الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسباب فساد العقود، ذكرناها بإيجاز؛ لبيان طبيعة العقد الفاسد، الذي هو محور بحثنا.
المطلب الثالث
حكم تعاطي العقد الفاسد
رغم أن العقد الفاسد منعقد، إلا أنه محرم؛ لأنه معصية كالمغصوب.
- قال ابن عابدين (ت: 1252 هـ): (إذا كان السلم فاسدًا، يجب على المسلّم إليه رد المال؛ لأنه في يده كالمغصوب، والمغصوب يجب ردّه)(1)(2)
- وقال الحطّاب (ت: 954 هـ): (وأما إذا لم يتغير المبيع بيعًا فاسدًا، وبقي على حاله، فالانتفاع به حرام، والإقدام على بيعها (3) لمشتريها شراءً فاسدًا لا يجوز، وشراؤها لمن علم بفسادها وعقدها وعدم تغير معصية) (4)
- وقال القاضي زكريا (ت: 926 هـ): (وحيث فسد، أي المبيع، لفقد شرط، أو لشرط فاسد، مع قبض مشترٍ للمبيع، ولو بإذن البائع،
(1) العقود الدرية (1/ 276).
(2)
العقود الدرية (1/ 276). ') ">
(3)
أي: الأمة، أو السلعة على العموم. ') ">
(4)
مواهب الجليل (4/ 381). ') ">
فكالغصب، بمعنى المغصوب، ولأنه مخاطب كل لحظة برده) (1)
- وقال المرداوي (ت: 885 هـ): (يحرم تعاطيهما عقدًا فاسدًا)(2)
فالفقهاء متفقون على أن تعاطي العقد الفاسد حرام، وهو كالمغصوب، لا يحلّ الانتفاع به، والمطلوب الفسخ والردّ.
والحديث عن حكم الفسخ ورد المبيع، يتناول النقاط التالية:
حكم الفسخ والرد، من له سلطة الفسخ، موانع الرد، الإفاتة عند المالكية.
أولاً: حكم الفسخ ورد المبيع:
اتفقت كلمة الفقهاء على وجوب فسخ العقد الفاسد، ورد المبيع إلى صاحبه؛ لأن الإبقاء عليه محرم، وهذا ما يظهر من نصوصهم: - قال علي حيدر: (فالواجب على كل من المتعاقدين فسخ البيع الفاسد لإزالة الفساد؛ لأن البيع الفاسد معصية)(3)
- وقال عليش (ت: 1299 هـ): (قال ابن رشد: هذا الشرط من الشروط التي يفسد بها البيع، ولأنه غرر، فالحكم فيه الفسخ مع قيام
(1) الغرر البهية (2/ 435). ') ">
(2)
الإنصاف (4/ 473). ') ">
(3)
درر الحكام (1/ 396)، والمادة (372) من مجلة الأحكام العدلية. ') ">
السلعة، شاءا أو أبيا) (1)
- وقال الرملي (ت: 1004 هـ): (قال شيخنا: وذكر في البيع أنه لو اشترى شراءً فاسدًا، فعليه رده)(2) ونحو ذلك قاله البهوتي (3)
فالفقهاء متفقون على وجوب فسخ العقد الفاسد ورد المبيع، إلى صاحبه بلا مخالف.
ثانيًا: من له سلطة الفسخ:
يرى الحنفية أن كل واحدٍ من المتعاقدين يملك الفسخ من غير رضا الآخر، إن كان قبل القبض، كيف ما كان الفساد؛ لأن البيع الفاسد لا يفيد الملك قبل القبض، فكان الفسخ قبل القبض بمنزلة الامتناع عن الإيجاب والقبول، فيملكها كل واحد منهما، كالفسخ بخيار شرط العاقدين.
وأما إن كان بعد القبض، ففي المسألة تفصيل:
- إن كان الفساد راجعًا إلى البدل، فحكمه حكم ما كان قبل القبض، فلكلٍ من المتعاقدين فسخه؛ لأن الفساد الراجع إلى البدل فساد في صلب العقد، وهو فساد قويّ، يسلب اللزوم بحق العاقدين.
