الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما استيعاب ذلك فإنه مما لا يحصى إلا بكلفة (1)، والأدلة في ذلك أكثر من أن تحصر، (2) وتتبعها يحتمل مجلدات (3)؛ ولذا فقد اقتصرت على بعض ما أوردوه رحمهم الله مما يحقق المقصود بإذن الله.
وقد نبه علماء الدعوة رحمهم الله على أن ما جاء في بعض النصوص من تخصيص بعض أنواع العبادة بالذكر دون غيرها، فمرد ذلك لكون ما ذكر هو رأس العبادة والإيمان، وهو متضمن لما لم يذكر، مستلزم له، فلهذا حسن الحصر. .
(1) قاله إمام الدعوة رحمه الله، انظر: الدرر السنية 13/ 225.
(2)
قاله الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله. انظر: فتح المجيد 468، ومجموعة الرسائل 4/ 12.
(3)
قاله الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله. انظر: مصباح الظلام 219 - 220.
الفصل الثاني: الإسلام وصلته بالإيمان:
الإسلام من الأمور المدركة المحسوسة في الظاهر، وهو مشتق من التسليم، يقال: استسلم فلان لكذا، أي: أسلم له وانقاد، وذل وخضع، أو مشتق من المسالمة، وهي ترك المنازعة (1).
(1) انظر: حاشية ثلاثة الأصول 46، 60.
وحقيقة لفظة السلام هي السلامة، والبراءة، والخلاص، والنجاة من الشرور والعيوب، وعلى هذا المعنى تدور تصاريفها.
فمن ذلك قولك: السلام عليكم، وسلمك الله، ومنه دعاء المؤمنين على الصراط: رب سلم سلم، فهو دعاء للمسلم عليه، وطلب له أن يسلم من الآفات والمهالك ومن الشر كله.
ومنه سلم الشيء لفلان، أي: خلص له وحده، قال تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} (1)، أي: خالصا له وحده، لا يملكه معه غيره.
ومنه القلب السليم، وهو النقي من الدغل والعيب، وحقيقته الذي قد سلم لله وحده، فخلص من دغل الشرك وغله، ودغل الذنوب والمخالفات، بل هو المستقيم على صدق حبه، وحسن معاملته، وهذا هو الذي ضمن له النجاة من عذابه والفوز بكرامته.
وهكذا الإسلام؛ فإنه من هذه المادة؛ لأنه الاستسلام والانقياد لله، والتخلص من شوائب الشرك، فسلم لربه وخلص له، كالعبد الذي سلم لمولاه، ليس فيه شركاء متشاكسون، ولهذا ضرب سبحانه هذين المثلين للمسلم الخالص لربه، وللمشرك به. .
(1) سورة الزمر الآية 29
يقول إمام الدعوة: (ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام والانقياد، ويتضمن الإخلاص، فمن استسلم له ولغيره فهو مشرك، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر). .
فمعنى الإسلام هو الاستسلام لله تعالى، المتضمن غاية الانقياد، في غاية الذل والخضوع، فهو عبادة الله وحده لا شريك له، بفعل المأمور، وترك المحظور، والإخلاص في ذلك. .
وقد وقع الخلاف بين أهل السنة والجماعة في الصلة بين الإسلام والإيمان على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الإسلام والإيمان شيء واحد، بمعنى الدين، وهو عبارة عن الاعتقاد والقول والعمل (1).
واحتج هؤلاء بقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (2)، فقالوا: لو كان الإيمان غير الإسلام لما كان مقبولا عند الله
(1) انظر: مجموعة الرسائل 2/ 51، 5/ 665 - 666، والدرر السنية 1/ 205 - 206، ومجموعة الرسائل 5/ 572.
(2)
سورة آل عمران الآية 85
ولكن الإيمان بالإجماع مقبول عند الله، فلا شك أنه عين الإسلام، كما هو ظاهر (1).
وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (2)، قالوا: الله تعالى ذكر في هذه الآية مجموع هذه الثلاثة، وقال:{وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (3)، أي: وذلك المذكور دين القيمة؛ لأن الدين هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان؛ لقوله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (4)(5).
وكذلك احتجوا (6) بقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (7){فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (8).
ولكن القول بترادف معنى الإسلام والإيمان غير مرضي عند المحققين، وما استدل به القائلون بالترادف لا يسلم لهم.
