الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فترة مهمة في الدعوة الإسلامية بمكة، حتى إن كثير من المسلمين يؤرخون دخولهم في الإسلام بتلك الأيام التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبث فيها الدعوة بدار الأرقم لمن آمن به سرا حيث كان يعلمهم الإسلام، ويتلو عليهم ما أنزل من القرآن، ويستمع لأخبارهم، وينظر في أمر دعوتهم.
وهذا السياق إضافة إلى غيره من الأخبار يدل على أنه صلى الله عليه وسلم استمر مستخفيا هو وأصحابه في دار الأرقم والقيام فيها بما سبق ذكره من مهام ووظائف دعوية إلى أن أمر بإظهار الدعوة حيث أعلنها في السنة الرابعة.
المطلب الثاني: وسائل وأساليب الدعوة في مرحلة الاستخفاء:
لا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مخاطبا إبان تلك المرحلة بأن يبلغ الدعوة جهرا للناس، ولا أن يحتسب على المنكرات الشركية وغيرها في المجتمع الجاهلي، ولذا لم يستلزم الأمر اتخاذ وسائل كالخطابة، وإرسال الدعاة، وكتابة الرسائل .. كما هو الأمر أثناء الدعوة الجهرية، بل تبلورت الدعوة في هذه المرحلة بما يتطلبه حال الخفاء والاستسرار من جهة، ومن جهة أخرى فقد أمر عليه الصلاة والسلام بالصبر على الأذى وبالهجر الجميل، قال تعالى:{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (1)، كما أمر بهجر
(1) سورة المزمل الآية 10
الرجز، قال تعالى:{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (1): وهي الأصنام والأوثان.
وهذان الاتجاهان يدلان على أن استخفاء النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة يقوم على ركيزة مهمة وهي ألا يلفت الأنظار إلى الدعوة، وألا يؤجج الخصوم ضدها، ولهذا انتهج مسلك الدعوة الفردية الذي كان الخيار الممكن له صلى الله عليه وسلم في ظل الأوضاع والظروف التي سادت مكة آنذاك. حيث مبناها على الاتصال القوي بين الداعي والمدعو، ومما يشير إلى ذلك اتصال النبي صلى الله عليه وسلم بأفراد من المدعوين الذين كانوا يقصدونه في دار الأرقم وقد مر ذكرهم، أو من كان يقصدهم هو صلى الله عليه وسلم «كخباب بن الأرت رضي الله عنه الذي كان قينا يطبع السيوف، ففي الخبر أن رسول صلى الله عليه وسلم كان يألفه ويأتيه
…
(2)».
وهي مهمة شاقة بحاجة إلى دقة في التعامل مع النفوس وصبر والتزام كبيرين ولا يقوم بحقها إلا من يسر الله له وفتح عليه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم بها بنفسه في تلك المرحلة قدر استطاعته من خلال وسيلتين، وهما:
(1) سورة المدثر الآية 5
(2)
فأخبرت مولاة خباب بذلك، فكانت تأخذ الحديدة المحماة فتضعها على رأسه، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"اللهم انصر خبابا"، فاشتكت مولاته أم أنمار رأسها، فكانت تعوي مثل الكلاب، فقيل لها: اكتوي، فكان خباب يأخذ الحديدة المحماة فيكوي بها رأسها.
أولا: القدوة الحسنة:
من الواضح لكل متأمل ما كان عليه المصطفى من خلق كريم وسيرة نبيلة حتى كان لهذا الأمر تأثيره البين في استجابة المدعوين (السابقين) إلى الإسلام أمثال خديجة وعلي وزيد رضي الله عنهم وغيرهم ممن سبق، إذ كانت معرفتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن قرب ومعاشرتهم له واطلاعهم على كريم خلقه وعظيم شخصيته الإنسانية كان له الأثر الواضح في تصديقهم فيما يدعو إليه وإيمانهم برسالته في مرحلة الاستخفاء، ولهذا لم يطالبوه بالمعجزة ولم يناقشوه بالدليل استنادا لاطمئنانهم التام بصدقه الذي لا يدع مجالا للشك، فهم لم يعهدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبة واحدة طيلة معاشرتهم له، ولم يلحظوا على أخلاقه الكريمة ملحظا ذا ريبة.
وما يؤكد ذلك أن أبا طالب قال لعلي بعد أن أجابه على سؤال عن دينه الجديد الذي دعاه إليه محمد صلى الله عليه وسلم: أما إنه لا يدعوك إلا إلى خير فالزمه (1).
ثانيا: القول المباشر:
وقد قدم الرسول الدعوة للأفراد بوسيلة القول المباشر، كما يتجلى ذلك في هذه الدراسة بأسلوب النصيحة، وهو أسلوب يتفرع من مسلك الدعوة الفردية باعتبار طبيعة الاستسرار التي تجمع بينهما، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب في دعوته لعمه حينما قال له: " .. «وأنت يا عم أحق من
(1) تاريخ الأمم والملوك - للإمام الطبري 1/ 539