الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البحوث
تفسير آيات الإنفاق من الجزء الثالث
من سورة البقرة - دراسة تحليلية -
للدكتورة: لولوة بنت عبد الكريم بن سعد المفلح
المقدمة:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. (1)
صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه.
أما بعد:
فإن خير ما يبحث فيه، ويتكلم عنه تفسير كتاب الله الكريم، وانطلاقاً من هذا فقد اخترت تفسير آيات الإنفاق في سورة البقرة، لأتشرف
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 6/ 57 ط 1/ 1347 المطبعة المصرية/مصر.
بخدمة كتاب الله عز وجل ولأهمية الإنفاق في سبيل الله وعظم أجره عند الله عز وجل أعددت هذا البحث.
وقد نهجت في إعداده المنهج التالي:
1.
جمع الآيات القرآنية التي لها علاقة بالموضوع، وعزوها إلى سورها.
2.
جمع ما يتعلق بهذه الآيات من الأحاديث النبوية وتخريجها من مصادرها.
3.
شرح الألفاظ الغريبة من المعاجم اللغوية.
هذا وقد اشتملت الدراسة على مقدمة، وتفسير الآيات، وخاتمة.
أما المقدمة فقد ذكرت فيها منهجي في البحث.
وأما التفسير فقد اشتمل على تفسير الآيات تفسيراً تحليلياً.
وأما الخاتمة فقد ذكرت فيها أهم النتائج.
وبعد، فأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا البحث علما نافعا،
والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الآية161
مناسبة الآية لما قبلها:
لما ذكر الله قصة المار على القرية، وقصة إبراهيم وهما أدل دليل على البعث ذكر ما ينتفع به يوم البعث وما يجد جدواه هناك وهو الإنفاق في سبيل الله، لأن ثمرة الإنفاق في سبيل الله تظهر يوم البعث ومن أنفق اعتقد بيوم البعث (1)(2)
كذلك لما قص الله - سبحانه - ما فيه من البراهين، حث على الجهاد، وأعلم أن من جاهد بعد هذا البرهان الذي لا يأتي به إلا نبي فله في جهاده الثواب العظيم (3)
كذلك في هذه الآية دليل آخر على إثبات البعث - بعد ذكر القصص السابقة - كما يخرج الله هذه الحبات الكثيرة من حبة واحدة فهو قادر على إحياء الموتى يوم البعث.
(مثل) حين يطلق يراد به أحد شيئين:
1 -
إما الشبه. وهذا إذا ذكر المشبه والمشبه به فيكون المعنى مثل هذا كمثل هذا. فإن المراد به الشبه لأنه ذكر المماثل
(1) روح المعاني/الألوسي 3/ 32.
(2)
روح المعاني/الألوسي 3/ 32. ') ">
(3)
الجامع لأحكام القرآن/القرطبي 3/ 302. ') ">
كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} .
2 -
وإما الصفة. وهذا إذا لم يذكر المماثل كقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} فالمراد الصفة لعدم ذكر المماثل.
وكلمة مثل في هذه الآية تقتضي الشبه لوجود المماثل، لكن لا يمكن ذلك، لعدم تطابق المشبه والمشبه به لأن المشبه هو المنفق والمشبه به هو الحبة. فيكون هنالك إشكال في ذلك لأن الحبة ليست بإزاء العامل المنفق. لذا قال بعض العلماء: إنه لا بد من تقدير كلام حتى يستقيم التشبيه وهو: مثل إنفاق الذين ينفقون، أو مثل الذين ينفقون كمثل زارع حبة وقدر هذا الكلام؛ لأن الذين ينفقون لا يشبهون بالحب، بل إنفاقهم أو نفقتهم (1)
(1) ينظر: التبيان في إعراب القرآن/العكبري 1/ 177، نظم الدرر/البقاعي 1/ 515 الجامع لأحكام القرآن/القرطبي 3/ 303.
وهذا الاختصار في الآية الكريمة دليل على بلاغة القرآن" وتقدير الكلام: مثل الذين ينفقون ونفقتهم كمثل حبة وزارعها، فذكر المنفق أولا دليل على حذف الزارع ثانيا، وذكر الحبة ثانيا دليل على حذف النفقة أولا "(1) فهذا التمثيل انتظم العامل والعمل.
ومثل مبتدأ خبره جملة (كمثل حبة). . . ولم يصح جعل هذا خبرا إلا بعد تقدير المحذوف وذلك لاختلافها (2)
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} الإنفاق البذل والإخراج، ومنه نفقت الدابة إذا خرجت روحها وماتت، وأنفق المال إذا صرفه (3) ونفق البيع خرج من يد البائع إلى يد المشتري. ومنه المنافق يخرج من الإيمان إلى الكفر.
{أَمْوَالَهُمْ} الأموال جمع مال، وهو ما ملكته من جميع الأشياء. والمال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل لأنها كانت أكثر أموالهم (4) فالمال إذا كل ما يملكه الإنسان
(1) نظم الدرر/البقاعي 1/ 515. ') ">
(2)
ينظر فتح القدير، الشوكاني 1/ 284. ') ">
(3)
لسان العرب/ابن منظور 10/ 357 - 358. ') ">
(4)
لسان العرب/ابن منظور 11/ 635 - 636. ') ">
من الأعيان أو المنافع.
{فِي سَبِيلِ اللَّهِ} : (في) للظرفية والمراد أن هذا الإنفاق لا يخرج عن شرع الله.
السبيل: الطريق، وسبيل الله الطريق الذي قد شرع لعباده. والموصل إليه. وقد أرشد عز وجل عباده باتباع سبيله، لئلا تتفرق بهم السبل حيث يقول – تعالى -:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وسبيل الله عام يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إليه - تعالى - بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات، وإذا أطلق، فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه. وقوله - تعالى - {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} السبيل هنا: اسم جنس لا سبيل واحد بعينه، لأنه قد قال: ومنها جائر، أي: ومنها سبيل جائر (1) إذا السبيل يضاف إلى
(1) لسان العرب/ابن منظور 11/ 320. ') ">
سالكه، فيقال: سبيل الله ويقال: سبيل المؤمنين {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ، فأضيف إليهم لأنهم سلكوه، ويضاف إلى غير المؤمنين كقوله - تعالى -:{وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} ، وقوله:{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا} ، فالسبيل هو الطريق فيضاف كل سبيل لسالكه.
فالإنفاق المذكور في هذه الآية هو في سبيل الله؛ لذا ينبغي أن تتحقق فيه أركان قبول العبادة وهي: الإخلاص لله عز وجل واتباع ما شرعه الله. فإذا أخل بأحد هذين الشرطين لم يقبل العمل فلا بد من وجود هذين الشرطين ليكون العمل مقبولا.
{كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} حبة: اسم جنس لكل ما يزرعه ابن آدم ويقتاته وأشهر ذلك البر، وكثيراً ما يراد بالحب (1) وحبة القلب: سويداؤه، ويقال: ثمرته وهو ذاك. والحبة بكسر الحاء: بذور البقول مما ليس بقوت (2)
(1) المحرر الوجيز/ابن عطية 2/ 309. ') ">
(2)
الجامع لأحكام القرآن/القرطبي 3/ 304. ') ">
{أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} : يعني أخرجت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة وقال: {سَبْعَ سَنَابِلَ} ولم يقل سبع سنبلات جمع قلة، لأن في ذلك تهييجا على الإنفاق، وفيه توسع فيستعمل كل من البناءين مكان الآخر، ولعل الحكم لما عم تضمن معنى الكثرة فحسن بناء الكثرة.
{أَنْبَتَتْ} المنبت هو الله ولكن الحبة لما كانت سببا أسند إليها الإنبات. " وفي هذه الآية إحضار لصورة المضاعفة بهذا المثل الذي كان العبد يشاهده ببصره فيشاهد هذه المضاعفة ببصيرته، فيقوي شاهد الإيمان مع شاهد العيان، فتنقاد النفس مذعنة للإنفاق سامحة به مؤملة لهذه المضاعفة الجزيلة والمنة الجليلة (1)
وقد ضرب الله عز وجل المثل بالزرع، لأهمية الزرع جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كانت له صدقة» (2)
(1) تفسير السعدي 113. ') ">
(2)
صحيح البخاري مع الفتح 5/ 3 كتاب الحرث والمزارعة، باب فضل الزرع والغسل، 10/ 438 وفي الأدب، باب رحمة الناس والبهائم. ومسلم 5/ 27 في المساقاة، باب فضل الغرس والزرع، والترمذي في الأحكام، باب ما جاء في فضل الغرس رقم (1382).
وجملة: {أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} : يعني أخرجت سبع سنابل "والجملة في موضع جر صفة لجنة"(1)
{فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} الجملة ابتداء وخبر في موضع جر صفة لسنابل (2)
قال القرطبي رحمه الله:
إن سنبل الدخن يجيء في السنبلة منه أكثر من من هذا العدد بضعفين، وأكثر على ما شاهدناه.
وقال ابن عطية رحمه الله: وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، وأما في سائر الحبوب فأكثر ولكن المقال وقع بهذا القدر (3)
وقال الطبري رحمه الله إن قوله {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} معناه إن وجد ذلك وإلا فعلى أن تفرضه (4)
(1) إعراب القرآن/العكبري 1/ 177. ') ">
(2)
إعراب القرآن/العكبري 1/ 177. ') ">
(3)
المحرر الوجيز 2/ 310. ') ">
(4)
جامع البيان/الطبري 4/ 652. ') ">
إذا صح التمثيل ولم ير سنبلة فيها مائة حبة؛ لأن ذلك موجود في الدخن والذرة وغيرهما، وربما فرخت ساق البرة في الأرض فبلغ حبها ها المبلغ.
وعلى تقدير عدم وجوده، فهو غير مستحيل، وما لا يكون مستحيلا يجوز ضرب المثل به.
والمراد أن الحبة صارت سبعمائة حبة، بمضاعفة الله لها. فكما ضاعف الله سبحانه وتعالى للزارع حبته فهو يضاعف للمنفق نفقته.
من ذلك يتبين: أن الحسنة في الإنفاق في سبيل الله تكون سبعمائة ضعف. فهذا دليل على فضل الله عز وجل على عباده؛ لأن الله يعاملهم بالفضل والزيادة فالحبة الواحدة تكون سبعمائة حبة بل قد تزيد على ذلك.
قال ابن كثير رحمه الله:
"وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة، فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل لأصحابها كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة. وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف، قال الإمام إحمد: حدثنا عمرو بن مجمع أخبرنا إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله جعل حسنة ابن آدم إلى عشر أمثالها إلى
سبعمائة ضعف» (1) الحديث (2)
والحسنات تضاعف للمسلم حتى ولو لم يعمل الحسنة كما في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: «يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف» (3) فإذا هم بالحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة واحدة، أما
(1) الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده 7/ 290. والحديث صحيح لغيره وهذا إسناده ضعيف، لضعف عمرو بن مجمع ولين إبراهيم الهجري، وهو ابن مسلم، وأبو الأحوص هو عوف بن مالك الجشمي من رجال مسلم. وأخرجه الطبراني في الكبير رقم (10198) وأورد الهيثمي في المجمع 3/ 179، وقال رواه الإمام أحمد والبزار باختصار والطبراني في الكبير، وله أسانيد عند الطبراني وبعض طرق رجالها رجال الصحيح، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند البخاري (1904)، ومسلم (1151). ينظر الموسوعة الحديثية 7/ 290 - 291.
(2)
تفسير ابن كثير 1/ 316. ') ">
(3)
صحيح البخاري 13/ 465 في التوحيد، باب قول الله تعالى:(يريدون أن يبدلوا كلام الله)، ومسلم 1/ 82 في الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب، والترمذي رقم (3075) في التفسير، باب ومن سورة الأنعام.
إذا عملها فتكتب عشر حسنات كما في الحديث السابق، وكما في قوله - تعالى -:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ثم تضاعف إلى سبعمائة ضعف كما في قوله تعالى: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} وفوق ذلك مضاعفة الحسنات فوق سبعمائة كما في قوله - تعالى - {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} وأعلى من ذلك مضاعفة كثيرة كما قال - تعالى -: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} وأعلى مراتب مضاعفة الحسنات - قوله تعالى -: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} :
{يُضَاعِفُ} : قالت طائفة هذه المضاعفة مبينة مؤكدة لما تقدم من ذكر السبعمائة، وليس ثم تضعيف فوق السبعمائة. وقالت طائفة من العلماء: بل هو إعلام بأن الله - تعالى - يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف. قلت: وهذا القول أصح (1)
(1) الجامع لأحكام/القرآن القرطبي 3/ 305، تفسير الطبري 4/ 261، تفسير البغوي 3/ 249. ') ">
{لِمَنْ يَشَاءُ} أي: بحسب حال المنفق وإخلاصه وصدقه، وبحسب حال النفقة وحلها ونفعها ووقوعها موقعها. ويحتمل أن يكون {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ} أكثر من هذه المضاعفة {لِمَنْ يَشَاءُ} فيعطيهم أجرهم بغير حساب (1)
{يَشَاءُ} مشيئة الله عز وجل مقرونة بحكمته فلا مشيئة لله عز وجل مجردة بل تكون دائما مقترنة بالحكمة، فالله - تعالى - يضاعف لمن يشاء ممن اقتضت حكمته تلك المضاعفة.
{وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (الله) هو الاسم الذي تفرد به الحق سبحانه وتعالى وخص به نفسه. وهو علم على ذات الله عز وجل وهو أصل الأعلام، وأسماء الله دائما تبع لهذا العلم وهو الأصل، ومستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى دال عليها بالإجمال.
قال الخليل: الله لا تطرح الألف من الاسم إنما هو الله - عز ذكره - على التمام، قال: وليس هو من الأسماء التي يجوز منها اشتقاق فعل كما يجوز في الرحمن الرحيم.
وروى المنذري عن أبي الهيثمي أنه سأله عن اشتقاق اسم الله - تعالى - في اللغة فقال: كان حقه إله أدخلت الألف واللام
(1) تفسير السعدي 113. ') ">
تعريفا، فقيل الإلاه، ثم حذفت العرب الهمزة استثقالا لها. فلما تركوا الهمزة حولوا كسرتها في اللام التي هي لام التعريف، وذهبت الهمزة أصلا فقالوا (ألِلاه) فحركوا لام التعريف التي لا تكون إلا ساكنة ثم التقى لامان متحركتان فأدغموا الأولى في الثانية فقالوا الله. " (1)
واسم الله يدل على كونه مألوها معبوداً، تألهه الخلائق تعظيما ومحبة وخضوعا له.
{وَاسِعٌ عَلِيمٌ} اسمان من أسماء الله عز وجل يدلان على صفتين من صفاته العلا.
الواسع: واسع - سبحانه - في صفاته وعلمه وفضله وثوابه ورحمته وعظمته وملكه وسلطانه وإحسانه وجوده وكرمه وعطائه وفي كل شيء". فلا يتوهم المنفق أن تلك المضاعفة فيها نوع مبالغة؛ لأن الله - تعالى - لا يتعاظمه شيء ولا ينقصه العطاء على كثرته ومع هذا فهو (عليم) بمن يستحق هذه المضاعفة ومن لا يستحقها، فيضع المضاعفة في موضعها لكمال علمه وحكمته
(1) لسان العرب 13/ 467. ') ">
{عَلِيمٌ} ذو علم محيط علمه بكل شيء بالواجبات والممتنعات والممكنات.
والعلم: نقيض الجهل، والعلم إدراك الشيء إدراكا جازما وهو أعلى الدرجات، ثم يأتي بعده الظن وهو: إدراك طرف العلم إدراكا راجحا على نقيضه، ثم الشك وهو: تساوي الطرفين فلا ترجيح لأحدهما على الآخر، ثم الجهل وهو: انعدام طرف العلم بالكلية.
الآية 262
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} لما تقدم في الآية التي قبل هذه ذكر الإنفاق في سبيل الله على العموم، بين في هذه الآية أن ذلك الحكم إنما هو لمن لم يتبع إنفاقه مناً ولا أذى (1)(2) استئناف جيء به لبيان كيفية الإنفاق الذي بين فضله (3) أي هو إنفاق الذين ينفقون ثم لا يتبعون ما أنفقوا ما يبطل ذلك الإنفاق.
وإعادة قوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إظهار للاهتمام
(1) المحرر الوجيز/ابن عطية 2/ 311.
(2)
المحرر الوجيز/ابن عطية 2/ 311. ') ">
(3)
روح المعاني 2/ 33. ') ">
بهذه الصلة (1) وهذه الآية تشير إلى ما سبق بيانه من فضيلة الإخلاص في الإنفاق وفضيلة الاتباع.
وقوله {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} في إعرابها وجهان (2) أحدهما: أن يكون مرفوعا بالابتداء وخبره الجملة من قوله {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} والثاني: أن {الَّذِينَ} خبر لمبتدأ محذوف أي: هم الذين ينفقون. وفي قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} على هذا وجهان: أحدهما: أنها في محل نصب على الحال والثاني: - وهو الأولى - أن تكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب كأنها جواب سائل قال: هل لهم أجرهم؟
{ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ} ثم للتراخي والترتيب " التراخي في الزمان نظراً للغالب من أن وقوع المن والأذى يكون بعد الإنفاق بمدة. وقيل: المراد التراخي في الرتبة وأن رتبة عدمها أعظم في الأجر من رتبة الإنفاق"(3) وهي موجبة للترتيب، لكن بمهلة وفصل (4)
(1) التحرير والتنوير 3/ 42. ') ">
(2)
ينظر الدر المصون/السمين الحلبي 1/ 635/636. ') ">
(3)
الفتوحات الإلهية/الجمل 1/ 218. ') ">
(4)
الواضح في أصول الفقه/لأبي الوفاء ابن عقيل 1/ 116، وينظر حاشية الدسوقي1/ 127 ومتن مغني اللبيب/ابن هشام 1/ 127 بهامش الحاشية، شرح ابن عقيل 2/ 227.
وصاحب الكشاف يحملها على التفاوت في المراتب، والتباعد بينها (1)
وقد عطف بـ (ثم) بدلا من الواو لإظهار علو رتبة المعطوف عليه.
{لا يُتْبِعُونَ} أتبعه الشيء: جعله له تابعا، وقال الأزهري: التبع ما تبع من أثر شيء فهو تبعه (2) فهم بعدما ينفقون لا يلحق إنفاقهم ما يبطله.
و {مَا} من قوله {مَا أَنْفَقُوا} يجوز أن تكون موصولة اسمية فالعائد محذوف، أي: ما أنفقوه، وأن تكون مصدرية فلا تحتاج إلى عائد، أي: لا يتبعون إنفاقهم. " (3)
{مَنًّا وَلا أَذًى} المن: الاعتداد، والعطاء، والقطع والنقص، والعطية، والذي يسقط من السماء، والذي يوزن به. والأصل فيه القطع والنقص (4) وكونه من القطع؛ لأن المنعم يقطع من ماله قطعة للمنعم عليه. ومنه قوله - تعالى -:{لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي غير
(1) الكشاف/الزمخشري 1/ 339. ') ">
(2)
ينظر: لسان العرب 8/ 27 - 29. ') ">
(3)
الدر المصون 1/ 636. ') ">
(4)
لسان العرب 13/ 417 - 418. ') ">
مقطوع. وكونه من النقص؛ لأنه نقص من الحق (1) وهو الاعتداد بالإحسان، "ويمن عليه بعطائه، فيقول: أعطيتك كذا، ويعد نعمه عليه فيكررها عليه. "(2) على معنى التعديد لها والتقريع بها، مثل أن يقول قد أحسنت إليك.
وقيل المن: التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه (3)
والمن من كبائر الذنوب كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث روى مسلم بسنده عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ» (4)
(1) الدرر المصون 1/ 636.
(2)
تفسير البغوي 3/ 250.
(3)
الجامع لأحكام القرآن/القرطبي3/ 308.
(4)
صحيح مسلم 1/ 71 كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف. وأبو داوود 4/ 57 في اللباس، باب ما جاء في إسبال الإزار ح (4087، 4088)، والترمذي في البيوع، باب ما جاء فيمن حلف على سلعة كاذبا (1211)، والنسائي 7/ 245 في البيوع، باب المنفق سلعته بالحلف الكاذب.
{وَلا أَذًى} الأذى هو أعم من المن وهو السب والتشكي (1) والتطاول عليه بسبب ما أزال إليه (2) فيعيره ويقول: إلى كم تسأل وكم تؤذيني؟ وقيل: من الأذى أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه. وقال سفيان {مَنًّا وَلا أَذًى} هو أن يقول قد أعطيتك فما شكرت (3) إذا المن هو ما كان بين المنفق والمنفق عليه وإذا ظهر ذلك للناس أصبح أذى. وكلها من كبائر الذنوب، ومن الأمور المنهي عنها شرعا. فالذي يمن على المنفق عليه أو يؤذيه بالقول الدال على منته عليه يبطل أجره بهذا السبب والذي لا يتبع نفقته منا ولا أذى له الأجر الكامل.
