الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فدخلنا عليه فعرض علينا الإسلام فأسلمنا، ثم مكثنا يومنا على ذلك حتى أمسينا، ثم خرجنا ونحن مستخفون فكان إسلام» عمار وصهيب بعد بضعة وثلاثين رجلا (1).
(1) الطبقات الكبرى 3/ 227.
المبحث الثالث: مفهوم الاستخفاء في دعوة النبي وسماتها:
بعد أن استعرضنا بعضا من معالم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مرحلة الاستخفاء من خلال إلقاء الضوء على ميدان الدعوة: الوسائل والأساليب المناسبة التي اتخذها، وكذلك أصناف المدعوين الذين قدم لهم الدعوة؛ ينساق الحديث هنا إلى تبيان أمر دقيق وهو طبيعة الاستخفاء ومفهومه في مضمار الدعوة إلى الله.
وبالنظر إلى كتابات بعض المعاصرين حول موضوع الاستخفاء نجد أن هناك تنوعا في التسمية حيث أطلق عليها: (الاستسرار)، و "الاستخفاء"، و "الكتمان" وكلها ذات مدلول واحد .. وعلى أي حال إذا تجاوزنا حدود المصطلح الذي يتفق العلماء على أنه لا مشاحة في الاصطلاح إلى المعاني والحقائق التي تشتمل عليه الألفاظ نجد هناك عدة آراء في بيان طبيعة الاستخفاء ومفهومه، فمن مفهوم يميل لتوسيع دائرة استخفاء النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة، إلى مفهوم يميل لتضييق تلك الدائرة، ومن مفهوم هو بينهما.
وذلك حسب ما يعتمد عليه كل مفهوم من أحداث تؤيد ما يذهب إليه (1)،
(1) انظر: دراسة في السيرة، للدكتور عماد الدين خليل ص/64، وانظر: السيرة الحلبية 1/ 319.
كما سيتضح في المطلبين التاليين:
المطلب الأول: آراء بعض المعاصرين حول مفهوم استخفاء النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة ومناقشتها:
الفرع الأول: آراء بعض المعاصرين حول مفهوم استخفاء النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة:
يمكن حصر اتجاهات المعاصرين التي تسعى إلى تفسير الاستخفاء وبيان مفهوم في ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في هذا الطور يدعو إلى الله سرا من يأنس به من الأقارب والأصحاب، ولا يجهر على الملأ بالدعوة إلى الدين الجديد. بمعنى أن مدلول السر والاستخفاء في الدعوة الإسلامية يشمل سرية الدعوة نفسها، وسرية ممارسة ما أتت به الدعوة من شعائر.
الاتجاه الثاني: يتمثل فيما ذكره الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه: (خاتم النبيين) الذي جاء فيه: "وقد يقول الرواة إن الاستخفاء كان نحو ثلاث سنوات، كانوا يستخفون بها في العبادة. وقالوا: إنها كانت في دار الأرقم بن أبي الأرقم، ولكن يجب أن نعلم أن الاستخفاء في هذه الفترة ليس الاستخفاء بالدعوة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلن ما جاء به من نذير، وما في جعبته من تبشير، ولكن الذي يستخفي به هو إقامة العبادة التي دعا إليها رب العالمين، ولذلك كان اضطهاد المؤمنين من الضعفاء، واضطهاد النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم حمزة وعمر ".
أي: إن مدلول الاستخفاء في الدعوة حسب هذا المفهوم هو الاستخفاء بشعائر العبادة فقط، أي لا استخفاء في الدعوة نفسها.
الاتجاه الثالث: يتمثل فيما ذكره صاحب كتاب (الدولة الإسلامية) فقد جاء فيه ما نصه: "كان أمر الدعوة الإسلامية ظاهرا من أول يوم بعث به صلى الله عليه وسلم وكان في مكة يعرفون أن محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو لدين جديد، ويعرفون أنه أسلم معه كثيرون، ويعرفون أن محمدا يكتل أصحابه، ويسهر عليهم ويعرفون أن المسلمين يستخفون عن الناس في تكتلهم، وفي اعتناقهم الدين الجديد، وكانت هذه المعرفة تشعر أن الناس كانوا يحسون بالدعوة الجديدة، ويحسون بوجود مؤمنين بها، وإن كانوا لا يعرفون أين يجتمعون، ومن هم هؤلاء الذين يجتمعون من المؤمنين".
أي: إن مدلول الاستخفاء في الدعوة حسب هذا المفهوم هو إخفاء المدعوين ممن استجابوا للدعوة، وإخفاء المكان والزمان اللذين يجتمع فيهما المدعوون، مع الحرص في الوقت نفسه على إظهار الدعوة إلى الدين على الملأ.
الفرع الثاني: مناقشة الآراء السابقة:
تناولت الاتجاهات آنفة الذكر استخفاء النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة في محاولة لوضع إطار عام يتحدد من خلال مفهوم الاستخفاء وينحصر فيه، وفي نظري أن الاتجاه الأول الذي مفاده أن استخفاء النبي صلى الله عليه وسلم اشتمل على سرية
الدعوة وسرية ممارسة العبادة، هكذا بإطلاق؛ غير صحيح، حيث إن السرية لم تكن سرية مطلقة في كافة جوانبها، بل المتأمل للدعوة يتضح له أنها كانت تلوح وتخفى، وهي بعبارة أخرى سرية ذات انفتاح ومرونة، ولهذا سمح النبي صلى الله عليه وسلم بخبر الدعوة أن يتسرب ويشتهر في مكة عن قصد في تلك المرحلة حتى نمى أمره عليه السلام إلى من كان خارج مكة كعمرو بن عبسة وأبي ذر الغفاري، بل طلب ممن استجاب للدعوة أن يبلغ من وراءه وكان هذا في أوائل الدعوة .. ولهذا فإن هذه الرؤية لاستخفاء النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة تحتاج إلى مزيد من الإيضاح في ضوء ما ذكر.
وأما الاتجاه الثاني الذي يقرر أن الاستسرار كان خاصا بإقامة العبادة، وأن الدعوة لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يستخفي في أمرها وأنها كانت معلنة، فهذا فيه نظر باعتبار دلالة النصوص التي تفيد العموم فعندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر بالكتمان بقوله:«يا أبا ذر اكتم هذا الأمر (1)» فذلك يعم الأمرين معا الدعوة والعبادة، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي – رضي الله عنه:«يا علي إذا لم تسلم فاكتم» واتخاذه دارا في سبيل الخفاء والتي كان من وظائفها إقامة العبادة والدعوة إلى الله يفيد هذا المعنى، فقد أخرج ابن سعد في الطبقات بإسناده عن عثمان بن الأرقم أنه قال: أنا ابن سبعة في الإسلام أسلم أبي سابع سبعة وكانت داره بمكة على الصفا وهي الدار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون فيها أول الإسلام وفيها دعا الناس إلى الإسلام وأسلم فيها قوم كثير (2)،
(1) البخاري المناقب (3328)، مسلم فضائل الصحابة (2474).
(2)
الطبقات: 3/ 243