الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4-
بيئة النص: زمانًا ومكانًا:
إذا انتهت القراءة الواعية المتأنية للنص على ضوء الأسس السابقة -يجيء ما يمكن أن نسميه وضع النص في موضوعه زمانًا ومكانًا؛ فنحدد عن طريق العصر التيار الأدبي الذي كان سائدًا على أيامه: عصر طبع أو صنعة، أصالة أو تقليد، تجديد أو محافظة؟ وأي التيارات غلب عليه: الرومانسية، أو الواقعية، أو غيرها من المذاهب، وأي القضايا شغلت أهل عصره: ذاتية أو اجتماعية أو سياسية1.. وإذا كان للبيئة الزمانية دخل في هذ كله، فإن للبيئة المكانية دخلًا كذلك، فالمضوعات والاتجاهات الفنية التي شغلت الشعراء في العصر الأموي -مثلًا- في الحجاز غير التي شغلتهم في بوادي نجد، غيرها في العراق، وهكذا. وتحديد البيئة زمانًا ومكانًا يضع يد دارس النص على الاتجاه الأدبي الذي ينتمي إليه الشاعر، أو المذاهب الأدبية التي خرج عليها، ولم ينتمِ إلى أي منها.
1 السابق: 101
3-
تحليل النص:
بقراءة النص الأدبي -على النحو السالف- يكون وقوف دارس النص على ما ينطوي عليه النص من أفكار ومشاعر وغايات، وحينئذ يخلص الدارس إلى تحليله ودراسته، والتوصل إلى عناصره المختلفة حتى يبلغ الفكرة الجوهرية التي يقوم عليها، وهو في مرحلة التحليل هذه يتناول المحتوى والشكل، كل على حدة، دون أن ينسى أنهما مرتبطان بلا انفصال.
أ- المحتوى "أو المضمون":
عند تناول الدارس للمحتوى، ينبغي -أولًا- أن يحدد موضوع النص، وهو
ما يمكن أن يكون عنوانًا له، وفي الغالب يعالج النص عددًا من القضايا أو الأفكار العامة، ومن المهم أن نقسم النص -من حيث هذه الأفكار العامة- إلى مقاطع، يسمى كل مقطع باسم يحمل الفكرة التي يحتويها، ومن المهم -أيضًا- أن نتناول العناصر الفرعية، أو قل المعاني الجزئية التي يحتويها كل مقطع من خلال أبياته التي اشتمل عليها.
بعد تقسيم النص إلى أفكار عامة، وتقسيم كل فكرة منها إلى عناصر فرعية، يأتي شرح هذا المحتوى فكرة فكرة، أي مقطعًا مقطعًا، يأتي بعده شرح وتبيان العناصر الفرعية التي تحتويها الأبيات.
وينبغي أن يكون معلومًا أن توضيح هذه الأفكار العامة، وما تحتويه من عناصر ومعانٍ جزئية، يجب أن يكون دقيقًا بلا إطناب ولا ثرثرة.
وخلال معالجة المحتوى -على نحو ما تقدم- يقوم دارس النص بشيئين:
1-
بيان الوحدة الموضوعية.
2-
بيان القيم الموضوعية.
أما بالنسبة للأول، فعلى الدارس أن يقوم بالكشف عن مدى الترابط بين أجزاء المضمون العام للنص التي تمثلها أفكار العامة، وعن مدى الترابط -أيضا- بين عناصر الفكرة العامة التي تمثلها أبيات كل فكرة، بحيث يكشف عن مدى هذا الترابط والتلاحم، أو يكشف عن مدى التفكك والانفصال.
ولا يستطيع أحد أن يتعلل -للتفكك والانفصال- بتعدد موضوعات النص، فذلك أمر يمكن للأديب حسمه بحسن تلطفه، ودقة تخلصه، فتبدو المقاطع -التي قد تبدو متنافرة- وكأن كل مقطع ينادي أخاه، وهذا يدل على فهم الأديب لموضوعه وحسن تأتيه له، ويقظته التامة للطائفه ودقائقه.