وقدم المن على الأذى لكثرة وقوعه، وتوسيط كلمة (لا) لشمول النفي لاتباع كل واحد منهما (4) وتكرير (لا) تنبيه على أن انتفاء كل منهما شرط لحصول الأجر (5)
(1) الجامع لأحكام القرآن/القرطبي 3/ 308. ') ">
(2)
الكشاف 1/ 339. ') ">
(3)
تفسير البغوي 3/ 250. ') ">
(4)
روح المعاني الألوسي 3/ 33. ') ">
(5)
نظم الدرر/البقاعي 1/ 516. ') ">
{لَهُمْ أَجْرُهُمْ} جملة من مبتدأ وخبر. لم يضمن المبتدأ معنى الشرط فلذلك لم تدخل الفاء في خبره (1) ولم يتضمن معنى الشرط لأن هؤلاء المنفقين مستحقون للأجر لذواتهم وما ركز في نفوسهم من نية الخير، لا لوصف الإنفاق فإن الاستحقاق به استحقاق وصفي، وفيه ترغيب دقيق لا يهتدى إليه إلا بتوفيق من الله، وجوز أن يكون تخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها للإيذان بأن ترتيب الأجر على ما ذكر من الإنفاق وترك اتباع المن والأذى أمر بين لا يحتاج إلى التصريح بالسببية (2) وفي تكرير الإسناد وتقييد الأجر بقوله (لهم)، (عند ربهم) من التأكيد والتشريف ما لا يخفى (3)
{أَجْرُهُمْ} الأجر هو: الجزاء على العمل، والإجارة: من أجر يأجر، وهو ما أعطيت من أجر في عمل، وآجره يؤجره إذا أثابه وأعطاه الأجر والجزاء، والأجرة: الكراء، والأجر: الثواب (4) إذا
(1) الدر المصون 1/ 635. ') ">
(2)
روح المعاني الألوسي 3/ 33 - 34. ') ">
(3)
روح المعاني/الألوسي 3/ 32. ') ">
(4)
ينظر: لسان العرب 4/ 10. ') ">
الأجر: هو ما يتقاضاه العامل مقابل عمله والمراد هنا: ثوابهم (1) ولا شك أن كل إنسان يلتزم بأداء ما عليه من أجر للأجير ويلتزم كذلك أداءه في وقته.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» (2)
وقد سمى الله عز وجل الثواب أجرا؛ لأنه سبحانه قد
(1) تفسير البغوي 3/ 250. ') ">
(2)
رواه ابن ماجه ص 178 كتاب الأحكام، باب أجر الأجراء، ح (2434)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1980) وقال المنذري في الترغيب والترهيب 3/ 78: رواه أبو هريرة والمتن مع غرابته يكتسب بكثرة طرقه قوة. وقال عن حديث ابن عمر: فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وبقية رواته ثقات ص 3/ 78. وقال ابن حجر: حسن. هداية الرواة/ابن حجر (المقدمة) 3/ 208. وقال الهيثمي: إسناده حسن. الزواجر/الهيثمي المكي 1/ 263. وقال المحدث محمد بن محمد الغزي: إسناده جيد. اتقان ما يحسن 1/ 87. وقال الألباني: صحيح، إرواء الغليل (1488). وقال الألباني: حسن، صحيح الجامع (1055) وقد ذكر الألباني أنه صحيح لغيره. ينظر: صحيح الترغيب (1877)، وينظر: مشكاة المصابيح (2918). قال الزيلعي في نصب الراية 4/ 131: ومعنى الحديث أخرجه البخاري في الإجارات، باب إثم من منع أجر الأجراء 1/ 302.
تكفل لهذا المنفق المخلص في نفقته والذي قد سلمت نفقته من المحبطات: كالمن والأذى بأن يجزيه على عمله هذا، فصار بذلك مثل أجر الأجير ملتزما بأدائه ووفائه.
وفي تقديم الخبر (لهم) على المبتدأ (أجرهم) حصر الأجر عليهم؛ لأن كل ما من حقه التأخير إذا تقدم فإنه يفيد الحصر.
{عِنْدَ رَبِّهِمْ} مدخر عند ربهم. المحسن إليهم بتربيتهم، والذي يقبل نفقاتهم الخالصة له سبحانه وتعالى وينميها لهم يوم القيامة. ويخلفها عليهم في الدنيا كما قال - عز من قائل -:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} .
{عِنْدَ} قد يراد به الالتزام كما يقال: عندي لفلان مبلغ من المال فأنا ملتزم بوفائه. والله عز وجل ملتزم بوفاء هذا الأجر كما وعد بذلك.
وقد يراد به المكان فهم قريبون من الله عز وجل في الجنة وفي الفردوس الذي سقفه عرش الرحمن.
{رَبِّهِمْ} الرب هو: الله عز وجل وهو رب كل شيء أي مالكه، وله الربوبية على جميع الخلق لا شريك له ولا يقال الرب في غير الله إلا بالإضافة (1)
(1) لسان العرب 1/ 399. ') ">
واختلف في اشتقاقه، فقيل: إنه مشتق من التربية، فالله سبحانه وتعالى مدبر لخلقه ومربيهم.
ومنه قوله تعالى {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} فعلى أنه مدبر لخلقه ومربيهم يكون صفة فعل، وعلى أن الرب بمعنى المالك والسيد يكون صفة ذات (1)
ومنه قوله - تعالى - {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} وإضافة الضمير إلى (رب) تشريفا وتكريما لهم "ففيه تأكيد وتشريف"(2)
{وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} المراد بيان انتفائهما لا بيان انتفاء دوامهما (3)
{وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من هضيمة تلحقهم {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} على فائت؛ لأن ربهم سبحانه وتعالى لم يترك شيئا من الفضل اللائق بهم إلا أوصله إليهم (4) وقد نفى عنهم الخوف بعد موتهم لما
(1) الجامع لأحكام القرآن/القرطبي1/ 137. ') ">
(2)
فتح القدير/الشوكاني 1/ 284. ') ">
(3)
روح المعاني الألوسي 3/ 34. ') ">
(4)
نظم الدرر/البقاعي 1/ 516. ') ">
يستقبل، والحزن على ما سلف من دنياهم، لأنهم يغتبطون بآخرتهم (1) فهذا من كمال النعيم؛ لأن من فاته النعيم بالكلية يتمنى لو عمل لهذا النعيم حتى يناله، ومن فاته كمال النعيم يتمنى لو عمل حتى يتم له هذا النعيم. ولكن الله عز وجل نفى الخوف والحزن عنهم لأنهم في كمال النعيم وتمامه، ولا يشعرون بنقص ولا بحزن ولا بخوف حتى ولو كانوا في منازل في الجنة دون المنازل العالية.
فأهل الجنة يرون أنه لا أحد أنعم منهم على اختلاف درجاتهم، بينما أهل النار يرون أنه لا أحد أشقى منهم على اختلاف دركاتهم.
إذا المخلصون في أعمالهم ونفقاتهم لا يحزنون على ما فات ولا يهتمون بما هو آت؛ لأن الذي يحزن على الفائت، لا شك أن ذلك ينقص نعيمه وينغص عليه حياته. كذلك الخائف لا يتم له نعيمه؛ لأنه لا يدري ماذا يحدث له في مستقبل أمره فلا يهنأ له بال. وهؤلاء المخلصون {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} عند مقدمهم على الله - جل ثناؤه - وفراقهم الدنيا، ولا في أهوال القيامة، أن ينالهم من مكارهها، أو يصيبهم فيها من عقاب الله، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
(1) المحرر الوجيز 2/ 313. ') ">
على ما خلفوا وراءهم في الدنيا (1)
{وَلا خَوْفٌ} ظاهره نفي الخوف عنهم في الدارين؛ لما تفيده النكرة الواقعة في سياق النفي من الشمول
(1) جامع البيان/الطبري 4/ 657. ') ">
الآية 263
قال – تعالى -: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} .
هذه الآية مقررة لقاعدة شرعية: (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) فالخير لا يكون طريقا إلى الشر. فالسلم والولاء وحسن الخلق خير من العداوة والبغضاء.
{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} فيه ثلاثة أوجه (1)(2)
أحدها: أنه مبتدأ، وساغ الابتداء بالنكرة لوصفها وللعطف عليها.
{وَمَغْفِرَةٌ} عطف عليه، وسوغ الابتداء بها العطف أو الصفة المقدرة. إذ التقدير: ومغفرة من السائل أو من الله. و {خَيْرٌ} خبر عنهما.
قال أبو البقاء: " والتقدير: وسبب مغفرة؛ لأن المغفرة من الله، فلا
(1) الدر المصون 1/ 636.
(2)
الدر المصون 1/ 636. ') ">
تفاضل بينها وبين فعل عبده، ويجوز أن تكون المغفرة مجاوزة المزكي واحتماله للفقير، فلا يكون فيه حذف مضاف (1)
والثاني: أن {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} مبتدأ وخبره محذوف أي: أمثل أو أولى بكم، {وَمَغْفِرَةٌ} مبتدأ و {خَيْرٌ} خبرها، فهما جملتان، ذكره المهدوي وغيره.
وقال ابن عطية على ذلك: وفي هذا ذهاب برونق المعنى (2)
والثالث: أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: المأمور به قول معروف.
{قَوْلٌ} هو ما نطق به اللسان.
{مَعْرُوفٌ} المعروف ضد المنكر وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات (3) وهو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله، خير من صدقة هي في ظاهرها صدقة وفي باطنها لا شيء؛ لأن ذلك القول المعروف فيه أجر وهذه لا أجر فيها (4)
والقول المعروف هو ما كان معروفا في الشرع،
(1) التبيان في إعراب القرآن/العكبري 1/ 178. ') ">
(2)
المحرر الوجيز/ابن عطية 2/ 313. ') ">
(3)
لسان العرب/ابن منظور 9/ 239 - 240. ') ">
(4)
المحرر الوجيز/ابن عطية 2/ 313،. ') ">
ومعروفا في العرف، أي يعرفه الناس ولا ينكرونه، وتنكير {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} للتقليل، أي: أقل قول معروف خير من صدقة يتبعها أذى " (1) فأي كلام طيب ومعروف مثل الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله خير من الصدقة المتبعة بأذى، والقول المعروف فيه أجر، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ قال: تَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ وَتُعِينُ الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ له عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ قال: وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَكُلُّ خُطْوَةٍ تمشيها إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ» (2)
وله عن عَمْرٌو بن خَيْثَمَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم – «أنه ذكر النَّارَ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ ثلاث مرار ثُمَّ قَالَ: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ تَجِدْوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» (3) قال ابن بطال: وجه كون
(1) التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 47. ') ">
(2)
صحيح البخاري مع الفتح 6/ 132، كتاب الجهاد، باب من أخذ بالركاب وغيره ح (2989).
(3)
صحيح البخاري مع الفتح 10/ 488، كتاب الأدب، باب طيب الكلام ح (6023)، وصحيح مسلم 3/ 86، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة، والترمذي في صفة القيامة في القيامة في شأن القصاص ح (2427).
الكلمة الطيبة صدقة أن إعطاء المال يفرح به قلب الذي يعطاه ويذهب ما في قلبه، وكذلك الكلام الطيب فاشتبها من هذه الحيثية (1)
{وَمَغْفِرَةٌ} المغفرة الستر للخلة وسوء حالة المحتاج، والتغطية، قال النقاش: يقال معناه ومغفرة للسائل إن أغلظ أو جنا إذا حُرِم (2) وقيل المراد: العفو من جهة السائل؛ لأنه إذا رده ردا جميلا عذره، وقيل المراد: فعل يؤدي إلى المغفرة خير من صدقة: أي غفران الله خير من صدقتكم (3) والذي يترجح - والله تعالى أعلم - أن المراد: مغفرة لمن أساء إليك بترك مؤاخذته والعفو عنه، ويدخل فيه العفو عما يصدر من السائل مما لا ينبغي، فالقول المعروف والمغفرة خير من الصدقة التي لا يتبعها أذى، لأن القول المعروف إحسان قولي، والمغفرة إحسان أيضا بترك المؤاخذة، وكلاهما إحسان ما فيه مفسد، فهما أفضل من الإحسان بالصدقة التي يتبعها أذى بمن
(1) فتح الباري/ابن حجر 10/ 449. ') ">
(2)
المحرر الوجيز/ابن عطية 2/ 313، وينظر: لسان العرب 5/ 25. ') ">
(3)
فتح القدير/الشوكاني 1/ 285، وينظر فتح الباري 3/ 278. ') ">
أو غيره. ومفهوم الآية أن الصدقة التي لا يتبعها أذى أفضل من القول المعروف والمغفرة (1)
إذا القول المعروف إحسان، والمغفرة إحسان، ولكن الفرق بينهما: أن القول المعروف: إسداء المعروف إلى الغير، بينما المغفرة: تجاوز الإنسان عن حقه مع غيره.
والمغفرة والتجاوز عن الغير أمر محبب شرعا، لقوله – تعالى -:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} ، وقوله {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} .
{خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} .
{خَيْرٌ} عند الله. وقيل خير للسائل.
{مِنْ صَدَقَةٍ} الصدقة: ما تصدقت به وأعطيته في ذات الله للفقراء (2) وهي بذل الإحسان المالي.
{يَتْبَعُهَا أَذًى} الجملة في محل جر صفة لصدقة. فلا شك إذا أن القول المعروف خير من الصدقة التي يتبعها أذى وإن نفعت هذه الصدقة صاحبها (المتصدق عليه)؛ لأن هذا الإحسان المالي صار
(1) تفسير السعدي 113. ') ">
(2)
لسان العرب/ابن منظور 10/ 196. ') ">
في الحقيقة إساءة، فلو سلم من هذه الصدقة ومما يتبعها من أذى لكان خيرا له.
ولم يعد ذكر المن واكتفى بذكر الأذى، وذلك لأن الأذى يشمل المن وغيره.
{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} الآية، والجملة مستأنفة مقررة لاعتبار ترك اتباع المن والأذى، وإنما لم يذكر المن؛ لأن الأذى يشمله وغيره، وذكره فيما تقدم اهتماما به؛ لكثرة وقوعه من المتصدقين وعسر تحفظهم عنه (1)
{غَنِيٌّ} له الغنى المطلق من جميع الوجوه لكماله وكمال صفاته، غني بذاته عن جميع الخلق، وهم محتاجون إليه، وهو سحانه قد أخبر أنه غني عن صدقة العباد، وإنما أمر بها ليثيبهم (2)
{حَلِيمٌ} الحلم: الصفح وتأجيل العقوبة.
فالله عز وجل له الحلم الكامل الذي وسع جميع خلقه حيث يمهلهم بالعقوبة ليتوبوا، ولو شاء لأخذهم بذنوبهم، لأن الذنوب تقتضي ترتب
(1) روح المعاني الألوسي 3/ 34. ') ">
(2)
شرح أسماء الله الحسنى/القحطاني 99. ') ">
آثارها عليها من العقوبة العاجلة، ولكن حلمه - سبحانه - هو الذي اقتضى إمهالهم
وقد ختم الله سبحانه وتعالى بهذين الاسمين؛ لأن الآية في مقام الإنفاق، فالله هو الغني يخلف على المنفق نفقته التي أنفقها، ولكمال غناه يتجاوز عمن أساء وذلك بمغفرة ذنوبه.
وقد علمنا فيما سبق أن المن والأذى من كبائر الذنوب. ولكن الله عز وجل يؤخر العقوبة عن أهل المعاصي ويفتح لهم باب التوبة ليتوب عليهم فناسب ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين.
الآية: 264
هذه الآية الثالثة التي يتأكد فيها النهي عن إتباع الصدقات بالمن والأذى.
الآية الأولى قوله – تعالى -:
الآية الثانية قوله - تعالى -: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} .
الآية الثالثة قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} .
فالآية الأولى: ذكر فيها عظم أجر المنفق في سبيل الله الذي لم يتبع صدقته بالمن والأذى.
والآية الثانية: ذكر فيها أن القول المعروف أفضل من الصدقة التي يتبعها أذى.
والآية الثالثة: ذكر فيها أن اتباع الصدقة بالمن والأذى مبطل لها ومحبط لأجرها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} تصدير الخطاب بالنداء يدل على أهمية المخاطب به، لأن النداء يقتضي التنبيه، والتنبيه لا يكون إلا في الأمور
الهامة.
كما أن هذا النداء خص بالمؤمنين، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك، فإما خير تؤمر به وإما شر تنهى عنه.
وإذا صدر النداء بالذين آمنوا دل ذلك على (1)(2)
1 -
أن التزام ما ذكر من مقتضيات الإيمان سواء كان أمرا أو نهيا.
2 -
أن عدم امتثاله نقص في الإيمان.
3 -
يفيد الحث والإغراء، كأنه يقول: يا أيها الذين آمنوا لإيمانكم افعلوا كذا وكذا. " أي يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله. "(3)
{لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ} الإبطال: بَطَلَ الشيء يَبْطُلُ: أي ذهب ضياعا وخسرا، فهو باطل (4) والإبطال: هو جعل الشيء باطلا أي زائلا غير نافع لما أريد منه. فمعنى بطلان العمل عدم ترتب أثره الشرعي عليه سواء كان العمل واجبا أم كان متطوعا به (5) فإبطال الصدقات: إذهاب أثرها وإفساد منفعتها إما بالمن أو بالأذى أو بهما، فإنهما
(1) شريط لشيخنا الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
(2)
شريط لشيخنا الشيخ ابن عثيمين رحمه الله. ') ">
(3)
جامع البيان/الطبري 4/ 658. ') ">
(4)
ينظر لسان العرب/ابن منظور 11/ 56. ') ">
(5)
التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 47. ') ">
إساءتان ينافيان الإحسان المعتبر في الصدقة " (1) والإبطال لا يكون إلا بعد حصول الفعل. فإذا تصدق أحد بصدقة فقد حصل الأجر، ولكن إذا منّ أو آذى بطل ذلك الأجر.
فالإبطال لا يكون في الغالب إلا فيما تم فالمراد "لا تبطلوا أجور صدقاتكم بالمن والأذى "(2) ويستدل بهذا النهي في الآية الكريمة على أن الأعمال السيئة تبطل الأعمال الحسنة، كما قال – تعالى-:{وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} فكما أن الحسنات يذهبن السيئات، فالسيئات تبطل ما قبلها من الحسنات وفي هذه الآية مع قوله - تعالى -:{وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} حث على تكميل الأعمال وحفظها من كل ما يفسدها؛ لئلا يضيع العمل سدى. (3)
{صَدَقَاتِكُمْ} الصدقة: ما تصدقت به على الفقراء، وما أعطيته في ذات الله (4) تقربا إليه.
(1) تفسير القاسمي 3/ 329. ') ">
(2)
جامع البيان/الطبري 4/ 659. ') ">
(3)
تفسير السعدي 113. ') ">
(4)
لسان العرب 10/ 196. ') ">
وسميت صدقة لأنها تدل على صدق صاحبها.
{بِالْمَنِّ وَالأَذَى} الباء للسببية. والمن: الإنعام والمن النعمة الثقيلة.
والأذى: الإساءة والتطاول والسب والتعيير بالقول أو الفعل.
{كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} الكاف في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف، وفي الكلام حذف مضاف، تقديره: إبطالا كالذي ينفق. ويجوز أن يكون في موضع الحال من ضمير الفاعلين؛ أي لا تبطلوا صدقاتكم مشبهين الذي ينفق ماله، أي مشبهين الذي يبطل إنفاقه بالرياء (1)
والكاف للتشبيه، والمشبه به الذي ينفق ماله رئاء الناس ".
والموصول من قوله: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ} مراد به جنس وليس المراد به معينا ول واحدا.
والغرض من هذا التشبيه تفظيع المشبه به، وليس المراد المماثلة في الحكم الشرعي (2)
{يُنْفِقُ} : الإنفاق: الإخراج والبذل.
{مَالَهُ} : ما يتموله الإنسان من أعيان ومنافع.
{رِئَاءَ} بهمزتين فعال من راءى. وهو مصدر راءى يرائي رئاء
(1) التبيان/العكبري 1/ 178. ') ">
(2)
التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 48. ') ">
ومراءاة مثل قاتل يقاتل قتالا ومقاتلة ". وهو أن يكثر من إظهار أعماله الحسنة للناس. فصيغة الفعال فيه للمبالغة والكثرة. وأولى الهمزتين أصلية والأخيرة مبدلة عن الياء بعد الألف الزائدة. ويقال رياء - بياء بعد الراء - على إبدال الهمزة ياء بعد الكسرة "(1)
و {رِئَاءَ} فيه ثلاثة أوجه (2)
أحدها: أنه نعت لمصدر محذوف تقديره: إنفاقا رئاء الناس، كذا ذكره مكي.
والثاني: أنه مفعول من أجله أي: لأجل رئاء الناس، واستكمل شروط النصب.
والثالث: أنه في محل حال، أي: ينفق مرائيا.
والمصدر مضاف إلى المفعول (3) وهو بمعنى اسم الفاعل (4)
والرياء مبطل للعمل. فمن لم يقصد بعمله وجه الله رُد عمله عليه، كما ورد في الحديث القدسي الذي رواه مسلم بسنده عن أبي
(1) التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 48. ') ">
(2)
الدر المصون/السمين الحلبي 1/ 637 وينظر التبيان في إعراب القرآن/العكبري 1/ 178، الفتوحات الإلهية 1/ 219.
