الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما الوجوه التي يترك فيها الاستثناء، فهي (1).
الأول: حال الجزم بما يعلمه من التصديق.
الثاني: إن أراد الإيمان المقيد الذي لا يستلزم الكمال.
قال الخلال: أخبرني حرب بن إسماعيل وأبو داود، قال أبو داود: سمعت أحمد قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: إذا سئل المؤمن: أمؤمن أنت؟
لم يجبه، ويقول: سؤالك إياي بدعة، ولا شك في إيماني، وقال: إن شاء الله لا يكره، ولا يدخل في الشك.
وقد أخبرني عن أحمد أنه قال: لا نشك في إيماننا (2).
(1) انظر: هداية الطريق 195 - 196، والدرر السنية 1/ 554 - 555، وراجع: الفتاوى 13/ 41.
(2)
انظر: هداية الطريق 195، والدرر السنية 1/ 554، والأثر رواه الخلال في السنة 3/ 602 رقم 1070.
الفصل الخامس: مرتكب الكبيرة:
تنقسم المعاصي كما يقول الشيخ سليمان بن عبد الله: (إلى كفر وشرك، وإلى كبائر دون الكفر والشرك، وإلى صغائر دون الكبائر). .
والكبائر نفسها كما أفاد إمام الدعوة (1)، منها ما هو كبير، ومنها ما هو أكبر، كما دل عليه قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (2).
ولما كان البحث هنا مقتصرا على الكبائر، فسيدور الحديث عنها في تعريفها، وعددها، وحال مرتكبها اسما وحكما، والموقف الصحيح من نصوص الوعد والوعيد.
أولا: ضابط الكبيرة، وعددها:
نقل الإمام المجدد رحمه الله ما رواه ابن جرير عن ابن عباس أنه قال:
الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار، أو لعنة، أو غضب، أو عذاب (3).
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن: (وضابطها - يعني: الكبيرة - ما قاله المحققون من العلماء: كل ذنب ختمه الله بنار، أو لعنة، أو غضب، أو عذاب.
زاد شيخ الإسلام – يعني: ابن تيمية -: أو نفي الإيمان.
(1) انظر: الدرر السنية 13/ 117 - 118
(2)
سورة البقرة الآية 217
(3)
الكبائر، ضمن القسم الأول من مؤلفات الشيخ الإمام 3، وهو في: جامع البيان 5/ 52.
قلت: ومن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: ليس منا من فعل كذا أو كذا).
وجاء تعريف الكبيرة في التوضيح بأنها؛ ما أوجب حدا في الدنيا، ووعيدا في الآخرة (1).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: الكبيرة هي: ما توعد عليه بغضب، أو لعنة، أو رتب عليه عقاب في الدنيا، أو عذاب في الآخرة) (2).
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله: (والكبيرة هي: كل معصية فيها حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو نفي إيمان، أو لعن، أو غضب، أو عذاب، ومن برئ منه الرسول صلى الله عليه وسلم، أو قال: ليس منا)(3).
وليس للكبائر عدد معين (4)، فقد روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع
(1) انظر: التوضيح 75، والدرر السنية 10/ 129، ومصباح الظلام 61، وراجع: الفتاوى 11/ 650.
(2)
فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 2/ 54.
(3)
حاشية الدرة المضية 64، ومثله في: حاشية كتاب التوحيد 257.
(4)
انظر: فتح المجيد 418، وحاشية كتاب التوحيد 257.
الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.
وجاء عنه رضي الله عنه قوله: هي إلى سبعين أقرب منها إلى السبع.
ثانيا: حال مرتكب الكبيرة اسما وحكما:
تفرق الناس في مرتكب الكبيرة، فبينما تراه الوعيدية فاسقا وكافرا، خارجا عن الملة، مخلدا في النار، قابلتهم المرجئة، فجعلته مؤمنا كامل الإيمان، إيمانه كإيمان الأنبياء، وفي الآخرة معرضا للوعيد، مستحقا للعقاب (1).
والذي يعتقده أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة، يشرحه الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله فيقول: (الصواب في ذلك قول أهل السنة:
(1) انظر: مسائل لخصها الإمام 136، والتوضيح 66، 127، 129، 137، 154.
أنه لا يسلب عنه اسم الإيمان على الإطلاق، ولا يعطاه على الإطلاق، بل يقال: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن عاص أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة).