فإن استدلالهم بآية البينة مبني على تفسيرهم للإسلام فيها بالدين، وأن الدين عند الله الإسلام، والله تعالى إنما قال:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} (9)
(1) انظر: مجموعة الرسائل 5/ 665 - 666.
(2)
سورة البينة الآية 5
(3)
سورة البينة الآية 5
(4)
سورة آل عمران الآية 19
(5)
انظر مجموعة الرسائل 5/ 65 / 660.
(6)
انظر: الدرر السنية 1/ 205 - 206، ومجموعة الرسائل 5/ 572، 666.
(7)
سورة الذاريات الآية 35
(8)
سورة الذاريات الآية 36
(9)
سورة آل عمران الآية 85
ولم يقل: ومن يبتغ غير الإسلام علما ومعرفة وتصديقا وإيمانا؛ فإن الإسلام من جنس الدين والعمل والطاعة والانقياد والخضوع، فمن ابتغى غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، والإيمان طمأنينة ويقين، أصله علم وتصديق ومعرفة، والدين تابع له، يقال: آمنت بالله، وأسلمت لله. (1).
والآية إنما تدل على وجوب الإسلام، وأنه دين الله، وأنه ليس له دين غيره، لكن ليس في هذا ما يدل على أنه هو الإيمان. (2).
وأما قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (3){فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (4)، فإنه لا حجة فيه على الترادف بين الإسلام والإيمان (5)؛ فإن (الله تعالى أخبر أنه أخرج من كان فيها مؤمنا، وأنه لم يجد إلا أهل بيت من المسلمين، وذلك أن امرأته في أهل البيت الموجودين، ولم تكن من المخرجين الذين نجوا، وكانت في الظاهر مع زوجها على
(1) انظر: الفتاوى 7/ 378، وسيأتي عند عرض القول الثالث تحقيق الفرق بينهما بإذن الله تعالى.
(2)
انظر: الفتاوى 7/ 368.
(3)
سورة الذاريات الآية 35
(4)
سورة الذاريات الآية 36
(5)
انظر: شرح الطحاوية 2/ 493.
دينه، وفي الباطن مع قومها على دينهم، خائنة لزوجها تدل قومها على أضيافه، كما قال تعالى:{فَخَانَتَاهُمَا} (1)، وخيانتهما في الدين لا في الفراش؛ فإنه ما بغت امرأة نبي قط، .. ، وبهذا تظهر حكمة القرآن حيث ذكر الإيمان لما أخبر (2) بالإخراج، وذكر الإسلام لما أخبر في الوجود) (3).
القول الثاني: أن الإسلام هو الكلمة، والإيمان هو العمل:
وهذا قول الزهري، والإمام أحمد في بعض أجوبته. (4).
وحجتهم حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئا فقلت: يا رسول الله، أعطيت فلانا وفلانا، ولم تعط فلانا وهو مؤمن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - أو مسلم - أعادها ثلاثا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: - أو مسلم -. ثم قال: إني لأعطى رجالا، وأمنع آخرين هم أحب إلي منهم؛ مخافة أن يكبوا على وجوههم في النار (5)» .
(1) سورة التحريم الآية 10
(2)
في المطبوع: أمرنا، والمثبت من الأصل.
(3)
مختصر الإيمان الأوسط 119، وهو في الإيمان الأوسط ضمن الفتاوى 7/ 472.
(4)
انظر: الدرر السنية 1/ 205 - 206، 10/ 498، ومجموعة الرسائل 5/ 572، والتوضيح 125 - 126.
(5)
رواه البخاري: كتاب الإيمان، باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل 1/ 99 - 100 رقم 27، ومسلم 2/ 37 رقم 150.
قال الزهري: فكانوا يرون الإسلام: الكلمة، والإيمان: العمل، وجاء عن الإمام أحمد أنه استحسن كلام الزهري هذا.
والقول بأن الإسلام هو الكلمة قد يراد به: الكلمة بتوابعها من الأعمال الظاهرة، وهذا هو الإسلام الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال:«الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت (1)» .
وقد يراد به: الكلمة فقط، من غير فعل الواجبات الظاهرة، وليس هو الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام.
