الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المثلي يوم قبضه؛ لأنه الأصل، وأما القيمي، فيضمنه بأقصى قيمة؛ لأنه قبض لا يقره الشرع، وهو مخاطب برده في كل لحظة، فكان عليه ضمان قيمته مهما بلغت حقًّا للمالك.
المطلب الثالث:
أثر القبض الفاسد في الأجور والمهور
والحديث عنه يتناول مسألتين: أثره في الأجر المسمى، وأثره في المهر المسمى، وقد جمعنا بين المسألتين في هذا المطلب، بجامع (الْمِثْل) الذي سيُصار إليه نتيجة للقبض الفاسد، فيكون أجر المثل ومهر المثل.
المسألة الأولى: أثر القبض الفاسد في الأجر المسمى:
إذا استوفى المستأجر منفعة العين المؤجرة في العقد الصحيح، استحق الأجر المسمى، أما في العقد الفاسد، فهل يستحق الأجر المسمى أم أجر المثل؟ يبدو أن في المسألة قولين:
الأول: أن له أجر المثل (1) وهو قول جمهور الفقهاء (الحنفية
(1) المثل لغة: الشبه والمساوي، والمكافئ في المقدار. مختار الصحاح ص (614)، ولسان العرب (11/ 610) (مثل). /50 وأجر المثل اصطلاحًا:(قيمة المنفعة في سوق العرض والطلب، عندما يكون حرًّا من أي قيد، وذلك عند فساد عقد الإجارة، والعقود الواردة على العمل). نظرية الأجور ص (277). /50 ووضع الرملي (ت: 1004 هـ) ضوابط لأجرة المثل فقال: (والعبرة في أجرة المثل في الفاسدة: بموضع إتلاف المنفعة نقدًا ووزنًا) نهاية المحتاج (5/ 266).
والمالكية والشافعية، ورواية عند الحنابلة).
ودليلهم: أنه إذا فسد العقد (1) فلا عبرة لما اتفق عليه من الأجرة، ولا يلتفت للمسمى، فيُصار إلى التعويض بأجر المثل.
- قال السرخسي (ت: 483 هـ): ( .. فبقيت المنفعة في تلك المدة مستوفاةً بعقد فاسد، فعليه ردّ بدلها، وهي أجر المثل)(2)(3)
- وقال الكاساني (ت: 587 هـ): (وأما الإجارة الفاسدة، وهي التي فاتها شرط من شروط الصحة، فحكمها الأصلي: هو ثبوت الملك للمؤاجر في أجر المثل، لا في المسمى، بمقابلة استيفاء المنافع المملوكة ملكًا فاسدًا؛ لأن المؤاجِر لم يرض باستيفاء المنافع إلا ببدل، ولا وجه إلى إيجاب المسمى، لفساد التسمية، فيجب أجر المثل)(4)
(1) ومن أسباب فساد عقد الإجارة: الخلل في الصيغة، أو عدم وجودها أصلًا، أو خلل في العاقد، كأن يكون معدوم الأهلية أو فاقدها، أو عدم ذكر الأجرة أو فسادها، أو جهالة العين المستأجرة. نظرية الأجور ص (381) وما بعدها.
(2)
المبسوط (15/ 138).