وبعد أن ذكر صاحب التوضيح انقسام الناس في الفاسق على ثلاثة أقسام طرفين ووسط، قال:(وعند هذا، فالقول الوسط الذي هو قول أهل السنة والجماعة أنهم لا يسلبون اسم الإيمان على الإطلاق، ولا يثبتونه على الإطلاق، بل يقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو هو مؤمن عاص، أو هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ويقال: ليس بمؤمن حقا، أو ليس بصادق الإيمان).
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: (ولفظ الظلم، والمعصية، والفسوق، والفجور، والموالاة، والمعاداة، والركون، والشرك، ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، قد يراد بها مسماها المطلق وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة، .. ، وكذلك اسم المؤمن، والبر، والتقى، يراد بها عند الإطلاق والثناء غير المعنى المراد في مقام
الأمر والنهي، ألا ترى أن الزاني، والسارق، والشارب، ونحوهم يدخلون في عموم قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (1)، وقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} (2)، الآية، وقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} (3)، ولا يدخلون في مثل قوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (4)، وقوله:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} (5)، الآية.
وهذا هو الذي أوجب للسلف ترك تسمية الفاسق باسم الإيمان والبر، وفي الحديث:«لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم فيها وهو مؤمن (6)» ، وقوله:«لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه (7)» .
(1) سورة المائدة الآية 6
(2)
سورة الأحزاب الآية 69
(3)
سورة المائدة الآية 106
(4)
سورة الحجرات الآية 15
(5)
سورة الحديد الآية 19
(6)
رواه البخاري: كتاب المظالم، باب النهبى بغير إذن صاحبه 5/ 143 رقم 2475، ومسلم 2/ 54 رقم 57.
(7)
رواه البخاري: كتاب الأدب، باب إثم من لم يأمن جاره بوائقه 10/ 457 رقم 6016، ومسلم 2/ 23 رقم 46.
لكن نفي الإيمان لا يدل على كفره، بل يطلق عليه اسم الإيمان، ولا يكون كمن كفر بالله ورسله، وهذا هو الذي فهمه السلف، وقرروه في باب الرد على الخوارج والمرجئة ونحوهم من أهل الأهواء، فافهم هذا فإنه مضلة أفهام، ومزلة أقدام) (1).
وهذا الذي قرره هؤلاء الأعلام هو ما عليه أكثر أهل السنة في حال مرتكب الكبيرة في الدنيا (2).
ومنهم من قال: هو مسلم وليس بمؤمن، واختاره جماعة، وهو الرواية الأخرى عن أحمد.
ثم إن أهل السنة والجماعة مجمعون على أن الفساق معهم بعض الإيمان وأصله، وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة (3)، وأن الذنب والوعيد لا يلحق من تاب منهم توبة نصوحا.
(1) الدرر السنية 1/ 470 - 471.
(2)
راجع: التمهيد 15/ 47، والفتاوى 7/ 241، 251.
(3)
انظر: التوضيح 66، وراجع: الفتاوى 3/ 374 - 375، 35/ 94 - 95.
وهم مجمعون أيضا على أن الكبائر لا تخرج صاحبها من دائرة الإسلام، وأنه في حكم المشيئة، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه، ومآله إلى الجنة، فلا يخلد في النار من مات على التوحيد، كما تواترت بذلك الأحاديث. .
ثالثا: الموقف الصحيح من نصوص الوعد والوعيد:
يقول إمام الدعوة في جواب من سأله عن نصوص الوعد والوعيد: (الذي يجب العلم به أن كل ما قاله الرسول حق يجب الإيمان به، ولو لم يعرف الإنسان معناه، وفي القرآن آيات الوعد والوعيد كذلك، وأشكل الكل على كثير من الناس من السلف ومن بعدهم)(1).
والقاعدة المقررة أن كل كلام أطلق في الكتاب والسنة، فلا بد أن يبين المراد منه، والأحكام المترتبة على أصله وفرعه (2).
وعلى هذا تفهم نصوص الوعد والوعيد؛ فإن ما جاء من نصوص
(1) الفتاوى: ضمن القسم الثالث من مؤلفات الشيخ الإمام 44 - 45، وانظر منه 53.
(2)
انظر: التوضيح 130.
فيها حصول الوعد بمجرد القول، فهي مفسرة بالنصوص المتواترة بأنه لا بد من القول والعمل.
فنصوص الوعد مقيدة بقيود ثقال لا بد من الإتيان بها قولا واعتقادا وعملا، وألا يأتي قائلها بما يخالفها ويضعفها.