(3)
البيان في إعراب القرآن/العكبري 1/ 178. ') ">
(4)
الفتوحات الإلهية 1/ 220. ') ">
هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك وتعالى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» (1) وفي هذا حث على تكميل الأعمال وحفظها من كل ما يفسدها. لأن المن والأذى يبطلان الأعمال، فتصير الأعمال بمنزلة من عمل مرائيا. ولا شك أن المرائي عمله مردود من أصله؛ لانتفاء شرط الإخلاص، فالمرائي عمل للناس ولم يعمل لله؛ لذلك يُرد عمله ويراءى به كما راءى هو غيره.
أخرج مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ» (2) قال المناوي: أي يظهر سريرته على رؤوس الخلائق؛ ليفضح أ. هـ.
(1) صحيح مسلم 8/ 223 كتاب الزهد، باب من أشرك في عمله غير الله 8/ 233 ح (2985).
(2)
صحيح مسلم 8/ 223 كتاب الزهد والرقاق، باب من أشرك في عمله غير الله (تحريم الرياء)، صحيح البخاري مع الفتح 11/ 336 كتاب الرقاق، باب الرياء والسمعة عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه من صغار الصحابة واللفظ لمسلم.
{النَّاسِ} أصله أناس وحذفت همزته تخفيفا. ولم يجعلوا الألف واللام فيه عوضاً من الهمزة المحذوفة، لأنه لو كان كذلك لما اجتمع مع المعوض، واللام الداخلة عليه للجنس. وهو من النوس: أي الحركة، يقال: ناس ينوس، أي: تحرك، وهو من أسماء الجموع جمع إنسان على غير لفظه (1)
{وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الإيمان لغة: التصديق، وشرعا التصديق مع القبول والإذعان. وهو إقرار واعتراف بالشيء وهو أخص من التصديق، والتصديق ليس كافيا، كفرعون حين صدق بموسى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} ، والإيمان بالله يشمل أربعة أشياء:
الإيمان بوجود الله، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته.
فالذي لا يؤمن بواحد منها ليس مؤمنا بالله، لكن منها ما ينتفي الإيمان به انتفاء كاملا ومنها ما ينتفي به كمال الإيمان. وهذا الذي ذكره الله هنا وهو المنافق الذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولا
(1) ينظر لسان العرب 6/ 245، فتح القدير 1/ 40. ') ">
ينفق إلا مراءة للناس، ومع ذلك لا ينفق إلا وهو كاره كما في قوله - تعالى -:{وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ} .
فهم كارهون الإنفاق؛ لأنهم لا يرجون من هذا الإنفاق ثوابا إذ إنهم لا إيمان عندهم (1) ولا يخشون عقابا (2)
{وَالْيَوْمِ الآخِرِ} قال ابن فارس:
(أخر) الهمزة والخاء والراء أصل واحد صحيح، إليه ترجع فروعه وهو خلاف التقدم.
وقال الخليل: " فعل الله بالآخِر أي بالأبعد، وابن دريد يقول: الآخر تالِ للأول"(3)
وقال ابن منظور: الآخر والآخرة نقيض المتقدم والمتقدمة، ومعنى (آخر) شيء غير الأول، وأُخر جمع أخرى، وأخرى تأنيث آخر (4)
(1) شريط مسجل للشيخ ابن عثيمين - يرحمه الله - وينظر: القول المفيد/ابن عثيمين 2/ 409. ') ">
(2)
روح المعاني/الألوسي 3/ 35. ') ">
(3)
معجم مقاييس اللغة/ابن فارس 1/ 70 تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل، الطبعة الأولى. ') ">
(4)
لسان العرب/ابن منظور 4/ 12 - 14. ') ">
وقال الراغب الأصفهاني: آخر يقابل به الأول، وآخر يقابل به الواحد (1) واليوم الآخر هو يوم القيامة وسمي بذلك لأنه لا يوم بعده.
واليوم الآخر في المعني الاصطلاحي له معنيان (2) 1:
1 -
باعتبار الناس أجمعين: عند نفخة الصور الثانية، وهو ما يحصل من النفخ بالصور إلى استقرار الناس في الجنة أو في النار، قال - تعالى -:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} فإذا نفخ في الصور وقعت الواقعة وهي القيامة الكبرى.
2 -
باعتبار الفرد: وهو ما يحصل للإنسان من ساعة الاحتضار إلى دخول الجنة أو النار. فمن مات فقد دخل في أول منازل الآخرة.
ولكن الأول هو المراد باليوم الآخر. ولم أجد من قال: إن الإنسان إذا مات انتقل إلى اليوم الآخر بل هو في حياة
(1) مفردات ألفاظ القرآن/الراغب الأصفهاني 68، دار القلم. ') ">
(2)
ينظر: النهاية في الفتن والملاحم/ابن كثير 1/ 15، وأشراط الساعة/الوابل 74. ') ">
البرزخ إلى أن تقوم الساعة.
وقد ورد ما يؤيد ذلك من الأدلة الصريحة. فقد أخرج الإمام أحمد رحمه الله في مسنده عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولم يلحد بعد فجلس النبي صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة وجلسنا معه. . . . حتى قال: «فيقول: رب لا تقم الساعة» (1)
(1) الموسوعة الحديثية مسند الإمام أحمد 30/ 503 رقم (18534) قال محقق الكتاب: إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة 3/ 310. وهناد في الزهد (339) والمروزي في زوائده على الزهد لابن المبارك (1219) والدارمي في الرد على الجهمية ص29، وأبو داوود 4/ 239 (4753)، والطبري في التفسير (20764)، وفي نهذيب الآثار (721)، وابن خزيمة في التوحيد 119، وأبو عوانة في اتحاف المهرة 2/ 459 (2063)، والآجري في الشريعة ص367 - 370، وابن منده في الإيمان (1064)، والحاكم في المستدرك 1/ 37 - 38، واللالكائي في أصول الاعتقاد (2140) والبيهقي في الشعب (395) من طريق أبي معاوية بهذا الإسناد، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد. وأخرجه الطيالسي (753)، وأخرجه النسائي في المجتبى 4/ 78، وابن ماجه (1549) من طريق عمرو بن قيس عن المنهال به. وأورده المنذري في الترغيب والترهيب (5221) وقال: حديث حسن رواته محتج بهم في الصحيح. وقال ابن حزم في المحلى 1/ 22: لم يرو أحد أن في عذاب القبر رد الروح إلى الجسد إلا المنهال بن عمرو، وليس بالقوي، فتعقبه ابن القيم في الروح ص 76 بقوله: هذا من مجازفته، وقال: الحديث صحيح لا شك فيه. وأورده الهيثمي في المجمع 3/ 49 - 50 وقال: هو في الصحيح باختصار، رواه الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح وقال أحمد شاكر: قد أطال الإمام ابن القيم القول في تصحيحه، والرد على من أعله في تهذيب السنن 7/ 139 - 146 (4586) ينظر: شرح الطحاوية في العقيدة السلفية/لابن أبي العز الحنفي ص 394 تحقيق أحمد محمد شاكر.
فهذا يدل على أن اليوم الآخر هو بقيام الساعة لا بموت الإنسان والعلم عند الله.
وفي هذه الآية إثبات اليوم الآخر، وأن من راءى الناس بإنفاقه ففي إيمانه بالله واليوم الآخر نقص لقوله - تعالى -:{وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فلو كان مؤمنا حقا لجعل عمله خالصا لوجه الله ولم يجعل عمل الآخرة للدنيا. بل الذي ينبغي الإخلاص في العمل لله عز وجل لنيل الثواب في اليوم الآخر الذي يقع فيه الجزاء.
"ولما ضرب مثلا لنماء النفقة بالحرث ضرب مثلا لإبطالها بخطأ الحارث في الحرث فقال: {فَمَثَلُهُ} في إنفاقه مقارناً لما يفسده، ومثل نفقته {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} وما زرع عليه "(1) " ودخلت الفاء في
(1) نظم الدرر/البقاعي 1/ 517. ') ">
قوله {فَمَثَلُهُ} لربط الجملة بما قبلها " (1)
ومثله: المثل تقدم، ويراد به هنا التشبيه لوجود المشبه والمشبه به "والهاء" في {فَمَثَلُهُ} فيها قولان:
أظهرهما: أنها تعود على الذي ينفق رئاء الناس لأنه أقرب مذكور.
والثاني: أنها تعود على المان المؤذي، كأنه - تعالى - شبهه بشيئين: بالذي ينفق رئاء، وبصفوان عليه تراب، ويكون قد عدل من خطاب إلى غيبة، ومن جمع إلى إفراد. (2) والمعنى لا يختلف على كلا الاحتمالين؛ لأن الله شبه الذي يبطل نفقته بالمن والأذى بالذي ينفق ماله رئاء الناس فمثل المشبه به هو مثل المشبه.
{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ} مبتدأ وخبر (3)
{صَفْوَانٍ} الصفوان جمع، واحده صفْوانة، قاله الأخفش، قال: وقال بعضهم: صفوان واحد، مثل حجر. وقال الكسائي: صفوان واحد، وجمعه صِفْوان وصُفيّ وصِفِيّ، وأنكره المبرد وقال: إنما صُفِي جمع صَفَا كقفا وقُفِيّ، ومن هذا المعنى الصَّفْواء والصَّفَا.
(1) التبيان في إعراب القرآن/العكبري 1/ 178. ') ">
(2)
الدر المصون 1/ 637. ') ">
(3)
الدر المصون 1/ 637، الفتوحات الإلهية 1/ 220. ') ">
ابن سيده: الصفاة الحجر الصلد الضخم الذي لا ينبت شيئا. قال النحاس: صَفْوان وصَفَوان يجوز أن يكون جمعا ويجوز أن يكون واحدا، إلا أن الأولى به أن يكون واحدا لقوله عز وجل {عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ} (1) فالصفوان هو الحجر الكبير الأملس الذي لا يمسك ماء ولا ينبت كلأ. قال البخاري: وقال ابن عباس: الصفوان: الحجر، ويقال الحجارة الملس التي لا تنبت شيئا (2)
{عَلَيْهِ تُرَابٌ} في موضع جر صفة لصفوان، ولك أن ترفع ترابا بالجر (أي فاعل به)، لأنه قد اعتمد على ما قبله، وأن ترفعه بالابتداء (3)
{تُرَابٌ} التراب معروف، وتربة الأرض: ظاهرها. وأترب الشيء وضع عليه التراب، وتَتَرَّب: لزق به التراب، وتلوث بالتراب، وترب الرجل: صار في يده التراب، ورجل ترب لا مال له، أي فقير. والمتربة: المسكنة، والفاقة ومنه:{أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} أي لاصق بالتراب.
(1) ينظر: لسان العرب 14/ 464، والجامع لأحكام القرآن 3/ 313. ') ">
(2)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8/ 175، كتاب التفسير، باب قوله (إن الصفا والمروة. . الآية). ') ">
(3)
التبيان في إعراب القرآن/العكبري 1/ 178. وينظر الدر المصون 1/ 637. ') ">
وأترب: استغنى وكثر ماله، فصار كالتراب (1) والترائب عظام الصدر؛ لأنها متشابهة {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (2)
{فَأَصَابَهُ} الفاء، عاطفة على الجار؛ لأن تقديره: استقر عليه تراب فأصابه. وألف (أصابه) منقلبة عن واو؛ لأنه من صاب يصوب (3)
والضمير في {فَأَصَابَهُ} يعود على الصفوان، وقيل على التراب، وأما الضمير في {فَتَرَكَهُ} فعلى الصفوان فقط (4)
{وَابِلٌ} أي مطر شديد، سريع التتابع " عظيم القطر "(5) وقد وبلت السماء تبل، والأرض موبولة. قال الأخفش: ومنه قوله - تعالى -:
{فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا} أي شديدا. وضرب وبيل، وعذاب وبيل أي: شديد (6) قال النضر بن شميل: أول ما يكون المطر رشا ثم طشاً، ثم طلاً ورذاذاً ثم نضخاً وهو قطر بين قطرين، ثم هطلاً
(1) ينظر: لسان العرب 1/ 228 - 229. ') ">
(2)
ينظر: لسان العرب 1/ 228 - 229. ') ">
(3)
التبيان في إعراب القرآن/العكبري 1/ 179. ') ">
(4)
الدر المصون 1/ 638. ') ">
(5)
تفسير البغوي 3/ 251. ') ">
(6)
الجامع لأحكام القرآن/القرطبي 3/ 313. ') ">
وتهتانا ثم وابلا وجودا (1) فإذا أصاب هذا الوابل التراب الذي على الصفوان فسوف يزول هذا التراب لذا قال الله:
{فَتَرَكَهُ صَلْدًا} ترك هنا يتعدى إلى مفعولين؛ لأن المعنى صيره. قال ابن عباس: {صَلْدًا} ليس عليه شيء (2) والصلد من الحجارة: الصلب الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره، وهو من الأرضين: ما لا ينبت فيه شيء، وكذلك من الرؤوس (3) كذلك أعمال المنافقين بمنزلة الصفوان الذي كان عليه تراب، فأصابه الوابل من المطر، فذهب بما عليه من التراب، فتركه نقيا لا تراب عليه ولا شيء، يراهم المسلمون في الظاهر أن لهم أعمالا، كما يُرى التراب على هذا الصفوان، بما يراؤونهم به، فإذا كان يوم القيامة وصاروا إلى الله جل جلاله اضمحل ذلك كله. لأنه لم يكن لله، كما أذهب الوابل من المطر ما كان على الصفوان من التراب، فتركه أملس لا شيء عليه، فذلك قوله:{لا يَقْدِرُونَ} (4) أي تركه الرياء لا يقدر على شيء مما قدم. فوجه الشبه إذاً: أن الذي ينفق
(1) الدر المصون 1/ 638. ') ">
(2)
فتح الباري/ابن حجر3/ 277، كتاب الزكاة، باب الرياء في الصدقة. ') ">
(3)
جامع البيان/الطبري 4/ 661. ') ">
(4)
المرجع السابق 4/ 662. ') ">
ماله رئاء يظن من رآه أنه سينتفع بذلك، كما يظن من رأى التراب على الحجر الأملس أنها أرض خصبة قابلة للنبات، ولكن الوابل يصيبها فيتركها صلدة ملساء ليس فيها ما يصلح للنبات.
{لا يَقْدِرُونَ} مستأنف لا موضع له. وإنما جُمع هنا بعدما أفرد في قوله {كَالَّذِي} ، وما بعده؛ لأن (الذي) هنا جنس، فيجوز أن يعود الضمير إليه مفردا وجمعا. ولا يجوز أن يكون حالا من الذي؛ لأنه قد فصل بينهما بقوله {فَمَثَلُهُ} وما بعدها (1)
إذاً: صح عود واو الجماعة في {لا يَقْدِرُونَ} على الذي في {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ} ؛ لأن الذي اسم موصول يفيد العموم فهو بصيغته اللفظية مفرد، وبدلالته المعنوية جمع وذلك لعمومه.
وهؤلاء المراؤون يحاولون الانتفاع بما أنفقوا، ولكن أنى ينفعهم ذلك؟ فهم يتذكرون إنفاقهم ويأملون الانتفاع به، ولكن لا يقدرون عليه؛ لأن الله عز وجل قد أبطل إنفاقهم بسبب الرياء وعدم الإخلاص. وإنفاقهم يضمحل عند الله وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب الذي على الصفوان؛ لأن الله أغنى الشركاء عن الشرك.
(1) التبيان في إعراب القرآن/العكبري 1/ 179. ') ">
{عَلَى شَيْءٍ} أي على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم وهو كسبهم عند حاجتهم إليه إذ كان لغير الله؛ فعبر هنا عن النفقة بالكسب؛ لأنهم قصدوا بها الكسب (1) وباعتبار ما ظنوه بأنهم سينتفعون به.
وفي قوله {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ} دليل أنهم يحاولون الانتفاع بهذا الشيء، ولكنهم لا يستطيعون ذلك. وهذا أشد حسرة؛ لأن عدم الشيء أهون من وجود الشيء مع عدم القدرة عليه.
{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} .
{يَهْدِي} الهدى: ضد الضلال؛ وهو الرشاد، والدلالة. قال بعضهم: هداه الله الطريق، وهي لغة أهل الحجاز، وهداه للطريق وإلى الطريق هداية، وهداه يهديه هداية إذا دله على الطريق (2) وقد وردت الهداية في القرآن على معان أربعة:(3)
1 -
هداية غريزية، وهي هداية الله عز وجل الخلق لما يصلح لهم غريزة. وهذا كقوله - تعالى - {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} .
(1) الجامع لأحكام القرآن/القرطبي 3/ 313، وينظر البغوي 3/ 251. ') ">
(2)
لسان العرب/ابن منظور 15/ 355. ') ">
(3)
ينظر مفردات ألفاظ القرآن/للراغب الأصفهاني 536 وتفسير ابن كثير 1/ 27. ') ">
2 -
الهداية بمعنى الدلالة والإرشاد لما يصلح في أمر الدين كما في قوله - تعالى - {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وكقوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} ودلالة الهداية والإرشاد يملكها الرسل، والعلماء، وغيرهم.
3 -
هداية التوفيق كما في قوله - تعالى - {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}
4 -
الهداية إلى طريق الجنة (1) والهداية إلى طريق النار كما في قوله - تعالى - {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} فهذه الهداية في الآخرة؛ لأنهم قد قتلوا؛ لأن قوله: {سَيَهْدِيهِمْ} إلى طريق الجنة (2)
وقوله - تعالى - {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} أي أرشدوهم
(1) ينظر مدارج السالكين/ابن القيم 1/ 52. ') ">
(2)
تفسير ابن كثير 4/ 174. ') ">
إلى طريق جهنم (1)
وقد تعدى الهداية باللام كقول أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} أي وفقنا لهذا وجلنا له أهلا، وقد تعدى الهداية بنفسها كما في قوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وهذا النوع خاص بالله - تعالى - (2)
{الْقَوْمَ} الجماعة من الرجال والنساء جميعا. وقيل هو للرجال خاصة دون النساء، بدليل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} .
وقوم كل رجل: شيعته وعشيرته. وروي عن أبي العباس: النفر والقوم والرهط هؤلاء معناهم الجمع لا واحد لهم من لفظهم، كذا قال الجوهري (3)
(1) تفسير ابن كثير 4/ 4. ') ">
(2)
ينظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد/عبد الرحمن آل الشيخ 226، والقول المفيد على كتاب التوحيد/ابن عثيمين/348.
(3)
ينظر لسان العرب 12/ 505. ') ">
{لْكَافِرِينَ} الذين قضي عليهم بالكفر والشقاء، ونظره بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} .
والكفر: نقيض الإيمان وهو إخفاء النعمة، وبالفتح: الستر مطلقا وهو مشتق من كفر إذا ستر (1)
وفي هذا تعريض بأن المن والأذى من خصال الكفار، والله لا يهدي القوم الكافرين إلى الخير والرشد، والجملة تزييل مقرر لمضمون ما قبلها، وفيها تعريض بأن كلا من الرياء والمن والأذى على الإنفاق من خصائص الكفار، فلا بد للمؤمنين أن يجتنبوها
وقد نفى الله عز وجل الهداية في هذه الآية عن القوم الكافرين الذين حقت عليهم كلمة الله، كما قال - تعالى - {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} . ولتأكيد النهي عن المن والأذى في النفقة فقد ذكر في ثلاث آيات متتاليات.
1 – أثنى على تاركه: {ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}
(1) ينظر: لسان العرب/ابن منظور 5/ 144. ') ">
2 -
تفضيل المنع، والقول المعروف على الصدقة التي يتبعها أذى:{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} .
3 -
التصريح بالنهي عن المن والأذى وأنه مبطل للصدقة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} .
مما سبق من الآيات يتبين أن الصدقة لها شروط سابقة وهي: الإخلاص، والمتابعة وشروط تالية وهي: ترك المن، والأذى.
الآية 265
لما ضرب الله عز وجل مثل من أنفق ماله رئاء الناس وهو غير مؤمن ذكر ضده بتمثيل محسوس للذهن حتى يتصور السامع تفاوت ما بين الضدين وعطف {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} على {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} لزيادة بيان ما بين المرتبتين من البون وتأكيدا للثناء على المنفقين بإخلاص. فإنه قد مثله فيما سلف بحبة أنبتت سبع سنابل، ومثله فيما سلف تمثيلا غير كثير التركيب لتحصل السرعة بتخيل مضاعفة الثواب،
فلما مثل حال المنفق رئاء بالتمثيل الذي مضى، أعيد تمثيل حال المنفق ابتغاء مرضاة الله بما هو أعجب في حسن التخيل؛ فإن الأمثال تبهج السامع كلما كانت أكثر تركيبا وضمنت الهيئة المشبه بها أحوالا حسنة تكسبها حسنا ليسري ذلك التحسين إلى المشبه. وهذا من جملة مقاصد التشبيه (1)(2)
{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ} يقال فيها كما قيل في الآية السابقة: ومثل نفقة الذين ينفقون كمثل حبة، أو كمثل غارس حبة.
{ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا} .
{ابْتِغَاءَ} طلب وإعرابه النصب على المصدر في موضع الحال، وكان يتوجه فيه النصب على المفعول من أجله، لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو (تَثْبِيتًا) عليه، ولا يصح في (تَثْبِيتًا) أنه مفعول من أجله، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت، وقال مكي في المشكل: كلاهما مفعول من أجله وهو مردود بما بيناه، و (مرضاة) مصدر من رضي يرضى وفي هذا دليل على إثبات رضا الله عز وجل وأن الله يوصف بالرضى وهو من الصفات الفعلية.
