المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الجملة الأولى قوله تعالى: {الله لا إله إلا هو} - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٨٢

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌الفتاوى

- ‌ بيان ما يلزم من أحكام الزكاة

- ‌ كيفية أداء الزكاة، وكيفية توزيعها

- ‌ الأوقاف التي على جهات عامة كالمساجد والربط والمدارس والفقراء ليس فيها زكاة

- ‌ كيفية زكاة أموال الشركة

- ‌من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌زكاة المرتبات فيها تفصيل

- ‌الزكاة تكون فيما دار عليه الحول وهو بحوزة الإنسان

- ‌كيفية ضبط الموظف ومن له دخل للحول

- ‌ تعجيل الزكاة قبل تمام الحول

- ‌حكم زكاة ما يستلمه الطلاب من المكافأة الشهرية

- ‌الربح تبع الأصل وحوله حول أصله إلا إذا كان ربا

- ‌حول الدين

- ‌ما بلغ نصابا وحال عليه الحول ففيه زكاة

- ‌المال الموضوع في البنك الإسلاميحكمه حكم غيره من الأموال

- ‌حكم التعامل مع البنوك بالربا وزكاتها

- ‌حكم زكاة النقود العربيةوالأجنبية المجموعة على سبيل الهواية

- ‌حكم زكاة أقلام الذهب

- ‌كان الزوجان لا يصليان ثم التزما، فهل يجددان عقد الزواج

- ‌زوجها لا يصلي رغم نصيحتها له، هل تستمر معه

- ‌من مات وعليه صلاة

- ‌من ترك صلاة هل تقبل صلواته الأخرى

- ‌ غيبة الذين لا يؤدون الصلاة إطلاقا والاستهزاء بهم

- ‌هل تارك الصلاة مخلد في النار

- ‌حكم بول الغنم وروثها

- ‌ حكم الصلاة في ثوب فيه بقع من جرح دم

- ‌طهارة المكان

- ‌من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

- ‌بناء المتاجر تحت المسجد

- ‌البناء على المسجد

- ‌ضم مكان الحمامات إلى المسجد

- ‌بناء القبة فوق المسجد

- ‌الإصلاح في المسجد

- ‌دورات المياه حول المسجد

- ‌وضع الصور في المسجد والصلاة في مكان فيه صور

- ‌المحاريب في المساجد

- ‌وضع المآذن في المساجد وبناء القبور فيها

- ‌ الصلاة في مسجد فيه قبر

- ‌ حكم الإسلام في الصلاة في المسجد الذي فيه بعض القبور

- ‌ الصلاة في مسجد به ضريح ميت

- ‌الصلاة في المقابر

- ‌البحوث

- ‌التمهيد: فضل آية الكرسي:

- ‌تفسير الآية

- ‌الجملة الأولى قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}

- ‌الخاتمة:

- ‌عرش الرحمن في القرآن

- ‌التمهيد: تعريف العرش:

- ‌المبحث الأول: خلق الله للعرش:

- ‌المبحث الثاني: مكان العرش:

- ‌المبحث الثالث: استواء الله على العرش:

- ‌المبحث الرابع: صفات العرش:

- ‌المبحث الخامس: أحوال الملائكة مع العرش:

- ‌المطلب الأول: حملة العرش:

- ‌المطلب الثاني: عدد حملة العرش:

- ‌المطلب الثالث: الملائكة حول العرش:

- ‌الخاتمة:

- ‌تقريرات علماء الدعوة في الإيمان ومسائله

- ‌المقدمة:

- ‌تمهيد في بيان منزلة مسائل الإيمان:

- ‌الفصل الأول: مسمى الإيمان وحقيقته:

- ‌الفصل الثاني: الإسلام وصلته بالإيمان:

- ‌الفصل الثالث: زيادة الإيمان ونقصانه:

- ‌الفصل الرابع: حكم الاستثناء في الإيمان:

- ‌الفصل الخامس: مرتكب الكبيرة:

- ‌الخاتمة:

- ‌دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مرحلة الاستخفاء في العهد المكي"دراسة تحليلية

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: مرحلة الاستخفاء في ضوء النصوص:

- ‌المبحث الثاني: معالم دعوة النبي في مرحلة الاستخفاء:

- ‌المطلب الأول: ميدان الدعوة في مرحلة الاستخفاء:

- ‌المطلب الثاني: وسائل وأساليب الدعوة في مرحلة الاستخفاء:

- ‌المطلب الثالث: مضمون الدعوة في مرحلة الاستخفاء:

- ‌المطلب الرابع: أصناف المدعوين في مرحلة الاستخفاء:

- ‌المبحث الثالث: مفهوم الاستخفاء في دعوة النبي وسماتها:

- ‌المطلب الثاني: سمات الاستخفاء في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: تطبيقات الاستخفاء بالدعوة في العصر الحاضر:

- ‌المطلب الأول: الاستخفاء بالدعوة في المجتمعات الدعوية:

- ‌المطلب الثاني: الاستخفاء بالدعوة في المجتمعات (غير الدعوية):

- ‌الخاتمة:

- ‌المبحث الثاني: الاستئذان وأنواعه في السنة:

- ‌المطلب الأول: استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم زوجاته، وأصحابه:

- ‌المطلب الثاني: استئذان الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثالث: استئذان الناس بعضهم من بعض:

- ‌المطلب الرابع: الاستئذان والمرأة:

- ‌الخاتمة:

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌الجملة الأولى قوله تعالى: {الله لا إله إلا هو}

‌تفسير الآية

، هذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة:

‌الجملة الأولى قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}

(1)

{اللَّهُ} (2) علم خاص بالذات العلية، أي بالله عز وجل. وهي لا تطلق إلا على الله في الجاهلية والإسلام.

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (3)

روى المنذري عن أبي الهيثم أنه سأله عن اشتقاق اسم الله تعالى في اللغة فقال: كان حقه إلاه، أدخلت الألف واللام تعريفا، فقيل الإلاه، ثم حذفت العرب الهمزة استثقالا لها، فلما تركوا الهمزة حولوا كسرتها في اللام التي هي لام التعريف، وذهبت الهمزة أصلا فقالوا:(أللاه) فحركوا لام التعريف التي لا تكون إلا ساكنة، ثم التقى لامان متحركتان فأدغموا الأولى في الثانية، فقالوا:(الله)(4) ا. هـ.

فالله: هو المألوه المعبود، ذو الألوهية والعبودية على جميع خلقه.

"وهذا الاسم أعظم أسماء الله عز وجل التسعة والتسعين، لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها حتى لا يشذ منها شيء، وسائر الأسماء لا يدل آحادها إلا على آحاد المعاني، من علم أو قدرة أو فعل أو غيره، ولأنه أخص الأسماء، إذ لا يطلقه أحد على غيره لا حقيقة

(1) سورة البقرة الآية 255

(2)

سورة البقرة الآية 255

(3)

سورة لقمان الآية 25

(4)

لسان العرب ابن منظور 13/ 467 دار صادر.

ص: 92

ولا مجازا (1). ا. هـ.

واسم الجلالة الله مبتدأ مرفوع.

{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (2) كلمة التوحيد التي تتضمن النفي والإثبات، نافية جميع ما يعبد من دون الله، مثبتة العبادة لله وحده.

فلا معبود بحق إلا الله عز وجل.

إله قيل: إنه مأخوذ من أله يأله إذا تحير، لأن العقول تأله في عظمته. وأله يأله ألها أي تحير، وأصله وله يؤله ولها. وقد ألهت على فلان أي اشتد جزعي عليه.

وقيل مأخوذ من أله يأله إلى كذا أي لجأ إليه لأنه سبحانه المفزع الذي يلجأ إليه في كل أمر (3).