(3)
المبسوط (15/ 138). ') ">
(4)
بدائع الصنائع (4/ 218). ') ">
ثم بين رحمة الله تعالى، أن المعاوضات قائمة على المعادلة في التبادل، وأن أجر المثل هو الأصل، فإن فسد المسمى، وجب الرجوع إلى الأصل، وفي هذا المعنى يقول:(لأن الموجب الأصل في عقود المعاوضات هو القيمة؛ لأن مبناها على المعادلة، والقيمة هي العدل، إلا أنها مجهولة؛ لأنها تعرف بالحزر والظن، وتختلف باختلاف المقوّمين، فيعدل منها إلى المسمى عند صحة التسمية، فإذا فسدت وجب المصير إلى الموجب الأصل، وهو أجر المثل ههنا؛ لأنه قيمة المنافع المستوفاة)(1)
- وجاء في المدونة: (قلت: أرأيت إن اكتريت أرضًا أو دارًا كراءً فاسدًا، فلم أزرع الأرض، ولم أسكن الدار حتى مضت السنة، إلا أني قبضت ذلك من صاحبه، أيكون عليَّ الكراء لصاحبه أم لا في قول مالك؟ قال: يلزمك كراءُ مِثْلِ الدار، وكراءُ مِثْلِ الأرض عند مالك؛ لأنك حين قبضت ذلك لزمك الكراء وإن لم تزرع، وإن لم تسكن، وكذلك الدابة، إذا اكتريتها كراءً فاسدًا فاحتبستها)(2)
- وقال الشافعي (ت: 204 هـ): (وإن أكراه إياها على أن يزرعها، ولم يقل أرضًا بيضاء لا ماء لها، وهما يعلمان أنها لا تزرع إلا
(1) بدائع الصنائع (4/ 218). ') ">
(2)
المدونة (3/ 546). ') ">
بمطرٍ أو سيل يحدث، فالكراء فاسد في هذا كله، فإن زرعها فله ما زرع، وعليه أجر مثلها) (1)
- وقال ابن مفلح (ت: 763 هـ): (ولا أجرة ببذل عين في إجارة فاسدة، فإن تسلمها فأجر المثل، لتلف المنفعة بيده .. وفي الروضة: هل يجب المسمى في الإجارة (2) أم أجرة المثل وهي القيمة؟ فيه روايتان) (3)
القول الثاني: يجب الأجر المسمى في القبض الفاسد، وهو الصحيح عند الحنابلة. قال ابن مفلح (ت: 763 هـ): (وفي التعليق: يجب المسمى في نكاح فاسد، فيجب أن نقول في مثله في الإجارة)(4)
وقال المرداوي (ت: 885 هـ): (فإن فعل فعليه أجرة المثل، يعني: إذا فعل ما لا يجوز فعله، في زرعٍ وبناءٍ، وغرسٍ، وركوبٍ، وحملٍ، ونحوه، فقطع المصنف (5) أن عليه أجرة المثل، يعني للجميع، وهو اختيار أبي بكر، قاله القاضي، واختاره أيضًا ابن عقيل، والمصنف والشارح، وجزم به في العمدة، وشرح ابن منجا، وقدّمه في الفائق.
(1) الأم (4/ 16). ') ">
(2)
أي: الفاسدة، كما هو معلوم، إذ لا خلاف في وجوب المسمى في الإجارة الصحيحة. ') ">
(3)
الفروع (4/ 426). ') ">
(4)
المرجع السابق (4/ 426). ') ">
(5)
أي: الموفق ابن قدامة رحمه الله تعالى. ') ">
والصحيح من المذهب: أنه يلزمه المسمى) (1)
ومن استعراض القولين في المسألة، تبدو لنا رجاحة القول الأول (قول الجمهور) في أنه يلزم أجر المثل في قبض المنفعة في العقد الفاسد؛ لأنه الأصل العام والضابط في عقد الإجارة، فإذا فسدت يصار إليه، كما قال الكاساني (ت: 583 هـ): (فإذا فسدت، وجب المصير إلى الموجب الأصل، وهو أجر المثل ههنا)(2)
أما أصحاب القول الثاني، فيبدو أنهم خرّجوا المسألة على الدخول في النكاح الفاسد، وهو وجوب المهر المسمى، كما ذهب إليه صاحب التعليق، وفيه نظر، إذ لا ينهض أمام الضابط العام في الإجارة الفاسدة، وهو أنه يُصار إلى أجر المثل دون المسمى عند قبض المنفعة.