(1) التحرير والتنوير ابن عاشور 3/ 50.
(2)
التحرير والتنوير ابن عاشور 3/ 50. ') ">
وقال الشعبي، والسدي، وقتادة، وابن زيد، وأبو صالح: وَتَثْبِيتًا معناه: وتيقينا، أي نفوسهم لها بصائر متأكدة فيه تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تَثْبِيتًا.
وقال مجاهد، والحسن: معنى قوله تَثْبِيتًا أي أنهم يثبتون أي يضعون صدقاتهم؟
وقال الحسن: كأن الرجل إذا هم بصدقة تثبت، فإن كان ذلك لله أمضاه وإن خالطه شيء أمسك.
والقول الأول أصوب؛ لأن هذا المعنى الذي ذهب إليه مجاهد والحسن إنما عبارته وتثبتا.
وقال قتادة: وَتَثْبِيتًا معناه وإحسانا من أنفسهم (1)
فهؤلاء ينفقون أموالهم طلبا لرضوان الله ونيلا لثوابه ومن أراد ذلك وابتغاه فلا بد أن ينفقها حسب ما جاءت به الشريعة الإسلامية.
قال تعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}
وقال: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}
(1) المحرر الوجيز/ابن عطية 2/ 316 - 317، وينظر: تفسير ابن كثير 1/ 318، الدر المنثور/السيوطي 1/ 339. ') ">
فنهى عن التبذير وعن التقتير وجعل لذلك ميزانا عدلاً كما قال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}
فهو ينفق لطلب رضاء ربه وتثبيتا أي ثبوتا وتحقيقا. والتثبيت توطين النفس على المحافظة عليه وترك ما يفسد. والتثبيت: مصدر فعل متعد، فعلى الوجه الأول يكون (من أنفسهم) مفعول المصدر. وعلى الوجه الثاني يكون المفعول محذوفا تقديره: ويثبتون أعمالهم بإخلاص النية.
ويجوز أن تكون تثبيتا بمعنى تثّبت فيكون لزاما، والمصادر قد تختلف ويقع بعضها موقع بعض، ومثله قوله تعالى:{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} أ. هـ. (1)
ولكن الآية مخالفة لذلك، وإنما جاز أن يقال {تَبْتِيلا} لظهور {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ} فكان في ظهوره دلالة على متروك من الكلام الذي منه قيل {تَبْتِيلا} وذلك المتروك هو: وتبتل فيبتلك الله إليه تبتيلا. وقد تفعل العرب مثل ذلك أحيانا، تخرج المصادر على غير ألفاظ
(1) التبيان في إعراب القرآن/العكبري 1/ 179. ') ">
الأفعال التي تقدمتها، إذا كانت الأفعال المتقدمة لها تدل على ما أخرجت منه (1)
إذاً هذا لا يسوغ إلا مع ذكر المصدر والإفصاح بالفعل المتقدم للمصدر، وأما إذا لم يقع إفصاح بفعل فليس لك أن تأتي بمصدر في غير معناه ثم تقول احمله على فعل كذا وكذا لفعل لم يتقدم له ذكر (2)
الحاصل: أن هؤلاء الذين ذكرت صفة إنفاقهم يمنعون أنفسهم من التردد في الإنفاق في وجوه البر ولا يتركون مجالا لخواطر الشح وهذا من قولهم ثبت قدمه أي لم يتردد، ولم ينكص وتعليل الإنفاق بهاتين العلتين (مرضاة الله، وتثبيتا) وذلك لنقصد بأعمالنا أمرين:
1 -
ابتغاء رضوانه - تعالى - تعبدا له.
2 -
تزكية أنفسنا وتطهيرها من الشوائب.
وإنفاق المال من أعظم ما ترسخ به الطاعة في النفس لأن المال ليس أمرا هيناً على النفس، وتكون {مِنْ} على هذا الوجه للتبعيض (3)
(1) جامع البيان/الطبري 4/ 671. ') ">
(2)
المحرر الوجيز/ابن عطية 2/ 317. ') ">
(3)
التحرير والتنوير/ابن عاشور/3/ 51. ') ">
فإن قلت: فما معنى التبعيض؟ قلت: معناه أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه معا فهو الذي يثبتها كلها (1)
ويجوز أن تكون {مِنْ} ابتدائية: أي تصديقا صادرا من أنفسهم، تصديقا لوعد الله وإخلاصا يخالف حال المنافقين (2) فتكون {مِنْ} لابتداء الغاية كقوله تعالى {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} ، وجوز أن تكون {مَنْ} بمعنى اللام والمعنى: توطينا لأنفسهم على طاعة الله - تعالى - وإلى ذلك ذهب الجبائي (3) فمن أنفق على وجه منشرحة له النفس، لا على وجه التردد أو الضعف أو الرياء. إنما ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم فهذا أكمل في الإنفاق من آخر ينفق والتثبيت يأتيه من غيره لأن الأول يحمله إيمانه واحتسابه على الإنفاق. فمثل نفقة هذا {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} .
{جَنَّةٍ} : مادة الجيم والنون أصلها من الستر. جن الشيء يجنه جنا: ستره. وكل شيء ستر عنك فقد جن عنك. وبه سمي الجن لاستتارهم، ومنه سمي الجنين لاستتاره في بطن أمه. والجنان،
(1) الكشاف/الزمخشري 1/ 340. ') ">
(2)
التحرير والتنوير/ابن عاشور/3/ 51. ') ">
(3)
روح المعاني/الألوسي3/ 36. ') ">
بالفتح: القلب لاستتاره في الصدر. واستجن: استتر والجنة البستان، والعرب تسمي النخي جنة. والجنة: الحديقة ذات الشجر والنخل، وجمعها جنان. وقال أبو علي في (التذكرة): لا تكون الجنة في كلام العرب إلا وفيها نخل وعنب، فإن لم يكن فيها ذلك، وكانت ذات شجر فهي حديقة وليست بجنة (1) وقال المبرد والفراء: إذا كان في البستان نخل فهو جنة، وإن كان فيها كرم فهو فردوس (2)
{بِرَبْوَةٍ} ربا الشيء يربو: زاد ونما، والربوة كل ما ارتفع من الأرض وربا (3) قال - تعالى -:{فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} أي ارتفعت.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الربوة المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار (4) وإنما سميت الربوة ربوة لأنها ربت فغلظت وعلت، من قول القائل: ربا هذا الشيء يربو إذا انتفخ فعظم (5)
(1) ينظر: لسان العرب/ابن منظور 13/ 92 - 100. ') ">
(2)
تفسير البغوي 3/ 252. ') ">
(3)
تفسير البغوي 14/ 304 - 306. ') ">
(4)
المحرر الوجيز/ابن عطية 2/ 317، الدر المنثور/السيوطي 1/ 339. ') ">
(5)
جامع البيان/ابن جرير 4/ 673. ') ">
قال ابن جرير رحمه الله:
وفي الربوة لغات ثلاث، وقد قرأ بكل لغة منهن جماعة من القرأة وهن:
"ربوة" بضم الراء، وبها قرأت عامة قرأة المدينة والحجاز والعراق.
و"ربوة" بفتح الراء، وبها قرأ بعض أهل الشام وبعض الكوفة، ويقال: إنها لغة لتميم.
و"ربوة" بكسر الراء وبها قرأ ابن عباس.
وغير جائز عندي أن يقرأ ذلك إلا بإحدى اللغتين: إما بفتح الراء، وإما بضمها أ. هـ (1)
قلت: والصواب ما ذهب إليه ابن جرير رحمه الله من اقتصار القراءة على فتح الراء أو ضمها، لأن القراءات السبع المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم لم ترد إلا بذلك - والله تعالى أعلم -.
وخص الربوة: لأن أشجار الربى تكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا للطافة هوائها وعدم كثافته بركوده (2) فكان لهذا القيد فائدتان:
إحداهما: قوة وجه الشبه كما أفاده قول: (ضعفين).
والثانية: تحسين
(1) جامع البيان/الطبري 4/ 673، وينظر: القراءات العشر المتواترة/محمد راجح 45، الحجة في القراءات العشر/ابن خالويه 102، النشر في القراءات العشر/ابن الجزري 2/ 232، الغاية في القراءات العشر/النيسابوري 118.
(2)
روح المعاني/الألوسي 3/ 36. ') ">
المشبه به الراجع إلى تحسين المشبه في تخيل السامع.
وقد حصل من تمثيل حال الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بحبة ثم بجنة جناس مصحف (1)
{بِرَبْوَةٍ} صفة للجنة. والباء ظرفية بمعنى "في" أي جنة كائنة في ربوة (2)
{أَصَابَهَا وَابِلٌ} أصاب الجنة التي بالربوة من الأرض وابل من المطر، وهو الشديد العظيم القطر منه.
والجملة: صفة للجنة، ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال من الجنة؛ لأنها قد وصفت. . ويجوز أن تكون الجملة صفة لربوة؛ لأن الجنة بعض الربوة (3)
- وقد بدئ بالوصف المجرور، ثم بالوصف بالجملة.
- وبدئ بالوصف الثابت وهو كونها " بربوة ". ثم وصف بالوصف العارض وهو {أَصَابَهَا وَابِلٌ} .
{فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} .
آتت: أعطت صاحبها أو الناس ما نبت فيها من ثمار بقدرة الله.
(1) التحرير والتنوير/ابن عاشور/3/ 52. ') ">
(2)
الدر المصون 1/ 640. ') ">
(3)
التبيان في إعراب القرآن/العكبري 1/ 179. ') ">
وآتت: متعد إلى مفعولين، وقد حذف أحدهما، أي أعطت صاحبها.
ويجوز أن يكون متعديا إلى واحد؛ لأن معنى آتت أخرجت، وهو من الإيتاء وهو الريع (1)
{أُكُلَهَا} الأكل: هو الشيء المأكول، وهو مثل الرعب والهزء وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي على "فعل" وأما الأكل بفتح الألف وتسكين الكاف، فهو فعل الآكل (2)
ولم يشر ابن جرير رحمه الله إلى ضم الكاف في "الأكل" وهي قراءة متواترة (3)
{ضِعْفَيْنِ} حال من أكلها (4) أي مضاعفا.
قال عطاء رحمه الله: حملت في سنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين، وقال عكرمة: حملت في السنة مرتين (5)
(1) التبيان في إعراب القرآن/العكبري 1/ 179. ') ">
(2)
جامع البيان/ابن جرير 4/ 676. ') ">
(3)
أسكن الكاف فيها نافع وابن كثير ووافقهما أبو عمرو (بالتخفيف). وضمها الباقون (بالتثقيل) ينظر: النشر 2/ 216، السبعة في القراءات/لابن مجاهد 190، الغاية/النيسابوري119.
(4)
الفتوحات الإلهية/الجمل 1/ 221، فتح القدير/الشوكاني 1/ 286. ') ">
(5)
تفسير البغوي 3/ 252. ') ">
وضعف الشيء: مثلاه، وقال الزجاج: ضعف الشيء مثله الذي يضعفه، وأضعف الشيء وضعفه وضاعفه: زاد على أصل الشيء وجعله مثليه أو أكثر (1)
فإذا كان ضعف الشيء هو الذي بمقداره مرتين أو أكثر فضعفين يكون بمقداره أربع مرات أو أكثر.
فهذه الجنة التي بربوة مرتفعة، بائنة للهواء، ظاهرة للشمس أصابها وابل فالنتيجة أنها ستثمر وتضاعف ثمرها بسبب هذه الصفات المميزة لها.
والآية من الاحتباك، ذكر المنفق أولا دال على حذف صاحب الجنة ثانيا، وذكر الجنة ثانيا دال على حذف النفقة أولا (2)
ولما كان الوابل قد لا يوجد قال:
{فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ}
{فَطَلٌّ} الفاء واقعة في جواب الشرط.
(طل) لا بد من حذف بعدها لتكمل جملة الجواب واختلف في ذلك على ثلاثة أوجه:
(1) لسان العرب/ابن منظور 9/ 204. ') ">
(2)
نظم الدرر/البقاعي 1/ 519. ') ">
الأول: ذهب المبرد إلى أن المحذوف خبر، وقوله:{فَطَلٌّ} مبتدأ، والتقدير:(فطل يصيبها) أو (فطل يكفيها).
وجاز الابتداء بالنكرة، لأنها في جواب الشرط، وهو من جملة المسوغات للابتداء بالنكرة.
الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: فالذي يصيبها طل.
الثالث: أنه فاعل بفعل مضمر تقديره: فيصيبها طل (1)
والطل: المستدق من القطر الخفيف، قاله ابن عباس وغيره، وقال قوم: الطل الندى، وهذا تجوز وتشبيه (2)
وهذا مثل ضربه الله - تعالى - لعمل المؤمن المخلص، فيقول: كما أن هذه الجنة تريع في كل حال ولا تخلف سواء قل المطر أو كثر، كذلك يضعف الله صدقة المؤمن المخلص الذي لا يمن ولا يؤذي سواء قلت صدقته أو كثرت، وذلك أن الطل إذا كان يدوم يعمل عمل الوابل الشديد (3)
فوجه المشابهة ظاهر: فهؤلاء لما أنفقوا طلبا لرضوان الله وتثبيتا من أنفسهم كان إنفاقهم كمثل هذه الجنة التي مكانها طيب لارتفاعه
(1) الدر المصون 1/ 641، وينظر: التبيان/العكبري 1/ 180. ') ">
(2)
المحرر الوجيز/ابن عطية 2/ 319. ') ">
(3)
تفسير البغوي 3/ 252. ') ">
وطيب هوائه، فهؤلاء لعلو همتهم لم يريدوا بنفقتهم إلا مرضاة الله عز وجل – {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قراءة الجمهور:" تعملون " خطاب وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب الباعث على فعل الإنفاق الخالص لوجه الله والزاجر عن الرياء والسمعة
وقد تقدم الجار والمجرور (بما تعملون) على (بصير) مع أن الجار والمجرور متعلق به وذلك؛ لإفادة الحصر.
{بَصِيرٌ} هل المراد بهذه الكلمة بصير من البصر، أم من العلم؟
الأرجح - والله تعالى أعلم - أن يكون من العلم ليشمل الأقوال وأعمال القلب، لأن الأقوال تسمع، أما أعمال القلب فقد قال الله عنها:{وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} ، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} . فأعمال القلوب تُعلم ولا ترى.
الحاصل أن أي عمل يعمله الإنسان سواء كان عملا ظاهرا أو قلبيا فالله به بصير لا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى وفي هذا ترغيب لهم في الإخلاص، مع ترهيب من الرياء. فهو وعد ووعيد.
الآية 266
{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} ، إن من بلاغة القرآن أن يبين المعقول بالمحسوس، لأجل تقريب ذلك إلى الأذهان.
ولما قدم سبحانه وتعالى أن المن مبطل للصدقة ومثله بالرياء وضرب لهما مثلا ورغب في الخالص وختم ذلك بما يصلح للترهيب من المن والرياء رجع إليها دلالة على الاهتمام بهما فضرب لهما مثلا أوضح من السالف وأشد في اتنفير عنهما والبعد منهما (1)(2)
{أَيَوَدُّ} الاستفهام في الآية إنكاري بمعنى النفي: أي ما يود وقد بدأ بالاستفهام لإنكار وقوع أن يود الإنسان ذلك. كما في قوله - تعالى -: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} .
(الود) حب الشيء مع تمنيه، وهو خالص المحبة.
(1) نظم الدرر/البقاعي 1/ 519.
(2)
نظم الدرر/البقاعي 1/ 519. ') ">
{أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} يعني: بستانا.
أخرج البخاري عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه يَوْمًا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَ تَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} ؟ قَالُوا: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَغَضِبَ عُمَرُ فَقَالَ: قُولُوا: نَعْلَمُ أَوْ لَا نَعْلَمُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ عُمَرُ: يَا ابْنَ أَخِي قُلْ، وَلَا تَحْقِرْ نَفْسَكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضُرِبَتْ مَثَلاً لِعَمَلٍ، قَالَ عُمَرُ: أَيُّ عَمَلٍ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّه عز وجل ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ (1)
{مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} (من) بمعنى بعض.
وقال في المنار: يفهم من قولك عندي من كل شيء أو لي في بستاني من كل ثمر أنك تريد أن لك حظا من كل شيء ولا يحتاج إلى تقدير محذوف (2)
{مِنْ نَخِيلٍ} صفة لجنة.
وخص (النخيل والأعناب) بالذكر لشرفهما وفضلهما، وكثرة
(1) أخرجه البخاري 8/ 202 كتاب التفسير، تفسير سورة البقرة (أيود أحدكم). ') ">
(2)
المنار ص 70. ') ">
منافعهما، وحسن منظرهما، وإن كانت الجنة محتوية على سائر الأشجار تغليبا لهما على غيرهما. وقد ذكر النخل بشجره، وذكر العنب بثمره، وذلك أن كل شيء في النخيل نافع للناس، ورقه وليفه وثمره.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} صفة أخرى للجنة.
{مِنْ تَحْتِهَا} أي: من تحت النخيل والأعناب، لا من تحت الجنة، لأن النخيل والأعناب على أرض الجنة. قال ابن عطية:"تحت بالنسبة إلى الشجر"(1)
وقال الشوكاني:
" الجنة تطلق على الشجر الملتف وعلى الأرض التي فيها شجر.
والأول أولى هنا لقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} بإرجاع الضمير إلى الشجر من دون حاجة إلى مضاف محذوف، وأما على الوجه الثاني فلا بد من تقدير أي من تحت أشجارها " (2) أ. هـ.
{الأَنْهَارُ} أي: ماء الأنهار. والنهر مأخوذ من أنهرت، أي وسعت (3) والأنهار: جمع نهر وهو المجرى الواسع فوق الجدول
(1) المحرر الوجيز/ابن عطية 2/ 320. ') ">
(2)
فتح القدير/الشوكاني 1/ 288. ') ">
(3)
الجامع لأحكام القرآن/القرطبي 1/ 239. ') ">
ودون البحر، وكلمة الأنهار في الآية تدل على عذوبة ماء تلك الجنة. وعلى ديمومة الخصب. وعدم الذبول.
{لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي: ليس شيء من الثمار إلا وهو فيها نابت (1) فهذه الجنة كاملة إذ إنها تحتوي على النخيل، والأعناب، والمياه الجارية العذبة، والثمرات، وفوق ذلك هي كثيرة الأشجار والأغصان.
" ومن الناس من جوز كون المراد من الثمرات المنافع، وهذا يجعل ذكر (النخيل والأعناب) لعدم احتواء الجنة على ما سواهما، ومنهم من قال: إن هذا من ذكر العام بعد الخاص للتتميم. "(2)
{لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} جملة من مبتدأ وخبر. فالخبر قوله: {لَهُ} و {كُلِّ الثَّمَرَاتِ} هو المبتدأ، وذلك لا يستقيم على الظاهر، إذ المبتدأ لا يكون جارا ومجرورا فلا بد من تأويله. واختلف في ذلك.
فقيل: المبتدأ في الحقيقة محذوف، وهذا الجار والمجرور صفة قائمة مقامه، تقديره: له فيها رزق من كل الثمرات أو فاكهة من كل
(1) الجامع لأحكام القرآن/القرطبي 2/ 319. ') ">
(2)
روح المعاني/الألوسي 3/ 37. ') ">
الثمرات فحذف الموصوف وبقيت صفته. وقيل: (من) زائدة تقديره: له فيها كل الثمرات، وذلك عند سيبويه والأخفش؛ لأن المعنى: يصير له فيها كل الثمرات، وليس الأمر على هذا إلا أن يراد به هنا الكثرة لا الاستيعاب (1)
{وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} هذا أبلغ من قوله كَبُر (2) والكبر الشيخوخة وعلو السن. الواو، واو الحال، والجملة حال من أحد. وتقديره وقد أصابه (3) أي وقد أصاب صاحب الجنة الكبر. فصار لا يقدر على اكتساب. " وكبر السن هو مظنة شدة الحاجة لما يلحق صاحبه من العجز عن تعاطي الأسباب. "(4)
{وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} جملة في موضع الحال من الهاء في أصابه.
واختلف في أصل الذرية على أربعة أوجه:
أحدها: أن أصلها ذُرُّوة، من ذر يَذُرّ إذا نشر، فأبدلت الراء الثانية ياء لاجتماع الراءات، ثم أبدلت الواو ياء، ثم أدغمت، ثم كُسِرت الراء إتباعًا، ومنهم من يكسر الذال اتباعًا أيضًا، وقد قرئ به.
(1) ينظر التبيان في إعراب القرآن/العكبري 1/ 180، الدر المصون 1/ 643. ') ">
(2)
روح المعاني/الألوسي 3/ 37. ') ">
(3)
التبيان في إعراب القرآن/العكبري 1/ 180. ') ">
(4)
فتح القدير/الشوكاني 1/ 288. ') ">
والثاني: أنه من ذَرَّ أيضًا إلا أنه زاد الياءين، فوزنه فُعْلِيَّة.
والثالث: أنه من ذَرَأَ بالهمز، فأصله على هذا ذُرُّوءة فُعُّولة ثم أبدلت الهمزة ياء، وأبدلت الواو ياء فرارًا من ثقل الهمزة والواو والضمة.