"وهو المألوه الذي تألهه القلوب، وكونه يستحق الإلهية مستلزم لصفات الكمال، فلا يستحق أن يكون معبودا محبوبا لذاته إلا هو، وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل، وعبادة غيره وحب غيره يوجب الفساد، كما قال تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (4)(5).

(1) المقصد الأسنى لأبي حامد الغزالي 61.

(2)

سورة البقرة الآية 255

(3)

لسان العرب 13/ 469.

(4)

سورة الأنبياء الآية 22

(5)

اقتضاء الصراط المستقيم ابن تيمية 2/ 387.

ص: 93

الإله إذن بمعنى المألوه، أي: المعبود حبا وتعظيما، ولا أحد يستحق هذا الوصف إلا الله عز وجل والآلهة المعبودة من دون الله هي آلهة عند متخذها آلهة، وإلا فهي لا تستحق العبادة، ولا تستحق أن يطلق عليها آلهة فهي معبودة بغير حق.

لا نافية للجنس، إله اسم لا وهنا النفي عام مطلق يشمل جميع أفراده. إلا هو بدل من الخبر المحذوف لأن تقدير الكلام. لا إله حق إلا هو.

فهذه الجملة تنفي نفيا قاطعا الألوهية الحقة إلا لمن يستحقها، وهو رب العالمين.

ص: 94

الجملة الثانية:

قوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (1) هذان الاسمان جامعان لصفات الكمال.

فـ الحي كامل الحياة. وهذا الاسم يتضمن جميع صفات الله عز وجل الذاتية.

فالله له الحياة التامة الكاملة التي لا بداية لها ولا نهاية، وله جميع الصفات الذاتية بمعانيها العظيمة الكاملة التي لا تتم الحياة الكاملة بدونها، والتي ينبغي إثباتها لله عز وجل على أكمل وجه وأتمه، كالعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والمشيئة، والعظمة، والعزة وغيرها من النعوت الكاملة. فالله - جل وعلا - القديم الباقي، الدائم الذي لا نهاية

(1) سورة البقرة الآية 255

ص: 94

لوجوده قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (1)

وقال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (2){وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (3)

ومن أسمائه عز وجل الأول والآخر والظاهر والباطن. روى مسلم بسنده عن جرير عن سهيل قال: كان أبو صالح يأمرنا

إلى أن قال: "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء"(4)

إذن كمال الأوصاف لله عز وجل يدل عليها كلمة الحي فهو تعالى حي حياة كاملة جامعة لجميع صفات الذات، ومن كمال حياته أنه كامل القدرة نافذ الإرادة والمشيئة" (5) فالله - تعالى - حياته كاملة، ويدل على كمال حياته ال التعريف التي تفيد الاستغراق.

وحياته - جل وعلا - لم يسبقها عدم، ولا يلحقها زوال.

قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} (6)

قال الزجاج في معنى الحي: يفيد دوام الوجود. والله تعالى لم يزل

(1) سورة القصص الآية 88

(2)

سورة الرحمن الآية 26

(3)

سورة الرحمن الآية 27

(4)

صحيح مسلم 8/ 78ح (2713) كتاب الذكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع.

(5)

الحق الواضح المبين 3/ 222.

(6)

سورة الفرقان الآية 58

ص: 95

موجودا، ولا يزال موجودا (1).

فالحياة الكاملة أبدا وأزلا لله عز وجل.

القيوم "ذكر الحياة التي هي أصل جميع الصفات، وذكر معها قيوميته المقتضية لذاته، وبقائه، وانتفاء الآفات جميعها عنه"(2).

وأصل كلمة القيوم من القيام، وهو من أبنية المبالغة. وهو من أسمائه - تعالى - فهو القائم بنفسه لا بغيره وهو مع ذلك يقوم به كل موجود حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجود إلا به.

قال مجاهد: القيوم: القائم على كل شيء، وقال قتادة: القيوم، القائم على خلقه بآجالهم وأعمالهم وأرزاقهم.

وقال الكلبي: القيوم الذي لا بدئ له، وقال أبو عبيدة: القيوم، القائم على الأشياء. قال الفراء: صورة القيوم من الفعل الفيعول، وصورة القيام الفيعال، وهما جميعا مدح (3).

قال الحسن، معناه القائم على كل نفس بما كسبت حتى يجازيها بعملها، من حيث هو عالم بها لا يخفى عليه شيء منها.

وقال ابن عباس: معناه الذي لا يحول ولا يزول (4). وقرأ ابن مسعود

(1) شرح أسماء الله الحسنى أحمد إبراهيم ملا محمد 131.

(2)

الصواعق المرسلة ابن القيم 4/ 1371.

(3)

لسان العرب 12/ 504.

(4)

تفسير القرطبي 3/ 271.

ص: 96

وعلقمة وإبراهيم النخعي والأعشى (الحي القيام) بالألف (1).

والقيوم: كامل القيومية وله معنيان:

1 -

هو الذي قام بنفسه واستغنى عن جميع خلقه ودليله قوله تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (2)

2 -

وهو الذي قامت به السماوات والأرض وما فيها من المخلوقات، ودليله قوله تعالى:{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (3).

فالكل مفتقر إلى الله عز وجل في كل شيء. فالمخلوقات مفتقرة إلى الله في إيجادها وإمدادها بما تحتاج من أمور الدنيا والدين، وفي جلب النفع ودفع الضرر .. وغير ذلك.

إذن الله هو الغني بذاته، المستغني عن خلقه، المغني لهم، فله - سبحانه - القيومية التامة.

"قال بعض المحققين: في قوله {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (4) إنهما الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى". (5).

وبما أنه عز وجل قائم نفسه قائم به غيره، فله تمام الحياة والقيومية فلذلك لا يعتريه سنة ولا نوم.

(1) المحرر الوجيز ابن عطية 2/ 274.

(2)

سورة فاطر الآية 15

(3)

سورة الرعد الآية 33

(4)

سورة البقرة الآية 255

(5)

تفسير السعدي 110.

ص: 97

الجملة الثالثة:

{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (1) هاتان صفتان سلبيتان. ومن المعلوم أنه لا يوجد في صفات الله تعالى وأسمائه صفة سلبية محضة، إنما تذكر الصفات السلبية لكمال ضدها. فالكمال حياة الله وقيوميته لا تأخذه سنة ولا نوم.

قال ابن تيمية: ينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتا، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال، لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشي، وما ليس بشيء فهو كما قيل: ليس بشيء فضلا عن أن يكون مدحا أو كمالا.

ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال. فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمنا لإثبات مدح، كقوله:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (2) إلى قوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} (3) فنفي السنة والنوم: يتضمن كمال الحياة والقيام. فهو مبين كمال أنه الحي القيوم" ا. هـ

وهذا تنزيه لله عن أن يتصف بعيب أو نقص يناقض لكمال أوصافه، فهو موصوف بكل صفة كمال، منزه عن ضدها وعن نقصها، فهو موصوف لكمال الحياة وبكمال القدرة، منزه عما يضادها من الموت

(1) سورة البقرة الآية 255

(2)

سورة البقرة الآية 255

(3)

سورة البقرة الآية 255

ص: 98

والإعياء والتعب واللغوب، فإنه لو كان موصوفا بشيء من هذا النقص لكان ناقص القدرة (1).

لم قال: {لَا تَأْخُذُهُ} (2) ولم يقل لا ينام؟

"لأن الأخذ بمعنى القهر والغلبة"(3) حتى يعلم أن ذلك يشمل الأخذ بالقهر والغلبة، والأخذ بالاختيار، فهو لا يصيبه النعاس ولا ينام لا غلبة ولا اختيارا.

ولما عبر بالأخذ الذي هو بمعنى القهر والغلبة وجب تقديم السنة كما لو قيل: فلان لا يغلبه أمير ولا سلطان (4).

