الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: زيادة الإيمان ونقصانه:
يقول إمام الدعوة في بيان معتقده في الإيمان: (وأعتقد أن الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهو بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق). (1).
ويقول الشيخ محمد بن عبد اللطيف: (ونعتقد أن الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، كما في الحديث الصحيح: «الإيمان بضع وستون شعبة – أو بضع وسبعون شعبة - أعلاها قول لا إله الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (2)».
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: (والإيمان الشرعي: قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية). (3).
ويقول: (مذهب السلف أن الإيمان تزيده التقوى، أي: العمل الصالح، وينقص بارتكاب الزلل، أي: المعاصي، فيعبر السلف من
(1) الدرر السنية: 1/ 33، والرسائل الشخصية 11.
(2)
الدرر السنية 1/ 575 - 576.
(3)
حاشية ثلاثة الأصول 60.
الصحابة وغيرهم: يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ويتفاضل) (1).
وهذا الاعتقاد الذي يقرره علماء الدعوة في زيادة الإيمان ونقصانه هو مما أجمع عليه أهل السنة (2)، وفي ذلك يقول الشيخ عبد الرحمن بن قاسم:(والإيمان عند أهل السنة نطق باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد وينقص). (3).
وقد دلت على هذا الأصل نصوص الكتاب والسنة، والأمر كما قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن إن (الأدلة على ما عليه سلف الأمة وأئمتها أن الإيمان قول وعمل ونية، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية من كتاب الله وسنة رسوله أكثر من أن تحصر)(4).
فمن الآيات الدالة على هذا الأصل.
قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (5)
(1) حاشية الدرة المضية 71.
(2)
انظر حاشية كتاب التوحيد 252.
(3)
حاشية كتاب التوحيد 258.
(4)
فتح المجيد 468، وانظر تيسير العزيز الحميد 440، وفتح المجيد 409 – 410، وإبطال التنديد 161.
(5)
سورة الأنفال الآية 2
وقوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (1)، وقوله تعالى:{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (2)، وقوله تعالى:{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} (3)، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (4)، وقوله تعالى:{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} (5)، وقوله تعالى:{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (6)، وقوله تعالى:{فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} (7)، وقوله تعالى:{وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (8).
ومن الأحاديث في هذا الباب:
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة
(1) سورة الفتح الآية 4
(2)
سورة الكهف الآية 13
(3)
سورة مريم الآية 76
(4)
سورة محمد الآية 17
(5)
سورة المدثر الآية 31
(6)
سورة التوبة الآية 124
(7)
سورة آل عمران الآية 173
(8)
سورة الأحزاب الآية 22
أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق (1)»، وقال صلى الله عليه وسلم:«من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (2)» ، وعن أبي سعيد الخدري مرفوعا:«إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره» .
وأما ما جاء عن السلف في ذلك، فمنه:
قول عمير بن حبيب الخطمي رضي الله عنه: إن الإيمان يزيد وينقص، فقيل له: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه وقال مجاهد رحمه الله: الإيمان يزيد وينقص، وهو قول وعمل، وذكر عبد الرزاق
(1) البخاري الإيمان (9)، مسلم الإيمان (35)، الترمذي الإيمان (2614)، النسائي الإيمان وشرائعه (5005)، أبو داود السنة (4676)، ابن ماجه المقدمة (57)، أحمد (2/ 414).
(2)
رواه مسلم 2/ 27 رقم 49.
رحمه الله عمن أدركه من شيوخه أنهم يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص (1).
ويقول أبو عبيد رحمه الله: (هذه تسمية من كان يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص)، ثم ذكر طائفة كبيرة من العلماء، وأعقب ذلك بقوله:(هؤلاء جميعا يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وهو قول أهل السنة المعمول به عندنا).
ونقل الشيخ حسن بن حسين ابن الإمام رحمه الله عن ابن القيم رحمه الله قوله: (ونحن نحكي إجماعهم كما حكاه حرب صاحب الإمام أحمد بلفظه: قال في مسائله المشهورة: هذا مذهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة .. فكان من قولهم: إن الإيمان قول وعمل ونية، وتمسك بالكتاب والسنة، والإيمان يزيد وينقص)(2).
والزيادة في الإيمان واقعة على ما في القلب وعلى ما في الجوارح، بل إن الأمر كما يقول إمام الدعوة: (وأما كون الذي في القلب والذي في الجوارح يزيد وينقص، فذاك شيء معلوم، والسلف يخافون على الإنسان
(1) انظر: التوضيح 123 - 124.
(2)
الدرر السنية 1/ 345 - 346.
إذا كان ضعيف الإيمان النفاق، أو سلب الإيمان كله) (1).
فالتفاضل واقع في الباطن والظاهر، وإن كان الباطن هو الأصل، وبه يتأثر الظاهر (2)، والأعمال تتضاعف وإن تساوت في الظاهر بما يجل عن الوصف (3)، وانظر إلى أهل الشجرة رضوان الله عليهم لم يبلغوا هذه المنزلة ورضا الله عنهم إلا بما علم الله في قلوبهم، فدل على عظمة أعمال القلوب عند الله تعالى.
وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العمل واحدة، وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض.
قال: تأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة، وتطيش السجلات، فلا يعذب، ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة، وكثير
(1) الفتاوى، ضمن القسم الثالث من مؤلفات الشيخ الإمام 51.
(2)
انظر: الدرر السنية 13/ 412 - 413، وتيسير العزيز الحميد 118.
(3)
انظر: الدرر السنية 13/ 435، 440.
منهم يدخل النار بذنوبه).