والرابع: أنه من ذَرَا، يَذْرُو، لقوله تعالى {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} . فأصله ذُرُّووة، ثم أبدلت الواو ياء. ثم عمل ما تقدم. ويجوز أن يكون فِعْليَّة على الوجهين (1)
{وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} والحال أن له ذرية ضعفاء. فيكون قد جمع بين كبر السن وضعف الذرية فيصير تحسره على الجنة في غاية الشدة. فاجتمع له ضعف الذرية وقلة الحيلة بكبر سنه.
{ضُعَفَاءُ} ترك كلمة صغار مع مقابلة الكبر لأنه أنسب. فقد يكون الصغير في بعض الأحوال لديه قوة وحسن تصرف، لكن لقطع سبيل المساعدة والكسب وترتيب الأمور صارت هذه الكلمة أنسب - والعلم عند الله -.
" والضعف: خلاف القوة، وقيل الضُّعُف بالضم: في الجسد، والضَّعَف بالفتح: في الرأي والعقل. وقيل: هما معًا جائزان في كل
(1) التبيان في إعراب القرآن/العكبري 1/ 181. ') ">
وجه.
والجمع: ضُعَفاء، وضَعْف، وضِعاف، وضَعَفة، وضَعافَى. " (1)
{فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} .
{فَأَصَابَهَا} معطوف على صفة الجنة: {مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} وأتى في هذه الآيات كلها نحو (فأصابها وابل، وأصابه الكبر، فأصابها إعصار) لأنه أبلغ وأدَلُّ على التأثير بوقوع الفعل على ذلك الشيء، من أنه لم يُذْكر بلفظ الإصابة، حتى لو يل وَبَل، وكَبر، وأعصرت. لم يكن فيه ما في لفظ الإصابة من المبالغة (2)
والضمير في (أصابها) عائد على الجنة.
{إِعْصَارٌ} فاعل. والإعصار: الريح تُثير السحاب، وقيل: هي التي فيها نار، وقيل: هي التي فيها غبار شديد، وقال الزجاج: الإعصار الرياح التي تهب من الأرض وتثير الغبار فترتفع كالعمود إلى نحو السماء، وهي التي يسميها الناس الزوبعة، وهي ريح شديدة لا يقال لها إعصار حتى تهب كذلك بشدة. والجمع
(1) لسان العرب ابن منظور 9/ 203. ') ">
(2)
الدر المصون 1/ 644. ') ">
أعاصير (1)
إذاً هذه الريح تستدير على نفسها وتنطوي وهي كالعمود إذا مرت بشيء أخذته وربما بلغت قوتها أن تقتلع الأشجار. وهذا الإعصار فيه نار وحرارة شديدة بحيث إذا مرت على الجنة تحرق الأشجار، وتتساقط الأوراق، والثمار، وتجف الأنهار بسبب شدة الحرارة.
" وسمي ذلك الهواء إعصارًا لأنه يلتف كما يلتف الثوب المعصور. وقيل: لأنه يعصر السحاب أو يعصر الأجسام المار بها. "(2)
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ} قال: ريح فيها سموم شديدة (3) وقال السدي: الإعصار الريح والنار السموم (4)
{فِيهِ نَارٌ} تذكير الضمير لاعتبار التذكير في {إِعْصَارٌ} .
والتنوين في النار للتعظيم. وذكر الله - سبحانه - الإعصار ووصفه بما ذكر، ولم يقتصر على ذكر النار كأن يقال - فأصابها نار - {فَاحْتَرَقَتْ} لما في تلك الجملة من البلاغة ما فيها لمن دقق النظر،
(1) لسان العرب/ابن منظور 4/ 578. ') ">
(2)
روح المعاني/الألوسي3/ 38. ') ">
(3)
الدر المنثور/السيوطي1/ 341. ') ">
(4)
الجامع لأحكام القرآن/القرطبي 3/ 319. ') ">
والفعل المقرون بالفاء عطف على (أصابها)، وقيل: على محذوف معطوف عليه أي فأحرقها فاحترقت (1) والمراد بالنار إما السموم الشديد أو البرد الشديد (2)
وهذا دليل على أن النار تطلق على كل ما يحرق الشيء ولو بتجفيف رطوبته، ومنه:
(الصر) البرد الشديد كالحر الشديد كلاهما يحرق الشجر والنبات - والله تعالى أعلم - وهذا المثل ضربه الله عز وجل لمن ينفق ويضم إلى إنفاقه ما يحبطه. فهو في حسرة وأسف وندامة إذا كان يوم القيامة واشتدت الحاجة إلى ذلك ووجده هباء منثورا. كصاحب الجنة التي أصابها الإعصار فاحترقت عند كبر سنه وعجزه وضعف ذريته وقلة حيلته، فليس لديه قوة فيغرس مثل بستانه. كذلك المنفق المبطل نفقته لا يجده قدم لنفسه خيرًا يعود عليه، كما لم يغن عن هذا ولده، وحُرم أجره عند أشد الحاجة إليه، كما حرم هذا جنته عند شدة حاجته إليها، خيبة الأمل حين رجاء المنفعة.
روى ابن جرير رحمه الله عن السدي قوله: هذا مثل آخر لنفقة
(1) روح المعاني/الألوسي3/ 38. ') ">
(2)
ينظر: جامع البيان/الطبري 4/ 690 - 693. ') ">
الرياء، أنه ينفق ماله يرائي الناس، فيذهب ماله منه وهو يرائي، فلا يأجره الله فيه، فإذا كان يوم القيامة واحتاج إلى نفقته، وجدها قد أحرقها الرياء فذهبت، كما أنفق هذا الرجل على جنته، حتى إذا بلغت، وكثر عياله، واحتاج إلى جنته، جاءت ريح فيها سموم، فأحرقت جنته، فلم يجد فيها شيئا، فكذلك المنفق رياء (1) أ. هـ.
كذلك أورد ابن جرير رحمه الله أقوالاً في هذه الآية:
فعن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم: هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملاً صالحًا حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه عَمِل عَمَلَ سوء. وعن مجاهد، وقتادة، والربيع عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن هذا المثل للمفرط في طاعة الله حتى يموت. وعن ابن زيد: أنه مثل للمان في الطاعة. وعن ابن جريج: مثل لمن أُعطي الشباب والمال فلم يعمل حتى سلبا (2)
قلت: والآية عامة لمن ينفق نفقة ويضم إلى إنفاقه ما يحبطه كالمن والأذى والنفاق. والله تعالى أعلم.
(1) جامع البيان/الطبري 4/ 681 - 682، وينظر: تفسير ابن كثير 1/ 319، تفسير البغوي 3/ 253، الدر المنثور/السيوطي 1/ 340.
(2)
ينظر جامع البيان/الطبري 4/ 681 - 686. ') ">
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} أي مثل ذلك البيان. والكاف: بمعنى مثل. وهي منصوبة على أنها مفعول مطلق، وعاملها يبين. أي يبين الله لكم مثل ذلك البيان.
{الآيَاتِ} تشمل الآيات الكونية والشرعية.
" فالآيات الكونية: هي كل المخلوقات من السماء والأرض والنجوم والجبال والشجر والدواب وغير ذلك.
والآيات الشرعية: هي ما جاءت به الرسل من الوحي كالقرآن. " (1)
{لَعَلَّكُمْ} لعل: كما وردت في كتب اللغة تفيد الترجي، ولكنها هنا ليست للترجي، والترجي في جانب الله ممنوع. لأنه طلب ما فيه عسر، والله عز وجل لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء - سبحانه - لكنها هنا للتعليل. أي يبين الله لكم هذا البيان من أجل التفكر.
{تَتَفَكَّرُونَ} التفكر: إعمال الفكر والخاطر في مخلوقات الله والتأمل فيها فهو غاية مقصودة لأجل تفكركم في العواقب حتى لا تكونوا على غفلة. بل تعتبروا بما تضمنته الآيات من العبر،
(1) القول المفيد/الشيخ ابن عثيمين 2/ 320. ') ">
وتعملوا بموجبها وتعملوا أفكاركم فيما يفنى ويزول من الدنيا، وفيما هو باقٍ لكم ينفعكم في الآخرة.
آية: 267
لما رغَّب سبحانه وتعالى في الفعل وتخليصه عن الشوائب، أتبعه المال المنفق منه فأمر بطيبه فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أَقِروا بالإيمان {أَنْفِقُوا} تصديقًا لإيمانك (1)(2)
{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} في مفعول أنفقوا قولان:
أحدهما: أنه المجرور بـ (من)، و (من) للتبعيض أي: أنفقوا بعض ما رزقناكم.
والثاني: أنه محذوف قامت صفته مقامه، أي: شيئًا مما رزقناكم.
(ما) يجوز أن تكون موصولة اسمية. والعائد محذوف لاستكمال الشروط، أي: كسبتموه. وأن تكون مصدرية أي: من طيبات كسبكم، وحينئذ لا بد من تأويل هذا المصدر باسم المفعول أي:
(1) نظم الدرر/البقاعي 1/ 521.
(2)
نظم الدرر/البقاعي 1/ 521. ') ">
مكسوبكم، ولهذا كان الوجه الأول أولى (1)
{أَنْفِقُوا} زكوا وتصدقوا (2)
قال ابن عطية رحمه الله:
اختلف المتأولون هل المراد بهذا الإنفاق الزكاة المفروضة أو التطوع؟ فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبيدة السلماني، ومحمد بن سيرين: هي في الزكاة المفروضة. أما قول البراء بن عازب رضي الله عنه وعطاء بن أبي رباح: إن الآية في التطوع (3)
قلت: والراجح أن الآية تعم الوجهين إذ لا دليل على التخصيص. ولكن صاحب الزكاة يتلقاها على الوجوب، وصاحب التطوع يتلقاها على الندب - والله تعالى أعلم -.
{طَيِّبَاتِ} الطيب من الكسب: هو الكسب الحلال الجيد، وعكسه الخبيث. قال البغوي رحمه الله في قوله {مِنْ طَيِّبَاتِ} أي من خيار، قال ابن مسعود رضي الله عنه ومجاهد: من
(1) الدر المصون 1/ 645. ') ">
(2)
جامع البيان/الطبري 4/ 694. ') ">
(3)
المحرر الوجيز/ابن عطية 2/ 322. ') ">
حلالات (1) وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما – يقول: من أطيب أموالكم وأنفسها (2)
{مَا كَسَبْتُمْ} في ذلك دلالة على إباحة الكسب، وأنه ينقسم إلى طيب وخبيث.
قال ابن كثير رحمه الله: قال مجاهد: يعني التجارة، وقال علي والسدي: يعني الذهب والفضة. أ. هـ. (3)
{وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} أي: من طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض، وحذف لدلالة ما قبله عليه. فالذي أخرجه الله لنا من الأرض كله طيب، وهو الذي خلقه لنا كما في قوله - تعالى -:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} .
والذي يخرج من الأرض: النبات بجميع أنواعه، والمعادن والركاز. قال ابن جرير رحمه الله في قوله:{وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} : تصدقوا وزكوا من النخل والكرم والحنطة والشعير، وما
(1) تفسير البغوي 3/ 253. ') ">
(2)
تفسير ابن أبي حاتم 2/ 526 (2789) من طريق عبد الله بن صالح. ') ">
(3)
تفسير ابن كثير 1/ 320. ') ">
أُوجبت فيه الصدقة من نبات الأرض أ. هـ.
حكم زكاة الخارج من الأرض:
" كل ما أخرج الله عز وجل من الأرض مما يَيْبَسُ ويَبْقَي، مما يُكَالُ ويَبْلُغُ خمسة أَوْسُقٍ فصاعدا، ففيه العُشْرُ، إن كان سَقْيُهُ من السماء والسُّيُوحِ (1) (2) وإن كان يسقى بالدَّوَالِي والنَّوَاضِحِ وما فيه الكُلَفُ، فَنِصْفُ العُشْرِ "(3) دليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» (4) متفق عليه. وعن ابن عمر رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فيما سقت السماء والعيون وكان عَثَرِيًّا (5) العُشْرُ، وفيما سُقِيَ بالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ» (6)
وقد أعاد (من) في المعطوف (مما) لأن كلا من المتعاطفين نوع
(1) يقال للماء الجاري سيح.
(2)
يقال للماء الجاري سيح. ') ">
(3)
المغني/لابن قدامة/4/ 155. ') ">
(4)
صحيح البخاري 2/ 133، باب فيما دون خمسة أوسق صدقة من كتاب الزكاة، صحيح مسلم 2/ 674 - 675 كتاب الزكاة.
(5)
العثري ما سقته السماء. وقال الجوهري: العثري الزرع لا يسقيه إلا ماء المطر. ') ">
(6)
صحيح البخاري 2/ 155 كتاب الزكاة باب فيما يسقى من ماء السماء، صحيح مسلم 2/ 675 كتاب الزكاة باب ما فيه العشر أو نصف العشر.
مستقل، أو للتأكيد - ولعله أولى -. (1)
{مِنَ الأَرْضِ} متعلق بـ {أَخْرَجْنَا} ، و (من) لابتداء الغاية (2)
{وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}
{تَيَمَّمُوا} أمم: أَمَّه، يؤُمُّه أَمًّا: إذا قصده، ويَمَّمْتُه: قصدته.
قال ابن السكيت: قوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} . أي: اقصدوا لصعيدٍ طيب. وأممته: قصدت أمامه، ويممته: قصدته من أي جهة كانت (3)
قال ابن جرير رحمه الله في قوله: {وَلا تَيَمَّمُوا} أي: ولا تعمَّدوا ولا تقصِدوا.
وفيها قراءتان متواترتان (4) الجمهور على تخفيف التاء وماضيه تيمم، والأصل: تتيمموا فحذف التاء الثانية. وقرئ بتشديد التاء وهي قراءة ابن كثير.
(1) روح المعاني/الألوسي 3/ 39. ') ">
(2)
الدر المصون 1/ 645. ') ">
(3)
ينظر: لسان العرب 12/ 22 - 24. ') ">
(4)
النشر/ابن الجزري 2/ 232، التيسير 83 - 84، التبصرة 446، والمبسوط/مخطوط ق/56. ') ">
{الْخَبِيثَ} الرديء غير الجيد " وهو صفة غالبة، فلذلك لا يذكر معها الموصوف. "(1) أي لا تعمدوا إلى الرديء، فتتصدقوا منه، ولكن تصدقوا من الطيب.
{مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (منه) متعلق بـ (تنفقون) والجملة في موضع الحال من الفاعل في تيمموا، وهي حال مقدرة؛ لأن الإنفاق منه يقع بعد القصد إليه.
ويجوز أن يكون حالاً من الخبيث، لأن في الكلام ضميرًا يعود إليه، أي مُنفقًا منه (2)
وقدم (الحال) على عاملها؛ لإفادة الحصر. ولا تعارض بين الرأيين من حيث المعنى فهما لا يختلفان فمعناها: النهي عن قصد الخبث، وهو الرديء لننفق منه.
وسبب نزول تلك الآية:
عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قول الله تبارك وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} . . الآية.
قال: نزلت في الأنصار، كانت الأنصار إذا كان أيام جداد النخل (3)
(1) التبيان في إعراب القرآن/العكبري 1/ 182. ') ">
(2)
التبيان في إعراب القرآن/العكبري 1/ 182. ') ">
(3)
جداد: أوان الصرام، أي صرام النخل، وهو قطع ثمرها (لسان العرب 3/ 112). ') ">
أخرجت من حيطانها (1) أقناء (2) البسر، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل فقراء المهاجرين منه، فيعمد الرجل منهم إلى الحشف (3) فيدخله مع أقناء البسر، يظن أن ذلك جائز، فأنزل الله عز وجل في من فعل ذلك:{وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} . قال: ولا تيمموا الحشف منه تنفقون (4)
(1) حيطانها: جمع حائط: وهو البستان من النخيل إذا كان عليه حائط، وهو الجدار (لسان العرب 7/ 280). ') ">
(2)
أقناء: جمع قنو: وهو العذق بما فيه من الرطب والشماريخ المثمرة (النهاية/ابن الأثير 4/ 116). ') ">
(3)
الحشف: اليابس الفاسد من التمر، وقيل الضعيف الذي لا نوى له كالشيص. وهو الذي يجف قبل النضج فيكون رديئًا ليس له لحم (النهاية/ابن الأثير 1/ 391).
(4)
أخرجه ابن ماجه رقم (1822)، وابن أبي حاتم في تفسيره مختصرًا 2/ 527 (2798) من طريق عمرو بن محمد العَنْقَرِيّ، وأخرجه الترمذي رقم (2990) وقال: حسن صحيح غريب. كتاب تفسير القرآن، باب سورة البقرة، وصحيح سنن الترمذي رقم (2389) ابن ماجه - كتاب الزكاة، باب النهي أن يخرج في الصدقة شر ماله والحديث صحيح: ينظر صحيح سنن ابن ماجه رقم (1475)، والحاكم 2/ 285، وقال هذا حديث غريب صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
{وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} مستأنف لا موضع له (1)
{إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} في موضع الحال، أي إلا في حال الإغماض.
الإغماض: المسامحة والمُساهلة (2) وهو:
- من إطباق الجفن، وأصله من الغمض وهو نومة تغشى الحس ثم تنقشع.
- ومن أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز.
- وقد يكون من تغميض العين لأن الذي يريد الصبر على مكروه يغمض عينيه.
- ومن أغْمض الرجل إذا أتى غامضًا من الأمر.
أي: كيف تيمموا الخبيث تنفقونه ولستم بآخذيه لو أُعطيتموه إلا أن تأخذوه عن إغماض وتساهل وحياء. وفي هذا توبيخ وتقريع.
قال القرطبي رحمه الله في معنى الآية:
(1) التبيان في إعراب القرآن/العكبري 1/ 182. ') ">
(2)
لسان العرب 7/ 199، الجامع لأحكام القرآن/القرطبي 3/ 327. نظم الدرر/البقاعي 1/ 521. ') ">
أي: لستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم من الناس إلا أن تتساهلوا في ذلك وتتركوا من حقوقكم، وتكرهونه ولا ترضونه. أي فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم، قال معناه البراء بن عازب، وابن عباس، والضحاك، وقال الحسن: معنى الآية: ولستم بآخذيه ولو وجدتموه في السوق يباع إلا أن يهضم لكم من ثمنه. وروي نحوه عن علي رضي الله عنه أ. هـ. (1)
{تُغْمِضُوا} يستعمل متعديا - وهو الأكثر - ولازمًا مثل أغضى عن كذا، والآية محتملة الأمرين، وعلى الأول يكون المفعول محذوفًا: أي أبصاركم أو بصائركم (2)
إذاً ينبغي أن يُعلم أن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا كما ورد ذلك في الحديث:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا. .» (3) الحديث
(1) الجامع لأحكام القرآن 3/ 326. ') ">
(2)
التبيان في إعراب القرآن/العكبري 1/ 182. ') ">
(3)
صحيح مسلم 3/ 85 في الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب، الترمذي (2992) في التفسير، باب (من سورة البقرة).
وأخرج البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلَاّ الطَّيِّبُ - فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ. (1)
وأخرج البخاري عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قال: «كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ نَخْلاً وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ. فَلَمَّا أُنْزِلَتْ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بَخْ ذَلِكَ مَالٌ رَابحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ. قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا
(1) صحيح البخاري مع الفتح 13/ 415، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:(تعرج الملائكة والروح إليه). ') ">
أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وبَنِي عَمِّهِ» (1)
ولقائل أن يقول: إذا كان المراد بالطيب هو الحلال، والخبيث عكسه هو الحرام. كيف يكون الحرام في مال المسلم؟
يجاب عن ذلك بأن الطيب يراد به الحلال والجيد، أما الخبيث فيراد به الرديء وهذا أرجح الأقوال. لأنه لو أريد بالخبيث الحرام، لنهي عن الإنفاق منه البتة لا عن قصد التخصيص فقط. فالأصل في مال المؤمنين أن يكون حلالا. إنما خوطبوا بالإنفاق مما في أيديهم. فلو أريد بالطيب والخبيث ما ذكر لكان الخطاب مبنيا على أن أموال المؤمنين فيها حلال وحرام، وكان منطوق الآية أنفقوا من الحلال، ولا تتحروا جعل صدقاتكم من الحرام.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} ؛ لأنه - سبحانه - غني عن هذه النفقات، وخاصة الرديء منها والتي لا يأخذها المحتاج إلا على كراهة وتساهل وتغاض. والله عز وجل لم يأمركم بالإنفاق
(1) صحيح البخاري مع الفتح 8/ 223، كتاب التفسير، باب (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون)، صحيح مسلم 3/ 79 كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة في الأفربين والزوج، الموطأ 2/ 995 - 996 في الصدقة، باب الترغيب في الصدقة، أبو داوود 2/ 131 في الزكاة، باب صلة الرحم، والترمذي رقم (3000) في التفسير، باب سورة آل عمران، النسائي 6/ 231 في الإحباس، باب كيف يكتب الحبس.
لحاجته هو، بل إنه غني حميد، ونفع صدقاتكم عائد إليكم " وافتتح هذه الجملة بقوله:{وَاعْلَمُوا} للاهتمام بالخبر، أو قد يكون نُزِّل المخاطبون الذين نهوا عن الإنفاق من الخبيث منزلة من لا يعلم أن الله غني فأعطوا لوجهه. . ولم يعلموا أنه يحمد من يعطي لوجهه من طيب الكسب (1)
والواو استئنافية و {مِنْ} وما بعدها سدت مسد مفعولي اعملوا.