سنة السنة: النعاس في قول الجميع. والنعاس من العين فإذا صار في القلب صار نوما.

وفرق المفضل بينهما فقال: السنة من الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب (5).

والسنة: بدء النعاس، وهو فتور يعتري الإنسان وترنيق في عينيه، وليس يفقد معه كل ذهنه.

والنوم: هو المستثقل الذي يزول معه الذهن.

قال الرازي في تفسيره: إن السنة ما تتقدم النوم، فإذا كانت عبارة عن

(1) الحق الواضح المبين السعدي 3/ 216 - 271.

(2)

سورة البقرة الآية 255

(3)

نظم الدرر البقاعي 1/ 496.

(4)

المرجع السابق 1/ 496.

(5)

تفسير القرطبي 3/ 272.

ص: 99

مقدمة النوم، فإذا قيل: لا تأخذه سنة دل على أنه لا يأخذه نوم بطريق أولى (1).

قلت: وهذا غير مسلم للرازي، لأن النوم قد يحصل دون نعاس ابتداء، ولا يستلزم نفي السنة نفي النوم، والنعاس يستطيع الإنسان دفعه، أما النوم فقد لا يستطيع دفعه.

كذلك فإن تكرار لا النافية في قوله ولا نوم تفيد تأكيد نفي النوم عنه – عز وجل – لذلك لو اقتصر النفي في القرآن على السنة فقط لم يفد ذلك نفي النوم، وحاشاه أن ينام.

ولا نوم النوم معروف للجميع، وهو يستغرق الحواس "وهو أمر جسماني محض، وربنا – عز وجل – منزه عن صفات الأجسام وعوارضها، وكيف يحدث ذلك للقيوم – سبحانه – الذي قام بنفسه، بما هو عليه من كمال الغنى والعظمة، وقام بجميع المخلوقات (2).

والنوم يقطع التعب والعناء، والذي يتعب ويحس بالعناء هو المخلوق، أما الخالق فلا يتعب ولا يحتاج إلى راحة أو نوم لكمال صفاته وأسمائه، لكن المخلوق الضعيف يحتاج إلى النوم والاسترخاء والنعاس قال تعالى:{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} (3)، وقال:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} (4).

(1) التفسير الكبير الفخر الرازي 1/ 307 - 308.

(2)

تفسير آية الكرسي عبد الرحمن الدوسري 30.

(3)

سورة النبأ الآية 9

(4)

سورة الفرقان الآية 47

ص: 100

فالمراد من قوله {وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} (1) أي راحة لأبدانكم بانقطاعكم عن الأشغال (2)، فبذلك يكون النوم قاطعا للتعب والمشقة.

والإنسان وغيره من المخلوقات محتاج إلى الله في يقظته ونومه، لكن الخالق المتصف بالقيومية وتلك الصفة تنافي السنة والنوم، لأنه – عز وجل – لا ينام ولا ينبغي له أن ينام.

جاء في الحديث الصحيح عن أبي موسى – رضي الله عنه – قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام بيده القسط يخفضه ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. (3)» .

الحاصل: أن الله تعالى لا تدركه آفة ولا يلحقه نقص، والنوم نقص، والمعلوم أن أهل الجنة لا ينامون في الجنة فهم ليسوا بحاجة إلى النوم لكمال حياتهم، ولما في النوم من نقص التلذذ بنعيم الجنة وثوابها.

(1) سورة الفرقان الآية 47

(2)

القرطبي 13/ 38.

(3)

مسلم 1/ 111 كتاب الإيمان، باب في تقوله عليه السلام:"إن الله لا ينام".

ص: 101

الجملة الرابعة:

{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (1) اللام للملك فهو يملك كل شيء

(1) سورة البقرة الآية 255

ص: 101

ملكا تاما، وشبه الجملة من الجار والمجرور في محل رفع خبر مقدم، وكل ما حقه التأخير إذا تقدم فهو يفيد الحصر، فبذلك يكون سبب تقديم الخبر حصر ملكية السماوات والأرض وما فيهن لله – عز وجل – دون سواه، لا شريك له في ربوبيته ولا في ألوهيته.

ما اسم موصول، وهو من صيغ الجمع، مبتدأ مؤخر، وما تشمل العاقل وغير العاقل، أما: من فهي للعاقل فقط لذلك جاءت ما في هذه الآية لتكون ملكية الله عز وجل شاملة لجميع ما في السماوات والأرض من الأعيان والأحوال.

قال ابن عطية: جاءت العبارة بما وإن كان في الجملة من يعقل من حيث المراد الجملة والموجود. (1).

والمعلوم "أن غير العاقل أكثر من العاقل، ولكننا نقول: غلبت (ما) على (من) لأن (ما) تشمل الأعيان والأحوال، والمراد بالأحوال: التصرف في هذه الكائنات، فالله له ما في السماوات والأرض خلقا وملكا وتدبيرا، ولهذا جاءت (ما).

وإذا قصدت الأحوال أتى بـ (ما) حتى في العاقل قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (2).

(1) المحرر الوجيز ابن عطية 2/ 279.

(2)

سورة النساء الآية 3

ص: 102

ولم يقل: (من)، لأن المرأة تنكح لحالها ووصفها، لا لشخصها (1)، والحصر الذي في الآية يدل على أن لله – عز وجل ما في السماوات وما في الأرض خلقا وملكا وتدبيرا وحده دون سواه، فهو المالك وما سواه مملوك، وهو الخالق وغيره مخلوق، وجميع ما في السماوات والأرض ملكه وعبيده مقهورون بعزته، خاضعون لمشيئته، وهو الرقيب عليهم لافتقارهم إليه وتكفله بهم.

فالواجب أن نخضع له خضوع تذلل وخشوع وطاعة، قال تعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (2).

السماوات جمع السماوات، وأفرد الأرض، وإن كان المراد فيها الجمع لأن الأرض في هذه الآية مراد منه الجنس قوله {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} (3) جميع ما فيهن من ملائكة وغيرها، ومن المعلوم أن الملائكة عددهم كثير وقد ملئوا السماوات كما في الحديث:«ما من موضع شبر إلا فيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد (4)» .

كذلك ما جاء في القرآن من ذكر البيت المعمور الوارد في قوله تعالى: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} (5).

(1) أحكام القرآن الشيخ ابن عثيمين، أشرطة الشيخ رحمه الله.

(2)

سورة مريم الآية 93

(3)

سورة البقرة الآية 255

(4)

سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 2/ 506، كتاب المبتدأ والأنبياء وعجائب المخلوقات، (852).

(5)

سورة الطور الآية 4

ص: 103

والذي يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه كما جاء في الحديث الصحيح في حديث الإسراء بعد مجاوزته عليه عليه الصلاة والسلام إلى السماء السابعة «ثم رفع بي إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه آخر ما عليهم (1)» .

وكلمة (السماوات) تدل على أن السماوات عديدة، وقد ورد ذلك في القرآن، وأن عددها سبع سماوات كما في قوله تعالى:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (2).

وقوله: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} (3).

{وَمَا فِي الْأَرْضِ} (4) من جميع المخلوقات.

وقد ورد في القرآن على أن الأرض أكثر من واحدة ولكن لم يرد التصريح بعددها، كما في قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (5).

فالأرضون إذن سبع، مثل عدد السماوات مع الاختلاف في الكيفية، وقد ورد ذكر عدد الأرضين في الحديث الشريف الذي رواه الشيخان

(1) صحيح مسلم 1/ 104، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات.

(2)

سورة المؤمنون الآية 86

(3)

سورة الملك الآية 3

(4)

سورة البقرة الآية 255

(5)

سورة الطلاق الآية 12

ص: 104

عن سعيد بن زيد – رضي الله عنه – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين (1)» .