(1) فتح العلي المالك (1/ 342). ') ">
(2)
حاشية الرملي على أسنى المطالب (2/ 433). ') ">
(3)
شرح منتهى الإرادات (2/ 320). ') ">
- وإن لم يكن الفساد راجعًا إلى البدل، فولاية الفسخ تكون لصاحب الشرط؛ لأنه هو القادر على تصحيح العقد بحذف الشرط، ولو ساغ للآخر الفسخ لأبطل حقه في التصحيح (1)
قال المرغيناني (ت: 593 هـ): (ولكل واحد من المتعاقدين فسخه، رفعًا للفساد، وهذا قبل القبض ظاهر؛ لأنه لم يفد حكمه ليكون الفسخ امتناعًا منه، وكذا بعد القبض، إذا كان الفساد في صلب العقد لقوته، وإن كان الفساد بشرط زائد، فلمن له الشرط ذلك، دون مَنْ عليه؛ لقوة العقد)(2)
ثالثًا: موانع الردّ:
رغم أن المقبوض فاسدًا واجب الرد، إلا أن ثمة موانع تحول دون ذلك، وبالتالي يأخذ حكمه، وهي:
1 -
هلاك المقبوض أو تغيّر حاله:
فمن شروط رد المبيع أن يبقى على حاله، يوم قبضه المشتري من البائع، لكن إذا هلك المبيع عند المشتري، أو استهلكه، أو غيّر شكله تغييرًا يتبدل به اسمه، كما لو كان قمحًا فطحنه، أو كان دقيقًا فخبزه، أو أحدث فيه زيادة، كما لو كان المبيع دارًا فعمّرها، أو أرضًا فغرس فيها
(1) بدائع الصنائع (5/ 300)، والمدخل الفقهي (2/ 704). ') ">
(2)
الهداية مع العناية (6/ 465). ') ">
شجرًا، ونحو ذلك (1) وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، أما عند الصاحبين، فإن ذلك لا يمنع الرد، قال السرخسي (ت: 483 هـ): (وإذا اشترى دارًا شراء فاسدًا وبناها، فللبائع قيمتها، وينقطع حقه في الاسترداد عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد لا ينقطع حقه في الاسترداد، ولكن يهدم بناء المشتري، فيرد الدار على البائع؛ لأنه بنى في بقعة غيره أحق بتملكها منه، فينقض بناءه للرد على صاحب الحق (2)
وامتناع الفسخ في جميع هذه الأحوال وأمثالها، يترتب عليه أن تستقر الملكية (3) أو الحكم الذي ثبت بتنفيذ العقد الفاسد.
2 -
تعلق حق الآخرين:
إذا أدى فسخ العقد الفاسد إلى إبطال حقوق قد اكتسبها غيرُ المتعاقدين في المعقود عليه، كان مانعًا شرعيًّا من الرد. وعلى هذا لو قبض المشتري المبيع في بيع فاسد حتى اعتبر مالكًا له بالقبض، ثم باعه، أو وهبه، أو رهنه بعقد صحيح، أو وقفه، امتنع فسخ البيع الأول، واستقر الحكم، الذي ثبت بتنفيذه.
وغاية الفقهاء من منع الفسخ رغم الفساد، عند حصول أحد هذين
(1) مجلة الأحكام العدلية، المادة (372). ') ">
(2)
المبسوط (4/ 148). ') ">
(3)
وهذا عند الحنفية خاصة؛ لأنهم يقولون: بأن المبيع بيعًا فاسدًا يُملك بالقبض، كما سيأتي الحديث عنه: ر: المبسوط (30/ 131)، وبدائع الصنائع (5/ 77).
الأمرين، إنما هو الحرص على استقرار التعامل، وصيانة الحقوق المكتسبة (1)
3 -
الإفاتة عند المالكية:
وهذا المصطلح، اختص به المالكية دون غيرهم، ويعنون بذلك تعذّر رد المبيع إلى صاحبه، ولأهمية هذا المعنى في القبض الفاسد، نفصل فيه الحديث (2) على النحو التالي:
أ- معنى الإفاتة:
الإفاتة لغة: من فوات الشيء، وهو ذهابه، وفاتني الأمر فَوْتًا وفواتًا: ذهب عني، وفاتت الصلاة: خرج وقتها (3)
واصطلاحًا: عرفها ابن عرفة (ت: 803 هـ) بقوله: (تغير المبيع بمعتبر فيه)(4) وبيّن الدردير (ت: 1201 هـ) شرط الفوات بقوله: (الفوات: يكون بتغيّر سوق غير المثلي، وأما المثلي، فلا يفوت بتغير سوقه، وهذا إذا لم يبع جزافًا، وإلا فيفوت بتغير سوقه، واللازم فيه
(1) المدخل الفقهي (2/ 703 - 704). ') ">
(2)
يبدو أن المذهب المالكي فصّل الحديث عن المسألة (موانع الرد) أكثر من غيره، ولذلك خصصنا الإفاتة بالدراسة المفصلة.
(3)
لسان العرب (2/ 69)، والمصباح المنير ص (249)(فوت). ') ">
(4)
شرح حدود ابن عرفة (1/ 376). ') ">
القيمة، وغير العقار، كالعروض والحيوان، وأما العقار: وهو الأرض وما اتصل بها من بناء وشجر، فلا تفوت بتغيّر سوقه، كالمثلي، ويُردُّ بعينه) (1)
فقد ظهر لنا أن الإفاتة مقصورة على العروض والحيوان، أما العقار والمثلي –إذا لم يبع جُزافًا- فلا تؤثر فيهما إفاتة الأسواق، ويُرَدُّ كل منهما بعينه.
فإذا تغير حال عروض التجارة والحيوان، بزيادة أو نقص – بشيء معتبر كما عبّر عنه ابن عرفة –فإنه يتعذر ردُّه إلى صاحبه، ويصار إلى القيمة، بخلاف العقار والمثلي، فالأول يرد بذاته، والثاني –مكيلاً أو موزونًا- يردّ مثله. قال الحطاب (ت: 954 هـ): (وإن كان على الوزن، لم يفت بحوالة الأسواق، وليردّه أو مثله)(2)
ب- ما تحصل به الإفاتة:
تحصل الإفاتة بالنسبة إلى العروض والحيوان بما يلي:
1 -
طول مكث الحيوان عند المشتري، وإن لم يتغير سوقه.