قال الزرقا (ت: 1420 هـ): (غير أن هذا الحكم الذي يثبت في العقد الفاسد عند تنفيذه، لا تثبت فيه الحقوق المتقابلة بحدودها التي حددها العقد، بل يردّ الفاسدُ هذه الحقوق المتقابلة إلى قواعدها الأصلية، التي توجب التعادل في التبادل؛ لأن الحدود الاتفاقية في العقد قد فسدت بفساده)(3)
(1) الإنصاف (6/ 51 - 52). ') ">
(2)
بدائع الصنائع (4/ 218). ') ">
(3)
المدخل الفقهي (2/ 699). ') ">
هذا عن آثار القبض في الإجارة الفاسدة، وينسحب عليها ما يجري مجراها في سائر العقود، التي يكون الأجر فيها أحد العوضين، كعقد الجعالة، والشركات، وعقود الاستثمار، من حيث إن قبض المنفعة فيها حال فسادها، ينقل الأجور من المسميات إلى المثليات (1) إنما قصرنا دراستنا على عقد الإجارة خاصة؛ لأنها أبرز هذه العقود، وهي من الأهمية بمكان دون غيرها في واقع الحياة.
المسألة الثانية: أثر الدخول الفاسد في المهر المسمى:
يعتبر الدخول بالمرأة (الوطء) في عقد النكاح بمثابة القبض في سائر العقود، فيثبت فيه المهر المسمى للمرأة كاملاً، ومثله الخلوة الصحيحة عند جمهور العلماء (2) خلافًا للشافعية (3) وهذا كله في النكاح الصحيح.
قال السرخسي (ت: 483 هـ): (
…
لأن أصل النكاح كان صحيحًا، فيتقرر المسمى بالتسليم: إما بالدخول أو الخلوة) (4) فلو طلقها قبل الدخول، كان لها نصف المهر، قال تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}
(1) نظرية الأجور ص (287). ') ">
(2)
المبسوط (5/ 26)، والدسوقي على الشرح الكبير (2/ 468)، والمنتقى (3/ 292)، والفروع (5/ 292). ') ">
(3)
الغرر البهية (4/ 183 - 184). ') ">
(4)
المبسوط (5/ 26). ') ">
أما في النكاح الفاسد، فليس للمرأة شيء إذا طلقت قبل الدخول، وحتى في الحلوة؛ لعدم استيفاء منافع البضع.
- قال الميرغناني (ت: 593 هـ): (وإن فرق القاضي بين الزوجين في النكاح الفاسد قبل الدخول فلا مهر لها؛ لأن المهر فيه لا يجب بمجرد العقد لفساده، وإنما يجب باستيفاء منافع البُضْع)(1)
- وقال القاضي زكريا (ت: 926 هـ): (وهذا بخلاف المهر في النكاح الفاسد، لا يجب إلا بالوطء، إذ اليد لا تثبت على منافع البضع)(2)
أما الدخول في النكاح الفاسد، فللعلماء في مسألة المهر قولان:
القول الأول: أن للمرأة مهر المثل (3) وهو قول جمهور الفقهاء
(1) الهداية مع العناية (3/ 363 - 384). ') ">
(2)
أسنى المطالب (2/ 432 - 433). ') ">
(3)
هو مهر مثيلاتها، قال /55 الهيتمي /55 (ت: 974 هـ): (/220 مهر المثل: ما يرغب به عادة في مثلها: نسبًا وصفة، وركنه الأعظم في النسيبة نسبٌ، ولو في العجم على الأوجه؛ لأن التفاخر إنما يقع به غالبًا، فتختلف الرغبات مطلقًا، فيراعى من أقاربها حتى تقاس عليها /220). تحفة المحتاج (7/ 397).
(الحنفية والمالكية والشافعية والحجّاوي من الحنابلة) ودليلهم: أن المهر الفاسد لا يجب بمجرد العقد لفساده، وإنما يجب مهر المثل مقابل استيفاء منافع البضع.
