الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
16- مجلس علي بن حمزة الكسائي مع المفضل بحضرة الرشيد
قال أبو العباس أحمد بن يحيى: روي عن أبي عمرو الشيباني أنه قال: أخبرنا المفضل قال: جاءني رسول الرشيد يوم خميس بكرا فقال لي: أجب. فدخلت عليه ومحمدٌ عن يمينه، والمأمون عن يساره، والكسائي بين يديه باركا، وهو يطارح محمدا والمأمون معاني القرآن، فسلمت فردّ وقال: اجلس. فجلست فقال لي: كم اسمٍ في سيكفيكهم الله؟ قلت: ثلاثة أسماء يا أمير المؤمنين، أولا اسم الله تبارك وتعالى لا إله إلا هو، والثاني اسم النبي صلى الله عليه وسلم، والثالث اسم الكفرة، فالياء والكاف المتصلتان بالسين لله جل عز، والياء والكاف المتصلتان بالهاء للنبي لله، والهاء والميم للكفرة. فقال: كذا أخبرنا الشيخ. وأشار بيده إلى الكسائي، والتفت إلى محمد، فقال له: أفهمت؟ فقال: قد فهمت يا أمير المؤمنين. قال: فاردد ذلك علي، فرده فقال: أحسنت! ثم روى ببصره إلي فقال: من يقول:
نفلق هاما لم تنله سيوفنا
…
بأسيافنا هام الملوك القماقم
فقلت: الفرزدق يا أمير المؤمنين. قال: فما أراد بذلك؟ ثم قال: لا، ولكن نفلق هاما لم تنله سيوفنا فيما زعم. قلت: هذا لفظ مدغم يستتر فيه صواب معناه على التقديم والتأخير، وذلك أنه قال: نفلق بأسيافنا هام
الملوك القماقم، ثم رجع فقال: ها من لم تنله سيوفنا، على التنبيه والتعجب. قال: صدقت، عندك مسألة. قلت: نعم يا أمير المؤمنين. [قال] : قال الفرزدق:
أخذنا بآفاق السماء عليكم
…
لنا قمراها والنجوم الطوالع
قال: قد أفدنا هذا متقدماًَ من هذا الشيخ علي بن حمزة. القمران: الشمس والقمر، كما قالوا في العمرين، يريدون أبا بكر وعمر. قلت: أزيد يا أمير المؤمنين في السؤال؟ قال: زد. قلت: فلم استحقوا هذا بعد؟ ولم قالوا ذلك؟ قال: لأن من شأن العرب إذا اجتمع شيئان من جنسٍ واحد فكان أحدهما أشهر سمي الآخر باسمه. ولما كان القمر أشهر عند العرب وأكثر في أوقات المشاهد، وتدركه ليلا ونهارا، سموا الشمس باسمه. وهي القصة في تسميتها أبا بكر عمر؛ إذ كانت خلافة عمر أكثر وأشهر في الإسلام للفتوح وطول المدة. قلت: بقي مع هذا زيادةٌ يا أمير المؤمنين. قال: لا أعرفها. ثم التفت إلى الكسائي فقال: أتعرف في هذا أكثر من الذي سمعت؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، هذا الذي [هو] معروف المعنى عند العرب. قال المفضل: فأمسك عني قليلا كالمستعمل فيه الفكرة ثم نظر إلي وقال: أعندك فيه زيادة؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، وهي فضيلة المعنى والغاية التي جرى إليها، ولولا ذلك ما كان بأولى بالشمس والقمر والنجوم من غيره، ولا يفتخر فيه بما حظ غيره كحظه، الشمس هاهنا إبراهيم الخليل عليه السلام، والقمر النبي صلى الله عليه وسلم، والنجوم أنت
يا أمير المؤمنين، وآباؤك من الخلفاء المهديين. فتهلل سرورا ثم قال: أغربت على الرجل محسنا. ثم رفع رأسه فقال: يا فضل. قال: لبيك يا أميري المؤمنين. قال: تحمل إلى منزله الساعة عشرة آلاف درهم، وائذن لمن حضر الباب من الشعراء. ثم وضع لي كرسي وللكسائي كرسي، وأشار إلينا، فجلس كل واحدٍ منا على كرسيه. فدخل الفضل وخلفه العماني ومنصور النمري، فسلما فرد، ثم قال للفضل: أدن الشيخ مني. فأخذ بيد العماني فقدمه إلى الموضع الذي كنت فيه جالسا، ثم قال له: تكلم بشرف أمير المؤمنين.