القول الثالث: أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان هو
(1) رواه البخاري كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان 1/ 140 رقم 50، ومسلم 1/ 222 رقم 8، 9.
الأعمال الباطنة.
وهذا هو الذي ارتضاه طائفة من المحققين، منهم علماء الدعوة، وفي تقرير ذلك يقول الإمام البغوي في حديث سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام وجوابه، قال رحمه الله: (جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد.
وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو أن التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد، وجماعها الدين؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:«ذاك جبريل آتاكم يعلمكم أمر دينكم (1)» ، والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعا، يدل عليه قوله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (2)، وقوله تعالى:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3)، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (4)، فأخبر سبحانه وتعالى أن الدين الذي رضيه، ويقبله من عباده، هو الإسلام، ولا يكون الدين في محل الرضا والقبول إلا
(1) رواه البخاري كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان 1/ 140 رقم 50، ومسلم 1/ 225 رقم 8.
(2)
سورة آل عمران الآية 19
(3)
سورة المائدة الآية 3
(4)
سورة آل عمران الآية 85
بانضمام التصديق إلى العمل) (1).
ويقول الحافظ ابن رجب: (إن من الأسماء ما يكون شاملا لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه، فإذا قرن ذلك الاسم بغيره صار دالا على بعض تلك المسميات، والاسم المقرون به دالا على باقيها، كاسم الفقير والمسكين، إذا أفرد أحدهما دخل فيه كل من هو محتاج، فإذا قرن أحدهما بالآخر دل أحد الاسمين على بعض ذوي الحاجات، والآخر على باقيها، فهكذا اسم الإسلام والإيمان إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده، فإذا قرن بينهما دل أحدهما على بعض ما يدل عليه الآخر بانفراده، ودل الآخر على الباقي؛ ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عند ذكره مفردا كما في حديث وفد عبد القيس بما فسر به الإسلام المقرون بالإيمان في حديث جبريل، وفسر في حديث آخر الإسلام بما فسر به الإيمان، كما في مسند الإمام أحمد، عن عمرو بن عبسة قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك لله، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك. قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان. قال: وما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت. قال: فأي الإيمان
(1) شرح السنة 1/ 10 - 11، ونقله عنه في التوضيح 123.
أفضل؟ قال: الهجرة. قال: فما الهجرة؟ قال: أن تهجر السوء. قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: الجهاد (1)» فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان أفضل الإسلام، وأدخل فيه الأعمال.
وحاصل القول أنه إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ، وإن قرن بين الاسمين كان بينهما فرق، وهو أن يقال: إن الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته، والإسلام هو استسلام العبد لله وخضوعه وانقياده، وذلك يكون بالعمل وهو الدين، كما سمى الله تعالى في كتابه الإسلام دينا، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان والإحسان دينا، وهذا أيضا مما يدل على أن أحد الاسمين إذا أفرد دخل فيه الآخر، وإنما يفرق بينهما حيث قرن أحد الاسمين بالآخر، فيكون حينئذ المراد بالإيمان جنس تصديق القلب، وبالإسلام جنس العمل، وفي مسند الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الإسلام علانية، والإيمان في القلب (2)» ، وذلك لأن الأعمال تظهر علانية، والتصديق بالقلب لا يظهر، ومن هنا قال محققو العلماء: كل مؤمن مسلم؛ لأن من حقق الإيمان ورسخ في قلبه قام بأعمال الإسلام، وانبعثت الجوارح في ذلك؛ لأن محله القلب، وهو إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد
(1) المسند 28/ 251 رقم 17027، وقال المحقق: حديث صحيح.
(2)
أحمد (3/ 135).
كله، كما نص عليه الحديث، وليس كل مسلم مؤمنا؛ لأن الإيمان قد يضعف، فلا يتحقق به القلب تحققا تاما فيكون مسلما، وليس بمؤمن الإيمان التام). .
وفي تقرير هذا الجواب يقول إمام الدعوة رحمه الله: "وأما الإسلام والإيمان هل هما نوع واحد؟
فذكر العلماء أن الإسلام إذا ذكر وحده دخل فيه الإيمان، كقوله:{فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} (1)، وكذلك الإيمان إذا أفرد، كقوله في الجنة:{أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} (2)، فيدخل فيه الإسلام، وإذا ذكرا معا (3) كقوله:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (4)، فالإسلام: الأعمال الظاهرة، والإيمان: الأعمال الباطنة، كما في الحديث:
«الإسلام علانية، والإيمان في القلب (5)» .