وأما الثاني، فيقوم فيه الدارس باستجلاء ما في النص من أفكار موضوعية، وقيم شعورية ومعانٍ إنسانية، وشرحها وبيان ما فيها من صدق أو كذب، ومن صحة أو خطأ، ومن وضوح أو غموض، ومن سطحية وابتذال، أو بعد وعمق، ومن ذاتية أو موضوعية.
ب- الشكل "أو القالب الفني":
ينبغي لدراس النص -قبل أن يعرض للسمات الفنية للشكل- أن يحدد القالب الفني الذي اتخذه الأديب مجرى لإبداعه، أهو الشعر- غنائيًّا أو مسرحيًّا أو ملحميًّا -أم النثر- قصة، أو مقالة، أو رسالة، أو خطبة؛ فلكل لون من ذلك أصوله وطرائقه.
وعلى الدارس بعد تحديد القالب الفني للنص، أن يبدأ في تناول أسلوب الأديب، ونعني بالأسلوب طريقة التعبير وخصائصه، وفي الأسلوب يدرس الألفاظ التي انتقاها، وطريقته في تكوينها، وأي الألفاظ يؤثر، وعلى أي المشتقات يقبل، ويدرس العبارات، وكيف صاغها وألف بينها، كذلك يدرس الصور، وكيف ألفها، ومن أي المواد التقط عناصرها، كذلك يدرس موسيقاه وفقًا لعلم العروض، ليرى هل وفق الشاعر في اختيار هذا البحر أو ذلك، وهل يجري على عروض الخليل أم سار على الطريق التي استحدثت فيما بعد، من الموشحات أو الشعر المرسل أو شعر التفعيلة1.
1-
الألفاظ:
هذا جانب هام من جوانب الدراسة الفنية للنص، فما لا شك فيه أن اختيار الألفاظ المناسبة يلعب دورًا مهما في الخلق الأدبي، فالكلام موضوع
1 انظر السابق: 103.
للإبانة عن الأغراض التي في النفوس، وإذا كان كذلك وجب أن يتخير من اللفظ ما كان أقرب إلى الدلالة على المراد، وأوضح في الإبانة عن المعنى المطلوب، ويدخل في ذلك أمور كثيرة يجب مراعاتها عند تحليل الألفاظ:
1-
الدقة: ومعناها أن يختار الأديب من الألفاظ أدقها تعبيرًا عن المعنى الذي يجول في نفسه، فإذا لم يحسن الأديب اختيار كلماته عُدَّ ذلك عيبًا1.
2-
الإيحاء: اللفظ الموحي، هو اللفظ الذي يثير في النفس معاني كثيرة، كأنه نوع من البث الغامض، ويرجع الإيحاء في اللفظ إلى أمور كثيرة، منها ما لحق باللفظ تاريخيًّا أو أسطوريًّا، أو دينيًّا أو شعريًّا، ومنها ما يعود إلى جرسه الموسيقي، وما يلقيه في النفس من ظلال.
3-
الاشتقاق: ونعني به الصيغ المختلفة للمادة الواحدة، وفي هذا الجانب ينظر الدراس ليرى كيف يختار الأديب ألفاظه ذات الاشتقاق الموحي بالمعنى على نحو أتم، مثل الألفاظ ذات الحروف المضعفة، أو التي زيدت فيها حروف، أو الألفاظ الدالة على الجموع، أو المبالغة، أو الألفاظ المعرفة أو المنكرة، وغير ذلك من الاتجاهات ذوات الصلة بعلم المعاني.
4-
الألفاظ وموضوع النص: يدرس في هذا المجال مدى مراعاة الكاتب لألفاظه، ومدى تناسبها للموضوع، من الجزالة والقوة، أو السهولة واللين، أو الوضوح أو الغموض.
5-
الألفاظ ومدى دلالتها على نفسية الأديب: لا شك أن لكل أديب معجمه اللغوي الذي يجول فيه، وينتقي منه الألفاظ التي تعبر عن نفسه أدق تعبير، فيلاحظ الدارس -مثلًا- تردد كلمات بأعيانها في النص، كالموت
1 د. غازي يموت: الفن الأدبي: ص42، دار الحداثة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 1990م.