{غَنِيٌّ حَمِيدٌ} له الغنى التام المطلق من كل الوجوه لكماله، وكمال صفاته التي لا يتطرق إليها نقص بوجه من الوجوه، وغناه من لوازم ذاته.
{حَمِيدٌ} الحمد: نقيض الذم. وحمده حمدا ومحمدا ومحمدة فهو محمود وحميد فعيل بمعنى فاعل لتقارب المعنيين، وبمعنى مفعول. قال الأزهري: التحميد كثرة حمد الله - سبحانه - بالمحامد الحسنة، والتحميد أبلغ من الحمد. فالله عز وجل حامد لأنه يحمد من يستحق الحمد من عباده ومحمود على كل حال (2)
(1) التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 58. ') ">
(2)
ينظر: شرح أسماء الله الحسنى/ابن منظور/106 - شرح أسماء الله الحسنى، القحطاني 91 - 92. ') ">
ما وجه ذكر (حميد) بعد (غني)؟.
أن غناه عز وجل غنى يوجب الحمد عليه بخلاف المخلوق فقد يحمد على غناه إذا بذل وأنفق وقد يذم إذا قتر ومنع. " والله حميد على ما يأمرا به من الأوامر الحميدة والخصال السديدة التي فيها حياة القلوب وسعادة النفوس "(1)
مناسبة الآية لما قبلها: لما رغب سبحانه وتعالى في الإنفاق وختم آياته. بما يقتضي الوعد من أصدق القائلين بالغنى والإثابة في الدارين، أتبعه بما للعدو الكاذب من ضد ذلك فقال محذرا من البخل
(1) تفسير السعدي 115. ') ">
الآية 268
{الشَّيْطَانُ} واحد الشياطين.
قيل: الشيطان فيعال من شطن إذا بعد فمن جعل النون أصلا، وهو مصدر شطنه يشطنه شطنا خالفه عن وجهه ونيته.
وقيل: الشيطان فعلان من شاط يشيط إذا هلك واحترق. فالنون زائدة هنا.
قال الأزهري: الأول أكثر.
والشيطان: معروف، وهو كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب (1) (2) وقول: إنه مشتق من شطن أقرب؛ لأنه مصروف، وصرفه دليل على أن النون أصلية وإنما كان كذلك من البعد؛ لأن الله أبعده ولو كانت الألف والنون زائدتين لمنع من الصرف لأن زيادتهما في علم أو وصف يمنعه من الصرف.
والشيطان مبتدأ، خبره جملة (يعدكم).
{يَعِدُكُمُ} أصله يوعدكم، فحذفت الواو لوقوعها بين ياء مفتوحة وكسرة، وهو يتعدى إلى مفعولين (3)
قال الجوهري: الوعد يستعمل في الخير والشر، قال ابن سيدة: وفي الخير الوعد والعدة وفي الشر الإيعاد والوعيد، فإذا قالوا أوعدته بالشر أثبتوا الألف مع الباء.
وقال الأزهري: كلام العرب وعدت الرجل خيرا ووعدته شرا، وأوعدته خيرا وأوعدته شرا، فإذا لم يذكروا الخير قالوا: وعدته
(1) لسان العرب/ابن منظور 13/ 237 - 239.
(2)
لسان العرب/ابن منظور 13/ 237 - 239. ') ">
(3)
التبيان في إعراب القرآن/العكبري 1/ 182. ') ">
ولم يدخلوا ألفا، وإذا لم يذكروا الشر قالوا: أوعدته ولم يسقطوا الألف. وإذا أدخلوا الباء لم يكن إلا في الشر، كقولك: أوعدته بلضرب (1)
وقدم اسم الشيطان مسندا إليه؛ لأن تقديمه مؤذن بذم الحكم الذي سيق له الكلام وشؤمه لتحذير المسلمين من هذا الحكم، ولأن في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي تقوي الحكم وتحقيقه (2)
الشيطان يخوف الإنسان من الفقر إن هو أنفق من ماله، ولكن هذا الوعد غير صحيح، لقوله - تعالى - {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَاّ عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَاّ رَفَعَهُ اللَّهُ» (3)
(1) لسان العرب 3/ 463 - 464. ') ">
(2)
التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 59. ') ">
(3)
صحيح مسلم 8/ 21 كتاب البر والصلة، باب استحباب العفو والتواضع، الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في التواضع رقم (2030)، والموطأ 2/ 1000 في الصدقة، باب ما جاء في التعفف عن المسألة. قال محقق جامع الأصول: ويشهد لرواية مالك المرسلة، رواية مسلم، والترمذي 6/ 455.
{الْفَقْرَ} : الخلو ويوافقه في الاشتقاق وتساوي الحروف القفر، دون ترتيب الحروف.
فالفقر: خلو ذات اليد. والقفر: المكان الخالي من الناس (1)
والفقر: شدة الحاجة إلى لوازم الحياة لقلة أو فقد ما يعاوض به، وهو مشتق من فقار الظهر، فأصله مصدر فقره إذا كسر ظهره، جعلوا العاجز بمنزلة من لا يستطيع أدنى حركة لأن الظهر هو مجمع الحركات، ومن هذا تسميتهم المصيبة فاقرة، وقاصمة الظهر، ويقال، فَقْر وفُقْر وفَقَر وفقُر (2)
قال ابن كثير رحمه الله في قوله - تعالى - {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} : " أي يخوفكم الفقر لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله (3) أ. هـ.
{وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} " مع نهي الشيطان إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق، يأمركم بالمعاصي، والمآثم، والمحارم، ومخالفة الخلاق. "(4)
(1) لسان العرب 5/ 60 - 65، 110 - 111 (مادة فقر، وقفر). ') ">
(2)
التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 59. ') ">
(3)
تفسير ابن كثير 1/ 321. ') ">
(4)
تفسير ابن كثير 1/ 321. ') ">
{الْفَحْشَاءِ} الفُحْش والفَحْشاء والفاحِشة: القبيح من القول والفعل. وجمعها الفواحش، وهو كل ما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي، وأفحش الرجل: إذا قال قولا فاحشا والمتفحش: الذي يأتي بالفاحشة المنهي عنها، وكل أمر لا يوافق الحق فهو فاحشة.
والفاحش: السيء الخلق المتشدد البخيل. قال ابن جني: وقالوا: فاحش وفحشاء كجاهل وجهلاء حيث كان الفحش ضربا من ضروب الجهل ونقيضا للحلم (1)
وقد جاءت كلمة الفاحشة في القرآن على عدة أضرب:.
1 -
نكاح المحارم، كما قال - تعالى - {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا} .
2 -
الزنا، كما قال - تعالى - {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} .
3 -
فاحشة قوم لوط كما قال - تعالى - {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} .
(1) لسان العرب 6/ 325 - 326. ') ">
4 -
الذنوب كما قال - تعالى - {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ} .
والراجح أن الفحشاء في هذه الآية - والله تعالى أعلم - يراد به البخل لمناسبة ذكر الفقر قبلها. وفي هذه الآية لطيفة وهي أن الشيطان يخوف الرجل أولا بالفقر، ثم يتوصل بهذا التخويف إلى أن يأمره بالفحشاء وهو البخل، وذلك لأن البخل صفة مذمومة عند كل أحد فلا يستطيع الشيطان أن يحسن له البخل إلا بتلك المقدمة وهي التخويف من الفقر (1)
فالشيطان يأمر بالبخل. والبخل إما أن يكون إخلالا بواجب: كالزكاة والنفقة على الزوجة والأقارب، وإما أن يكون إخلالا بمستحب: كصدقة التطوع أو الإنفاق في سبيل الله وغيرها.
ولما ذكر ما للعدو من الشر، أتبعه سبحانه وتعالى بما عند الله من الخير فقال:
{وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا} عطف على جملة (الشيطان يعدكم الفقر)؛ لإظهار الفرق بين ما تدعو إليه وساوس الشيطان وما
(1) الفتوحات الإلهية/الجمل 1/ 223. ') ">
تدعو إليه أوامر الله تعالى (1)
{مَغْفِرَةً مِنْهُ} يجوز أن يكون صفة، وأن يكون مفعولا متعلقا بـ (يعد)(2) وقدم اسم الجلالة على الخبر؛ لتقوي الفعل وتحقيقه.
{مَغْفِرَةً} أصل الغفر: التغطية والستر، والمغفرة: التغطية على الذنوب والعفو عنها (3) والتنوين في (مغفرة) للتفخيم.
{وَفَضْلا} : زيادة، فالصدقة تزيد المال. والمغفرة ضد الفحشاء، لأن الفحشاء تكسب الذنوب، والفضل ضد الفقر. والله عز وجل يعد بالمغفرة والفضل، فالحسنات مذهبة للسيئات كما قال - تعالى -:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} .
والله يخلف على المنفق بخير ورزق، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَاّ مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» (4)
(1) التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 60. ') ">
(2)
التبيان في إعراب القرآن/العكبري 1/ 182. ') ">
(3)
لسان العرب 5/ 25. ') ">
(4)
البخاري مع الفتح 3/ 304 في الزكاة، باب قول الله - تعالى - (فأما من أعطى واتقى)، ومسلم 3/ 83 في الزكاة، باب في المنفق والممسك.
وقد قدم المغفرة على الفضل - وكلاهما في الآخرة - وذلك لتقديم التخلية على التحلية، ولكون رفع المفاسد أولى من جلب المصالح (1)
{وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} واسع في كل شيء، وهو واسع بالرحمة والستر والفضل، عليم بكل شيء، وبما تنفقونه، فيجازيكم عليه.
وقد ختم آخر آيات الأمثال بما ختم به أولها ترغيبا وترهيبا (2)
وبعد أن أنهى ضرب الأمثال في الإنفاق والمال المنفق بهذا الكلام الحكيم، بين بأنه يؤتي الحكمة من يشاء ويوفقه إلى علم ما خفي من هذه الأمثال المتقنة والأقوال الحسنة، ويوفقه للعمل بذلك فقال - تعالى - منبها على ترجيح العمل بأمر الرحمن وقبول وعده بأنه على مقتضى العقل والحكمة، وأن أمر الشيطان ووعده على وفق الهوى
(1) روح المعاني/الألوسي 3/ 40. ') ">
(2)
نظم الدرر/البقاعي 1/ 522. ') ">
{يُؤْتِي} يعطي (1)(2) وهي تنصب مفعولين، الأول:(الحكمة)، والثاني:(من) في قوله (من يشاء)
يؤت فعل مضارع مبني للمفعول، فعل الشرط، والقائم مقام الفاعل ضمير مَنْ الشرطية وهو المفعول الأول، و (الحكمة) المفعول الثاني (3)(فقد أوتي) جواب الشرط.
{الْحِكْمَةَ} مشتقة من أحكم يحكم إحكاما: أي أتقن، والحكيم المتقن للأمور.
وقال الجوهري: الحكمة من العلم، والحكيم العالم للأمور، وحكم الشيء وأحكمه: منعه من الفساد. واستحكم الرجل إذا تناهى عما يضره في دينه أو دنياه (4)
فالحكمة هي الإتقان، والإتقان قائم على أمرين: العلم، والرشد.
والحكمة وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها وتستلزم علما ورشدا، فالجاهل لا تأتي منه الحكمة إلا مصادفة، والسفيه لا تأتي منه الحكمة، ومن فاته العلم لا يستطيع أن يحكم الشيء وهو لا يعلم، ومن عنده علم وليس عنده تصرف لا يحكم ولهذا
(1) المحرر الوجيز/ابن عطية 2/ 329، تفسير ابن عباس 1/ 141.
(2)
المحرر الوجيز/ابن عطية 2/ 329، تفسير ابن عباس 1/ 141. ') ">
(3)
ينظر: الدر المصون 1/ 648. ') ">
(4)
لسان العرب/ابن منظور 12/ 140 - 142. ') ">
قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} . فالكتاب: العلم، والحكمة الرشد (1)
قال ابن عطية رحمه الله واختلف المتأولون في الحكمة في هذا الموضع:
فقال السدي: الحكمة النبوة. وقال ابن عباس: هي المعرفة بالقرآن فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابه وعربيته. وقال قتادة ومجاهد: الحكمة الفقه في القرآن. وقال مجاهد أيضا: الإصابة في القول والفعل وقال ابن زيد وأبو زيد بن أسلم: الحكمة العقل في الدين وقال مالك: المعرفة في الدين والفقه فيه والاتباع له. وروي عن ابن القاسم أنه قال: الحكمة التفكر في أمر الله والاتباع له. وقال أيضا الحكمة طاعة الله والفقه في الدين والعمل به، وقال الربيع: الحكمة الخشية. وقال إبراهيم وزيد بن أسلم: الحكمة الفهم. وقال الحسن: الحكمة الورع.
وهذه الأقوال كلها ما عدا قول السدي قريب بعضها من بعض؛ لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في عمل أو قول،
(1) شريط مسجل للشيخ ابن عثيمين رحمه الله. ') ">
وكتاب الله حكمة، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حكمة، وكل ما ذكر فهو جزء من الحكمة التي هي الجنس. أ. هـ (1)
والله عز وجل يعطي الحكمة من يشاء؛ لأن الأمر كله بيده {بِيَدِكَ اْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
وهو لا يعطي الحكمة إلا من يعلم أنه أهل لها، وقد ذكر سابقا في مشيئة الله عز وجل دائما مقرونة بالحكمة ودليله قوله - تعالى -:
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} .
{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} .
من أوتي الحكمة وهي العلم والرشد فقد أوتي الخير الكثير.
{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} بناء للمفعول إما لأن المقصود بيان فضيلة من نال الحكمة بقطع النظر عن الفاعل، وإما لتعين الفاعل والإظهار في مقام الإضمار للاعتناء بشأن هذا المظهر ولهذا قدم من قبل على المفعول الأول وللإشعار بعلة الحكم (2)
(1) المحرر الوجيز/ابن عطية 2/ 330، وينظر ابن كثير 1/ 322، الدر المنثور/السيوطي 1/ 348. ') ">
(2)
روح المعاني/الألوسي 3/ 41. ') ">
وتنكير {خَيْرًا كَثِيرًا} تنكير تعظيم (1)
وقد اختلف الأسلوب فقال في الأول {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ} ثم قال {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} وذلك: بأن الحكمة قد تكون غريزة وقد تكون مكتسبة بمعنى أن الإنسان قد يحصل له مع المران ومخالطة الناس، من الحكمة وحسن التصرف ما لا يحصل له لو كان منعزلا، ولهذا أتي بالفعل المضارع المبني للمفعول؛ ليعم كل طرق الحكمة التي تأتي منها سواء أوتي الحكمة من قبل الله، أو من قبل الممارسة والتجارب، على أن ما يحصل من الحكمة بالممارسة والتجارب هو من الله عز وجل فهو الذي قيض لك من يفتح لك أبواب الحكمة والخير (2)
{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} (يذكر) الأصل: يتذكر فأبدلت التاء ذالا لتقرب منها فتدغم (3) والتذكر بمعنى الاتعاظ والاعتبار.
(أولوا) أصحاب وهي ملحقة بجمع المذكر السالم؛ ولهذا رفعت بالواو.
(1) الكشاف/الزمخشري 1/ 343. ') ">
(2)
شريط مسجل للشيخ ابن عثيمين رحمه الله. ') ">
(3)
التبيان في إعراب القرآن/العكبري 1/ 183. ') ">
(الألباب) جمع لب وهو العقل (1) ولب كل شيء: خالصه؛ لذلك قيل للعقل لب (2) أي ما يتفكر ولا يتعظ إلا ذوو العقول.
ولإظهار الاعتناء بمدحهم بهذه الصفة أقيم الظاهر مقام المضمر
(1) لسان العرب 1/ 730. ') ">
(2)
الجامع لأحكام القرآن/القرطبي 2/ 412. ') ">
آية 270
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ} جملة شرطية. (ما) شرطية، وهي تفيد العموم.
(أنفقتم) فعل الشرط (أو نذرتم من نذر) شرط.
{فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} جواب الشرط.
{نَفَقَةٍ} نكرة في سياق النفي؛ لتعم كل نفقة. أي نفقة أنفقتموها واجبة أو مستحبة، قليلة أو كثيرة، سرا أو علانية، في حق أو باطل فإنها لا تخفى عليه - سبحانه - فهذا من باب التذكير بأن الله لا يخفى عليه شيء من النفقات وصفاتها، والنذور وغيرها.
و (من) في قوله: (من نفقة) و (من نذر) بيان لما أنفقتم ونذرتم، ولما كان شأن البيان أن يفيد معنى زائدا على معنى المبين، وكان معنى البيان هنا عين معنى المبين، تعين أن يكون المراد منه بيان المنفق والمنذور بما في تنكير مجروري (من) من إرادة أنواع النفقات والمنذورات. فأكد بذلك العموم ما أفادته ما الشرطية من العموم من خير أو شر في سبيل الله أو في سبيل الطاغوت، قال التفتازاني: مثل هذا البيان يكون لتأكيد العموم ومنع الخصوص (1)(2) ووحد الضمير في (يعلمه) وإن كان قد تقدم شيئان: النفقة والنذر لأن العطف هنا بـ (أو) وهي لأحد الشيئين (3)
{أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ} النذر: الإلزام وهو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه (4) مثل أن يلتزم الإنسان قربة أو صدقة بصيغة الإيجاب على النفس كقوله: علي صدقة وعلي تجهيز غاز ونحو ذلك ويكون مطلقا ومعلقا على شيء
وأصل عقد النذر مكروه لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه
(1) التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 66.
(2)
التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 66. ') ">
(3)
الدر المصون 1/ 649. ') ">
(4)
الجامع لأحكام القرآن/القرطبي 19/ 127. ') ">
سواء عقده ابتداء أو بشرط. فلا ينبغي أن يلزم الإنسان نفسه بما لم يلزمه به الله.
جاء في الصحيحين عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ النَّذْرَ لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّرُ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِالنَّذْرِ مِنْ الْبَخِيلِ» (1)
(1) البخاري 11/ 499 في القدر، باب إلقاء العبد النذر إلى القدر، وفي الأيمان والنذور، باب الوفاء بالنذر 18/ 575، مسلم 5/ 77 في النذر، باب النهي عن النذر/وأنه لا يرد شيئا، أبو داود 3/ 231 في الأيمان والنذور، باب النهي عن النذر، النسائي 7/ 15 - 16 في الأيمان والنذور، باب النهي عن النذر، وباب النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخره.
حكم الوفاء بالنذر:.
الوفاء بالنذر واجب إذا كان في طاعة، وقد امتدح الله عز وجل من يفي بنذره حيث قال - عز من قائل -:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} أي لا يخلفون إذا نذروا، قال مجاهد وعكرمة: يوفون إذا نذروا في حق الله - جل ثناؤه -. " (1)(2)
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيف بنذره وَمَنْ نَذَرَ
(1) الجامع لأحكام القرآن/القرطبي 19/ 127.
(2)
الجامع لأحكام القرآن/القرطبي 19/ 127. ') ">
أَنْ يَعْصِيَ الله فَلَا يف به» (1)
ومن لم يف بنذره يخشى عليه؛ لما جاء في قوله - تعالى -:
وقد كان النذر معروفا في الأمم السابقة:
1 -
فقد حكى الله عن امرأة عمران قوله - تعالى - {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} . وقوله: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} .
2 -
وقد عرفت العرب النذر في الجاهلية، فقد نذر عبد المطلب
(1) البخاري 11/ 585 في الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية. وأبو داود 3/ 232 في الأيمان والنذور، باب ما جاء في النذر في المعصية، والترمذي رقم (1526) في النذور والأيمان، باب من نذر أن يطيع الله فليطعه، والنسائي7/ 17 في الأيمان والنذور، باب النذر في المعصية.
أنه إن رزق عشرة أولاد أو ليذبحن عاشرهم قربانا للكعبة، وكان ابنه العاشر هو عبد الله ثاني الذبيحين (1)
ونذر نتيلة زوج عبد المطلب - لما افتقدت ابنها العباس وهو صغير - إنها إن وجدته لتكسون الكعبة الديباج ففعلت. وهي أول من كسا الكعبة الديباج.
وعن عُمَرَ بن الخطاب رضي الله عنه قال يا رسول الله، إني نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ يوما فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ قَالَ:«أَوْفِ بِنَذْرِكَ» (2)
ولا تعارض بين الآية والحديث فالآية تمتدح الموفي بالنذر كما في قوله - تعالى - {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} . والأمر بالوفاء لا يدل على جواز النذر، بينما الحديث ينهى عن إلزام النفس بالنذر.
{أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ} إدخال من لتأكيد الاستغراق (3)
(1) البداية والنهاية/ابن كثير 2/ 344. ') ">
(2)
البخاري 4/ 274 في الاعتكاف، باب الاعتكاف ليلا، والأيمان والنذور 11/ 575، ومسلم 5/ 88 في الأيمان، باب نذر الكافر، وأبو داوود 3/ 242 في الأيمان والنذور، باب من نذر في الجاهلية ثم أدرك الإسلام، الترمذي رقم (1539) في الأيمان والنذور، باب ما جاء في وفاء النذر، والنسائي 7/ 21 - 22 في الأيمان والنذور، باب إذا نذر ثم أسلم قبل أن يفي.
(3)
نظم الدرر/البقاعي 1/ 525. ') ">
{فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} الفاء داخلة في الجواب.
