الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} ، وقوله:{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} .
ومن السنة:
3 -
ما رواه أنس رضي الله عنه قال: «ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو» (1).
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعفو من القصاص دال على مشروعيته، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بمشروع.
ولا يقتصر الأمر على مشروعية العفو عن القصاص، بل إنه يستحب وتسوغ الشفاعة فيه. كما دل عليه الحديث آنف الذكر، ما لم يحصل من العفو ضرر على العافي أو غيره فلا يشرع العفو (2)
(1) أخرجه أبو داود واللفظ له 4/ 169، كتاب الديات، باب الإمام يأمر بالعفو في الدم، والنسائي 8/ 38، وابن ماجه 2/ 898، كتاب الديات، باب العفو في القصاص، وأحمد 3/ 213.
(2)
حاشية المقنع 3/ 361.
المبحث الثاني
صلح بعض أولياء الدم عن القصاص بأكثر من حصته من الدية
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: عفو بعض أولياء الدم عن القصاص،
وسقوطه على بقيتهم بذلك.
المطلب الثاني: صلح بعض أولياء الدم عن حقه من القصاص بأكثر من حصته من الدية.
المطلب الأول
عفو بعض أولياء الدم عن القصاص، وسقوطه على بقيتهم بذلك الدم موروث عن المجني عليه لورثته وهم أولياء الدم، فإذا عفا أولياء الدم جميعا عن القاتل سقط القصاص - كما سبق - (1)(2) فإن عفا بعضهم فهل يسقط القصاص؟
اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن عفو بعض أولياء الجاني مسقط للقصاص مطلقا سواء أكان العافي زوجا أو زوجة، رجلا أم امرأة، مساويا للعافي في القرب من القتيل أم لا.
وهذا مذهب الحنفية (3) والشافعية (4) والحنابلة (5) ورواية عند
(1) انظر: المطلب الثاني من المبحث الأول.
(2)
انظر: المطلب الثاني من المبحث الأول. ') ">
(3)
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 7/ 247، المبسوط 26/ 158. ') ">
(4)
الأم 6/ 13، 14، المهذب في فقه الإمام الشافعي 2/ 189، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 7/ 309 - 310. ') ">
(5)
المغني 11/ 581، كشاف القناع عن متن الإقناع 5/ 534. ') ">
مالك (1).
واستدل أصحاب هذا القول بالآتي:
1 -
قول الله - تعالى -: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178].
فالمراد بالعفو إسقاط القصاص، و {شَيْءٌ} نكرة تعم أي شيء قل أو كثر، فإن العفو عن البعض من القصاص كالعفو عنه كله يسقط به القصاص (2)
2 -
ما رواه قتادة: «أن عمر بن الخطاب رفع إليه رجل قتل رجلا، فجاء أولاد المقتول وقد عفا أحدهم، فقال عمر لابن مسعود وهو إلى جنبه: ما تقول؟ فقال ابن مسعود: أقول له: قد أحرز من القتل، قال: فضرب على كتفه وقال: كُنَيِّفٌ (3) ملئ علما» (4) فقد رأى ابن مسعود رضي الله عنه سقوط القصاص بتنازل
(1) المنتقى شرح الموطأ 7/ 125. ') ">
(2)
التفسير الكبير 5/ 53 - 54، العناية على الهداية 8/ 275. ') ">
(3)
الكنيف: تصغير كِنف - بكسر الكاف -: وهو وعاء أداة الراعي، وتصغيره للتعظيم. [النهاية في غريب الحديث والأثر 814، مختار الصحاح 580].
(4)
أخرجه الطبراني في الكبير واللفظ له 9/ 349، وعبد الرزاق 10/ 13، كتاب العقول، باب العفو، وابن أبي شيبة 5/ 418.
بعض الورثة، ووافقه عمر رضي الله عنه (1)
3 -
أن القصاص يدرأ بالشبهة كالحد، وسقوط بعضه بتنازل بعض الورثة يوجب سرايته على النفس كلها مراعاة لحرمة النفس (2)
4 -
أن القصاص لا يتجزأ، فإذا سقط بعضه سقط كله ضرورة (3)
القول الثاني: أن العفو عن القصاص لأي من الرجال إذا تساووا في الدرجة للميت، فإن كانوا رجالا ونساء متساويين في الدرجة فلا عبرة بتنازل النساء، فإن كن نساء متساويات في الدرجة فلا عبرة بعفو إحداهن إلا إذا أقره الحاكم، وإذا كان النساء أعلى درجة من الرجال وثبت القتل بالإقرار أو الشهادة وحُزْنَ الميراث فالعفو للنساء، وان ثبت القصاص بالقسامة أو لم يَحُزْنَ الميراث فلا عفو عن القصاص إلا بإجماع الفريقين، أو باتفاق بعض هؤلاء وبعض هؤلاء.