2 -
نقل المبيع بيعًا فاسدًا من مكان إلى آخر بكلفة.
3 -
تغيّر حال المبيع.
(1) الشرح الصغير (3/ 112). ') ">
(2)
مواهب الجليل (4/ 383). ') ">
قال الدردير (ت: 1201 هـ): (
…
وبطول زمان حيوان عند المشتري بعد قبضه، ولو لم يتغير سوقه ولا ذاته، والطول: كشهر، كما في المدونة .. ويحصل الفوات بالنقل، أي: بنقل المبيع فاسدًا من محل لمحل آخر بكلفة في الواقع، وإن لم يكن على ناقله كلفة، لحمله على دوابه بعبيده أو في سفينته
…
ويحصل الفوات بتغير الذات للمبيع فاسدًا بعيب، كعَوَر وعَرَج) (1)
4 -
الإفاتة بالبيع الصحيح:
فلو باع القابض فاسدًا المبيع لآخر بيعًا صحيحًا، فات رد الفاسد إلى بائعه الأول، قال الحطاب (ت: 954 هـ): (قال الفاكهاني: .. البيع الصحيح يفيت الفاسد، وليس المراد أن البيع الأول يمضي على ما هو عليه، فإن ذلك لا يقوله مالك، ولا أحد من أصحابه، ولكن المراد أن المبيع فات بحيث لا يُردّ على البائع، ويكون للبائع القيمة)(2)
لكن قيّد عليش (ت: 1299 هـ) صحة الإفاتة بالبيع الصحيح، بألا يقصد القابض فاسدًا ببيعه هذا الإفاتة، فإن قصدها، فسخ البيع الثاني وجوبًا مناقضةً لقصده، وبذلك قال: (ومحل كون بيع المشتري شراءً فاسدًا، ما اشتراه بيعًا صحيحًا بعد قبضه، أو قبله على الراجح فوتًا
(1) الشرح الصغير (3/ 112). ') ">
(2)
مواهب الجليل (4/ 381). ') ">
للبيع الفاسد: إذا لم يقصد ببيعه إفاتته، لا إن قصد المشتري بالبيع الصحيح بعد القبض أو قبله الإفاتة للبيع الفاسد، فلا يفيته، معاملةً له بنقيض قصده، ويفسخ وجوبًا، كمبيع فاسد، لم يحصل فيه ولا غيره من المفوّتات) (1)
ج- زوال المفيت:
فقد تبين لنا مما سبق، أن موانع ردّ غير المثلي: تغيّر قيمة المقبوض فاسدًا في الأسواق، وتغيّر حاله بنقصٍ أو زيادة، وبنقله إلى مكان آخر بكلفة، وطول مكث للحيوان خاصة عند المشتري، لكن لو زال السبب المفيت، فهل يُردّ المقبوض فاسدًا على صاحبه، تطبيقًا لقاعدة:(إذا زال المانع عاد الممنوع)(2)؟.
يبدو أنه يزول حكم الإفاتة، ويرد المقبوض فاسدًا إلى صاحبه، وهو الأصل. قال عليش (ت: 1299 هـ): (وإن حصل في المبيع فاسدًا مُفيتٌ، ووجبت قيمته أو مثله، دفع ذلك أم لا، ولم يحكم حاكم بعدم ردّه، ثم عاد المبيع لحاله، ارتفع، أي: زال الحكم الذي اقتضاه المفيت، وهو مضيُّ البيع ووجوب القيمة أو المثل، إن عاد المبيع لما كان عليه، فيكون بمنزلة ما لم يحصل فيه مفيت، ردّه لبائعه الأصلي، سواء
(1) منح الجليل (5/ 75). ') ">
(2)
القاعدة (23) من قواعد الزرقا، وهي المادة (24) من المجلة. ') ">
كان عوده باختياره، كشرائه بعد بيعه، أو بغيره كإرثه) (1)
ويلاحظ أن الردّ الحاصل بزوال المفيت مقيد بأمرين:
الأول: ألا يكون قد صدر حكم بعدم رده، وتملكه المشتري.
الثاني: أن يعود المبيع إلى ما كان عليه، وهو حالته الأصلية، قبل الإفاتة.
وعلى هذا المعنى نص الزرقا (الأب)(ت: 1357 هـ) بشرحه على القاعدة السابقة (إذا زال المانع عاد الممنوع) قائلاً: (ومنها: ما لو وهب عينًا لآخر، فزاد الموهوب له فيها زيادة متصلة، غير متولدة، حتى امتنع حق الرجوع، فإذا زالت تلك الزيادة عاد حق الرجوع)
فالخلاصة: أن زوال المفيت يوجب الرد؛ لأنه عودة للأصل، وهو عدم الإبقاء على القبض الفاسد المحرم.
(1) منح الجليل (5/ 76). ') ">