يعلم ما أنفقتموه أو ما نذرتموه. وفي هذا وعد لمن أنفق على الوجه المقبول، ووعيد لمن جاء على خلاف ذلك. والله سبحانه وتعالى يعلم الظاهر والباطن، ومجازيكم عليه. فمن علم أن الله مجازيه على إخلاصه استشعر بما يلزم ذلك العلم.
{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} الظلم: وضع الأشياء في غير مواضعها التي يحق أن توضع فيها.
(أنصار) جمع نصير، مثل شريف وأشراف (1) فليس لهذا الظالم من أعوان ينصرونه من بأس الله - تعالى - ويدفعون عذابه عنه فلا يجد الظالم بوضع القهر موضع البر ناصرا.
وقد يقول قائل: إن الظالمين لهم أنصار في الدنيا من الظلمة وغيرهم.
يجاب بأن في الدنيا ليس لهم نصير بل إن الله قد يعدمهم النصير في المضائق. ويقسّي عليهم قلوب عباده، ويلقي عليهم الكراهة من الناس
(1) تفسير البغوي 1/ 257. ') ">
آية 271
لما كلن حال الإنفاق المحثوث عليه يختلف بالسر والجهر فكان مما يسأل عنه قال سبحانه وتعالى حاثا على الصدقة في كلتا الحالتين مع ترجيح الإسرار لما فيه من البعد عن الرياء (1)(2)
{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} جلة - شرطية - وهو استئناف بياني والجملة تفصيل لبعض ما أجمل في الشرطية، وبيان له ولذلك ترك العطف بينهما.
{تُبْدُوا} أي تظهروها فتصير علانية (3)
{الصَّدَقَاتِ} المراد من الصدقات - على ما ذهب إليه جمهور المفسرين -: صدقات التطوع، وقيل: الصدقات المفروضة، وقيل: العموم (4)
التعريف في قوله: {الصَّدَقَاتِ} للجنس، ومحملة على العموم
(1) نظم الدرر/البقاعي 1/ 526.
(2)
نظم الدرر/البقاعي 1/ 526. ') ">
(3)
تفسير السعدي 116. ') ">
(4)
روح المعاني/الألوسي 3/ 44. ') ">
فيشمل كل الصدقات فرضها ونفلها (1) وفي تعريفها وجمعها ما يشعر بعموم الفرض والنفل (2)
وسميت الصدقة صدقة؛ لأنها تدل على صدق إيمان صاحبها، فلم يخرج المال الذي يحبه كما قال الله - تعالى -:{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} إلا لصدق إيمانه وانتظار الثواب من الله.
{فَنِعِمَّا} أي نعمت الخصلة هي (3)(نعم) فعل جامد لا يكون فيه مستقبل، وأصله نَعِم كعَلِم؛ ولكنهم سكنوا العين، ونقلوا حركتها إلى النون ليكون دليلا على الأصل (4)
فقوله (نعما) أصلها فنعم ما، فأدغم المثلان، وكسرت عين نعم؛ لأجل التقاء الساكنين.
(ما) نكرة تامة أي متوغلة في الإبهام، لا يقصد وصفها بما يخصصها فتمامها من حيث عدم إتباعها بوصف، لا من حيث إنها واضحة المعنى، ولذلك تفسر بشيء. ولما كانت كذلك تعين أن
(1) التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 67. ') ">
(2)
نظم الدرر/البقاعي 1/ 526. ') ">
(3)
تفسير البغوي 3/ 257. ') ">
(4)
التبيان في إعراب القرآن/العكبري1/ 183. ') ">
تكون في موضع التمييز لضمير نعم المرفوع المستتر (1)
{هِيَ} خبر مبتدأ محذوف؛ كأن قائلا قال: ما الشيء الممدوح؟ فيقال: هي؛ أي الممدوح الصدقة (2) لذلك كان تفسير المعنى فنعما إبداؤها ".
وهنالك وجه آخر لإعراب (هي) وهو أن يكون هي مبتدأ مؤخراً، ونعم وفاعلها الخبر؛ أي الصدقة نعم الشيء (3) إذاً جمع لها الأمداح المبهمة لأن نعم كلمة مبالغة تجمع المدح كله، و (ما) كلمة مبهمة تجمع الممدوح فتطابقا في الإبهام.
(هي) المخصوص بالمدح، والمقصود الصدقات
وفي (نعما) قراءات متواترة هي (4)
قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف (فَنَعِمَّا).
وقرأ ورش، وابن كثير، وحفص، ويعقوب (فَنِعِمَّا)
وقرأ قالون، وأبو عمرو، وشعبة بخلف عنهم، وأبو جعفر (فََنِعمَّا)
وباختلاس كسرة العين: قالون، وأبو عمرو، وشعبة (5)
(1) التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 67. ') ">
(2)
التبيان في إعراب القرآن/العكبري1/ 183. ') ">
(3)
التبيان في إعراب القرآن/العكبري1/ 183. ') ">
(4)
المهذب 1/ 106، السبعة 190، الغاية 120، النشر2/ 235. ') ">
(5)
الغاية/النيسابوري 120/. المهذب1/ 106، السبعة/ابن مجاهد 190. ') ">
والفاء في (فنعما) واقعة في جواب الشرط.
{وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}
{وَإِنْ تُخْفُوهَا} جملة شرطية فلذلك حذفت النون. وجوابها {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} والفاء واقعة في الجواب.
{وَإِنْ تُخْفُوهَا} وفي هذا وقوله: (إن تبدوا) طباق لفظي. أي تسروها ولا تعلنوها.
قال ابن كثير رحمه الله:
فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها؛ لأنه أبعد عن الرياء. إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به فيكون أفضل من هذه الحيثية أ. هـ (1) ولا شك أن الصدقة عموما خير؛ لأن نفعها متعد غلى الغير، فهي إحسان إلى الناس لذلك أثنى الله عز وجل على الصدقات عموما سواء أبديت أو أخفيت والإخفاء أفضل لقوله:(وإن تخفوها. .)
ولما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَاّ ظِلُّهُ إِمَامُ عَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ بعِبَادَةِ الله وَرَجُلٌ
(1) تفسير ابن كثير 1/ 322. ') ">
كان قَلْبُهُ مُعَلَّقا بالْمَسجِدِ إذا خرج منه حتى يعود إليه وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ فاجْتَمَعَا عَلى ذلك وَتَفَرَّقَا وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ حَسَبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بصدقة فأَخفَاها حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ"» (1)
(وتؤتوها) عطف على (وإن تخفوها) أي: تعطوها {الْفُقَرَاءَ} جمع فقير.
لم خص الفقير بالذكر مع أن الصدقة لا تكون إلا له؟
لأن الفقير يظهر فيه ويمتاز عن غيره، إذ يعلمه الناس بحاله، بخلاف الإخفاء، فاشترط معه إيتاؤها للفقير حثا على الفحص عن حال من يعطيه الصدقة.
فعطف إيتاء الفقراء على الإخفاء المجعول شرطا للخيرية في الآية
(1) البخاري مع الفتح 3/ 293 في الزكاة، باب الصدقة باليمين، وفي الجماعة، باب من جلس في المسجد، وفي الرقاق، باب البكاء من خشية الله، وفي المحاربين، باب فضل ترك الفواحش، ومسلم 3/ 93 في الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، والموطأ 2/ 952 - 953 في الشعر، باب ما جاء في المتحابين في الله، والترمذي (2392) في الزهد، باب ما جاء في الحب في الله، والنسائي 8/ 222 - 223 في القضاة، باب الإمام العادل.
يؤذن بأن الخيرية لإخفاء حال الفقير وعدم إظهار اليد العليا عليه (1)
{فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} من إبدائها وإظهارها، لأنه أبعد عن الرياء، وأقرب إلى الإخلاص، وابتغاء مرضاة الله كما أن في إخفاء الصدقة سترا لحال الفقير؛ لأن بعض الفقراء يسوؤهم أن تعلم حالهم والجملة جواب الشرط، وموضعها جزم، وهو ضمير مصدر لم يذكر، ولكن ذكر فعله، والتقدير: فالإخفاء خير لكم، أو فدفعها إلى الفقراء في خفية خير (2)
{وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} يكفر: يمحو ويستر (3) الخطيئات. وفيها قراءات متواترة هي (4)
(ونكفر): نافع، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف.
(ونكفر): ابن كثير، وأبو عمرو، وشعبة ويعقوب.
ويكفر: الباقون.
فالجزم فيها: باعتبار أنها معطوفة على محل قوله: (فهو خير لكم)
(1) التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 68 - 69. ') ">
(2)
التبيان في إعراب القرآن/العكبري1/ 184. ') ">
(3)
لسان العرب/ابن منظور 5/ 149. ') ">
(4)
الغاية/النيسابوري 120، النشر2/ 236، المهذب1/ 106. ') ">
فهو مجزوم لأنه جواب الشرط. وأما الرفع: فعلى الاستئناف (1) والواو عاطفة جمل على جمل.
(من) فيها ثلاثة أقوال (2)
1 -
إنها للتبعيض: أي بعض سيئاتكم، لأن الصدقات لا تكفر جميع السيئات.
2 -
إنها زائدة وهو جار على مذهب الأخفش. وقد خطّأ ذلك ابن عطية من حيث المعنى.
3 -
إنها للسببية، أي: من أجل ذنوبكم، وهذا ضعيف.
{سَيِّئَاتِكُمْ} جمع سيئة وهي مشتقة من ساءه يسوؤه سَوءاً وسُوءا: فعل به ما يكره (3)
والسيئات تسوء المسلم في الدنيا والآخرة، ولكن بفضل الله عز وجل قد يكفر بعض هذه السيئات بسبب الصدقات وبغيرها من الأعمال الحسنة بفضل الله وسعة رحمته.
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} الآية فيها وعد ووعيد.
(1) ينظر: التبيان في إعراب القرآن/العكبري1/ 184. ') ">
(2)
الدر المصون 1/ 652 (بتصرف بسيط). ') ">
(3)
لسان العرب/ابن منظور 1/ 95 - 96. ') ">
(بما تعملون) متعلق بقوله: (خبير)
وقدم (بما تعملون) على (خبير) لإفادة الحصر.
وقد يرد تقديم (بما تعملون) على (خبير) كما معنا في هذه الآية،
وأحيانا يقدم (خبير) على (بما تعملون) كما في قوله: (والله خبير بما تعملون) فالإجابة على ذلك:
يقال: إن إفادة الحصر في الآية الأولى أنه حصر إضافي لأنه سبحانه وتعالى خبير بما نعمل وخبير بما لا نعمل. وقدمه في الآية الثانية، لأنه خبير بكل شيء وإنما قدم (خبير) للاهتمام، والتهديد للمخالف.
(خبير) خبرت بالأمر أي علمته، وخبرت بالأمر أخبره إذا عرفته على حقيقته. وهو من أسماء الله عز وجل وهو العالم بما كان وما يكون (1) فالخبير ذو الخبرة؛ وهي العلم ببواطن الأمور والعليم ببواطنها، عليم بظاهرها من باب أولى. فلا يخفى عليه شيء وسيجازيكم على أعمالكم.
(1) شرح أسماء الله الحسنى/ابن منظور/70. ') ">
آية 272
بعد أن بينت الآيات السابقة أصناف الناس: منهم من ينفق رئاء الناس ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ومنهم من يبطل صدقته بالمن والأذى، ومنهم الذي يقصد الخبيث؛ فهذا مما قد يكون ثقيلا على النبي صلى الله عليه وسلم فعقب ذلك بتسكين نفسه والتهوين عليه بأن ليس عليه هداهم، ولكن عليه البلاغ (1)(2)
{هُدَاهُمْ} الضمير عائد على الناس. والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ومنسحب على غيره.
والهداية المنفية عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية هي هداية التوفيق، أما هداية الإرشاد والدلالة والتبليغ فهي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقوله - تعالى -: {إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ} وقوله: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ} .
(1) التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 69 (بتصرف بسيط).
(2)
التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 69 (بتصرف بسيط). ') ">
فنفي الهداية عنه في قوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} مثل قوله - تعالى -: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} . فالهداية المنفية عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الناس هي خاصة بالله عز وجل وحده، ولو كانت بمقدور أحد من البشر لهدى الرسول صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب.
{عَلَيْكَ} على تفيد الاستعلاء، أي طلب فعل على وجه الوجوب. وتقديم الظرف الذي من حقه التأخير (عليك) على المسند إليه وهو {هُدَاهُمْ} يفيد قصر المسند إليه على المسند (1)
(هداهم) اسم ليس، وخبرها الجار والمجرور (عليك).
{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} جيء فيه بحرف الاستدراك، لما في الكلام المنفي من توهم إمكان هديهم بالحرص أو بالإلجاء، فمصب الاستدراك هو الصلة (من يشاء)(2) إذًا الله يهدي من يشاء هداية دلالة وإرشاد وهداية توفيق جميعا
(1) التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 70. ') ">
(2)
التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 72. ') ">
ولكن المراد هنا هداية التوفيق؛ لأنها تفيد نفي الهداية عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقصرها على الله عز وجل.
(من يشاء) مشيئة الله عز وجل مرتبطة بالحكمة. فلا يشاء شيئاً إلا والحكمة تقتضي تلك المشيئة. وعلى هذا فالله عز وجل يهدي من يشاء ممن هو أهل للهداية. أما الذين ليسوا أهلا للهداية فإن الله عز وجل لا يهديهم وهذا كله بعدله وحكمته.
وفي هذا رد على القدرية، وطوائف من المعتزلة، والإمامية، لأنهم يعتقدون أن إرادة الإنسان كافية في صدور أفعاله منه، طاعة كانت أو معصية، لأن الإنسان عندهم خالق لأفعاله، فهو غير محتاج في صدورها عنه إلى ربه.
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ} (ما) شرطية جازمة لتنفقوا بدليل اقتران الجواب بالفاء.
(من) تبعيضية. أي شيء تنفقوا كائنا من المال.
(خير) يراد به المال هنا. وهو بيان لما الشرطية؛ لأن ما الشرطية مبهمة تحتاج إلى بيان "ولأنه قد اقترن بذكر الإنفاق؛ فهذه القرينة تدل على أنه المال، ومتى لم تقترن بما يدل على أنه المال فلا يلزم أن يكون بمعنى المال (1) كما في قوله - تعالى -:{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} .
(1) الجامع لأحكام القرآن/القرطبي 3/ 339. ') ">
قلت: إن الخير: كل ما بذل لوجه الله في سبيله من مال أو أعيان ومنافع، وأغلب ما يكون في الأموال، ولا يمنع ذلك أن يكون في المنافع أيضاً.
(فلأنفسكم) الفاء رابطة للجواب.
(لأنفسكم)"خبر لمبتدأ محذوف أي: فهو لأنفسكم"(1)
إذاً ما ينفق من خير فلا ينتفع به الله عز وجل لأنه غني عن خلقه وعما عملوه؛ إنما المنتفع هو المُنْفِق. فلما كانت المنفعة لنفس المتصدق فليختر لنفسه ما هو خير، وعليه أن يكثر، وأن يختار من جيد ماله وما يملك لينفق منه.
{وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} جملة حالية، وهو خبر مستعمل في معنى الأمر (2)
(ما) نافية؛ أي ما تنفقون إنفاقا ينفعكم إلا ما ابتغيتم هـ وجه الله قال ابن عطية رحمه الله:
"إن النفقة المعتد بها المقبولة إنما هي ما كان ابتغاء وجه الله، هذا
(1) الدر المصون 1/ 653. ') ">
(2)
التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 72. ') ">
أحد التأويلات، وفيه تأويل آخر وهو أنها شهادة من الله - تعالى - للصحابة أنهم ينفقون ابتغاء وجه الله، فهو خير منه، لهم فيه تفضيل" (1) أهـ.
وقال البغوي رحمه الله في قوله (وما تنفقون):
هذه لفظة جحد ومعناه نهي، أي: لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله (2) أهـ.
وعلى هذا الرأي يكون الكلام خبرا مستعملاً في الطلب لقصد التحقيق والتأكيد.
{إِلا ابْتِغَاءَ} أي طلب وفيه وجهان (3)
أحدهما: أنه مفعول من أجله، أي: لأجل وجه الله.
والثاني: أنه مصدر في محل الحال، أي: إلا مبتغين.
{وَجْهِ اللَّهِ} المراد الوجه الحقيقي الذي هو صفته، والذي ينبغي أن يثبت لله، دون تشبيه أو تحريف أو تعطيل.
فإنفاق هؤلاء كان من أجل أن ينظروا إلى وجه الله بعد دخولهم الجنة نظرا حقيقيا بالعين. كما قال - تعالى -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .
(1) المحرر الوجيز/ابن عطية 2/ 336. ') ">
(2)
تفسير البغوي3/ 258. ') ">
(3)
الدر المصون 1/ 653. ') ">
وكما جاء في الحديث عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، قال: " إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (1)
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}
(ما) شرطية، بدليل جزم الفعل (تنفقوا) بحذف النون، وجزم الجواب (يوف) فإنه مجزوم بحذف حرف العلة وهي الألف.
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} أي خير تنفقونه من الأموال وغيرها قليلاً
(1) رواه البخاري 2/ 33 في مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، وباب فضل صلاة الفجر 2/ 52 وفي تفسير سورة (ق) 8/ 597، وفي التوحيد، باب قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) 13/ 419، ومسلم 2/ 114 في المساجد، باب فضل صلاة الصبح والعصر والمحافظة عليهما، وأبو داود 4/ 233 في السنة، باب في الرؤية، والترمذي رقم (2554) في صفة الجنة، باب ما جاء في رؤية الله تبارك وتعالى.
كان أو كثيرا.
{يُوَفَّ} " أي يوفر لكم جزاؤه ومعناه: يؤدى إليكم، ولذلك دخل فيه إلى "(1) فيوفي الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
و (يوف) مبني للمجهول، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هو. وقد كرر فعل تنفقون ثلاث مرات في الآية لمزيد الاهتمام بمدلوله، وجيء به مرتين بصيغة الشرط عند قصد بيان الملازمة بين الإنفاق والثواب، وجيء به مرة في صيغة النفي والاستثناء؛ لأنه قصد الخبر بمعنى الإنشاء، أي النهي عن أن ينفقوا إلا لابتغاء وجه الله. كما جعلت جملا مستقلاً بعضها عن بعض ولم تجعل جملة واحدة مقيدة فائدتها بقيود جميع الجمل، وأعيد لفظ الإنفاق في جميعها بصيغ مختلفة؛ للاهتمام بشأنه (2)
{وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} الواو للحال. " والجملة مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من الضمير في (إليكم) والعامل فيها (يوف) ويجوز أن تكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب"
(1) تفسير البغوي 3/ 259. ') ">
(2)
التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 72 - 73 (بتصرف بسيط). ') ">
(لا تظلمون) لا تظلمون؛ لأن الله عز وجل لا يظلم كما قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}
وقال {وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} والله حرم الظلم على نفسه لكمال عدله لا لعجزه عن الظلم وكلما نفى الله عز وجل عن نفسه شيئا من هذه الصفات؛ فإن ذلك يستلزم كمال ضده.
آية 273
{لِلْفُقَرَاءِ} اختلفوا في موضع هذه اللام، قيل: هي مردودة على موضع اللام من قوله: فلأنفسكم كأنه قال: وما تنفقوا من خير فللفقراء. وإنما تنفقون لأنفسكم. وقيل: معناها الصدقات التي سبق
ذكرها. وقيل: خبر محذوف تقديره: للفقراء الذين صفتهم كذا حق واجب وهم للفقراء المهاجرين (1)(2) ورجح العكبري أنها في موضع رفع خبر ابتداء محذوف تقديره: الصدقات المذكورة للفقراء وقيل التقدير: أعطوا للفقراء (3)
فـ (للفقراء) متعلق بتنفقون الأخير، وتعلقه به يؤذن بتعلق معناه بنظائره المقدمة، فما من نفقة ذكرت آنفا إلا وهي للفقراء، لأن الجمل قد عضد بعضها بعضا (4)
الفقراء: جمع فقير وهو المعدوم وذلك لاشتقاق الكلمة من الفقر الموافق لكلمة القفر وهو: الأرض الخالية.
" وهؤلاء هم فقراء المهاجرين، كانوا نحواً من أربعمائة رجل؛ لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر، وكانو في المسجد يتعلمون القرآن ويرضخون النوى بالنهار، وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أصحاب الصفة (5) فحث الله تعالى عليهم الناس فكان من عنده فضل
(1) تفسير البغوي 3/ 259.
(2)
تفسير البغوي 3/ 259. ') ">
(3)
التبيان في إعراب القرآن/العكبري1/ 184. ') ">
(4)
التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 74. ') ">
(5)
الصفة من البنيان شبه البهو الواسع الطويل السمك، وهو موضع مظلل من المسجد كان يأوي إليه المساكين، وهو موضع بناه النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي بالمدينة كالرواق ليأوي إليه فقراء المهاجرين (اللسان 9/ 195).
