الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
76- مجلس محمد بن يزيد مع أبي إسحاق
حدثني بعض أصحابنا قال: حدثني أبو إسحاق الزجاج قال: كنت في ابتداء أمري قد نظرت في علم الكوفيين وانقطعت إليه، فاستكثرت منه حتى وقع لي أني لم أترك منه شيئا، وأني قد استغنيت به عن غيره. فلما قدم محمد بن يزيد بغداد قصدته يوما وأنا عندي أنه إن ناظرني قطعته لا أشك فيه، فدخلت إليه فلما قعدت قلت له: كيف تقول ما أحسن زيدا؟ فقال: ما أحسن زيدا. قلت: زيد بأي شيء تنصبه؟ فقال: التقدير شيء حسن زيدا، فما اسمٌ مبتدأ، وأحسن خبره وفيه ضمير الفاعل، وزيداً مفعول به، والمعنى معنى التعجب. فذهبت أتخطى المسألة فقال لي: على رسلك أقنعك هذا الجواب؟ قلت: ما تركت فيها شيئًا. قال: فإنها تنتقض عليك. قلت: من أين؟ قال: كيف جاز أن تكون ما اسما بغير صلة، وإنما تكون اسما تاما في الجزاء، نحو: ما تصنع أصنع، أو في الاستفهام نحو: ما صنعت يا رجل؟ وما عندك؟ فهي ابتداءٌ وما بعدها خبرها، فكيف جاز أن تكون في غير هذين الموضعين اسما بغير صلة؟ وأنت لو قلت رأيت أو أعجبني ما، لم يكن كلاما حتى تقول: رأيت ما صنعت، أو أعجبني ما عندك، ونحو ذلك مما يكون صلة للذي. فلم يكن عندي في هذا جواب. فقال: الجواب عن السؤال أن يقال: إنما صلح أن تكون ما في الاستفهام اسما بغير صلة، لأنها لو وصلت علمت، وإنما يسأل السائل عما يجهل، كما تقول: من أبوك؟ فلو قلت: من في الدار أبوك، كنت مخبرا لما علمته وغير مستخبر عما جهلته. وكذلك في الجزاء هي، لأنها هناك شائعة مبهمة
تقول: ما ركبت ركبت، فذلك واقع على كل مركوب. وكقولك: من يأتني آته. فهذا واقعٌ على جميع الناس.
وأنت إذا قلت: ما أحسن زيدا فقد تعجبت من حسنه ولم تصف أن الذي حسنه شيءٌ بعينه، فلذلك لزمها أن تكون مبهمة غير مخصوصة، كما تقول: شيءٌ جاء بك، أي ما جاء بك إلا شيء. وكذلك:((شر أهر ذا ناب)) ، أي ما أهره إلا شر. ومثله: إني مما أن أفعل كذا وكذا، يريد من الأمر أن أفعل كذا وكذا، فلما كان الأمر مجهولا كانت ما لإبهامها بغير صلة.
قال: فذهبت أتجاوز، واستحسنت ما سمعت، فقال لي: أقنعك هذا؟ فقلت: لا أعلم فيه شيئًا غيره. قال: فإن قيل لك: إذا قلت شيءٌ أحسن زيدا فقد أخبرت ولم تتعجب، فإذا وضعت ((ما)) في موضع شيء أين وقع التعجب؟ قال: فبقيت ولم تكن عندي جواب. فقال: الجواب في ذلك أن ما إنما صلح ذلك فيها لإبهامها وتصرفها. ألا ترى أنك تقول: ما أقمت أقمت، فتكون مؤقتة وحقيقتها أنها وصلتها مصدر. وكذلك ما صنعت يسرني، فإن شئت كانت في معنى الذي، وإن شئت كانت والفعل مصدرا، وتكون استفهاما وتكون جزاء، وتكون خبراً، وتكون نكرة في مثل قول:
ربما تكره النفوس من الأمر
…
.. .... .... .... .... ....
وتقع لذات غير الآدميين، ولنعوت الآدميين كقولك: ما عبد الله؟ فيقال: شريف أو وضيع، أو غني أو فقير.
فقلت: فكيف تقول: ما أعظم الله وما أحلم الله! فقال: أقول ما أعظم الله. فقل: كذا تقول؟ فقال: كذا أقول وكذا يقول عقلاء الناس. قلت: بأي شيء ينتصب الله؟ وهل يجوز أن يكون شيءٌ عظم الله وحلمه؟ فقال: نعم هذا المعنى أنه إنما هو انتباهك على ما لم تزل تعلم أنه وصفه جل وعز عند الشيء تصادفه من تفضله، فأنت الذاكر له بالحلم عندما رأيته عيانا. وهذا الذي كنت تعلمه قبل المشاهدة فأنت ذلك الشيء الذي ذكرناه بالحلم والعظمة عند هذه المشاهدة. فأنعم النظر عافاك الله فيما ذكرنا، فإنك تجده لازما لا يجوز غيره.
فقلت في نفسي: هذا هو الحق، وما سوى ذلك باطل. وانصرفت من عنده، ثم بكرت إليه كالمعتذر، ولزمته.