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله: (معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله: هو إفراد الله بأصل الحب الذي يستلزم إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وعلى قدر التفاضل في هذا الأصل، وما ينبني عليه من الأعمال الصالحة يكون تفاضل الإيمان والجزاء عليه في الآخرة)(1).
ويقول: (لما كانت محبة الله سبحانه هي أصل دين الإسلام، الذي يدور عليه قطب رحاها، فبكمالها يكمل الإيمان، وبنقصها ينقص توحيد الإنسان، نبه المصنف على وجوبها على الأعيان)(2).
ويقول إمام الدعوة: (العلم لا يسمى علما إلا إذا أثمر، وإن لم يثمر فهو جهل، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (3)، وكما قال عن يعقوب:{وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} (4)، والكلام في تقرير هذا ظاهر.
والعلم هو الذي يستلزم العمل، ومعلوم تفاضل الناس في الأعمال
(1) تيسير العزيز الحميد 117 - 118
(2)
تيسير العزيز الحميد 410.
(3)
سورة فاطر الآية 28
(4)
سورة يوسف الآية 68
تفاضلا لا ينضبط؛ وكل ذلك بسبب تفاضلهم في العلم) (1).
والخلاصة: (أن الناس يتفاضلون في التوحيد تفاضلا عظيما، ويكونون فيه على درجات بعضها أعلى من بعض.
فمنهم من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، كما دلت عليه النصوص الصريحة الصحيحة.
ومنهم من يدخل النار، وهم العصاة، ويمكثون فيها على قدر ذنوبهم، ثم يخرجون منها؛ لأجل ما في قلوبهم من التوحيد والإيمان، وهم في ذلك متفاوتون، كما في الحديث الصحيح، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن برة (2)» ، وفي لفظ:«شعيرة (3)» ، وفي لفظ:«ذرة (4)» ، وفي لفظ:«حبة خردل من إيمان (5)» .
ومن تأمل النصوص تبين له أن الناس يتفاضلون في التوحيد والإيمان تفاضلا عظيما، وذلك بحسب ما في قلوبهم من الإيمان بالله، والمعرفة الصادقة، والإخلاص، واليقين، والله أعلم) (6).
(1) الدرر السنية 10/ 101، والرسائل الشخصية 162، وانظر: الدرر السنية 13/ 412 - 414.
(2)
رواه مسلم 3/ 73 رقم 193.
(3)
رواه مسلم 3/ 60 رقم 191
(4)
البخاري الإيمان (44)، الترمذي صفة جهنم (2593)، ابن ماجه الزهد (4312).
(5)
البخاري الإيمان (22)، مسلم الإيمان (184)، أحمد (3/ 56).
(6)
الدرر السنية 1/ 207، ومجموعة الرسائل 5/ 574.
وبما تقدم ينجلي ما عليه سلف الأمة في زيادة الإيمان ونقصانه حسبما قرره علماء الدعوة، ولا يتعارض هذا مع ما جاء عن بعض العلماء من إنكار التفاضل في التصديق (1).
فإن هذه الدعوى غير مسلمة؛ إذ التحقيق أن (التصديق القائم بالقلوب يتفاضل، وهذا هو الصحيح من مذاهب جماهير السلف، وهو أصح الروايتين عن أحمد؛ فإن إيمان الصديقين الذين تتجلى أنوار المعرفة لقلوبهم، حتى يصير كأنه شهادة بحيث لا يقبل التشكيك ولا الارتياب، ليس كإيمان غيرهم ممن لم يبلغ هذه الدرجة، بحيث لو شكك لدخله الشك، ولهذا جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتبة الإحسان أن يعبد ربه كأنه يراه، وهذا لا يحصل لعموم المؤمنين، ومن هنا قال بعضهم: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في صدره، وسئل ابن عمر رضي الله عنهما: هل كان الصحابة رضي الله عنهم يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان في قلوبهم مثل الجبال.
فأين هذا ممن الإيمان في قلبه يزن ذرة، أو شعيرة، كالذين يخرجون من أهل التوحيد من النار) (2).
وعلى هذا فإن ما جاء عن الإمام أحمد في منع التفاضل في المعرفة
(1) انظر: التوضيح 123.
(2)
التوضيح 126، وراجع: جامع العلوم والحكم 1/ 113 - 114.
يخالف أصح الروايتين عنه، وهي الصحيح من المذهب أن المعرفة تقبل التفاضل.
يقول الشيخ حسين بن غنام: (والصحيح أن الإيمان القلبي يتفاضل، وهو أصح الروايتين عن أحمد؛ لأن إيمان الصديقين ليس كإيمان غيرهم، والآيات والأحاديث دالة على ذلك)(1).
وكذلك ما جاء عن الإمام مالك رحمه الله أنه توقف في بعض الروايات عن القول بالنقصان؛ إما لكون التصديق لا يجوز نقصانه؛ لأنه إذا نقص صار شكا، أو أن توقفه خشية أن يتناول موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي بالذنوب (2).
فإن هذه التعديلات لا تكفي في رد ما دلت عليه النصوص، وقد صح عن مالك رواية ثانية، وهي المشهورة عند أصحابه أن الإيمان يزيد وينقص.
وقد سبق حكاية عبد الرزاق رحمه الله عمن أدركه من شيوخه، ومنهم مالك، أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.
(1) العقد الثمين 52، وراجع: السنة للخلال 3/ 580 - 581 رقم 1004، 1007، والفتاوى 7/ 408.
(2)
انظر: التوضيح 123 - 124، وراجع: شرح صحيح البخاري لابن بطال 1/ 57.