستورية أمام جمال عبد الناصر وزيرا "مركزيا لمصر وسوريا" وكان محمود تيمور، ومحمد فريد أبو حديد في الصالون تأهبًا لاستقبال القادمين، ويوسف السباعي مثل "أم العروس" فهو أمين عام النادي، أما عبد الحليم عبد الله أبي الروحي فقد كان فخورا بي حقًّا، إذ كنت الفائز الأول ذلك العام، أما نجيب الكيلاني فكانت له جائزة أيضًا.

ص: 210

كانت الصحف تحدثت عنه، وعن ملابسات سجنه، فأخرج تلك الليلة، ليتسلم جائزته ويعود إلى السجن. رأيته، ومن صوره المنشورة عرفته، تقدمت نحوه، عانقته، قلت بغير همس: سجنوك ظلمًا أولاد الكلب!! ابتسم بدهشة، نظر إلى الأرض، قال: خد بالك.. الجماعة بوليس!! كان يقف بين رجلين، لم أنتبه إلى حقيقتهما قبل كلمته، التي لم يقلها همسا، عزّ علىّ أن أعدل موقفي أو أعتذر. بثبات قلت: أنا عارف!!

بعد ساعتين أخذت ميدالية طه حسين الذهبية، وستين جنيه نقدا، وانصرفت، وعاد نجيب إلى السجن "الميدالية سرقت مع ميداليات ذهبية أخرى من مكتبه في عطلة العيد، ولا تزال مباحث المعادي توالي التحري".

استمرت الصحف تشير إلى الأديب الذي يعلم أبناءنا الحرية، وهو محروم منها، فقد كانت قصة "الطريق الطويل" قد فازت بمسابقة القراءة ذات الموضوع الواحد فقررت على الصف الثاني الثانوي، والقصة عن النضال ضد الاحتلال البريطاني، تمكن كمال الدين حسين من الحصول على عفو "صحي". وخرج نجيب من السجن، وعاد ليكمل دراسته في كلية طب القصر العيني، بعد أربعين شهرًا في طرة، والقلعة، وغيرهما.

وهكذا التقينا من جديد، هو في الطب، وأنا في دار العلوم، وتحت لواء العشق القصصي نلتقي: نقرأ ونراجع ما نكتب، ونتبادل الخبرة، وكنت أحترم فيه تاريخه القديم في تنظيم جماعة الإخوان المسلمين، ولم أناقش معه أبدًا أهمية أو عدم أهمية، أو خطورة هذه التنظيمات، أما إذا ساقتنا ذكريات السجن فإنه كان يتحدث عنها حديث الفنان الساخر، وليس الممرور الحاقد، يصف

ص: 211

طوابير الصباح، والإكراه على الترديد وراء أم كلثوم "أجمل أعيادنا المصرية بنجاتك يوم المنشية" وعصا الحراس "تداعب" من لا يرفع صوته بالغناء، حتى لوكان الهضيبي نفسه! وكم ضحكنا من القلب وهو يصف طابور الذهاب إلى الحمام "جماعة" وما يترتب على هذا من كشف العورات، ومشاعر الحرج وأثقال الشعور بالإثم، وأعيش معه عبر وصفه المرح السعيد، وقد لعب معه "كيوبيد" لعبة خطرة وهو في سجن القلعة!! كان قبل السجن قد عقد قرانه على إحدى قريباته، بعد إلحاح من والدته. لكن قلبه اختار اتجاهًا آخر، فكان لا بد من فصم علاقة، قبل إقامة علاقة جديدة، أما "الكوميديا" فكانت في مرحلة الانتقال. إنه يلح على "صاحبة العقدة" أن تغنم حريتها، فيطلقها لأنه سجين، وهي أحق بمستقبلها!! لكنها -على سبيل الوفاء وكما يجب على بنات "الأصول"- ترفض فكرة الطلاق، حتى لو قضى في السجن عمره كله!! وتحت هذا الوفاء الصعب تواظب على زيارته في السجن، وتحمل إليه الطعام والفاكهة، أما الأخرى التي اختارها القلب فقد كان بيتها قريبًا من السجن "يا لها من مصادفة روائية" فالزيارة عليها أيسر، والإشارت على البعد، قبل عصر الاستشعار، كان لغة معترفًا بها!!

في زمن وجيز سافر نجيب الكيلاني إلى المنصورة "ليصافح هناك جمال عبد الناصر، ويتلقى منه جائزة، فقد أقيمت مسابقة أدبية موضوعها حملة لويس التاسع وانتصار المنصورة. فاز يعقوب الشاروني بجائزة المسرحية عن "أبطال بلدنا" كما فاز أحمد باكثير بجائزة عن مسرحيته "دار ابن لقمان"، أما نجيب الكيلاني فانفرد بجائزة الرواية عن "اليوم الموعود". أقيم احتفال العيد

ص: 212

القومي في المنصورة -لأول مرة- يوم 7 مايو 1961. سافرت مع نجيب وباكثير لأقوم لهما بواجب الضيافة في مدينتي وتحضرني ذكريات. رأيت عبد الناصر في معكسر إقامة الحرس الوطني "كنت متدربًا فيه" في حديقة شجر الدر "مكان جامعة المنصورة الآن" كان هذا أعقاب حوادث مارس 1954.