والعدم، أو النور والضياء، أو الحياة والبهجة، أو المكارم والمعالي، أو غير ذلك، وحين يبحث عن السر في تردد مثل هذه الألفاظ، يجد الباحث أن ذلك يرتبط بالتكوين النفسي للأديب، الذي قد يكون مرده إلى النشأة والبيئة والاتجاه الفكري.
هذه الجوانب الفنية السابقة في دراسة الألفاظ، لا ينبغي أن ننظر إلى اللفظ -من خلالها- نظرة استقلالية، بمعنى أن يدرس اللفظ مفردًا، بل ننظر إليه من خلال مجاورة اللفظ لأخيه وترابطه به، حتى تعطي الألفاظ المعنى الذي يقصد الأديب إبرازه، ومن هنا لا نجد قيمة فنية للفظ ما لم يكن منتظمًا في سلك مع ألفاظ مكونة ما يسمى بـ "العبارة".
2-
العبارة:
"يقصد بالعبارة مجموعة ألفاظ منسقة على نحو معين، لأداء معنى شعوري، وتستمد العبارة دلالتها -في العمل الأدبي- من مفردات الدلالات اللغوية للألفاظ، ومن الدلالة المعنوية الناشئة عن اجتماع الألفاظ وترتيبها في نسق معين، ثم من الإيقاع الموسيقي الناشئ عن مجموعة إيقاعات الألفاظ متناغمًا بعضها مع بعض، ثم من الصور والظلال التي تشعها الألفاظ متناسقة في العبارة1.
ومن هنا كانت العبارة، هي التعبير الحقيقي عن التجربة الشعورية، لا الألفاظ المفردة، وليست الألفاظ المفردة إلا لبنات في بناء واحد متكامل هو العمل الأدبي، والألفاظ -بذلك- لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، وإنما تثبت لها الفضيلة في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها2.
1 سيد قطب: النقد الأدبي أصوله ومناهجه، ط3، دار الشروق، القاهرة 1400هـ،1980م، ص41.
2 عبد القاهر الجرجاني: أسرار البلاغة: 35-38.
وللعبارة أنماط متعددة، وأشكال عدة، فقد تأتي العبارة في قالب الخبر أو قالب الإنشاء، ويتشكل المعنى المقصود من الخبر من خلال سياقاته، وكذا يتشكل المقصود من الإنشاء من خلال أنواعه أمرًا أو نهيًا، أو نداء، أو استفهامًا، أو عرضًا، أو إغراء، أو تحذيرًا أو شرطًا، ومن خلال سياقاتها. وهذه جوانب هامة يجب درسها وتحليلها، وبيان قيمتها التعبيرية في أداء المعنى وإبرازه.
وإذا كنا ندرس العبارة مستقلة، لنرى قيمتها الفنية في التعبير عن المعنى، على نحو أتم، ولنرى -من خلال ذلك- مدى تجانس الألفاظ وتآلفها وامتزاجها في دلالتها على هذا المعنى إذا كنا ندرس العبارة على هذا النحو وجب علينا أن ندرس أيضًا وجه الترابط والتلاحم بين العبارات التي تكون المقطع؛ لنرى مدى توفيق الأديب في إحكام بناء العبارات على نحو فني دقيق، أو عدم توفيقه، وخلال هذه الدراسة يكشف عن مدى الوحدة الفنية التي تنتظم هذا البناء الأدبي.
وعلى دارس العبارة ألا يقف بها عند هذا الحد، بل عليه أن يدرس جوانبها الأخرى من المزايا الموسيقية والتصويرية والإيحائية، التي ترقى بها إلى مستوى التعبير الجميل "من هنا فإن النظر إلى دلالة العبارة من ناحية المعنى فقط، قد لا يدلنا على قيمة العمل الأدبي الحقيقية التي هي في المعاني المشعة، الموحية التي تكمن خلف العبارات"1.
3-
الصورة الفنية:
للصورة الفنية مكانتها في النص الأدبي، وبخاصة الشعر، فهي التي تعطيه.
1 د. غازي يموت: الفن الأدبي، ص23.
