الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
55- مجلس أبي العباس ثعلب مع محمد بن يزيد المبرد
حدثني أبو الحسين الحصيني قال: حدثني أبو الفضل جعفر بن محمد بن يعقوب النحوي الغساني الضرير قال: حدثني أبو العباس محمد بن يزيد قال:
كان محمد بن عبد الله بن طاهر رجلا لا يقبل من العلوم إلا حقائقها، وإنه رام نحو هؤلاء الكوفيين، وإنهم يحصلون على الرواية فإذا اختلفوا رجعوا إلى الكتب، فقيل له: اجمع بين أحمد بن يحيى وبين هذا البصري، فوعدنا ليوم بعينه وكان يوم خميس، فبكرت وإذا بعض الناس –يعني أحمد بن يحيى- قد سبقني، وعلى الباب علي بن عبد الغفار الضرير، فقال بعض الناس: من هذا؟ فقيل: هذا الذي يجمع بينك وبينه لتناظره. فكان أول ما بدأني به أن قال: ما يقول سيبويه في كذا وكذا؟ فقلت: كذا وكذا. فقال: ليس كما قلت. فسكت. قال: فقال لي علي بن عبد الغفار: ما لك قد سكت؟ قلت: وما عسيت أن أقول، رجل يقول: ليس الأمر كما قلت أفأهتره. ثم أذن لنا فلما استقر بنا المجلس، كان أول سؤاله إيانا أن قال: خبراني عن قول الله جل وعز: {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} كم فيه (من) لغة؟ فقلت: برآء مثل كرماء، وبراء على مثال كرام.
فقال أحمد بن يحيى: وبراءٌ أيها الأمير. فقال: ما تقول يا محمد؟
فقلت: أيها الأمير سله من أين؟ قال: من أين قلت؟ قال: حدثني سلمة عن الفراء أنه سمع أعرابية تقول: ألا في السوة أنتنه تريد: ألا في السوءة أنتنه، فطرحت الهمزة. قال: ما تقول يا محمد؟ قلت: لا ينسخ القرآن إلا مثله، ولا الإجماع إلا مثله.
قال: نحو ماذا؟ قلت: كما كان الناس يصلون إلى بيت المقدس ثم نسخته الصلاة إلى بيت الله الحرام. قال: هات. قلت: ولا ينسخ الضرورة إلا مثلها. قال: كماذا؟ قلت: أن ترى الإنسان طفلا فلا تنازعك ضرورةٌ، ثم تراه غلاما يفعة فلا تنازعك ضرورة، ثم تراه شيخا. فقال: فهات الذي أجريت إليه. قلت: لا يترك كتاب الله وإجماع العرب لقول أعرابية رعناء.
قال: فخبراني عن توراةٍ ما وزنها؟ قال أحمد بن يحيى: تفعلة. قال: ما تقول يا محمد؟ قلت: ليس في كلام العرب تفعلة إلا قليل نحو تنقلةٌ. قال: فما هي عندك؟ قلت: فوعلة، وأصله وورية، ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصارت ووراة، ثم قلبت الواو الأولى تاء كما قالوا تراثٌ وأصلها وراث، وتخمة وأصلها وخمة. والتوراة مأخوذة من ورى الزناد، وتقديرها أنها توري الحكمة، أي تضيء.
قال: فخبراني عن سماء ما أصل ألفها؟ قلت: أصلها سماوٌ. قال: وما دليلك؟ قلت: سماوة وسماوات. قال: فأنشدني في هذا بيتا. فأنشدته:
وأهتم سيار مع القوم لم يدع
…
تعرض آفاق السماو له ثغرا
قال: فخبراني عن ضحى ما وزنها؟ فقال أحمد بن يحيى: على مثال بشرى. فقلت: بشرى فعلى وضحى فعل على مثال هدى.
قال: فخبراني عن قول الله عز وجل: {إذ الأغلال في أعناقهم} أليس إذ تكون لما مضى؟ قال أحمد بن يحيى: بلى، قال محمد بن عبد الله بن طاهر: الأمر لم يقع. فقال أحمد بن يحيى: حدثني سلمة عن الفراء، أن الأفعال الماضية تحل محل المستقبلة، لأن الله جل وعز قد أحاط بكل شيءٍ علما، وأحصى كل شيءٍ عددا، وليس لما علم خلف. قال: ما تقول يا محمد؟ قلت: أما قوله إن الله قد أحاط بكل شيء علما وجميع ما ذكر حق، غير أن الله جل وعز خاطبنا بلسان عربي مبين، فمن كلام العرب: إذا جاء عمرو أكرم خالدا، فتلخيص الآية قول الله تعالى:{الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رسلنا فسوف يعلمون} لما لم يقع، فتقديره إذا كان إثم وقعت الأغلال أعناقهم.
قال: فخبراني عن همزة بين بين ساكنة أم متحركة؟ قال أحمد بن يحيى: لا ساكنة ولا متحركة. قال: ما تقول يا محمد؟ قلت: قوله لا ساكنة قد أقر أنها متحركة، وقوله ولا متحركة قد أقر أنها ساكنة، فهي ساكنة لا ساكنة متحركة لا متحركة! قال: فلم سميت بين بين؟ فقلت: لأنها إذا خففت فقد جعلت بين الهمزة وبين ما منه حركتها.
قال: فكيف قرنتم إلى هؤلاء؟ قلت: كما قرن معاوية إلى علي. قال: نعم العلم علمكم، إلا أنك لا تجعل لأحد فضيلة. قلت: لا أتقلد مقالة، متى لزمتني حجةٌ قلت: ما ذنبي، هكذا قال فلان. أنا كما قال الشاعر:
أظل من حبها في بيت جارتها
…
من فاته العين لم يستبعد الأثرا
لربما روأت في الحرف سنة لتضح لي حقيقته.
فضم أحمد بن يحيى إلى ولده، وضم محمد بن يزيد إلى نفسه.