الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
104- مجلس أبي الحسن بن كيسان مع أبي العباس المبرد
حدثني أبو علي قال: حدثني أبو الحسن قال: كان أبو العباس محمد بن يزيد يذهب إلى أن أواخر الأسماء في البناء كأوائلها وأوساطها، وكان يقول: لما كان في أوائلها مثل برد وجذع وكعب، وكان في أواسطها مثل ما في أوائلها مثل كتف وحجر ورجل وفلس - كانت أواخرها كذلك، منها الساكن ومنها المتحرك، وإنما الإعراب عارضٌ فيها وداخلٌ في أبنيتها.
قال أبو الحسن: فسألته عن المبنيات: لم اختلفت أواخرها وهذا حكمها عندك؟ فقال: أما ما كان منها قبل آخره حركه فلا حاجة بنا إلى حركته، فوصله مثل الوقف عليه، لأن ذلك يمكن فيه نحو من وكم. وأما ما كان قبل آخره ساكن فإنه يحرك في الوصل لالتقاء الساكنين، فكان أولى الحركات به الفتح لخفته، إلا أنهم وجدوا الفتح والضم يكونان إعرابا بتنوين وبغير تنوين، ولم يجدوا الكسر إعرابا إلا بتنوين، فألزموا الكسر ما احتاجوا إلى حركته لالتقاء الساكنين، لهذه العلة التي لم تخرج فيها إلى شبه المعرب، فكان الكسر فيما منعت الضرورة من إقراره على السكون كالوقف في المبنيات، وذلك نحو قولك: هؤلاء، وأمس يا فتى. فإن جاءك شيءٌ مفتوحٌ مما يجب فيه الكسر فهناك علة نقل معها الكسر، وكان في الحكم أن يكون هو المستعمل فيما احتيج إلى حركته، وذلك نحو: أين، وثم، ومن الرجل، كرهوا الكسر مع الياء والضم والكسرة، فعدلوا إلى الفتح في هذه الحروف.
وما جاء محركا على غير هذين الوجهين فإنما الحركة فيه معارضةٌ للإعراب وليست من باب ما ابتدئ على البناء وذلك أن يكون الشيء
يضارع المبنى من حال والمعرب من أخرى، فيحرك حركة لازمة فيصير كالمبني للزوم الحركة إياه، ويصير كالمعرب لأن الحركة داخلته وليست بمضطرٍ إليها، وذلك نحو قولك ضرب، وكل فعل ماض، ومع يا فتى؛ لأنك تقول جاءا معا يا فتى، ويا حكم ابدأ بهذا أول ومن عل. فما حكم هذا أن يكون ساكنا، بل يجب أن يكون بحركةٍ للدرج.
قال أبو الحسن: أيكون بأي حركةٍ شئت أو يكون بحركة معلومة؟ فقال: بابه أن يكون بالفتح لخفة الفتح، ولا يكسر لئلا يشبه ما حرك للضرورة، وبابه أن يكون مفتوحا حتى تقع علة تزيله عن الفتح. فمما فتح: مع، وفعل، وخمسة عشر. وما أزيل عن الفتح فبابه أن يزال إلى الضم كما أزيل الكسر إلى الفتح، وذلك: من قبل، وابدأ بهذا أول، ويا حكم. وذلك أن قولك من قبل ومن بعد ومن عل، وجئتك من قبل ومن بعد ومن عل، وجئتك قبل وبعد، وجئتك أول، إنما هو في موضع نصب أو خفض، فكرهوا أن يبنوها على الفتح فيشبه حركة ما عدلوها عنه، لأن الفتح بغير تنوين يكون جامعة للخفض والنصب، فبنوها على الضم لعدلها عن هذين الوجهين، ليخرجوها عن حد إعرابها البتة. وكذلك يا حكم في موضع أطلب حكما. فهذا كان مذهب أبي العباس، وهو مشاكل لمذهب سيبويه، وهم واضحٌ بين.
ثم سألته عن العلة التي توجب البناء فقال: الأسماء هي المتمكنة الأول، والأفعال وحروف المعاني لها تبع، وإنما وقع لها النقص في الإعراب –يعني ما لا ينصرف- والبناء، لمضارعتها في حال الأفعال وفي حال حروف المعاني. فكل اسم خرج من جملة الأسماء، التي وضعت للتمكن في التسمية والتمكن في الإعراب، إلى مضارعة الفعل، وجب أن تحمل تلك المضارعة على الفعل في نقص الإعراب عن جملة
الأسماء. وكل ما ضارع حروف المعاني من الأسماء أخرج من جملتها في باب استحقاق الإعراب إلى البناء. فأصل كل شيء مبني أن يضارع حروف المعاني.
وسألته: ما بال من وكم وما أشبه ذلك من حروف الاستفهام؟ فقال: لما وضعت للاستفهام ضمنت معنى الألف وهل، فاستحقت البناء بهذه المضارعة، وكذلك هي في الجزاء مضارعة لإن. ألا ترى أنك إذا قلت من لقيك أزيد أم عمرو، فقد تضمنت من معنى الاسمين والألف وأم.
فكنا نقول له في هذا: فأنت تقول: أيهما أتاك، بهذا المعنى، فتعرب أيا. فقال: إنما أعربت أي لمضارعتها لبعض، وأنها على معناها.
قلنا: قد تضمنت معنى الألف وأم، والذي فيها من الخصوص كالذي في من من العموم. فكان يذهب إلى أن الإضافة بمنزلة التنوين، وأن التنوين يوجب الإعراب.
