الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن العمل الدعوي السري في المجتمعات الدعوية مهما كان فيه من نفع إلا أنه نفع يسير تتبعه مفاسد أعظم من النفع المتوهم أو المرجوح، فهو يجر الدعاة إلى مواقف محرجة هم في غنى عنها ويوهن أمر الدعوة، بل ويوقع الأفراد المسلمين في تضاد بين مبدأ السمع والطاعة وبين التطبيق العملي لمبدأ السرية والخفاء وهذا التضاد خطير لأنه خلل في منهج الدعوة قد يكون سببا في تمزيق الأمة، لذا يجب على الدعاة تجنب الاستخفاء بدعوتهم في المجتمعات الدعوية، إذ الدعوة قد أعلنت، وانتشرت مبادئها، وعم صيتها العالم، وسمع بها القاصي والداني، من خلال المؤلفات والقنوات الفضائية، وشبكة المعلومات (الإنترنت)، والطلاب المبتعثين، والمؤتمرات الدولية، والملتقيات العلمية، لهذا كله لا يسوغ للدعوة أن تتخفى في المجتمعات الدعوية.
المطلب الثاني: الاستخفاء بالدعوة في المجتمعات (غير الدعوية):
انطلاقا من مضمار الاستخفاء بالدعوة في (المجتمعات الدعوية) التي سبق ذكرها رأى البعض جر الحكم بالمنع إلى المجتمعات غير الدعوية بصورة مطلقة وقرر البعض أن الاستخفاء بالدعوة قد انتهى إلى الأبد بأمر الله النبي صلى الله عليه وسلم بالصدع بالدعوة ..
وهذا القول في رأيي قد جانب الصواب من حيث إلغاء وتعطيل جزء مهم من سبيل النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة وهي "مرحلة الاستخفاء" في العهد المكي، وقد قال الله عز وجل:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} (1)، ومعلوم أن سبيله في الدعوة يشمل سيره في طريق الدعوة بمرحلتيها "السرية" و "الجهرية" وبعهديها "المكي" و "المدني". باعتبارها حلقات متصل بعضها ببعض ترسم للدعاة المنهج الدعوى في كل حالاته، وتوضح للدعاة المواقف التي قد تعترض طريق الدعوة بكافة جوانبها، وهي تعد بجملتها سبيل النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله التي تستند إلى البصيرة.
هذا السبيل الدعوي لا يجري في مضمار الناسخ والمنسوخ بل كان مرحلة تنزل منزلتها التي تناسبها حينما تتطابق الظروف وتتشابه الأحوال.
قال شيخ الإسلام: "من كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف، فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين. وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين وبآية قتال الذين أتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".
وفي ضوء ذلك يمكن أن نتساءل: أليس من الممكن أن يحتاج المسلمون في بعض الظروف والبيئات إلى أحكام مرحلة الاستخفاء التي استوعبها
(1) سورة يوسف الآية 108
النبي صلى الله عليه وسلم بفهم واع ومسلك حكيم قاد إلى النجاح، وألا يكون في ظل الأنظمة القمعية للناس أن يستخفوا بدينهم وبدعوتهم تأسيا بالداعية الأول وتتبعا لسبيله؟ يمكن إيضاح ذلك من خلال الفروع الآتية:
الفرع الأول: تكالب أنظمة المجتمعات (غير الدعوية) على إبادة الدعوة وسبل البقاء:
أولا: مشاهد من تكالب أنظمة المجتمعات (غير الدعوية):
أسوق هنا مشهدين يدلان على حال شعوب إسلامية كانت ترزح في بلادها تحت وطأة الضيم (مجتمعات غير دعوية) جرت عليها محن ومآس استهدفت إبادتهم ووأد دينهم:
المشهد الأول: المسلمون في ظل نظام حكم أسبانيا:
تمثل محاكم التفتيش أحد أسوأ فصول التاريخ دموية تجاه المسلمين، وقد بدأت عندما حانت نهاية الحكم الإسلامي في الأندلس، وسقوط آخر مدينة إسلامية بيد الأسبان وهي غرناطة بعد أن استمر حكم المسلمين لها (800 عام) للأندلس من دون انقطاع.