أتاهم به إذا أمسى (1)
وقد خص فقراء المهاجرين بالذكر؛ لأنه لم يكن هناك سواهم لأن الأنصار كانوا أهل أموال وتجارة في قطرهم. وقال الفقيه أبو محمد ابن عطية: والآية تتناول كل من دخل تحت صفة الفقر غابر الدهر (2)
{الَّذِينَ أُحْصِرُوا} روى الزهري عن يونس أنه قال: إذا رُد الرجل عن وجه يريده فقد أحصر، وإذا حبس فقد حُصِر. أبو عبيدة: حصر الرجل في الحبس، وأحصر في السفر من مرض أو انقطاع به وقال ابن السكيت: يقال أحصره المرض إذا منعه من السفر أو من حاجة يريدها، وأحصره العدو إذا ضيق عليه. الجوهري: حصره العدو يحصرونه إذا ضيقوا عليه وأحاطوا به. وقال أبو إسحاق النحوي: الذي يمنعه الخوف والمرض أحصر، ويقال للمحبوس: حُصِر (3)
(1) تفسير البغوي 3/ 259. ') ">
(2)
المحرر الوجيز/ابن عطية/2/ 337 (بتصرف بسيط). ') ">
(3)
لسان العرب/ابن منظور 4/ 195. ') ">
(أحصروا) أي منعوا؛ لأن الإحصار بمعنى المنع، وذلك مثل قوله - تعالى - {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أي: منعتم عن الحج إتمام الحج والعمرة.
" و (أحصروا) حبسوا ومنعوا. قال قتادة وابن زيد: حبسوا أنفسهم عن التصرف في معايشهم خوف العدو. "(1) وخلاصة قول العلماء في بيان من هم الفقراء الذين أحصروا:
- قال ابن عباس، ومقاتل، ومحمد بن كعب القرظي: هم أهل الصفة حبسوا أنفسهم على طاعة الله ولم يكن لهم شيء وكانوا نحو أربعمائة.
وقال مجاهد: هم فقراء المهاجرين من قريش، ثم يتناول من كان بالصفة.
وقال سعيد بن جبير: هم قوم اصابتهم جراحات مع النبي صلى الله عليه وسلم فصاروا زَمْنَى (2)
(1) الجامع لأحكام القرآن/القرطبي 3/ 340. ') ">
(2)
زمنى: زمن يزمن زمنا وزمنة فهو زمن، والجمع زمنون. وزمني. فهو جنس للبلايا التي يصابون بها ويدخلون فيها وهم لها كارهون، على وزن جريح وجرحى (لسان العرب 13/ 199).
وقال الكسائي: أحصروا من المرض، ولو أراد الحبس من العدو لقال: حصروا.
وقال السدي: أحصروا من خوف الكفار إذ أحاطوا بهم.
وقال قتادة: حبسوا أنفسهم للغزو، ومنعهم الفقر من الغزو.
وقال محمد بن الفضل: منعهم علو همتهم عن رفع حاجتهم إلا إلى الله.
وقيل معناه: من كثرة ما جاهدوا صارت الأرض كلها حربا لهم، فلا يستطيعون ضربا في الأرض من كثرة أعدائهم (1)
وجملة: (الذين أحصروا) صفة.
{فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (في) للسببية، أو للظرفية، أو للتعليل.
فإن كانت في قوم جرحوا في سبيل الله فصاروا زمنى فهي للسببية. وإن كانت في قوم بصدد القتال يحتاجون للمعونة فهي للظرفية. وإن كانت في أهل الصفة وهم فقراء المهاجرين، لأنهم قد عيقوا عن أعمالهم لأجل سبيل الله وهو الهجرة، فهي للتعليل (2)
إذاً هؤلاء الفقراء قد حصروا أنفسهم وقصروها على طاعة الله من
(1) ينظر: الدر المنثور/السيوطي 1/ 358، تفسير البغوي 3/ 259. ') ">
(2)
ينظر: التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 74. ') ">
جهاد وغيره، فهم مستعدون لذلك محبوسون له.
ويجوز أن يكون إعراب (في سبيل الله) حالاً؛ أي أحصروا مجاهدين (1)
{لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا} في هذه الجملة احتمالان:
الأول، وهو أظهرهما: أنها حال، وفي صاحبها وجهان: أحدهما أنه (الفقراء) وثانيهما: أنه مرفوع (أحصروا).
الثاني: أن تكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
{ضَرْبًا} مفعول به.
والضرب السفر للتجارة أو نحوه.
قال ابن كثير رحمه الله:
يعني سفرا للتسبب في طلب المعاش والضرب في الأرض هو السفر قال - تعالى -: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ}
وقال: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أ. هـ. (2)
(1) التبيان في إعراب القرآن/العكبري1/ 184. ') ">
(2)
تفسير ابن كثير 1/ 324. ') ">
إذاً هم لا يستطيعون سفرا يبتغون به الرزق لأنهم إما مشغولون بالجهاد أو عاجزون عن السفر بسبب ما أصابهم من جراحات ونحو ذلك وذلك أن من شأن التاجر أن يسافر ليبتاع ويبيع فهو يضرب الأرض.
{يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ}
{يَحْسَبُهُمُ} حال، ويجوز أن يكون مستأنفا لا موضوع له (1) فيها قراءتان (2)
{يَحْسَبُهُمُ} قراءة ابن عامر، وعاصم، وحمزة، وأبي جعفر وهي لغة تميم.
(يَحْسِبُهُمُ) الباقون وهم أبو عمرو، والكسائي، ونافع، وابن كثير. وهي لغة الحجاز.
{الْجَاهِلُ} اسم جنس لا يراد به واحد بعينه (3) وهو فاعل، فيحسبهم، الجاهل بحالهم ليسوا فقراء والضمير في (يحسبهم) مفعول (يحسب) الأول، و (أغنياء) مفعول ثانٍ.
(1) التبيان في إعراب القرآن/العكبري1/ 184. ') ">
(2)
المهذب 1/ 107، النشر 2/ 236، السبعة 191، المبسوط (557). ') ">
(3)
الدر المصون 1/ 655. ') ">
{مِنَ التَّعَفُّفِ} (من): قيل إنها سببية: أي سبب حسبانهم أغنياء تعففهم، فهو مفعول من أجله.
وقيل: إنها لابتداء الغاية، والمعنى أن محسبة الجاهل غناهم نشأت من تعففهم، لأنه لا يحسب غناهم غنى تعفف إنما يحسبه غنى مال.
وقيل: إنها لبيان الجنس - وإليه نحا ابن عطية - وقال: يكون التعفف داخلا في المحسبة، فهم لا يظهر لهم سؤال، فالجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عنه (1)
(التعفف) عف يعف عفة واستعف: أي عف، وتعفف: أي تكلف العفة، وعف واعتف: من العفة (2)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
وقول من قال: إن تعفف تكلف العفة، ليس بصواب. بل الصواب أن التاء هنا للمبالغة وليست للتكلف والطلب بل المعنى أنك تحسبهم أغنياء؛ لكمال عفتهم فلا يسألون الناس (3)
(1) الدر المصون 1/ 655. ') ">
(2)
لسان العرب/ابن منظور 9/ 253. ') ">
(3)
شريط مسجل للشيخ رحمه الله. ') ">
فالجاهل بحالهم لتعففهم يحسبهم أغنياء وفي هذا المعنى جاء الحديث المتفق على صحته. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن به فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس» (1)، وفي رواية «إنما المسكين المتعفف اقرؤوا إن شئتم {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}» (2)
{تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ}
الأمر الأول: أن الذي ينظر إليهم يحسبهم أغنياء بحسب ظاهر حالهم.
أما المعرفة بالسيما فهذه تحتاج إلى النظر والتدقيق.
{تَعْرِفُهُمْ} يجوز أن يكون حالا، وأن يكون مستأنفاً (3)
(1) صحيح البخاري تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ (4539)، صحيح مسلم الزَّكَاةِ (1039)، سنن النسائي الزَّكَاةِ (2571)، سنن أبي داود الزَّكَاةِ (1631)، مسند أحمد (2/ 260)، موطأ مالك الْجَامِعِ (1713)، سنن الدارمي الزَّكَاةِ (1615).
(2)
صحيح البخاري 3/ 340 في الزكاة، باب قوله - تعالى -:(لا يسألون الناس إلحافا)، وفي تفسير سورة البقرة، باب (لا يسألون الناس إلحافا)، ومسلم 3/ 95 في الزكاة، باب المسكين الذي لا يجد غنى ولا يفطن له فيتصدق عليه، والموطأ 2/ 923 في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في المساكين، وأبو داود 2/ 116 في الزكاة، باب من يعطي من الصدقة وحد الغني بنحوه ولكن بدون ذكر الآية، والنسائي 5/ 85 في الزكاة باب تفسير المسكين.
(3)
التبيان في إعراب القرآن/العكبري1/ 184. ') ">
{بِسِيمَاهُمْ} السيما: العلامة.
مشتقة من سام الذي هو مقلوب وسم بمعنى السمة نقلت الفاء إلى موضع العين وقلبت ياء لوقوعها بعد كسرة. والوسم أثر الكي ويقولون: سيمى بالقصر وسيماء بالمد (1) أي: تعرفهم بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم، كما قال تعالى:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} ، وقال:{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} ، وفي الحديث الذي في السنن «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» (2) ثم قرأ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} . " (3)
" واختلفوا في معناها ههنا، فقال مجاهد: هي التخشع والتواضع،
(1) ينظر لسان العرب 12/ 635 - 636، فتح القدير/الشوكاني 1/ 293. ') ">
(2)
رواه الترمذي (3125) في التفسير، باب ومن سورة الحجر، وفي سنده عطية العوفي، وهو ضعيف (جامع الأصول 2/ 206) وأورده السيوطي في الدر المنثور 4/ 103 وزاد نسبته لابن جرير وابن أبي حاتم والبخاري في التاريخ وابن السني وأبي نعيم معا في الطب وابن مردويه والخطيب وضعفه الكناني في تنزيه الشريعة 2/ 350 والصاغاني في الموضوعات ص74.
(3)
تفسير ابن كثير 1/ 324. ') ">
وقال السدي: أثر الجهد من الحاجة والفقر، وقال الضحاك: صفرة ألوانهم من الجوع والضر، وقيل: رثاثة ثيابهم " (1)
وقال قوم، وحكاه مكي: هي أثر السجود.
قال ابن عطية رحمه الله: وهذا حسن؛ لأنهم كانوا متفرغين متوكلين لا شغل لهم في الأغلب إلا الصلاة، فكان أثر السجود عليهم أبدا (2) ولكن هذه السيما التي هي أثر السجود اشترك فيها جميع الصحابة - رضوان الله عليهم - بإخبار الله تعالى بقوله:
{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} . فلا فرق بينهم وبين غيرهم، فلم يبق إلا أن تكون السيماء أثر الخصاصة والحاجة (3)
فالإنسان العارف الفطن يعرفهم من علامات البؤس والفقر التي تبدو عليهم، مهما تعففوا وابتعدوا عن أخذ الصدقات. والسيما التي لا تتعين بهيئة خاصة إنما حسب فراسة المؤمن.
{لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}
السؤال لا ينبغي إلا لذي حاجة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه
(1) تفسير البغوي 3/ 259. ') ">
(2)
المحرر الوجيز/ابن عطية 2/ 339 - 340. ') ">
(3)
الجامع لأحكام القرآن/القرطبي 3/ 342. ') ">
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سأل الناس أموالهم تكثرا، فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر» (1)
(1) أخرجه مسلم 3/ 96 في الزكاة، باب كراهية المسألة للناس.
(2)
الموطأ 2/ 999 في الصدقة، باب ما جاء في التعفف عن المسألة، أبو داود 2/ 116 في الزكاة باب من يعطي الصدقة وحد الغني، النسائي 5/ 98 - 99 في الزكاة، باب إذا لم يكن له دراهم وكان له عدلها. قال محقق جامع الأصول: هو حديث صحيح، وقال الزرقاني في شرح الموطأ: وإبهام الصحابي لا يضر، لعدالة جميعهم، فالحديث صحيح، وقد نص على ذلك أحمد وغيره (جامع الأصول 10/ 154)(صحيح سنن أبي داود 1433)، صحيح سنن النسائي (3433) الموسوعة الحديثة مسند الإمام أحمد 28/ 473 رقم (17237) قال محقق الكتاب: إسناد صحيح على شرط مسلم، وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (490) وفي شرح معاني الآثار 4/ 372. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 95 وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم» (1) فهؤلاء المذكورون في الآية مستغنون عن المسألة من أجل تعففهم.
{النَّاسَ} قد يكون من الإنس، وأصله أناس فخفف ولم يجعلوا الألف واللام فيه عوضا من الهمزة المحذوفة؛ لأنه لو كان كذلك لما اجتمع مع المعوض منه. وناس الشيء ينوس نوسا ونوسانا: تحرك وتذبذب متدليا (2) وقيل أصله من نسي، فأصل ناس
(1) البخاري 3/ 338 في الزكاة، باب من سأل الناس تكثرا، ومسلم 3/ 96 في الزكاة، باب كراهة المسألة للناس، والنسائي 5/ 94 في الزكاة، باب المسألة.
(2)
لسان العرب 6/ 245. ') ">
نسي قلب فصار نيس تحركت الياء فانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا، ثم دخلت الألف واللام فقيل: الناس وقيل سمي إنسانا لأنسه بحواء، وقيل لأنسه بربه فالهمزة أصلية (1) {إِلْحَافًا} الإلحاف: شدة الإلحاح في المسألة، وألحف السائل: ألح، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: كان يلحف شاربه أي يبالغ في قصه. ومعنى ألحف: أي شمل بالمسألة وهو مستغن عنها. واللحاف من هذا اشتقاقه؛ لأنه يشمل الإنسان في التغطية (2)
والإلحاف: الإلحاح واللجاج في المسألة. واللزوم وألا يفارق إلا بشيء يأخذه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن به فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس إنما المسكين المتعفف اقرؤوا إن شئتم {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}» (3)
(1) الجامع لأحكام القرآن/القرطبي 1/ 192. ') ">
(2)
لسان العرب 6/ 314 - 315. ') ">
(3)
ينظر صفحة 223.
قال ابن حجر رحمه الله:
وهل المراد نفي المسألة فلا يسألون أصلا، أو نفي السؤال بالإلحاف خاصة فلا ينتفي السؤال بغير إلحاف فيه احتمال، والثاني أكثر استعمالا. ويحتمل أن يكون المراد لو سألوا لم يسألوا إلحافا فلا يستلزم الوقوع (1) أ. هـ.
" إذا هل النفي للقيد أو المقيد؟
مقتضى ظاهر اللفظ أنه نفي للقيد، يعني لا يسألون الناس سؤال إلحاف (ولكن يسألونهم سؤال تلطف وحياء وخجل. إذا رده المسؤول مرة لم يعد إليه مرة أخرى. لكن مقتضى السياق - وأن المقام مقام ثناء - أن النفي نفي للقيد الذي هو الإلحاف والمقيد الذي هو: السؤال، فهم لا يسألون الناس إلحافا، ولا غير إلحاف بدليل قوله:{يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} ولو كانوا يسألون ما حسبهم الجاهل أغنياء، بل لظنهم فقراء بسبب سؤالهم، فعليه يكون النفي عن القيد والمقيد. وقد تأوله الطبري والزجاج والزمخشري، بأن المقصود نفي السؤال، ونفي الإلحاف معا (2) وفي
(1) فتح الباري/ابن حجر 8/ 203. ') ">
(2)
ينظر المحرر الوجيز/ابن عطية 2/ 340، الكشاف/الزمخشري 1/ 346، التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 76، شريط للشيخ ابن عثيمين - يرحمه الله -.
هذه الآية تعريض بالملحفين في السؤال.
وفي (إلحافا) ثلاثة أوجه (1)
1 -
أنه مفعول من أجله.
2 -
ويجوز أن يكون مصدرا لفعل محذوف دل عليه يسألون، فكأنه قال: لا يلحفون.
3 -
ويجوز أن مصدرا في موضع الحال، تقديره؛ لا يسألون ملحفين.
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} أعيد الحث على الإنفاق، فهذه المرة الرابعة. وهذا لا يراد به التكرار، بل لقد كان كل منها مقيدا بغير قيد الآخر.
فالأول: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ} ذكر أن الخير الذي يعمله مع غيره إنما هو لنفسه وعائد إليه جزاؤه.
والثاني: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} ذكر أن الإنفاق طلبا لوجه الله.
والثالث: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} ذكر أن ذلك الجزاء لناشيء عن الخير يوفاه كاملا من غير بخس ولا نقص.
(1) التبيان في إعراب القرآن/العكبري1/ 185. ') ">
والرابع: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} ذكر أنه - تعالى - عليم بما ينفقه الإنسان من الخير مقداره، وكيفيته وجهاته المؤثرة في ترتيب الثواب.
وقد حصل بمجموع هذه المرات الأربع من التحريض ما أفاد شدة فضل الإنفاق بأنه نفع للمنفق، وصلة بينه وبين ربه، ونوال الجزاء من الله وأنه ثابت له في علم الله (1)
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} جملة شرطية، ختمت بها الآية حثا على الإنفاق؛ لأنه إذا كان الله – عز وجل عليما بأي خير تنفقه، فيجازي عليه، فلما كان الإنفاق مرغبا فيه من الله تعالى وكان علم الله بذلك مُسلَّماً به، تعين أن يكون الإخبار بأنه عليم بنية المنفق وامتثاله لأمر الله عز وجل وأن الله لا يضيع أجره بل يضاعفه له.
ويفيد أيضا عموم علم الله عز وجل لقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} فهذا عام، فأي خير ينفقه الإنسان يكون تحت علم الله، وعلمه - سبحانه - شامل لكل شيء.
وتقديم الظرف مراعاة للفواصل أو إيماء للمبالغة وتقديم كل
(1) التحرير والتنوير/3/ 77. ') ">
ما حقه التأخير يفيد الحصر.
الآية 274
لما حض على النفقة فأكثر وضرب فيها الأمثال، وأطنب في المقال،
ولم يعين لها وقتاً كان، كأن سائلا قال: في أي وقت تفعل؟ فبين في آية جامعة لأصناف الأموال، والأزمان، والأحوال أنها حسنة في كل وقت وعلى كل حال (1)(2)
وهذا مدح منه تعالى للمنفقين في سبيله وابتغاء مرضاته في جميع الأوقات من ليل أو نهار والأحوال من سر وجهر (3) وهي جملة مستأنفة تفيد تعميم الأموال.
{الَّذِينَ} مبتدأ {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} خبر المبتدأ.
ودخلت الفاء هنا لشبه (الذي) بالشرط في إبهامه ووصله بالفعل (4) والفاء دليل على سببية ما قبلها لما بعدها (5) أي أن
(1) نظم الدرر/البقاعي 1/ 529.
(2)
نظم الدرر/البقاعي 1/ 529. ') ">
(3)
تفسير ابن كثير 1/ 325. ') ">
(4)
التبيان في إعراب القرآن/العكبري1/ 185. ') ">
(5)
الفتوحات الإلهية/الجمل 1/ 226، وينظر تفسير البغوي 3/ 261. ') ">
حصول الأجر إنما كان بسبب الإنفاق.
قال ابن عطية رحمه الله:
وإنما يوجد الشبه إذا كان (الذي) موصولا بفعل، وإذا لم يدخل على (الذي) عامل يغير معناه (1) أ. هـ.
{أَمْوَالَهُمْ} يحتمل إرادة جميع المال ويحتمل إرادة الجنس.
{بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} عموم الزمن، {سِرًّا وَعَلانِيَةً} عموم الأحوال.
(بالليل) ظرف، والباء فيه بمعنى في (2)
{سِرًّا وَعَلانِيَةً} مصدران في موضع الحال (3) أو نعتان لمصدر محذوف أي إنفاقا سرا (4)
والسر الخفاء، والعلانية الجهر والظهور وقدم الليل على النهار، والسر على العلانية، لأن الصدقة تخفى فيهما والإخفاء أفضل. فقدم الوقت الذي كانت الصدقة فيه أفضل، والحال التي كانت فيها أفضل، فأفضلهم المنفق ليلا سرا، وأنزلهم المنفق نهارا علانية؛
(1) المحرر الوجيز/ابن عطية 2/ 344. ') ">
(2)
التبيان في إعراب القرآن/العكبري1/ 185. ') ">
(3)
التبيان في إعراب القرآن/العكبري1/ 185. ') ">
(4)
روح المعاني/الألوسي 3/ 48. ') ">
فهم بذلك أربعة أصناف. (1)
{فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} ثوابهم {عِنْدَ رَبِّهِمْ} مدخر عند الله.
{وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (ولا خوف) لا: نافية.
{وَلا هُمْ} لا: نافية.
فلا خوف فيما يستقبل. ولا هم ولا حزن فيما مضى.
ورفع خوف في نفي الجنس إذا لا يتوهم نفي الفرد لأن الخوف من المعاني التي هي أجناس محضة لا أفراد لها (2)
وذلك بسبب أنهم يرجون الثواب من الله الذي وعدهم إياه بسبب إخلاص النية لله عز وجل في إنفاقهم.
{فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}
أي: يوم القيامة على ما فعلوا من الإنفاق في الطاعات (3)
وفي هذا دليل على كثرة الثواب وذلك؛ لأنه - تعالى - أضافه إلى نفسه. ولا يخفى عظم الثواب عند الله لأن عظم المعطي وهو الله يستلزم عظم المعطى وهو الأجر.
(1) نظم الدرر/البقاعي 1/ 530. ') ">
(2)
التحرير والتنوير/ابن عاشور 3/ 78. ') ">
(3)
تفسير ابن كثير 1/ 326. ') ">