(1) البخاري 5/ 103 كتاب المظالم، باب إثم من ظلم شيئا من الأرض ح (2452، 2453) ومسلم 1/ 85 كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار.

ص: 105

الجملة الخامسة:

{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (1).

من اسم استفهام مبني في محل رفع مبتدأ ذا ملغاة، الذي اسم موصول خبر المبتدأ وقد تكون ذا خبر المبتدأ، والذي نعت ذا أو بدل.

والاستفهام هنا يراد به النفي لوجود الإثبات في آخر الجملة، حيث قال: إلا بإذنه.

قال الشوكاني: في هذا الاستفهام من الإنكار على من يزعم أن أحدا من عباده يقدر أن ينفع أحدا منهم بشفاعة أو غيرها والتقريع والتوبيخ له ما لا مزيد عليه (2). ا. هـ

يشفع الشفاعة في اللغة: مصدر من الشفع وهو ضد الوتر وشفع فيه أعانه، والشفاعة تطلق على الدعاء (3).

(1) سورة البقرة الآية 255

(2)

فتح القدير الشوكاني 1/ 272.

(3)

لسان العرب 8/ 183 – 184.

ص: 105

أما الشفاعة اصطلاحا: فهي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم، وهي عموما "التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة"(1).

وهي نوعان:

1 -

شفاعة مثبتة.

2 -

وشفاعة منفية.

أما المثبتة: فهي التي تطلب من الله، ولا تكون إلا لأهل التوحيد وهي مقيدة بأمرين:

1 -

إذن الله للشافع أن يشفع.

2 -

رضاه عن المشفوع له.

وأما المنفية: فهي التي تطلب من غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، والناس في الشفاعة ثلاث طوائف:

1 -

طائفة أنكروها، وهم: اليهود، والنصارى، والخوارج.

2 -

طائفة أثبتوها وغلوا في إثباتها، حتى جوزوا طلبها من الأولياء والصالحين.

3 -

طائفة أثبتوا الشفاعة الشرعية، كما ذكرها الله في كتابه (2).

الشفاعة الشرعية: هي التي أثبتها الله عز وجل في كتابه وتطلب من الله وحده قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} (3).

فالله عز وجل هو مالكها ولا تطلب إلا منه، وليس لمن تطلب منه

(1) القول المفيد على كتاب التوحيد الشيخ ابن عثيمين 1/ 330.

(2)

انظر: حاشية كتاب التوحيد عبد الرحمن بن محمد العاصمي النجدي 133.

(3)

سورة الزمر الآية 44

ص: 106

شيء منها، وطلب الشفاعة عبادة وتأله لا يصلح إلا لله عز وجل والشفاعة المثبتة إنما تقع يوم القيامة وهي بإذن الله، وهي التي ورد ذكرها في القرآن كما في قوله تعالى:{يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} (1).

ولقد ذكر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أنه قد ادخر دعوته للشفاعة يوم القيامة.

ففي الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة – رضي الله عنه – قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة - إن شاء الله - من مات لا يشرك بالله شيئا (2)» .

والشفاعة العظمى التي اختصها الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم لأهل الإخلاص، هي التي جاءت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري بسنده عن أنس – رضي الله عنه – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا

(1) سورة طه الآية 109

(2)

صحيح مسلم 1/ 131، كتاب الإيمان، باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته.

ص: 107

هذا، فيقول: لست هناكم، ويذكر ذنبه فيستحي، ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتونه فيقول: لست هناكم، ويذكر سؤله ربه ما ليس به علم فيستحي، ويقول: ائتوا خليل الرحمن، فيأتونه، فيقول: لست هناكم، ائتوا موسى عبد كلمه الله، وأعطاه التوراة، فيأتونه، فيقول: لست هناكم، ويذكر قتل النفس بغير نفس، فيستحي من ربه ويقول: ائتوا عيسى عبد الله ورسوله، وكلمة الله وروحه: فيقول: لست هناكم، ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيؤذن لي، فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله ثم يقال: ارفع رأسك وسل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع فأرفع رأسي، فأحمده بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه، فإذا رأيت ربي (مثله) ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أعود ثالثة ثم أعود الرابعة، أقول: ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود (1)».

فهذا الحديث الصحيح يثبت الشفاعة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بعد إذن الله عز وجل وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع

(1) البخاري 8/ 160 كتاب التفسير، باب قول الله:(وعلم آدم الأسماء كلها) ح (4476) وكتاب الرقاق، باب الحشر 11/ 417 ح (6565).

ص: 108

وكانت تعجبه، فنهش منها ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وذكر الحديث إلى أن قال: "فأنطلق فآتي العرش فأقع ساجدا لربي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب أمتي، فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس في الأبواب (1)».

ثم بين الرسول صلى الله عليه وسلم أحق الناس بشفاعته حين سأله أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: «من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه (2)» .

قال ابن القيم رحمه الله في المدارج في معنى الحديث: تأمل هذا الحديث كيف جعل الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم، فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعم الكاذب وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع.

ومن جهل المشرك اعتقاده أن من اتخذ وليا أو شفيعا أنه يشفع له وينفعه عند الله، كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع من والاهم.

ولم يعلموا أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال في الفصل الأول:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (3).

(1) العلو الذهبي 121 ح 83.

(2)

أحمد في المسند 2/ 307، وابن حبان في صحيحه 8/ 131 وله شاهد في مسلم.

(3)

سورة البقرة الآية 255

ص: 109

وفي الفصل الثاني: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (1).

وبقي فصل ثالث، وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فهذه ثلاثة فصول، تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها (2). ا. هـ

والشفاعة الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ستة أنواع:

1 -

الشفاعة الكبرى التي يتأخر عنها أولو العزم عليهم الصلاة والسلام - حتى تنتهي إليه صلى الله عليه وسلم فيقول: "أنا لها"(3).

2 -

شفاعته لأهل الجنة، في دخولها، وقد ذكرها أبو هريرة في حديثه الطويل المتفق عليه.

3 -

شفاعته لقوم من العصاة من أمته، قد استوجبوا النار بذنوبهم، فيشفع لهم ألا يدخلونها.

4 -

شفاعته في العصاة من أهل التوحيد، الذين دخلوا النار بذنوبهم.

5 -

شفاعته لقوم من أهل الجنة، في زيادة ثوابهم ورفعة درجاتهم.

6 -

شفاعته في بعض الكفار من أهل النار، حتى يخفف عذابه وهذه

(1) سورة الأنبياء الآية 28

(2)

مدارج السالكين ابن القيم 1/ 341.

(3)

جزء من حديث صحيح أخرجه البخاري رقم (7510) ومسلم رقم (193).

ص: 110

خاصة بأبي طالب وحده (1).

هذا بالنسبة للشفاعة المثبتة، أما الشفاعة المنفية فهي التي تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، ومن أمثلتها قوله تعالى:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} (2).

وقوله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} (3){قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} (4).

وقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (5).

وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} (6){وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (7).

"قطع الله بهذه الآية كل سبب يتوسل به المشركون لدعوة غيره، وبين أن من كان بهذا الوصف لا ملك له بوجه من الوجوه، ولا شركة في الملك، ولا معاونة ومظاهرة فيه، وليس له شفاعة بدون إذن الله، لا يستحق من

(1) انظر: فتح المجيد عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب 239 – 240.

(2)

سورة الأنعام الآية 51

(3)

سورة الزمر الآية 43

(4)

سورة الزمر الآية 44

(5)

سورة يونس الآية 18

(6)

سورة سبأ الآية 22

(7)

سورة سبأ الآية 23

ص: 111

العبادة مثقال ذرة" (1).