عزل محمد نجيب. كرهنا عبد الناصر، وأوشكنا أن نتمرد على رفع السلاح تحية له، كان محمد نجيب أبًا طيبًا لشعب أطيب. وفي العيد القومي للمنصورة بعد سبع سنوات خطب عبد الناصر في جماهير تمتد بحجم المدينة ذاتها، دون مبالغة، وجد الناس امرأة مجهولة قيل إنها تولت غسل ثياب الرئيس في الليلة التي قضاها في المنصورة، وأثلج صدور أهل المدينة، وتناقلوا أن عبد الناصر قال للمحافظ: كيف تبني لنفسك هذا القصر بسبع حمامات؟ هل رأيت البيت الذي أسكن فيه؟

هكذا تلقى نجيب الكيلاني جائزته من يد عبد الناصر، الذي حبسه من قبل، وسيحبسه مرة أخرى، ولم أسمع يومًا عبارة ازدراء أو أمنية شريرة. كان يراه وطنيًّا عظيمًا، فقط: ليته كان معنا! وبمثل هذه اللغة كان يتحدث عن الإخوان "السابقين" الذين وجدوا لهم طريقًا آخر، فمثلا حدثني عن ياسر عرفات حين كان طالبا إخوانيًّا بهندسة القاهرة، وكيف ينسب -فيما بعد- إلى اتجاه نقيض.

بعد سنوات قلائل من لقائنا الأول، ربما عامان أو ثلاثة، ومعه مخطوط رواية جديدة، اختار لها عنوان:"الربيع العاصف"، طلب مني أن أقرأها، وأن أكتب دراسة نقدية تطبع معها!! عجبت للطلب، فقد كنت متخرجًا

ص: 213

حديثًا: واسمي أقل بكثير من اسم نجيب الكيلاني، كما أنه كان باستطاعته أن يطلب هذا من أشخاص تحددت مواقعهم واستقرت مكانتهم النقدية، حتى وإن كانوا من الشباب في ذلك الوقت، مثل عبد المحسن بدر، وتوفيق حنا، ومحمود أمين العالم، وعباس خضر، وقد أفضيت له بما يعتمل في صدري.

فقال: حتى نجيب محفوظ، لو قصدته في تقديم روايتي سيفعل، ولكن أرى أن يعتمد جيلنا على نفسه، وأن نتقدم معًا، وهكذا أصر، وكتبت تلك الدراسة التي لا تزال تطبع ملحقة بـ "الربيع العاصف"، كلما تكرر نشرها، دون تعديل، وحتى دون إضافة اللقب العلمي الذي وصلني بعد تلك الدراسة بثمانية أعوام! تجري أحداث الربيع العاصف في قريته "شرشابة""محافظة الغربية""ولم أشعر أبدًا بجمال هذا الاسم!! ".

عقب تخرجه في كلية الطب عين طبيبًا لعمال ورش السكة الحديد في "أبي زعبل" حين عرفت، لم أتفاءل. التعليق فرض نفسه: يا نجيب ما كفاك طره، والقلعة، حتى تختم بأبي زعبل!! مع هذا حصل على "فيلا" صغيرة جميلة، قضى فيها مع زوجته وولده حسام "الوحيد في ذلك الوقت" سنة هادئة، واستفاضني فيها مع زوجتي في أسبوع زفافنا يومين: كانا أطيب أيام العسل، وانتهت علاقته بأبي زعبل، بحشد الإخوان مرة أخرى في المعتقلات، صيف 1965، كان في زيارتي ليلة القبض عليه، فقد كنت عائدًا في الغد إلى مقر عملي بالكويت، وكان متوجسًا، لم يكن خائفًا، لم أره خائفا أبدا، ولكنه كان يشعر أن صحته لم تعد تحتمل السجن، وكانت آلام المفاصل "في الركبتين خاصة" تعاوده، وسافرت، وهناك عرفت أنه قبض عليه في اليوم التالي!! لم يطل مقامه في السجن، ولا في مصر، عقب الإفراج عنه سافر إلى دولة

ص: 214

الإمارات، استقر في دبي طبيبًا بالصحة المدرسية، وفي دبي كان آخر لقاء بيننا، حين دعاني نادي الثقافة والعلوم للمشاركة في موسمه الثقافي بإلقاء محاضرة. تعشيت في منزل نجيب، ورأيت أولاده وقد أصبحوا رجالا، وابنته عزة قد صارت طبيبة وتزوجت طبيبًا، وصار له أحفاد، ودار كبيرة في طنطا، وأكثر من خمسين كتابا.

نجيب الكيلاني أول من اهتم بطرح قضية "الأدب الإسلامي" في كتاب بهذا العنوان، ورؤيته بعيدة تمامًا عن التزمت، إنه لا يطلب في فنون الأدب أن ترتبط بالدعاية، أو الوعظ، إنه يقف تحت شعار:"من ليس علينا فهو معنا"، لا يطلب أكثر من عدم الاستهتار بالقيم، وعدم الإغراق في وصف المشاهد التي تغري بالخطيئة. أما عالمه الروائي، الذي بدأ "بالطريق الطويل" و"في الظلام" التي تحولت إلى فيلم بعنوان:"ليل وقبضان"، وقصصه القصيرة "المصرية":"موعدنا غدا"، "دموع الأمير" وغيرها، فقد اتسعت دائرة اهتمامها، لتتعقب القضية الإسلامية في مواطن أزماتها: عن المسلمين في الاتحاد السوفيتي كتب: "ليالي تركستان"، وعن صراع الإسلام والوثنية في نيجيريا كتب:"عمالقة الشمال"، ثم "عذراء جاكرتا"، ومنذ فترة مبكرة ألف عن الشاعر الإسلامي العالمي "إقبال"، كما أفضى بجانب من حياته الشخصية في "مذكرات طبيب"، وإن يكن كتب عن نفسه مباشرة في "ملامح من حياتي" وهو من جزئين.

يا أخي وصديقي..

هذا دوري..آن أن أقول أنا لك هذه المرة: إلى اللقاء!!

ص: 215