وقوله سبحانه في الحديث: «أخرجوا من النار من في قلبه مثقال ذرة (6)» .
(1) سورة آل عمران الآية 20
(2)
سورة الحديد الآية 21
(3)
في المطبوع: (وإذا ذكر ذكرا معا).
(4)
سورة الأحزاب الآية 35
(5)
أحمد (3/ 135).
(6)
رواه الترمذي في الجامع: كتاب صفة جهنم، باب آخر أهل النار خروجا وآخر أهل الجنة دخولا: 7/ 263، رقم 2601، ونحوه عند مسلم 3/ 73 رقم 193.
إلى آخره، يوافق ما ذكرناه؛ فإن الإيمان أعلى من الإسلام، فيخرج الإنسان من الإيمان إلى الإسلام الذي ينفعه، وإن كان ناقصا، كما في آية الحجرات، وفيها:{وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} (1).
وحقيقة الأمر أن الإيمان يستلزم الإسلام قطعا، وأما الإسلام فقد يستلزمه، وقد لا يستلزمه).
ويقول الشيخ عبد الله ابن الإمام: (فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام بالأعمال الظاهرة، وهي أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة، وهي أعمال القلب، فقال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره (2)»، .. ، وفسر الإحسان بقوله:«أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك (3)» ، ففسره بأن تعبد الله كأنك تشاهده، فإن لم تكن تشاهده فهو يراك، لا يخفى عليه منك شيء، حتى ما توسوس به نفسك.
والإحسان أعلى المراتب العالية، وبعده في المرتبة والفضيلة الإيمان
(1) سورة الحجرات الآية 14
(2)
مسلم الإيمان (8)، الترمذي الإيمان (2610)، النسائي الإيمان وشرائعه (4990)، أبو داود السنة (4695)، ابن ماجه المقدمة (63)، أحمد (1/ 28).
(3)
البخاري الإيمان (50)، مسلم الإيمان (9)، النسائي الإيمان وشرائعه (4991)، ابن ماجه المقدمة (64)، أحمد (2/ 426).
بالله، وبعده في المرتبة والفضيلة الإسلام، وكل واحد منهما يتضمن الآخر مع الإطلاق، وإذا قرن بينهما في آية أو حديث، فسره أهل العلم بما ذكرنا) (1).
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله في معرض كلامه عن حديث جبريل: (لما سئل عن الإسلام ذكر أركان الإسلام الخمسة؛ لأنها أصل الإسلام، ولما سئل عن الإيمان أجاب بقوله:"أن تؤمن بالله"، إلى آخره، فيكون المراد حينئذ بالإيمان جنس تصديق القلب، وبالإسلام جنس العمل.
والقرآن والسنة مملوءان بإطلاق الإيمان على الأعمال، كما هما مملوءان بإطلاق الإسلام على الإيمان الباطن، مع ظهور دلالتهما أيضا على الفرق بينهما، ولكن حيث أفرد أحد الاسمين دخل فيه الآخر، وإنما يفرق بينهما حيث فرق بين الاسمين) (2).
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى: الكلام في الإسلام والإيمان في مقامات:
الأول: فيما دل عليه حديث عمر رضي الله عنه في سؤال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أخبرني عن الإسلام. فقال: الإسلام أن تشهد
(1) الدرر السنية 1/ 256.
(2)
تيسير العزيز الحميد 623، وانظر: حاشية ثلاثة الأصول 70.
أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (1)»، الحديث، قال:«أخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. (2)» فأخبر أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان يفسر بالأعمال الباطنة (3). وبذلك يفسر كل منهما عند الاقتران.
فإذا أفرد الإيمان، كما في كثير من الآيات والأحاديث، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} (4)، الآية، فتناولت الآية جميع الأعمال الباطنة والظاهرة؛ لدخولها في مسمى الإيمان.
وأما الأركان الخمسة فهي جزء من مسمى الإيمان، ولا يحصل الإيمان على الحقيقة إلا بالعمل بهذه الأركان، والإيمان بالأصول الستة المذكورة في الحديث.