فهذه الشفاعة منتفية وممتنعة، وفي هذه الآيات رد على المشركين ومن على شاكلتهم، الذين اتخذوا شفعاء من دون الله من الملائكة والأنبياء والصالحين والأصنام وغيرها، وبين لهم عز وجل أن الشفاعة التي تطلب من غيره مردودة، بل إن الشفاعة ملك له وحده وهي تطلب منه قال تعالى:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (2).

قال ابن كثير رحمه الله: (فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأصنام الأنداد عند الله، وهو تعالى لم يشرع عبادتها، ولا أذن فيها بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله، وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه)(3). فلا شفاعة إلا بإذن الله عز وجل ولمن رضي الله قوله وعمله بتجرده من الشرك، فبذلك يتبين عظيم ملكوت الله تعالى وكبريائه وأن جميع ما في السماوات والأرض ملك له، وتظهر مناسبة ذكر قوله تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (4) بعد ذكر قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (5) فالملك خاص به - تعالى - وحده، وهو ملك تام السلطان.

(1) الحق الواضح المبين السعدي 3/ 214.

(2)

سورة النجم الآية 26

(3)

ابن كثير 4/ 255.

(4)

سورة البقرة الآية 255

(5)

سورة البقرة الآية 255

ص: 112

عنده أي عند الله تعالى.

إلا بإذنه في هذه الجملة إثبات الشفاعة، فبعد أن قال في أول الجملة {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} (1) أثبت أن الشفاعة حاصلة وكائنة ولكن بعد إذن الله - تعالى - بذلك، فلولا ثبوتها لم يكن لذكر قوله إلا بإذنه فائدة.

فالحاصل أن الشفاعة كائنة بعد استئذان الله تعالى.

وتبين كذلك مما سبق عن الشفاعة أنها لا تطلب من النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا استقلالا، لا في حياته ولا بعد موته، إنما يطلب المؤمن من ربه – عز وجل – الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: اللهم شفعه في، أو اللهم اجعلنا من شفعاء نبيك محمد صلى الله عليه وسلم والمراد من قوله بإذنه أي إعلامه. بأنه راض بذلك الأمر، وهي الشفاعة.

(1) سورة البقرة الآية 255

ص: 113

الجملة السادسة: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} (1)

مراتب العلم هي:

1 -

العلم: وهو إدراك الأمر إدراكا جازما عن طريق اليقين.

2 -

الظن: وهو إدراك الطرف الراجح، فالعلم أرجح.

3 -

الشك: وهو استواء الطرفين العلم وعدمه.

(1) سورة البقرة الآية 255

ص: 113

4 -

وهم: وهو عدم إدراك العلم بل الجهل أرجح من العلم.

5 -

جهل: وهو عدم العلم بالشيء.

وعلم الله – جل وعلا - علم محيط بكل شيء فهو العليم الذي أحاط علمه بالعلم العلوي والسفلي، لا يخلو عن علمه مكان ولا زمان، محيط علمه بتفاصيل الأمور، متقدمها ومتأخرها، ظاهرها، وباطنها، فهو سبحانه لا تخفى عليه خافية من أحوال الناس، ويعلم الأشياء علما تاما شاملا جملة وتفصيلا وهو ليس كعلم العباد.

والنصوص القرآنية، في ذكر إحاطة علم الله كثيرة جدا منها قوله تعالى:{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (1).

وقوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (2).

وقوله: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} (3){قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} (4).

وقوله: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} (5).

(1) سورة مريم الآية 64

(2)

سورة يونس الآية 61

(3)

سورة طه الآية 51

(4)

سورة طه الآية 52

(5)

سورة الأنعام الآية 80

ص: 114

فالله – سبحانه وتعالى – يعلم ما كان وما سيكون في المستقبل، وما لم يكن لو كان كيف يكون، ويعلم أحوال المكلفين قبل إنشائهم وحين أنشأهم وبعد مماتهم وبعدما يحييهم، فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فعلمه محيط بكل شيء، بالواجبات والممتنعات والممكنات، فيعلم تعالى نفسه الكريمة، ونعوته المقدسة وأوصافه العظيمة، وهي الواجبات التي لا يمكن إلا وجودها، ويعلم الممتنعات حال امتناعها، ويعلم ما يترتب على وجودها لو وجدت كما قال تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (1).

وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (2).

فهذا وشبهه من ذكر علمه بالممتنعات التي يعلمها، وإخباره بما ينشأ عنها لو وجدت على وجه الفرض والتقدير، ويعلم تعالى الممكنات، وهي التي يجوز وجودها وعدمها، ما وجد منها وما لم يوجد، مما لم تقتض الحكمة إيجاده، فهو العليم الذي أحاط علمه بالعالم العلوي والسفلي، لا يخلو عن علمه مكان ولا زمان، ويعلم الغيب والشهادة، والظواهر والبواطن، والجلي والخفي، قال تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3)(4).

(1) سورة الأنبياء الآية 22

(2)

سورة المؤمنون الآية 91

(3)

سورة البقرة الآية 231

(4)

الحق الواضح المبين 3/ 230.

ص: 115

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} (1).

ما من صيغ العموم، فهي شاملة لكل شيء: الماضي والحاضر والمستقبل، سواء أكان من أفعال الله عز وجل أو من أفعال المخلوقين.

قال مجاهد في تفسير قوله {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} (2) ما بين أيديهم: الدنيا، وما خلفهم، الآخرة، وهذا صحيح في نفسه عند موت الإنسان، لأن ما بين اليد هو كل ما تقدم الإنسان، وما خلفه هو كل ما يأتي بعده، وبنحو قول مجاهد قال السدي وغيره (3).

" وعلمه سبحانه وتعالى – (ما بين أيديهم): يقتضي أنه لا يجهل المستقبل، وعلمه (ما خلفهم) يقتضي أنه لا ينسى الماضي "(4).

(1) سورة البقرة الآية 255

(2)

سورة البقرة الآية 255

(3)

المحرر الوجيز ابن عطية 2/ 277.

(4)

أحكام القرآن الشيخ محمد العثيمين.

ص: 116

الجملة السابعة:

{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (1).

أحاط بالأمر إذا أحدق به من جوانبه كلها، وأحاط به علمه وأحاط به علما (2).

والمراد - والله أعلم - أن الخلق الذين في السماوات والأرض المذكورين آنفا {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (3) لا يحيطون ولا يعلمون شيئا من علم الله عز وجل إلا ما أراد الله عز وجل أن يطلعهم عليه.

(1) سورة البقرة الآية 255

(2)

لسان العرب 7/ 280.

(3)

سورة البقرة الآية 255

ص: 116

" ولما بين قهره لهم بعلمه، بين عجزهم عن كل شيء من علمه إلا ما أفاض عليهم بعلمه فقال: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ} (1) أي قليل ولا كثير {مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (2) فبان بذلك ما سبقه، لأن من كان شامل العلم ولا يعلم غيره إلا ما علمه كان كامل القدرة، فكان كل شيء في قبضته، فكان منزها عن الكفؤ متعاليا عن كل عجز وجهل، فكان بحيث لا يقدر غيره أن ينطق إلا بإذنه لأنه يسبب له ما يمنعه مما لا يريده "(3).

بشيء جاءت نكرة لتفيد العموم.

من علمه يحتمل من علم ذاته وصفاته، يعني: أننا لا نعلم شيئا عن الله وذاته وصفاته إلا بما شاء مما علمنا إياه. (4).

ويحتمل أن (العلم) هنا بمعنى المعلوم، أي ولا يحيطون بشيء من معلوماته، لأن علم الله تعالى الذي هو صفة ذاته لا يتبعض، والمعنى: لا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يعلمه (5).

لأن معلومه – عز وجل – يدخل فيه علمه بذاته وبصفاته والله تعالى أعلم.