فقلنا له: فما بال ((من)) لم تعرب في الخبر؟ فقال: لأنها لم تكمل اسما إلا بصلة. قلنا: فما فيها من المضارعة لحرف المعنى. قال: لما لم تخص قليلا من كثير ولا كثيرا من قليل، ولا واحدا من تثنية، ولا مذكرا من مؤنث، كانت كحرف المعنى الذي هو معلق بغيره.
قلنا: فأحدٌ، إذا قلت ما جاءني أحدٌ، كمن في الإبهام، وأنه يقع للواحد والاثنين، والقليل والكثير من الجمع، والمؤنث والمذكر. قال: ليس هو محتاجا إلى الصلة، وإنما وقع العموم فيه من غيره؛ وذلك لأن الجحد يجوز فيه العموم ولا يجوز في الخبر على الخصوص.
قلنا: فلم لم يضارع حروف المعاني؟ قال: لأنه لم يكتف به منها، ألا ترى أن حرف الجحد لازم له، وكذلك الحروف التي هي موجبة، كقولك: ما أتاني أحدٌ، وإن أتاك أحد فأكرمه، وهل من أحد؟ فجرى مجرى هل من رجل. وإن كان لا يقع إلا مع هذه الحروف فإنه كسائر الأسماء المتمكنة التي تقع موقعه في النفي وغير الإيجاب.
فهذا من مذهبه حسن.
وسألته عن هذا وهؤلاء، فزعم أنه موضوع موضع تنبه وانظر، فقال: هو مضارع لهذا الفعل المبني الذي ليس بمعرب، وذلك الفعل عنده إنما بني لأنه مضارع للزجر الذي هو حرف معنى كصه ومه.
وسألته عن حذام فقال: كان المؤنث جملة لا ينصرف في المعرفة، وحذام معدول في باب المعرفة، كعمر عن عامر في باب المعرفة، فلما عدل عمر عن اسم مصروف لم يصرف، ولما عدلت حذام عن اسم لا ينصرف لم يكن بعده إلا البناء. قال: فقلت له: هذا ترك ما شرطته في باب البناء أنه مضارع لحروف المعاني دون غيرها، فأي شيء يضارع به حذام حروف المعاني؟ فتغلغل في هذا إلى أن قال: فعال تعدل في أربعة أوجه: في باب الأمر والنهي، وفي النداء، والمصدر، وفي الاسم العلم، وهي في ذلك كله اسم معرفة مؤنث وبعضه مضارع لبعض. فالذي في باب الأمر مضارعٌ لمه وصه، وما ضارع المضارع جرى مجراه. يريد أن دراك بمعنى أدرك، كأنه مصروف عن الإدراك، موضوعٌ موضع الفعل المبني، وهي في باب النداء وباب المصدر وباب التسمية مضارعةٌ لهذا الباب، لأنها في هذا الموضع عدلٌ كما أن ذاك عدل، فقد ضارعت حروف المعاني لمضارعتها ما ضارعه.
وسألته عن خمسة عشر قال: إنما وجب فيه البناء لأن معناه خمسة وعشرة، فلما ضما وأسقطت الواو تضمن جمعهما معنى الحرف، يعني الواو، فضارعا حروف المعاني بما تضمنا من معنى الواو. ويلحق بهذا ما كان مثله فيجعله إذا أمكنه فيه، هذا على هذا محمول، وإذا لم يمكنه جعله مضارعا لهذا الذي يتضمن معنى الحرف، يعني الواو. وأما قبل وبعد وما أشبه ذلك فقد احتج له بمثل قول سيبويه: أجروه مجرى الزجر كحوب. وهذا قد ذكره سيبويه. ويحمل قبل وبعد لأنها ليست بمستمكنة على مثل من وإلى، لأن كل واحدة مقتضيةٌ لصاحبتها؛ فكأن قبل ابتداء غاية لبعد، وبعد انتهاء غاية لقبل، ففيها ما في من وإلى من الابتداء والانقطاع. فإذا أردنا من باب تمكنهما في الإضافة التي وضعتا عليه خرجتا إلى شبه حروف المعاني، كخروج الأسماء في باب النداء إلى مضارعة الأصوات. والأصوات عندهم كغاق وطق مضارعةٌ للحروف، لأنها حكيت حكاية جرت فيها كالزجر، لأن الزجر إنما وضعتها حروف معان ليعلم ما تريد بها، ومخرجها مخرج صوت، وحكاية الصوت كإخراج الزجر منك للمزجور، وإنما هو صوت ونداء، وهي مضارعة لحروف المعاني من هذه الجهة. وكذلك حروف الهجاء إذا قطعت، والعدد إذا تكلم به من غير عطفٍ حكمة حكم الصوت المكرر.
وقد كان ربما قال: البناء بغير هذا المعنى. وهذا الذي كان يعتمد عليه.
وأما مذهب سيبويه فإنه لم يخص بالبناء شيئا من شيء. وقال: هو
للأسماء التي ليست بمتمكنة وللأفعال غير المضارعة، وللحروف التي لم تجيء إلا لمعنى ليس [غير] . ولم يجعل شيئا من هذه أصلا لغيره.
قال أبو الحسن: والذي أذهب إليه أن البناء إنما هو الأصل الذي يعم المعرب وغيره، وأن المعرب مخرج منه، فخرج عنه إلى الإعراب الأسماء المتمكنة، لحاجتهم إلى إعرابها للمعاني التي صرفوها فيها. وضارعتها الأفعال فأدنيت منها ولم تلحق بها، وقصرت عنها. وتباعدت الحروف التي للمعاني فلزمت الأصل الذي بنيت عليه.