وأصول الإيمان المذكورة تتضمن الأعمال الباطنة والظاهرة، فإن الإيمان بالله يقتضي محبته، وخشيته، وتعظيمه، وطاعته بامتثال أمره وترك نهيه.
وكذلك الإيمان بالكتب يقتضي العمل بما فيها من الأمر والنهي، فدخل هذا كله في الأصول الستة.
(1) مسلم الإيمان (8)، الترمذي الإيمان (2610)، النسائي الإيمان وشرائعه (4990)، أبو داود السنة (4695)، ابن ماجه المقدمة (63)، أحمد (1/ 52).
(2)
مسلم الإيمان (8)، الترمذي الإيمان (2610)، النسائي الإيمان وشرائعه (4990)، أبو داود السنة (4695)، ابن ماجه المقدمة (63)، أحمد (1/ 53).
(3)
انظر أيضا: الدرر السنية 1/ 356
(4)
سورة النساء الآية 136
ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (1){الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (2){أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (3).
فدلت هذه الآيات على أن الأعمال الظاهرة والباطنة داخلة في مسمى الإيمان، كقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (4)، فانتفاء الشك والريب من الأعمال الباطنة، والجهاد من الأعمال الظاهرة، فدل على أن الكل من الإيمان.
ومما يدل على أن الأعمال من الإيمان قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (5)، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة إلى الكعبة.
ونظائر هذه الآية في الكتاب والسنة كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث وفد عبد القيس: «آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا
(1) سورة الأنفال الآية 2
(2)
سورة الأنفال الآية 3
(3)
سورة الأنفال الآية 4
(4)
سورة الحجرات الآية 15
(5)
سورة البقرة الآية 143
الزكاة، وتؤدوا خمس ما غنمتم (1)»، ففسر الإيمان بالأعمال الظاهرة؛ لأنها جزء مسماه، كما تقدم).
والحاصل أن دلالة الألفاظ والأسماء تختلف في حال اقترانها وانفرادها، (2)، فالإسلام إذا أفرد دخل فيه الإيمان، كما أن الإيمان يدخل في الإسلام، وأما عند الاقتران فيفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالأعمال الباطنة.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: (وكل خصلة من خصال الإسلام داخلة في الإيمان، فما كان من الأعمال الباطنة، فوصف الإيمان عليه أغلب من وصف الإسلام، وما كان من الأعمال الدينية الظاهرة، .. ، التي تظهر ويطلع عليها الناس، فوصف الإسلام عليها أغلب من وصف الإيمان، فدائرة الإسلام أوسع من دائرة الإيمان، كما أن دائرة الإيمان أوسع من دائرة الإحسان)(3).
(1) البخاري مواقيت الصلاة (500)، مسلم الإيمان (17)، الترمذي الإيمان (2611)، النسائي الإيمان وشرائعه (5031)، أبو داود الأشربة (3692)، أحمد (1/ 361).
(2)
انظر مصباح الظلام 267، 276.
(3)
حاشية ثلاثة الأصول 48 باختصار.
فالمؤمن مسلم، وأما المسلم فلا بد أن يكون مؤمنا، وإن لم يكن مؤمنا الإيمان المطلق، بل معه بعض الإيمان، وذلك أن الدين ثلاث درجات ومراتب: أولها الإسلام، وأوسطها الإيمان، وأعلاها الإحسان، ومن وصل إلى العليا فقد وصل إلى التي قبلها، فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسنا، وليس كل مسلم مؤمنا.
والإحسان أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أصحابه من الإيمان، والإيمان أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أصحابه من الإسلام، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين. .
فهذه ثلاث مراتب تندرج فيها أصناف الأمة (1):
المرتبة الأولى: مرتبة الإسلام، وهي المرتبة الأولى التي يدخل فيها
(1) وعلى هذا بنى إمام الدعوة رسالته الشهيرة ثلاثة الأصول، فعرف دين الإسلام بما يشمل مراتبه الثلاث.
الكافر أول ما يتكلم بالإسلام، ويذعن وينقاد له (1).
فباب هذه المرتبة، ومفتاحها قول العبد: لا إله إلا الله، فهي كلمة الإخلاص، وكلمة التقوى، وكلمة الإسلام، والعروة الوثقى، وشهادة التوحيد، ومفتاح الجنة، فهي أساس الملة، وأصل الدين، وأصل الإيمان، وأصل الإسلام وقاعدته، وهي أفضل شعب الإيمان، وهي الفارقة بين المؤمن والكافر، والمسلم والمشرك.
