الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
122- مجلس العباس بن محمد والخليل بن أحمد
حدثنا أحمد بن يحيى قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم قال: قال الفراء: قلت لأبي الحسن علي بن حمزة الكسائي يوما: تعجبت مما ألطف الخليل فيه وكيف انتزعته قريحته على غير إمام متقدمٌ، وقد تذاكرنا العروض. فقال الكسائي: مات والله الفهم يوم مات الخليل، لو رأيته لم يعظم في عينك بشرٌ بعده. ثم قال: والله ما تمثلت في صدري جلالة أدبٍ من وجهٍ ولا علمٍ إلا وجدت ذلك فرعا من أصلٍ اغترسه، أو سببا من بابٍ افتتحه، وما رأيت أحدا اعترضه بابٌ من علم فأخال به ثقة يعتمد عليه، أو مثال حسن يستمد منه إلا والخليل صاحب قصته.
قال الفراء: فعلمت بما دار من حكايته أنه يشير على غير صناعة الشعر. فقلت: وما تذكر من حسنه؟ فقال: حضرت مجلسا والخليل فيه ويونس بن حبيب النحوي، فتذاكروا الشعر، فتكلم يونس في تقديم زهير وتقريظه حتى أغرق في وصفه، وذكر الخليل النابغة الذبياني، فقال العباس بن محمد وكان المجلس له وللخليل: وما تذكر من حسنه؟ قال: النابغة كان أعذب على أفواه الملوك وأوقع بقلوبهم، وأنظم لمعاني الكلم من زهير.
أخبرني شيخ من باهلة كنت أثق بعلمه قال: قدم نابعة بني ذبيان على النعمان بن المنذر، فاستأذن الحاجب فقال له: الملك على شرابه. فقال النابغة: لله أبوك، [هذا حين مرادي] وما كل وقت تتسع لي الفرصات، ولي حاجةٌ قضاؤها معقودٌ بشكرك. فقال له الحاجب: إن في شكرك أبا أمامة لرغبة، وإن في دون ما سألت ما لرهبة التعدي، فهل من سبب أو حيلة. قال: من عنده؟ قال: خالد بن جعفر بن كلاب. قال: فأين أنت عن خالد بما أقول لك؟ قال: وما هو؟ قال: ترتصد لي خالدا، فإذا هو نهض فأقره مني السلام، وقل له: إن من قدرك وفاء الدرك بك، وناحيتي من الشكر ما قد علمت، وحاجتي ملاطفة الأسباب عند الملك حتى تحرك به ذكرا يسهل معه الاستئذان. فقال له: أفعل. ثم دخل فلم يزل ينتهز الفرصة في خالدٍ حتى إذا نهض عارضه، فقال له: ليهنك أبا البسام حادث نعمة. قال له خالد: هنأك الله عيشك، كل ما نحن فيه فبالملك تجديده! فأبلغه مقالة النابغة فقال: ائذنه بالطاعة، وقل له ينتظر المراجعة. ثم عاد إلى مجلسه فقال:
إلا لمثلك أو من أنت سابقه
…
سبق الجواد إذا استولى على الأمد
ثم قال: أيها الملك، كأني أرى أملاك ذي رعين وفائش قد مدت لهم قصبات المجد في حلبةٍ أنت –أبيت اللعن- قلادتها، فجئت سابقا متمهلا، وجاءوا محسرين ولم يحمد لهم سعى. فقال له النعمان: أنت في وصفك أبلغ من النابغة في نظمه. فقال له خالد: ما يبلغ
النابغة من وصفك دركا إلا فاته قدرك شرفا، ولوددت أن النابغة حاضرٌ حتى يقول ونقول. فرفع النعمان رأسه إلى الحاجب وقال: علي بالنابغة حيث كان. فخرج الحاجب فقال: ادخل يا أبا أمامة فقد رفع الحجاب. فدخل وسلم عليه وحياه بتحية الملوك وجلس وهو يقول: ((أيها الملك، أيفاخرك صاحب غسان فوالله لقفاك أحسن من وجهه، ولشمالك أجود من يمينه، ولأمك خيرٌ من أبيه، ولغدك أسعد من يومه)) . فضحك النعمان ثم قال لخالد: من يلومني على حب النابغة، ألك حاجة؟ قال: نعم. فقضى حوائجه بأسرها وأحسن جائزته، وانصرف داعيا له.