وأما ما جاء من نصوص الوعيد، فقد تقدم أن السلف أجمعوا على أن الكبائر لا تخرج صاحبها من دائرة الإسلام، وأن الله تعالى لا يخلد أحدا في النار من أهل التوحيد.
ثم إن الوعيد المرتب على بعض الذنوب والكبائر في حق المعين قد يتخلف عنه؛ لفوات شرط، أو ثبوت مانع.
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله على حديث: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب (1)» .
قال: (فيه تنبيه على أن الوعيد والذم لا يلحق من تاب من الذنب، وهو كذلك بالإجماع، فعلى هذا إذا عرف شخص بفعل ذنوب توعد الشرع عليها بوعيد، لم يجز إطلاق القول بلحوقه لذلك الشخص المعين
(1) رواه مسلم 6/ 334 رقم 934.
كما يظنه كثير من أهل البدع؛ فإن عقوبات الذنوب ترتفع بالتوبة، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، ودعاء المؤمنين بعضهم لبعض، وشفاعة نبيهم صلى الله عليه وسلم فيهم، وعفو الله عنهم) (1).
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: (وأما إلحاق الوعيد المرتب على بعض الذنوب والكبائر، فقد يمنع منه مانع في حق المعين، كحب الله ورسوله، والجهاد في سبيله، ورجحان السيئات، ومغفرة الله ورحمته، وشفاعة المؤمنين، والمصائب المكفرة في الدور الثلاثة.
ولذلك لا يشهدون – يعني: السلف - لمعين من أهل القبلة بجنة ولا نار، وإن أطلقوا الوعيد كما أطلقه القرآن والسنة، فهم يفرقون بين العام المطلق، والخاص المقيد).
ثم استدل رحمه الله بقصة الرجل الذي يؤتى به وهو يشرب الخمر، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لعنه، وقوله فيه:«لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله (2)» ، مع «أنه صلى الله عليه وسلم لعن الخمر، وشاربها
(1) تيسير العزيز الحميد 400.
(2)
رواه البخاري: كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة 12/ 77، رقم 6780
وبائعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه (1)».
وبقصة حاطب بن أبي بلتعة، وقوله صلى الله عليه وسلم فيه: صدقكم، خلوا سبيله، وقوله صلى الله عليه وسلم:«وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم (2)» .
وإذا تمهدت تلك الأصول، فإن أهل العلم قد اختلفت أنظارهم في توجيه ما جاء من النصوص النافية لإيمان مرتكبي بعض الكبائر، أو التي فيها إطلاق الكفر عليه، ومن الأقوال التي نقلها علماء الدعوة في ذلك ما يلي:
1 -
التوقف في هذه النصوص، بمعنى أنها تمر كما جاءت، فلا يتعرض لها بتفسير من غير علم، ولا يقال: يخرج من الإيمان أو لا يخرج، مع قولهم بأن صاحبها لا يخرج من الملة، وعللوا بأن ذلك أوقع في
(1) رواه الإمام أحمد 8/ 405، رقم 4787، 10/ 9 رقم 5716، وأبو داود في السنن: كتاب الأشربة، باب العنب يعصر للخمر 4/ 82 رقم 3674، والترمذي في الجامع: كتاب البيوع، باب النهي عن أن يتخذ الخمر خلا 4/ 296، رقم 1259، وابن ماجه في السنن: كتاب الأشربة، باب لعن الخمر على عشرة أوجه 2/ 255، رقم 3424.
(2)
رواه البخاري في مواضع من صحيحه منها: كتاب الجهاد، باب الجاسوس وقول الله عز وجل:(لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) 6/ 166، رقم 3007، ومسلم 15/ 82، رقم 2494.
النفوس، وأبلغ في الزجر، وأردع عن الجرائم.
2 -
أن النفي هو نفي الكمال والتمام.
ومراد القائلين به الرد على الخوارج والمعتزلة الذين يكفرون بالذنوب، ويخلدون أصحابها في النار (1).
وهذا القول نسبه النووي رحمه الله إلى المحققين، فقد قال: (فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان.
وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء، ويراد نفي كماله ومختاره، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة.
وإنما تأولناه على ما ذكرناه؛ لحديث أبي ذر وغيره: «من قال:
(1) انظر: الفتاوى ضمن القسم الثالث من مؤلفات الشيخ الإمام 44 - 45، والتوضيح 131.
لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنى، وإن سرق (1)»، وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على ألا يسرقوا ولا يزنوا ولا يعصوا، قال لهم صلى الله عليه وسلم:«فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن فعل شيئا من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارته، ومن فعل ولم يعاقب، فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه (2)» .
فهذان الحديثان مع نظائرهما في الصحيح، مع قول الله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3)، مع إجماع أهل الحق على أن الزاني، والسارق، والقاتل، وغيرهم من أصحاب الكبائر، غير الشرك، لا يكفرون بذلك، بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان، إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة، فإن شاء الله عفا عنهم وأدخلهم الجنة، وإن شاء عذبهم، ثم أدخلهم الجنة، فكل هذه الدلائل تضطرنا إلى تأويل هذا الحديث، وشبهه.
(1) رواه البخاري: كتاب اللباس، باب الثياب البيض 10/ 294 رقم 5827، ومسلم 2/ 124 - 125 رقم 94.
(2)
رواه البخاري في مواضع منها: كتاب التفسير، باب {إذا جاءك المؤمنات يبايعنك} 8/ 506، رقم 4894، ومسلم 11/ 316، رقم 1709.
(3)
سورة النساء الآية 48
ثم إن هذا التأويل الظاهر سائغ في اللغة، مستعمل فيها كثيرا، وإذا ورد حديثان مختلفان ظاهرا وجب الجمع بينهما، وقد وردا ها هنا فيجب الجمع، وقد جمعنا) (1).
والقول بأن المنفي كمال الإيمان يحتمل أن المراد كماله المستحب، أو كمال الواجب، ولشيخ الإسلام ابن تيمية بحث في ذلك ساقه الشيخ سليمان بن عبد الله ملخصا؛ إذ يقول: "لا يعهد في لسان الشرع نفي اسم مسمى أمر الله به ورسوله إلا إذا ترك بعض واجباته، فأما إذا كان الفعل مستحبا في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب، ولو صح هذا لنفى عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان والصلاة، والزكاة، والحج، وحب الله ورسوله؛ لأنه ما من عمل إلا وغيره أفضل منه، وليس أحد يفعل أفعال البر مثل ما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا أبو بكر ولا عمر، فلو كان من لم يأت بكمالها المستحب يجوز نفيها عنه، لجاز أن ينفى عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين، وهذا لا يقوله عاقل.
وعلى هذا فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد الكمال الواجب الذي يذم تاركه، ويتعرض للعقوبة، فقد صدق، وإن أراد
(1) نقله في التوضيح 127 - 128، وهو في: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 2/ 55.
أنه نفي الكمال المستحب، فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
3 -
أن المراد من فعله مستحلا مع علمه بورود الشرع بتحريمه (1).
ونسبه الشيخ سليمان بن عبد الله إلى أكثر الشراح.
4 -
أن المراد ليس من أهل سنتنا وطريقتنا؛ لأن الفاعل لذلك ارتكب محرما وترك واجبا.
5 -
أنها على ظاهرها، فلا يدخلون الجنة إلا بعد العذاب إن لم يتوبوا، وتكون نصوص الوعيد مخصصة لعموم الأحاديث الدالة على خروج الموحدين من النار ودخولهم الجنة.
(1) انظر: التوضيح 128، 132، وتيسير العزيز الحميد 395.
6 -
أنه كافر من جهة العمل الظاهر لا الباطن، أي: من الكفر العملي لا الاعتقادي (1).
7 -
أنه كافر كفر النعمة (2).
وهذا التأويل عند إمام الدعوة خطأ (3)، وعند الشيخ سليمان بن عبد الله باطل (4)، وهو كما يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ:(ضعيف جدا، إذ ما من معصية وذنب يفعله المكلف المختار إلا وفيه من كفر النعمة بحسبه، والشكر هو استعمال النعمة في طاعة معطيها ومسديها، ومع محبته والرضا عنه، والثناء بها عليه، والشكر ضد الكفر، فمن أخل بشيء من الشكر، ففيه من كفر النعمة بحسب ذلك، فتحصل أن كفر النعمة لا يختص بما أطلق عليه الشارع الكفر من الأفعال)(5).
(1) انظر: التوضيح 136، والدرر السنية 10/ 424، ومنهاج التأسيس 318، 319، وراجع: الفتاوى 7/ 312، 350.
(2)
انظر: التوضيح 131 –132، 183، وراجع: شرح النووي على مسلم 2/ 166.