وما علمنا الله – عز وجل – كثير بالنسبة لنا، قليل لمعلومه – تعالى – فنحن نعلم أشياء عن أسماء الله عز وجل – وعن صفاته، وعن الأحكام

(1) سورة البقرة الآية 255

(2)

سورة البقرة الآية 255

(3)

نظم الدرر البقاعي 1/ 497.

(4)

شرح العقيدة الواسطية، الشيخ ابن عثيمين 1/ 171.

(5)

المحرر الوجيز ابن عطية 2/ 227، وانظر: الأسماء والصفات للبيهقي 143.

ص: 117

الشرعية والأحكام الكونية.

ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1){هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2){هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (3)

وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (4).

وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (5).

وهو الذي أعلمنا أنه استوى على عرشه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (6).

وهو الذي أعلمنا أن السماوات مخلوقة بغير عمد وعددها سبع: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} (7).

{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} (8).

(1) سورة الحشر الآية 22

(2)

سورة الحشر الآية 23

(3)

سورة الحشر الآية 24

(4)

سورة البقرة الآية 189

(5)

سورة الإسراء الآية 85

(6)

سورة طه الآية 5

(7)

سورة لقمان الآية 10

(8)

سورة الملك الآية 3

ص: 118

وهكذا بقية المعلومات، لا نحيط بها علما، إلا بما شاء الله، حتى المعلومات التي أمامنا يجهلها الكثير منا إلا إذا شاء الله أن نطلع عليها.

هناك أيها القارئ كثير من المعلومات التي في أنفسنا نجهل الكثير منها، من تلقيح البويضة، وبيان معنى النطفة، وكيفية التعشيش في مرحلة العلقة، ثم المضغة وماهيتها، إلى وقت الولادة وما إلى ذلك من المعلومات الدقيقة عن خلق الإنسان، والتي لم تعرف تلك الأطوار الدقيقة إلا قبل عشرات السنين، والتي يتم تعلمها بتعليم الله إيانا لها، فبذلك يتضح أننا لا نعلم شيئا مما يعلمه الله، إلا بما شاء، ولا نحيط بشيء مما يتعلق بصفاته ولا بذاته إلا بما شاء، فبذلك يتبين كمال علمه عز وجل.

{إِلَّا بِمَا شَاءَ} (1) أي ما شاء من الذي علمهم الله إياه وهو استثناء وقد أعيد العامل وهو حرف (الباء).

بما يحتمل أن تكون ما مصدرية، فالتقدير على ذلك، إلا بمشيئته.

ويحتمل أن تكون موصولة والتقدير، إلا بالذي شاء.

وعلى التقدير الثاني يكون العائد محذوفا وتقديره إلا بما شاءه.

بذلك نعلم أنه لا أحد يطلع من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله تعالى وأطلعه عليه.

(1) سورة البقرة الآية 255

ص: 119

الجملة الثامنة:

{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (1).

وسع أي اتسع لها، ووسع الشيء: لم يضق عنه (2) ووسع:

(1) سورة البقرة الآية 255

(2)

لسان العرب 8/ 393.

ص: 119

شمل وأحاط.

كرسيه الكرسي: هو موضع قدمي الرب – عز وجل – وهو بين يدي العرش كالمقدمة له.

وقد قيل في معنى الكرسي أقوال منها:

- ما روي عن حبر الأمة ابن عباس – رضي الله عنهما – أن معنى كرسيه أي علمه.

- وقال بعض العلماء: منه قيل للعلماء الكراسي، وفيه الكراسة التي يجمع فيها العلم.

- ورجح ابن جرير الطبري – رحمه الله تعالى – هذا القول.

- وقيل كرسيه قدرته التي يمسك بها السماوات والأرض.

- وقيل كرسيه عرشه.

- وقيل كرسيه تصوير لعظمته تعالى.

أما الرواية التي ذكر عن ابن عباس – رضي الله عنهما من أن الكرسي هو العلم، فهي لا تصح عن ابن عباس لأنه لم يرد في اللغة العربية أن معنى الكرسي هو العلم.

قال ابن منظور: الكرسي: معروف واحد الكراسي، والكرسي في اللغة الشيء الذي يعتمد عليه ويجلس عليه، فهذا يدل على أن الكرسي عظيم دونه السماوات والأرض، والكرسي في اللغة والكراسية إنما هو الشيء الذي قد ثبت ولزم بعضه بعضا.

ص: 120

ثم قال: وقد روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: الكرسي موضع القدمين، وأما العرش فإنه لا يقدر قدره، قال: وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها، قال: ومن روى عنه في الكرسي أنه العلم فقد أبطل (1) ا. هـ.

وأما قول من قال: إن كرسيه قدرته فهذا تأويل ظاهر، فالقدرة غير الكرسي، ولا حقيقة لذلك، فالقدرة صفة من صفات الله – عز وجل وصفات الله ليست مخلوقة، أما الكرسي فهو من مخلوقات الله – عز وجل ولا يصح أن يكون صفة من صفاته تعالى وهو مخلوق، فحاشاه أن تكون صفاته مخلوقة، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

وأما قول من قال: إن الكرسي هو العرش فيرد ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم «ما السماوات السبع والأرضون السبع بالنسبة للكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة (2)» .

ففرق عليه الصلاة والسلام بين العرش والكرسي.

وروي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن الكرسي موضع قدمي الرب – عز وجل – حيث قال: " إنه موضع قدمي الله – عز وجل ".

(1) لسان العرب 6/ 194.

(2)

رواه ابن أبي شيبة في كتاب (صفة العرش) رقم 85 والبيهقي في الأسماء والصفات 510 – 511 وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحية رقم 109.

ص: 121

من ذلك وغيره يتبين أن القول الفصل في هذه المسألة هو ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من أن الكرسي هو موضع قدمي الرب – عز وجل – وبهذا القول جزم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم – رحمهما الله تعالى – وغيرهما من أئمة العلم وأهل التحقيق.

قال القاضي أبو محمد: والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش، والعرش أعظم منه (1). ا. هـ

الحاصل: أن هنالك فائدة عظيمة تستنبط من ذلك وهي: بيان عظم قدرة الله عز وجل حيث لا يئوده حفظ تلك المخلوقات على كثرتها وعظمتها وكبر حجمها.

وفيه فائدة أيضا حيث تدل على عظم مخلوقات الله تعالى وعظم المخلوق دليل على عظم خالقها وموجدها، ودليل على سعة ملكه وقوته وإحاطة علمه.

وفي ذلك أيضا دليل على سعة الأكوان التي خلقها الله – عز وجل – وأن السماوات والأرض على عظمها لا تعتبر شيئا بالنسبة إلى الكرسي، وكل هذه المخلوقات وغيرها مما هو أعظم منها كالعرش لا تكاد تذكر بالنسبة لموجدها:{وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (2).

(1) المحرر الوجيز ابن عطية 2/ 279.

(2)

سورة البقرة الآية 247

ص: 122

وفيه دليل على إثبات القدمين لله – عز وجل – وقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة.

فقد روى البخاري بسنده عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اختصمت الجنة والنار إلى ربها، فقالت الجنة: رب ما لها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس، وقالت النار: أوريت بالمتكبرين - يعني أججت بهم – فقال الله للجنة أنت رحمتي، وقال للنار: أنت عذابي، أصيب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها. قال: فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدا، وإنه ينتهي إلى النار من يشاء فيلقون فيها، فتقول: هل من مزيد؟ ثلاثا حتى يضع فيها قدمه فتمتلئ ويرد بعضها إلى بعض وتقول: قط قط ثلاثا (1)»

ولا يلزم من إثبات القدمين لله – عز وجل – التجسيم، ولا التشبيه، فهو سبحانه ليس له شبيه ولا مثيل في أسمائه ولا في صفاته.

{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2).

وأهل السنة والجماعة يثبتون القدمين لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته، وهما ليستا جارحتين ولا يقال ذلك خلافا للمشبهة، ويثبتونها له عز وجل من غير تعطيل خلافا للجهمية المعطلة.