الذي حدث فيما يتصل بموضوع الدراسة أنه فور دخل الأسبان إلى غرناطة نقضوا المعاهدة التي أبرموها مع حكامها المسلمين والتي تضمنت ثمانية وستين بندا وبعد أيام عدة من النقض قام أسقف غرناطة بإرسال
رسالة عاجلة لملك أسبانيا مفادها أنه قد أخذ على عاتقه حمل المسلمين في غرناطة وغيرها من مدن أسبانيا على أن يصبحوا كاثوليكا؛ تنفيذا لرغبة المسيح عليه السلام الذي ظهر له - كما ادعى - وأمره بذلك. فأقره الملك على أن يفعل ما يشاء لتنفيذ رغبة المسيح عليه السلام، عندها بادر الأسقف إلى احتلال المساجد ومصادرة أوقافها، وأمر بتحويل المسجد الجامع في غرناطة إلى كنيسة، فثار المسلمون هناك دفاعا عن مساجدهم، لكن ثورتهم قمعت بوحشية مطلقة، وتم إعدام مائتين من العلماء المسلمين حرقا في ساحة من الساحات العامة بتهمة مقاومة المسيحية (1).
وتم تشكيل محاكم التفتيش لتبدأ بمهام البحث عن كل مسلم ومحاكمته على عدم تنصره، فهرب المسلمون إلى أعلى الجبال، وأصدرت محاكم التفتيش الإسبانية تعليماتها لتنصير بقية المسلمين في إسبانيا، وإجبارهم على أن يكونوا نصارى، وكانت محاكم التفتيش تصدر أحكاما بحرق المسلمين على أعواد الحطب وهم أحياء في ساحة من ساحات مدينة غرناطة، أمام الناس، كما صدر مرسوم بإحراق جميع الكتب الإسلامية والعربية، فأحرقت المصاحف وآلاف الكتب في ساحة الرملة بغرناطة، ثم تتابع حرق الكتب في جميع المدن والقرى. وقد استمرت هذه الحملة الظالمة على المسلمين حتى عام (1577م)، وراح ضحيتها حسب بعض المؤرخين
(1) انظر: مجلة الجندي المسلم، مقال للأستاذ: عبد الرحمن حمادي عدد 120 تاريخ 1/ 7 / 2005م.
الغربيين أكثر من نصف مليون مسلم، وتم تنصير البقية الباقية من المسلمين بالقوة، وقد عرف المسلمون المتنصرون باسم المسيحيين الجدد تمييزا لهم عن المسيحيين القدامى (1) ثم صدر مرسوم بتحويل جميع المساجد إلى كنائس.
ولما تبين للمحاكم أن كل أعمال التنصير في تلك الحملة لم تؤت نفعا، حيث تنصر المسلمون ظاهرا، ولكنهم فعليا يمارسون الشعائر الإسلامية فيما بينهم سرا؛ قامت المحاكم بالبحث عن كل مسلم لتحاكمه، وهي محاكم منحت سلطات غير محدودة، ومارست أساليب في التعذيب لم يعرفها أو يمارسها أكثر الطغاة وحشية عبر التاريخ، وقد بدأت تلك المحاكم أعمالها بهدم الحمامات العربية، ومنع الاغتسال على الطريقة العربية، ومنع ارتداء الملابس العربية، أو التحدث باللغة العربية، ومنع الزواج على الطريقة العربية أو الشريعة الإسلامية، ووضعت عقوبات صارمة جدا بحق كل من يثبت أنه يرفض شرب الخمر، أو تناول لحم الخنزير، وكل مخالفة لهذه الممنوعات والأوامر تعد خروجا على الكاثوليكية، ويحال صاحبها إلى محاكم التفتيش.