وبهذا التفصيل قال المالكية (4)
(1) المبسوط 26/ 158. ') ">
(2)
المبسوط 26/ 158 كشاف القناع عن متن الإقناع 5/ 534. ') ">
(3)
المغني 11/ 582. ') ">
(4)
عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة 3/ 253 بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2/ 402 - 403، الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام 2/ 278 - 279.
واستدلوا بما يلي:
1 -
قوله - تعالى -: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33].
ووجه الاستدلال: أن الولي في الآية جاء بلفظ التذكير، فوجب أن يكون ذكرا، فلا يصح العفو من النساء (1)
2 -
أن المرأة ليست من أصحاب الولاية في أمور كثيرة، كالنكاح، والقضاء، فلم يكن لها ولاية في القصاص (2)
3 -
أن ولاية الدم مستحقة بالنصرة، وليس النساء من أهل النصرة، فلا مدخل لهن في الولاية المستحقة بها (3).
القول الثالث: أن العفو مستحق لجميع الورثة ولا ينفرد به أحدهم ولا يسقط بإسقاطه، والمُطَالِب بالقصاص مقدم على العافي عنه. .
وهذا مذهب ابن حزم (4) وبعض فقهاء المدينة (5) ومروي عن
(1) الجامع لأحكام القرآن 10/ 254. ') ">
(2)
القصاص في النفس 163. ') ">
(3)
المنتقى شرح الموطأ 7/ 125. ') ">
(4)
المحلى 10/ 481 - 482. ') ">
(5)
المغني 11/ 581. ') ">
مالك (1).
واستدلوا بما يأتي:
1 -
قول الله - تعالى -: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].
ومعنى الآية: أن الإنسان لا يتصرف إلا في حقه، وتصرف غيره في حقه لا ينفذ عليه، وبالتالي فإن عفو أحد أولياء الدم لا يلزم باقيهم، وهذا استدلال ابن حزم ووجهه (2)
2 -
أن حق غير العافي لم يرض بإسقاطه، فلا يسقط (3)
3 -
أن القصاص يثبت في النفس ببعضها. كما في قتل الجماعة بالواحد، وههنا لا يسقط حق الجماعة بالواحد
الرأي الراجح:
الذي يظهر لي رجحان القول الأول، وهو مذهب الجمهور بأن للواحد من أولياء الدم التنازل عن حقه في القصاص، ويسقط القصاص جميعه عن الجاني بهذا التنازل؛ وذلك لقوة ما احتج به
(1) المغني 11/ 581، قال ابن قدامة: ** وقيل: هو رواية عن مالك **. ') ">
(2)
المحلى 10/ 282. ') ">
(3)
المغني 11/ 581. ') ">
أصحاب هذا القول، وما استدل به أصحاب القول الثاني والثالث من أدلة لا تعارض أدلة القول الأول، وبيان ذلك حسب الآتي:
1 -
أن ما استدل به أصحاب القول الثاني من الآية {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] لا يسلم لهم؛ لأن المراد بالولاية هنا: مطلق الولاية، فيشمل ذلك الذكر والأنثى، ولا يختص بالذكر دونها، فالأنثى ولية للدم كالرجل.
كما أن نفي الولاية عن المرأة في القضاء والنكاح أو غيرهما لا ينفي عنها ولاية الدم الثابتة بأدلة أخرى مما ذكر في القول الأول.
كما أن ولاية الدم مستحقة بالإرث وليس بمجرد النصرة.
2 -
كما أن ما استدل به ابن حزم من أصحاب القول الثالث من الآية: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] لا حجة له فيه؛ لأن هذه الآية عامة، وما استدل به أصحاب القول الأول خاص، والخاص مقدم على العام.
واستدلالهم بأن غير العافي لم يرض بإسقاط حقه، فإن هذا مما لا يلتفت إلى رضاه فيه، بل دلت النصوص التي استدل بها أصحاب القول الأول على سقوطه من غير اشتراط الرضا منهم.
وهكذا ما استدلوا به من قتل الجماعة بالواحد يختلف مدركه عن إسقاط العافي لحق الجماعة، فقتل الجماعة بالواحد وجب سدا