(1) البخاري 13/ 434 كتاب التوحيد، باب ما جاء في قوله:(إن رحمة الله قريب من المحسنين) ح (7449).

(2)

سورة الشورى الآية 11

ص: 123

الجملة التاسعة:

قوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} (1)

ولا يئوده أي لا يثقله.

وأصل الكلمة: آده الأمر أودا وأودا: بلغ منه المجهود والمشقة، ويقال: آدني يؤدني: أي أثقلني، وقال أهل التفسير، وأهل اللغة في قوله {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} (2) معناه ولا يكرثه ولا يثقله ولا يشق عليه من آده يئوده أودا (3).

وقيل من الأيد .. وهو القوة ومنه قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (4). أي ذا القوة (5) إذن المراد - والله أعلم - من ولا يئوده أي لا يثقله " وبهذا فسر اللفظة ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم ". (6).

فالله عز وجل لا يثقله حفظ هذه العوالم العظيمة ولا يكرثه حفظ السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، بل ذلك يسير فهو – عز وجل – القائم على كل نفس بما كسبت، كل شيء حقير بين يديه، متواضع ذليل بالنسبة إليه، ومحتاج إليه، فهو القاهر فوق عباده لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

(1) سورة البقرة الآية 255

(2)

سورة البقرة الآية 255

(3)

لسان العرب ابن منظور 3/ 74 - 76.

(4)

سورة ص الآية 17

(5)

فتح القدير الشوكاني 4/ 424.

(6)

المحرر الوجيز ابن عطية 2/ 279.

ص: 124

قال ابن تيمية: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} (1) أي لا يكرثه ولا يثقله وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها، بخلاف المخلوق القادر إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته (2) ا. هـ.

وهذه الصفة من الصفات السلبية، النفي فيها يتضمن صفات الكمال، لأن نفي ذلك يستلزم أنه قوي، قادر، محيط عليم إلى غير ذلك من الصفات التي اتصف بها الخالق – عز وجل – من غير تشبيه ولا تحريف ولا تعطيل.

حفظهما الحفظ: نقيض النسيان، وهو التعاهد وقلة الغفلة، وحفظ المال والسر حفظا: أي رعاه، ومنه الحفظة: الذين يحصون الأعمال ويكتبونها على بني آدم من الملائكة (3).

وهؤلاء الحفظة يكتبون ويحصون على ابن آدم كل خير وشر وطاعة ومعصية بعلم الله عز وجل، وهذا يقتضي إحاطته بأحوال العباد كلها الظاهر منها والباطن، فمن هذا يتضح لنا أن الله عز وجل قد حفظ على عباده ما عملوه وأحصاه عليهم. {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} (4).

أيضا من المعاني التي يتضمنها الحفظ حفظه لجميع خلقه بهدايتهم وتيسيرهم إلى مصالحهم وأمور معاشهم، ودفع ما يضرهم، فهو سبحانه

(1) سورة البقرة الآية 255

(2)

الرسالة التدمرية ابن تيمية 40.

(3)

لسان العرب 7/ 441.

(4)

سورة المجادلة الآية 6

ص: 125

الذي يحفظ جميع مخلوقاته بنعمه، ويخص عباده الصالحين بحفظ خاص، فيدفع عنهم ما يؤذيهم وما يضرهم في دينهم ودنياهم، جاء في الحديث:«احفظ الله يحفظك (1)»

فإذا حفظ المسلم ربه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه حفظه الله بتوفيقه إلى الخير في الدنيا والآخرة وحفظه من كل مكروه وكل شيطان.

فالله عز وجل لا يثقله حفظ هذه المخلوقات العظيمة بل إن ذلك عليه يسير.

والحفيظ من صفات الله عز وجل.

قال الحكيمي: ومعناه الصائن عبده من أسباب الهلكة في أمور دينه ودنياه. (2).

وهو الذي لا يعزب عن حفظه الأشياء كلها مثقال ذرة في السماوات والأرض (3).

(1) رواه الترمذي في صفة القيامة، باب رقم (60)، ح (2518) وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أحمد في المسند رقم (2669)(2763)(2804).

(2)

شرح أسماء الله الحسنى على منظومة الشيخ عبد الغني النابلسي أحمد إبراهيم ملا محمد 107.

(3)

شرح أسماء الله الحسنى ابن منظور 78.

ص: 126

الجملة العاشرة:

{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (1) هذه الجملة تفيد الحصر لأن طرفيها معرفة، فهو سبحانه العلي العظيم وحده دون سواه.

(1) سورة البقرة الآية 255

ص: 126

العلي صفة مشبهة، والصفة المشبهة تكون لازمة لا ينفك عنها الموصوف، فعلو الله عز وجل لازم لذاته وله سبحانه جميع معاني العلو: علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر والغلبة، وعلو الأسماء والصفات.

قال السعدي: فجميع معاني العلو ثابتة لله من كل وجه، فله علو الذات فإنه فوق المخلوقات، وعلى عرشه استوى، أي علا وارتفع، وله علو القدر وهو علو صفاته وعظمتها، فلا يماثله صفة مخلوق، بل لا يقدر الخلائق كلهم أن يحيطوا ببعض معاني صفة واحدة من صفاته، قال تعالى:

{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (1).

وبذلك يعلم أنه ليس كمثله شيء في كل نعوته، وله علو القهر، فإنه الواحد القهار، الذي قهر بعزته وعلوه الخلق كلهم، فنواصيهم بيده، وما شاء كان لا يمانعه فيه مانع، وما لم يشأ لم يكن (2). ا. هـ.

وقد قسم العلماء العلو إلى قسمين: علو ذات، وعلو صفات.

أما علو الذات: فإن معناه أنه فوق مخلوقاته مستو على عرشه ليس فوقه شيء، بل كل الأشياء تحت الله – عز وجل.

وأما علو الصفات: فمعناها علو صفاته عن مشابهة المخلوقين،

(1) سورة طه الآية 110

(2)

الحق الواضح المبين 3/ 224، وانظر: توضيح الكافية الشافية 3/ 377.

ص: 127

فلا يماثله أحد من خلقه، بل لا يستطيع الخلائق كلهم الإحاطة ببعض معاني صفة واحدة من صفاته فهو كما قال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1).

في نعوته وأسمائه وهو كما قال عن نفسه: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2).

فصفاته عز وجل عليا ليس فيها نقص بأي وجه من الوجوه.

وبعض النفاة من أهل التعطيل قالوا: إن الله عال علوا وصفيا وهم على قسمين:

فمنهم من يرى أن الله بذاته موجود في كل مكان، ومنهم من يرى أن الله تعالى لا يمين ولا شمال، ولا فوق لا تحت، ولا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، وهذا قول النفاة المعطلة.

فمن هذا وصفه فهو المعدوم لأن هذا تعطيل محض، وعلو الله عز وجل ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب: كقوله تعالى وهي أدلة على العلو:

{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (3).

{إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (4).

(1) سورة الشورى الآية 11

(2)

سورة الروم الآية 27

(3)

سورة الأعلى الآية 1

(4)

سورة الشورى الآية 51

ص: 128

- {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (1).

وقوله: وهي أدلة على الفوقية:

- {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (2).

- {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (3).

وقوله وهي أدلة على صعود الأشياء إليه:

- {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (4).

- {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (5)" والآية فيها إثبات علو الله على خلقه؛ لأن الصعود والرفع يكونان إلى أعلى "(6).

وقوله الذي يدل على رفع بعض المخلوقات إليه:

- {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (7).

- وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (8).

(1) سورة الرعد الآية 9

(2)

سورة الأنعام الآية 18

(3)

سورة النحل الآية 50

(4)

سورة المعارج الآية 4

(5)

سورة فاطر الآية 10

(6)

شرح العقيدة الواسطية الشيخ صالح الفوزان 80.