وحيث إن المحاكم والأساليب المتبعة لم تنجح في إجبار المسلمين على ترك دينهم كما تريد الكنيسة التي أدركت مدى عمق الإيمان بالعقيدة الإسلامية في نفوس (الموريسكيين) فقررت إخراجهم وتهجيرهم من
(1) عرفوا باسم (الموريسكوس) أي المسلمين الصغار
إسبانيا، بينما بقي بعضهم متسترا في بلاده بعد الطرد العام لهم (1).
المشهد الثاني: المسلمون في ظل نظام حكم الاتحاد السوفيتي:
كان عدد المسلمين في الاتحاد السوفيتي خمسين مليونا من أصل مائتين وستين مليونا ويمثل المسلمون أغلبية في ستة أقاليم من أصل ستة عشر تصل نسبتهم في بعضها 95% وبالطبع تلاشت تلك الأعداد بعد أن تنكرت الشيوعية للمسلمين وعملت على القضاء على الإسلام من خلال عدد من الأساليب على المدى الطويل، ففي عام 1928م ألغيت المحاكم الشرعية، ومنعت سائر الأنشطة الدينية، واعتقل عدد من العلماء وشرد آخرون واشتدت حملات الإرهاب الشرسة على المسلمين فاعتقل أكثر من مليون ونصف المليون، وفي عام 1929م هدم وأغلق أكثر من عشرة آلاف مسجد، وأكثر من أربعة عشر ألفا من المدارس الإسلامية وحرقت المصاحف ونفي المسلمون من الجمهوريات الإسلامية تحت سيطرة النظام إلى مجاهيل سيبيريا ومن ثم توطين روس شيوعيين مكانهم.
ولقد عمل النظام في الاتحاد السوفيتي في تلك الحقبة على أكبر عملية في التاريخ للقضاء على الإسلام بأساليب علمية وتكنولوجية حديثة، في
(1) انظر: مجلة الجندي المسلم عدد 120 تاريخ 1/ 7 / 2005م مقال للأستاذ: عبد الرحمن حمادي
مناخ بالغ القوة محكم الإغلاق وتحت نظام فاق جميع الأنظمة الاستبدادية التي عرفت في التاريخ الحديث. وتم سن قوانين تحرم على المسلمين الصلاة والصيام والحج والزكاة، ومنعت طباعة المصحف وأي كتاب ديني، وفرضت رقابة صارمة على تداول هذه الكتب وعلى منع ممارسة الشعائر الدينية.
كما أنشئت في المقابل مدارس لتعليم أطفال المسلمين أصول الإلحاد وسخرت الدولة عشرات الألوف من خبراء الإلحاد، وأصدرت ملايين النسخ من الكتب الإلحادية ومئات الصحف والمجلات والأفلام لمحاربة الإسلام وتشويه تاريخه واستطاعت الدولة الشيوعية أن تنشئ أجيالا من أبناء المسلمين لم يسمعوا كلمة طيبة عن الإسلام. وكان الشباب المسلم يعلم أن الإلحاد هو شرط الحصول على وظيفة، وهو شرط البقاء والترقي فيها وهو شرط الإفلات من اضطهاد جهاز المخابرات. فأصبحت الكثرة الغالبة من أبناء المسلمين الذين خلفهم الاتحاد السوفيتي يجهلون كل شيء عن دينهم، ومع ذلك فإن جهود السوفييت في نشر الإلحاد بين المسلمين على مدى خمسة وسبعين عاما لم تؤت ثمارها المطلوبة ولم تستطع تحقيق أهدافها كاملة في استئصال الإسلام من الاتحاد السوفيتي، وقد عبر المخططون والخبراء عن خيبة أمل كبيرة.
ولذلك سخرت الدولة مجموعة كبيرة من علماء الاجتماع والدراسات السكانية خلال الثمانينيات من القرن العشرين لدراسة هذه الظاهرة في
مجتمعات المسلمين، وقد أثبتت هذه الدراسة أن الإسلام في الاتحاد السوفيتي - رغم كل شيء - لم يمت وإنما لا يزال ينبض بالحياة وأن الشعوب المسلمة لا تزال تتنفس الإسلام وتتمسك بعقيدتها وتمارس شعائر دينها بأساليب خفية (1).