فمن تكلم بهذه الكلمة ولم يتبين منه ما يخالفها، فهو ممن يكف عنه بمجرد القول، ويحكم بإسلامه في الظاهر.
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله: (قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؛ فبذلك يصير الكافر مسلما، والعدو وليا، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال، ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان، وإن قاله بلسانه
(1) انظر: الدرر السنية 1/ 201، ومجموعة الرسائل 5/ 569.
دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان).
فعلم أن ثبوت الإيمان لا يكفي فيه مجرد الكلمة؛ فإن المنافق يقولها، وهو في الدرك الأسفل من النار، فلا بد من وصف آخر مع هذا الأصل يصح به الإسلام، ويسلم أهله من النفاق.
فأهل هذه المرتبة معهم مطلق الإيمان، وهو وصف المسلم الذي معه أصل الإيمان الذي لا يتم إلا به، ولا يصح إلا به، فهذا في أدنى مراتب الدين إذا كان مصرا على ذنب، أو تاركا لما وجب عليه مع القدرة عليه، وهذا الصنف قد أتى بالأركان الخمسة، وعمل بها باطنا وظاهرا، لكنه مفرط في بعض الواجبات، أو فاعل لبعض المحرمات (1).
(1) انظر: مجموعة الرسائل 2/ 2 / 50، 51.
ومن المعلوم أنه ليست من قامت به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمنا الإيمان المطلق حتى يقوم به أصل الإيمان. .
والحاصل أن صاحب هذه المرتبة هو الظالم لنفسه، وهو المسلم الذي لم يقم بواجب الإيمان، (1)، بل خلط عملا صالحا وآخر سيئا، فهو تحت مشيئة الله، إن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنبه. (2).
المرتبة الثانية: مرتبة الإيمان، وأهل هذه المرتبة هم أصحاب الإيمان المطلق، الذين كمل إسلامهم وإيمانهم؛ بإتيانهم بما وجب عليهم، وتركهم ما حرمه الله عليهم، وعدم إصرارهم على الذنوب (3)، فهم قد أتوا بالإيمان الكامل، واجتمعت لهم الأعمال الظاهرة والباطنة، ففعلوا الواجبات، وتركوا المحرمات، وهم السعداء أهل الجنة (4).
والإيمان إذا أطلق في القرآن، فالمراد به هذا الإيمان المطلق، الذي أهله
(1) انظر: الدرر السنية 1/ 205 - 206، ومجموعة الرسائل 5/ 572.
(2)
انظر: قرة عيون الموحدين 23.
(3)
انظر: رسالة للشيخ عبد الرحمن بن حسن، ضمن: مجموعة الرسائل 2/ 1 / 4.
(4)
انظر: رسالة للشيخ عبد الرحمن بن حسن، ضمن: مجموعة الرسائل 2/ 1 / 4 - 5، 2/ 2 / 50.
هم المؤمنون حقا (1).
وصاحب هذه المرتبة هو المقتصد، وهو المؤمن المطلق الذي أدى الواجب، وترك المحرم (2)، وهذه هي حال الأبرار (3).
المرتبة الثالثة: مرتبة الإحسان، والإحسان مشتق من الحسن، وهو نهاية الإخلاص، الناشئ عن حقيقة الاستحضار، بكمال المتابعة. (4).
وهذه المرتبة هي أعلى المراتب، وصاحبها هو السابق بالخيرات، وهو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه، وهو الذي حصل له كمال الإيمان، باستفراغه وسعه في طاعة الله علما وعملا (5)، فكمل عنده العمل في الظاهر والباطن (6).
(1) انظر: فتح المجيد 553 نقلا عن شيخ الإسلام، وهو في الفتاوى 7/ 281.
(2)
انظر: الدرر السنية 1/ 206، ومجموعة الرسائل 5/ 572، وقرة عيون الموحدين 23.
(3)
انظر قرة عيون الموحدين 23.
(4)
انظر: حاشية ثلاثة الأصول 65.
(5)
انظر: قرة عيون الموحدين 23.
(6)
انظر: حاشية ثلاثة الأصول 65.