(7)

سورة النساء الآية 158

(8)

سورة آل عمران الآية 55

ص: 129

وقوله الذي يدل على نزول بعض الأشياء:

- {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (1).

- وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (2).

وأما السنة: فقد وردت بذلك الأحاديث القولية والفعلية والتقريرية، فالقولية: كقوله صلى الله عليه وسلم –: «ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك

(3)». الحديث. " في الحديث إثبات العلو لله تعالى، وأنه في السماء، والعلو صفة ذاتية"(4).

والفعلية: كفعله يوم عرفة حين أشار صلى الله عليه وسلم إلى السماء، وقال:«اللهم اشهد (5)» .

والتقريرية: كفعله مع الجارية حين سألها: «أين الله؟ فقالت: في السماء. فقال لسيدها: أعتقها؛ فإنها مؤمنة (6)» . فقول الجارية: إنه في السماء، المراد منه العلو، وأنه فوق كل شيء مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها، وإذا قيل: العلو فإنه يتناول ما فوق المخلوقات

(1) سورة غافر الآية 2

(2)

سورة النحل الآية 102

(3)

أبو داود 4/ 12 كتاب الطب، باب كيف الرقى، ح (3893).

(4)

شرح العقيدة الواسطية الشيخ صالح الفوزان 114.

(5)

صحيح مسلم: من حديث جابر في حجة الوداع، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم ح (12181).

(6)

صحيح مسلم: كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة، ح (537).

ص: 130

كلها، فما فوقها كلها، هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به؛ إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله (1).

وروى البخاري بسنده، عن أنس: أن زينب رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما قضى الله الخلق كتب كتابا، فهو عنده فوق العرش: أن رحمتي سبقت غضبي (2)» وفي رواية: «تغلب غضبي (3)» .

وأما الإجماع: فقد أجمع سلف الأمة كلهم على أن الله فوق العرش، ولم يرو عن أحد منهم قول: إن الله في كل مكان. قال ابن تيمية: ليس في كلام الله ولا رسوله ولا كلام الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ما يدل لا نصا ولا ظاهرا على أن الله تعالى ليس فوق العرش، وليس في السماء، بل كلامهم متفق على أن الله فوق كل شيء.

(1) التدمرية ابن تيمية 57.

(2)

صحيح البخاري مع الفتح 6/ 287 كتاب الخلق، باب قوله:(وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده) ح (3194) صحيح مسلم 8/ 95، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه، ح (2751).

(3)

صحيح البخاري مع الفتح 6/ 287 كتاب الخلق، باب قوله:(وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده) ح (3194) صحيح مسلم 8/ 95، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه، ح (2751).

ص: 131

قال الأوزاعي: كنا - والتابعون متوافرون - ونقول: إن الله - تعالى ذكره - فوق عرشه (1).

قال الذهبي: أورد المصنف من رواية أبي صفوان الأموي عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان: حدثنا يوسف بن يزيد، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن كعب الأحبار، قال: قال الله عز وجل في التوراة: (أنا فوق عبادي، وعرشي فوق جميع خلقي، وأنا على عرشي أدبر أمور عبادي، لا يخفى علي شيء في السماء، ولا في الأرض)(2).

أما ثبوته بالعقل فمن وجوه:

أحدها: العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين، إما أن يكون أحدهما ساريا في الآخر قائما به كالصفات، وإما أن يكون قائما بنفسه بائنا من الآخر.

الثاني: أنه لما خلق العالم، فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خارجا عن ذاته، والأول: باطل، أما أولا فبالاتفاق، وأما ثانيا فلأنه يلزم أن يكون محلا للخسائس والقاذورات، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، والثاني: يقتضي كون العالم واقعا خارج ذاته، فيكون منفصلا فتعينت المباينة؛ لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه غير معقول.

الثالث: أن كونه - تعالى - لا داخل العالم ولا خارجه: يقتضي نفي

(1) القواعد المثلى، ابن عثيمين 62، انظر الفتاوى ابن تيمية 5/ 229.

(2)

قال الذهبي: رجاله ثقات، رجال الشيخين، العلو الذهبي 128 ح:97.

ص: 132

وجوده بالكلية؛ لأنه غير معقول، فيكون موجودا إما داخله أو خارجه. والأول باطل فتعين الثاني، فلزمت المباينة.

وأما ثبوته بالفطرة فإن الخلق جميعا بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء، ويقصدون جهة العلو بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى.

ذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين، وهو يتكلم في نفي صفة العلو، ويقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان، فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا؟ فإنه ما قال عارف قط: يا الله، إلا وجد في قلبه ضرورة طلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع بهذه الضرورة عن أنفسنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل! وأظنه قال: وبكى! وقال: حيرني الهمداني حيرني، أراد الشيخ أن هذا أمر فطر الله عليه عباده من غير أن يتلقوه من المرسلين، يجدون في قلوبهم طلبا ضروريا يتوجه إلى الله ويطلبه في العلو" (1).

قوله: العظيم

صفة مشبهة، ومعناها: ذو العظمة، وهي القوة والكبرياء وما أشبه ذلك

(1) شرح العقيدة الطحاوية 290 - 291، وانظر: رسائل في العقيدة، ابن عثيمين 66.

ص: 133

مما هو معلوم من دلالة هذه الكلمة، فهو عظيم القدر والشأن، وهو القوي تتضاءل عند عظمته جبروت الجبابرة، وتصغر في جانب جلاله وعظمته أنوف المتكبرين. قال ابن جرير: العظيم الذي قد كمل في عظمته (1).

جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله يقول: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما عذبته (2)» .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما السماوات السبع والأرضون السبع، وما فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في كف أحدكم (3)» .

وروي أنه قال: «يرمي بها كما يرمي الصبي بالكرة» . فهذا يبين أن الأفلاك لا نسبة لها على قدرة الله - تعالى – مع كونه سبحانه وتعالى يطوي السماء ويقبض الأرض (4).

إن الله تعالى عظيم له كل وصف ومعنى يوجب التعظيم، فلا يقدر مخلوق أن يثني عليه كما ينبغي له، ولا يحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده.

(1) تفسير ابن جرير 5/ 406.

(2)

مسلم 4/ 2023.

(3)

سبق تخريجه، انظر صفحة (29)، هامش (2).

(4)

الفتاوى ابن تيمية 5/ 308.

ص: 134

ومعاني التعظيم الثابتة لله وحده نوعان:

أحدهما: أنه موصوف بكل صفة كمال، وله من ذلك الكمال أكمله وأعظمه وأوسعه، فله العلم المحيط، وله القدرة النافذة، والكبرياء والعظمة، ومن عظمته أن السماوات والأرض في كف الرحمن أصغر من الخردلة. قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (1).

ثانيها: من معاني عظمته تعالى أنه لا يستحق أحد من الخلق أن يعظم كما يعظم الله، فيستحق جل جلاله من عباده أن يعظموه بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم، وذلك ببذل الجهد في معرفته ومحبته، والذل له، والانكسار له، والخضوع لكبريائه، والخوف منه، وإعمال اللسان بالثناء عليه، وقيام الجوارح بشكره وعبوديته، ومن تعظيمه أن يتقى حق تقاته، فيطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، ومن تعظيمه تعظيم ما حرمه وشرعه من زمان ومكان وأعمال.

{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (2)

و: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (3).

ومن تعظيمه أن لا يعترض على شيء مما خلقه أو شرعه. (4).

(1) سورة الزمر الآية 67

(2)

سورة الحج الآية 32

(3)

سورة الحج الآية 30

(4)

الحق الواضح المبين 3/ 225.

ص: 135