ثانيا: سبل بقاء المسلمين في ذلك الحال:
وباستعراض تلك الأمثلة التي لم نذكر من أمرها سوى اليسير يتضح كيف استطاع المسلمون في تلك (المجتمعات غير الدعوية) الثبات والصمود في وجه محاولات طمس الهوية واستئصال الدين من خلال أمرين بعد توفيق الله:
الأول: الاستخفاء بالإيمان والعبادة: حيث يشرع للمسلم ألا يعلن إسلامه ما دام سيتعرض لأذية ويكفي إسلامه سرا كما قال الله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} (2)، هذا الرجل مؤمن بنص القرآن مع أنه كان يخفي إيمانه عن فرعون وقومه خوفا على نفسه، وفي قصة إسلام أبي ذر، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم:«يا أبا ذر اكتم هذا الأمر (3)» (أمر الدعوة وأمر إسلامه)، وفيه دليل على جواز كتم الإيمان لمصلحة أو
(1) انظر: التحدي الصهيوني في إطاره التاريخي - د. محمد يوسف عدس ص 33
(2)
سورة غافر الآية 28
(3)
تقدم تخريجه
خشية ضرر ونحو ذلك.
ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1).
وقال سبحانه: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} (2) وهي تقية، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} (3) إلى قوله {عَفُوًّا غَفُورًا} (4) .. قال البخاري: "فعذر الله المستضعفين الذين لا يمتنعون من ترك ما أمر الله به والمكره لا يكون إلا مستضعفا غير ممتنع من فعل ما أمر به، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«الأعمال بالنية (5)» فقد ذكر المفسرون في شأن نزول الآية أمورا تتقارب معناها وإن اختلف أشخاصها وأمكنتها، قال ابن حجر: والمشهور أن الآية المذكورة نزلت في عمار بن ياسر كما جاء من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر رضي الله عنه، قال: «أخذ المشركون عمارا فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنا
(1) سورة النحل الآية 106
(2)
سورة آل عمران الآية 28
(3)
سورة النساء الآية 97
(4)
سورة النساء الآية 99
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإكراه باب قوله تعالى:"إلا من أكره".
بالإيمان، قال: فإن عادوا فعد (1)» فنزلت الآية. والآية دالة على جواز إظهار غير ما يبطن من دون قصده عند الضرورة، ومسوغ ذلك خوف الضرر على النفس أو ما يتصل بذلك.
ومن ناحية أخرى الآية وإن اختص مضمونها بمسألة الكفر والإيمان إلا أن حكمها جار في غيرها بطريق الأولى، فإذا جاز الاستسرار في هذه المسألة المهمة جاز في غيرها.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على مشروعية الاستسرار في العبادة في أحوال خاصة، «فعن حذيفة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحصوا لي كم يلفظ الإسلام؟ قال: فقلنا: يا رسول الله أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة؟ قال: إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا.
قال: فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا (2)».
قال النووي رحمه الله: وأما قوله «ابتلينا فجعل الرجل لا يصلي إلا سرا (3)» فلعله كان في بعض الفتن التي جرت بعد النبي صلى الله عليه وسلم فكان بعضهم
(1) قال ابن حجر: وهو مرسل ورجاله ثقات وأخرجه عبد بن حميد من طريق ابن سيرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عمار بن ياسر وهو يبكي فجعل يمسح الدموع عنه، ويقول: أخذك المشركون فغطوك في الماء حتى قلت لهم كذا، إن عادوا فعد" ورجاله ثقات مع إرساله أيضا، وهذه المراسيل تقوى بعضها ببعض. فتح الباري 12/ 312.
(2)
أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب: الإيمان، باب: الاستسرار بالإيمان للخائف.
(3)
البخاري الجهاد والسير (2895)، مسلم الإيمان (149)، ابن ماجه الفتن (4029)، أحمد (5/ 384).