فأنشده:
قل للإمام المقتدى بأمه
…
ما قاسمٌ دون مدى ابن أمه
فقد رضيناه فقم فسمه
…
فضحك الرشيد وقال: وما ترضى أن أسميه ولي عهد وأنا جالسٌ حتى تنهضني قائما؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنه قيام عزم، ولو قام بذلك أمير المؤمنين متخطيا قام بشرفٍ يكون من شرفٍ يسود به هذان –وأشار إلى محمد وعبد الله- بمكان الأنف من الحاجبين. قال: صدقت، أفعل ما ذكرت، يا غلام القاسم. وهدر العماني حتى أتى على آخر الأرجوزة. ودخل القاسم فسلم، فأشار إليه فجلس إلى جانب عبد الله ثم التفت إليه فقال: جائزة هذا الشيخ اليوم عليك. قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: فأنجزها له إذن فقد وعى إلي العهد. قال: حكم أمير المؤمنين. قال: بل حكمك، وما أنا والدخول في هذا؟ وأشار إلى النمري،
فدنا فأسمعه حتى إذا بلغ:
ما كدت أوفي شبابي كنه غرته
…
حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع
قال: صدقت والله وأصبت، ولا خير في دنيا لا يخطر فيها برداء الشباب. ثم أمسك حتى أتى على باقي الشعر. واستؤذن لسعيد بن سلم فقال: يدخل. فسلم فرد عليه، وأشار إليه بالجلوس فقال: يا أمير المؤمنين، غلامٌ أعرابي من باهلة وفد على أمير المؤمنين سيدي ما سمعت بمديحٍ لشاعرٍ مثله. فقال: إنك قد استنبحت هذين الشيخين فهيء لهما أحجارك. فقال: هما يهباني لك يا أمير المؤمنين. والتفت إلى الفضل فقال: يدخل الشاعر. فدخل أعرابي في جبة خز ورداءٍ يمانٍ [قد شده في وسطه] ، ثم رد طرفه إلى منكبيه وعليه عمامة خز سوداء، فلما نظر إليه الرشيد تبسم، ثم أدني فسلم فرد عليه، فقال له سعيد: تكلم بشرف أمير المؤمنين. فأسمعه شعراً حسناً، [و] استوى الرشيد جالسا ثم قال له: أسمعك مستحسنا وأنكرك متهما، فإن كنت صاحب هذا الشعر فقل في هذين بيتين، وأشار إلى عبد الله ومحمد وهما حفافاه. فقال: يا أمير المؤمنين، حملتني على غير الجدد، روعة الخلافة وبهر البديهة، ونفور القول في الروية إلا بفكرٍ يتألف لي نفرانها، فليمهلني أمير المؤمنين قليلا. فقال: أمهلك وأجعل لك حسن اعتذارك بدلا في امتحانك. قال: يا أمير المؤمنين، نفست الخناق، وسهلت ميدان السباق. ثم قال:
بنيت بعبد الله بعد محمد
…
ذرى قبة الإسلام فاخضر عودها
هما طنباها بارك الله فيهما
…
وأنت أمير المؤمنين عمودها
فقال: أحسنت بارك الله فيك، فلا تكن مسألتك دون إحسانك. فقال: الهنيدة يا أمير المؤمنين. فأمر له بها، وخلع عليه ثلاث خلع.