القدرة على الإيحاء والتأثير، والشعر يكتسب أهميته ودوره وغناه من الصور الشعرية؛ لأنها هي التي تعطي الألفاظ المؤلفة للغة قدرتها الإيحائية في الدلالة، فنرى الكلمات التي مستها الصورة، تغدو ينبوعًا لا ينضب للإمكانات الدلالية والصوتية1.
وعلي دارس النص -لذلك- أن يتوجه إلى دراسة الصورة الفنية في النص، فيتناول ألفاظها المكونة لها، والبيئة التي استمدت منها، وأنماطها المعبر عنها من تشبيه ومجاز مرسل واستعارة وكناية، كما يتناول قيمها الفنية في كل نمط منها، وإيثار الأديب لنمط منها دون آخر.
4-
الموسيقا:
المقصود بالموسيقا في الشعر هما الوزن والقافية، وبهما تميز الشعر عن النثر في المدرسة القديمة؛ ذلك لأن النثر في المدرسة الحديثة يشتمل على الموسيقا، ذلك "أن إيقاع الجملة، وعلائق الأصوات والمعاني والصور، وطاقة الكلام الإيحائية، والذيول التي تجرها الإيحاءات وراءها من الأصداء المتلونة المتعددة.. هذه كلها موسيقا، وهي مستقلة عن موسيقا الشكل المنظوم، قد توجد فيه وقد توجد دونه"2.
ولأهمية الوزن والقافية في الشعر -لأنهما يشكلان العنصر الموسيقي الأول الظاهر في الشعر- تحدث عنهما النقاد طويلًا، فقالوا:"الوزن أخص ميزات الشعر وأبينها في أسلوبه، ويقوم على ترديد التفاعيل المؤلفة من الأسباب والأوتاد والفواصل، وعن ترديد التفاعيل تنشأ الوحدة الموسيقية للقصيدة كلها"3.
1 د. صبحي البستاني: الصورة الشعرية، ص33.
2 أدونيس: مقدمة للشعر العربي: ص116، نقلًا عن الفن الأدبي.
3 أحمد الشايب: الأسلوب، ص48.
ولعل إطلاق مصطلح "موسيقا الشعر" مقصودًا به الوزن والقافية إطلاق له وجاهته، ذلك لأن "الشعر هو في الدرجة الأولى موسيقا، يشبهها في الوزن وانسجام الأصوات وترجيعها بصورة متسقة بين طويل وقصير، وضعيف وقوي، ولكن وقفات القصيدة لا يضبطها العدد بالدقة التي تنضبط بها وقفات الموسيقا. والشعر موسيقا أيضًا في قافيته، فهي تصور المقطع الذي تنتهي به أبيات القصيدة، ويتردد وقعه في أواخر كل بيت، بحيث تبدو نغمته صدى يتردد بصورة قياسية، ينتظره السامع ويستعد له.
إن على دارس النص أن يتوجه بالدراسة والتحليل إلى هذ العنصر الموسيقي الظاهر، وهما الوزن والقافية ليرى هل وفق الشاعر في اختيار هذا البحر أو ذاك لقصيدته؟ وهل وافق البحر الغرض الذي احتوته القصيدة؟ وهل وفق أيضًا في اختيار قافيته؟ وهل وافقت القافية الغرض كذلك؟
لكن هذه الصياغة الموسيقية الأم للقصيدة العربية -نعني بها الوزن والقافية- جوبهت بتغييرات عدة عبر تاريخ الأدب العربي، تغييرات ظلت تربط الشعر بالموسيقا، لكنها حاولت أن تطور في هذه الموسيقا، وفاقًا للظروف المتغيرة التي اقتضت في نظرهم إحداث تغيير في نظام الصياغة الموسيقية العربية التقليدي، انتهى -في النهاية- إلى تلك الأساليب الموسيقية المستحدثة، وهي الموشحات، والشعر الحر، وقصيدة النثر2.
وعلى دارس النص أن يتتبع هذه التغيرات الموسيقية التي جدت في الأوزان الخليلية وهو يدرس موسيقا النص؛ ليرى هل جرى الشاعر على النمط المعاد.
1 الفن الأدبي: 73.
2 انظر الفن الأدبي: 73.