الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
152- مجلس أبي يوسف صاحب أبي حنيفة مع علي بن حمزة بحضرة الرشيد
حدث أبو العباس أحمد بن يحيى قال: حدثني سلمة عن الفراء قال:
كتب الرشيد في ليلة من الليالي إلى أبي يوسف صاحب أبي حنيفة: أفتنا حاطك الله في هذه الأبيات:
فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن
…
وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم
فأنت طلاقٌ والطلاق عزيمةٌ
…
ثلاثا ومن يخرق أعق وأظلم
فبيني بها إن كنت غير رفيقةٍ
…
وما لامرئ بعد الثلاث مقدم
فقد أنشد البيت ((عزيمةٌ ثلاثٌ)) و ((عزيمةٌ ثلاثا)) بالنصب، فبكم تطلق بالرفع؟ وبكم تطلق بالنصب؟ قال: قال أبو يوسف: هذه مسألة فقهيةٌ نحوية، إن قلت فيها بظني لم آمن الخطأ، وإن قلت لا أعلم قيل لي كيف تكون قاضي القضاة وأنت لا تعرف مثل هذا. ثم ذكرت أن أبا الحسين علي بن حمزة الكسائي معي في الشارع فقلت: ليكن رسول أمير المؤمنين بحيث يكرم، وقلت للجارية: خذي الشمعة بين يدي، فدخلت
إلى الكسائي وهو في فراشه، فأقرأته الرقعة، فقال لي: خذ الدواة واكتب: ((أما من أنشد البيت بالرفع فقال عزيمةٌ ثلاثٌ، فإنما طلقها واحدة وأنبأها أن الطلاق لا يكون إلا بثلاثة، ولا شيء عليه. وأما من أنشد عزيمةٌ ثلاثا فقد طلقها وأبانها، لأنه كأنه قال: أنت طالق ثلاثا)) . وأنفذت الجواب، فحملت إلي آخر الليل جوائز وصلاتٌ، فوجهت بالجميع إلى الكسائي.
شرح هذه الأبيات على الحقيقة:
في قوله ((فأنت طلاقٌ)) وجهان: أحدهما أن يكون مصدرا في موضع اسم الفاعل، كما قيل زيد عدل أي عادل، وصومٌ أي صائم، وجورٌ أي جائر، وماء غورٌ أي غائر. قال الله تبارك وتعالى:{إِنْ أصبح ماؤكم غوراً} فيكون التقدير: أنت طالق.
والوجه الآخر: أن يكون حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كما يقال صلى المسجد أراد أهل المسجد، وبنو فلانٍ يطؤهم الطريق، وكقوله عز وجل:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أقبلنا فيها} فيكون التقدير على هذا: أنت ذات طلاق. كما قالت الخنساء:
ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت
…
فإنما هي إقبالٌ وإدبار
تريد: فإنها ذات إقبال وذات إدبار. وقوله: ((ثلاثا)) تروى بالنصب والرفع، فمن نصب أراد فأنت طالقٌ ثلاثا، هذه تطلق لا
محالة، ويكون قوله والطلاق عزيمة ابتداءً وخبراً، ويكون التقدير: والطلاق عزيمة من أمري لا بهزلٍ ولا لعب.
ويدل على هذا التأويل قوله في البيت الآخر:
فبيني بها إن كنت غير رفيقةٍ
…
ومن رفع فقال: ((والطلاق عزيمةٌ ثلاثٌ)) الطلاق رفع بالابتداء، وعزيمةٌ خبره، وثلاث خبر ثانٍ. وإن شئت جعلت الثلاث موضحا عن العزيمة ومترجما عنها، فيكون المعنى: والطلاق الذي يكون عزيمة من المطلق هو ثلاث. فيحتمل أن يكون قال أنت طالق ولم يقصد الثلاث فتكون واحدة، ويكون قوله والطلاق عزيمة ثلاث منقطعا عن الأول. وجائز أن يكون أراد بقوله أنت طالق الثلاث، لأن له أن ينوي ما أراد من ذلك، ثم فسره بقوله ((والطلاق ثلاث)) ، فكأنه قال: والطلاق الذي جرى ذكره ثلاث. ويجوز نصب عزيمة إذا رفع الثلاث، فيقول: والطلاق عزيمة ثلاث، كأنه قال: والطلاق ثلاثٌ عزيمة، أي عزما، فينصب على المصدر أو على إضمار أعزم ذلك عزما وعزيمة.
وأما قوله: ((ومن يخرق أعق وأظلم)) فمن كلام الشعر خاصة، ولا يجوز في منثور الكلام؛ لأنه حذف الفاء التي هي جواب الجزاء، وحذف المبتدأ أيضا، وذلك أنه جزم يخرق على الشرط بمن، فأراد أن يأتي بالفاء في الجواب أو بفعل مجزوم، وكان سبيله أن يقول: ومن يخرق يندم، ومن يخرق فهو أعق وأظلم، ولكنه حذف، فهذا الحذف جائز في الشعر. وأنشد سيبويه في مثل ذلك:
من يفعل الحسنات الله يشكرها
…
والشر بالشر عند الله مثلان
أراد: فالله يشكرها، فأضمر الفاء كما ترى، فهو جائز.