يخفي نفسه ويصلي سرا مخالفة من الظهور والمشاركة في الدخول في الفتنة والحروب (1).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله حول ذلك: "فإن المؤمن المستضعف هناك قد يكتم إيمانه واستنانه، كما كتم مؤمن آل فرعون إيمانه، وكما كان كثير من المؤمنين يكتم إيمانه حين كانوا في دار الحرب"(2).
الثاني: الاستخفاء بالدعوة إلى الله: حيث يشرع في هذه الحال وفي مثل تلك الأنظمة (المجتمعات غير الدعوية) الاستخفاء بدعوة الناس إلى الله تعالى وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك المرحلة تفتح أمام الدعاة خيارات متعددة تتناسب مع الظروف المقاربة لها بمرونة في معالجة أمورها ومواجهة
(1) انظر: شرح صحيح مسلم - للنووي 1/ 180
(2)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 4/ 149
أحداثها (1) ليتمكن الدعاة على قدر وسعهم من بناء قاعدة صلبة تحمل هذا الدين، وتحافظ على ما لدى المستجيبين من أمور العقيدة والشريعة والأخلاق وذلك وفق عدة ضوابط.
وبهذا يعلم أنه إذا خشي المسلمون على أنفسهم ودينهم في (مجتمع غير دعوي) فإنه يسعهم بلا ريب الاستخفاء وأن يتغشاهم الاستسرار بإيمانهم ودعوتهم إلى حين يأتي أمر الله بالفرج.
الفرع الثاني: الاستخفاء بالدعوة في (المجتمعات غير الدعوية) مشروع بضوابط:
ذكرنا فيما سبق أن الاستخفاء بالدعوة في مجتمع غير دعوي مشروع وذكرنا بعض الأمثلة لمجتمعات غير دعوية كانت تهدف إلى استئصال الإسلام وإبادة أتباعه على مدى عشرات السنين. إلا أن من المهم إبان الاستخفاء بالدعوة في ظل الظروف والأحوال المذكورة أمور ينبغي مراعاتها منها ليكون الاستخفاء في إطار المشروع:
أولا: أن يكون العمل الدعوي منضبطا بالحكمة وموزونا بميزان الشرع، إذ الحماسة وحدها لا تكفي بل لا بد أن يكون العمل خالصا لله تعالى صوابا على وفق ما جاء به رسول الله.
ثانيا: ألا يتداخل الاستخفاء بالدعوة مع التحزب الذي ورد النهي
(1) انظر: عثرات وسقطات - زهير سالم، ص / 30
عنه فقد قامت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مرحلة الاستخفاء على الشمول والعالمية.
وأما التحزب فأمر آخر وذلك لأنه وليد التفرق وسبب في ضعف الأمة خاصة في ظل الدولة الإسلامية، قال: تعالى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1){مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (2) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حلف في الإسلام (3)» .
ثالثا: أن يكون الاستخفاء بالدعوة قيادة وريادة وتوجيها وإرشادا، للعلماء الراسخين، باعتبارهم الذين يقودون الناس بكتاب الله وسنة رسوله وبعد نظرهم في فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد، وما لم يكن الأمر كذلك فإن الدعوة ستنحرف عن مسارها إلى مسارات الله أعلم بها (4).
رابعا: أن يكون الاستخفاء بالدعوة في ظل الظروف المشار إليها تحت الوسع والقدرة وإلا فإن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، قال شيخ الإسلام:"والله تعالى بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا الخلق بغاية الإمكان، ونقل كل شخص إلى خير مما كان عليه بحسب الإمكان"(5).
(1) سورة الروم الآية 31
(2)
سورة الروم الآية 32
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جبير بن مطعم، كتاب؛ فضائل الصحابة، برقم: 2530
(4)
انظر: العلاقة بين العلماء والناس - د. سيد محمد ساداتي، ص 108
(5)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - جمع وترتيب الشيخ عبد الرحمن بن قاسم وابنه 13/ 964