(3)
انظر: الدرر السنية 1/ 189، والفتاوى، ضمن القسم الثالث من مؤلفات الشيخ الإمام 50.
(4)
انظر: تيسير العزيز الحميد 359.
(5)
منهاج التأسيس 318، وراجع: فتح الباري لابن رجب 1/ 129، 6/ 337.
8 -
أن اللفظ لفظ الخبر، ومعناه النهي، أي ينبغي للمؤمن ألا يفعل ذلك (1).
9 -
أن المقصود الزجر والوعيد دون حقيقة النفي (2).
وهذا والذي قبله من التأويلات المستكرهة التي تخرج هذه النصوص عن ظاهرها والمقصود منها (3).
هذه بعض ما قيل في هذه المسألة مما نقله علماء الدعوة رحمهم الله، والقول الأول منها هو اختيار إمام الدعوة، ويراه من أحسن ما قيل في المسألة، وأنه الأصوب والأهون والأوسع، والموافق لقوله تعالى:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (4).
وإن كان رحمه الله قد نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله في المسألة، وأن نفي الإيمان لا يكون إلا فيمن ترك بعض الواجبات (5).
(1) انظر: التوضيح 131، وراجع: الفتاوى 7/ 675.
(2)
انظر: التوضيح 130، 131، وراجع: الفتاوى 7/ 675.
(3)
انظر: التوضيح 131، وراجع: الإيمان، لأبي عبيد 39، والفتاوى 7/ 674 – 675، 7/ 502.
(4)
سورة آل عمران الآية 7
(5)
انظر: مسائل لخصها الإمام 139.
والقول الثاني، وهو أن المنفي هو كمال الإيمان الواجب، هو الذي مشى عليه شراح كتاب التوحيد، فالشيخ سليمان بن عبد الله يقول في معنى نفي الإيمان:(أي لا يحصل له الإيمان الذي تبرأ به ذمته، ويستحق به دخول الجنة بلا عذاب)(1).
ويقول: (أي لا يحصل له الإيمان الواجب، ولا يكون من أهله).
ثم نقل كلام الحافظ ابن رجب، وهو قوله:(أما معنى الحديث، فهو: أن الإنسان لا يكون مؤمنا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها، فيحب ما أمر به ويكره ما نهي عنه).
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن: (أي لا يكون من أهل كمال الإيمان الواجب الذي وعد الله أهله عليه بدخول الجنة، والنجاة من النار، وقد يكون في درجة أهل الإساءة والمعاصي من أهل الإسلام)، ثم قال: (فإن كان الذي يحبه وتميل إليه نفسه ويعمل به تباعا لما جاء به صلى الله عليه وسلم لا يخرج عنه إلى ما يخالفه، فهذه صفة أهل الإيمان المطلق.
(1) تيسير العزيز الحميد 415
وإن كان بخلاف ذلك، أو في بعض أحواله، أو أكثرها انتفى عنه من الإيمان كماله الواجب، كما في حديث أبي هريرة:«لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن (1)» ، يعنى أنه بالمعصية ينتفي عنه كمال الإيمان الواجب، وينزل عنه في درجة الإسلام، وينقص إيمانه، فلا يطلق عليه قيد الإيمان إلا بقيد المعصية، والفسوق، فيقال مؤمن عاص، أو يقال مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته، فيكون معه مطلق الإيمان الذي لا يصح إيمانه إلا به، كما قال تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (2)[فيكون مسلما ومعه مطلق الإيمان الذي لا يصح إسلامه إلا به، وهذا التوحيد الذي لا يشوبه شرك ولا كفر، وهذا هو الذي يذهب إليه أهل السنة والجماعة، خلافا للخوارج والمعتزلة](3). (4).
وعلى هذا يكون من نفي عنه الإيمان لم يأت بكمال الإيمان الواجب الذي وعد الله أهله بدخول الجنة والنجاة من النار، وليس من المؤمنين الذين قاموا بواجبات الإيمان، بل عنده نقص في إيمانه الواجب الذي تبرأ به ذمته، ويستحق به دخول الجنة بلا عذاب.
(1) البخاري الأشربة (5256)، مسلم الإيمان (57)، الترمذي الإيمان (2625)، النسائي الأشربة (5659)، أبو داود السنة (4689)، ابن ماجه الفتن (3936)، أحمد (2/ 386)، الدارمي الأشربة (2106).
(2)
سورة النساء الآية 92
(3)
ما بين قوسين من قرة عيون الموحدين 196
(4)
فتح المجيد 467 - 468