- قال النسفي (ت: 710 هـ): (وفي النكاح الفاسد: إنما يجب مهر المثل بالوطء؛ لأن المهر لا يجب بمجرد العقد لفساده، وإنما يجب باستيفاء منافع البُضع، وكذا بعد الخلوة)(1) أي: يجب بقبض المنفعة، ولا يجب بمجرد العقد ولا بالخلوة.
- وقال الخرشي (ت: 1101 هـ): (وكذلك يكون النكاح فاسدًا، إذا دخلا على إسقاط الصداق بالكلية، فيفسخ قبل الدخول، ويثبت بعده بصداق المثل)(2)
- وقال الرملي (ت: 1004 هـ): ( .. ثم إن كان قبل الدخول (3) فلا شيء لها، أو بعده، فلها مهر المثل) (4)
القول الثاني: أن للمرأة المهر المسمى بالدخول الفاسد، وهو مذهب جمهور الحنابلة. ودليلهم: ما ورد في بعض ألفاظ عائشة رضي الله عنها:
(1) كنز الدقائق مع البحر الرائق (3/ 181). ') ">
(2)
شرح الخرشي (3/ 262). ') ">
(3)
أي: في النكاح الفاسد. ') ">
(4)
نهاية المحتاج (6/ 272). ') ">
((ولها الذي أعطاها كما أصاب منها)) (1) وقالوا: إن الفاسد ينعقد ويترتب عليه أكثر أحكام الصحيح، من وقوع الطلاق، ولزوم عدة الوفاة، بخلاف تلف الفاسد، فإن فيه قيمته أو مثله لا ثمنه (2)
- قال الرحيباني (ت: 1243 هـ): (لأن المهر يجب بالعقد الفاسد .. وإن وطئ أو خلا بها استقر عليه المسمى)(3) وقال أيضًا: (لأن النكاح الفاسد يجب فيه بالدخول المسمى على المذهب، كالنكاح الصحيح، خلافًا له، أي: لصاحب الإقناع (4) فإنه قال هنا: فإن دخل بها فعليه مهر المثل، وإن كان فيه مسمى) (5)
ومن استعراض القولين وأدلتهما في المسألة، تبدو لنا رجاحة القول الأول (قول الجمهور) القائل بثبوت مهر المثل للمرأة بالدخول الفاسد؛ لأنه معاوضة، وقياسًا على البيع الفاسد، حيث يثبت فيه القيمة أو المثل، لا المسمى.
أما أدلة جمهور الحنابلة، ففيها نظر، فإن الحديث – على اعتبار
(1) لم أجد له تخريجًا، وعزا الرحيباني هذا الأثر للقاضي قائلًا:(قال القاضي: حدثنا أبو بكر البرقاني وأبو محمد بإسنادهما) مطالب أولي النهى (5/ 223).
(2)
المرجع السابق (5/ 223). ') ">
(3)
المرجع السابق (5/ 223). ') ">
(4)
موسى بن أحمد الحجاوي (ت: 968 هـ). ') ">
(5)
مطالب أولي النهى (5/ 128). ') ">
ثبوته، وهو حجتهم- لا يقطع بدلالته على المهر المسمى، فكما يصدق قول عائشة رضي الله عنها:((ولها الذي أعطاها)) على المسمى، فإنه يحتمل أن يراد به أيضًا مهر المثل، إذا ثبت بذمة الزوج لأمرٍ ما، ثم دخل بها، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، وكذلك فإن قياسهم العقد الفاسد، الذي اختلت بعض أركانه وشروطه على العقد الصحيح فيه نظر.
إلا أن جمهور الحنفية قيدوا (مهر المثل) بما لا يزيد على المسمى، خلافًا لزفر (ت: 158 هـ) وفي هذا يقول الميرغناني (ت: 593 هـ): (فإن دخل بها- أي في الفاسد- فلها مهر مثلها، لا يزاد على المسمى عندنا، خلافًا لزفر، هو يعتبره بالبيع الفاسد، ولنا: أن المستوفى ليس بمال، وإنما يُتقوّم بالتسمية، فإذا زادت على مهر المثل، لم تجب الزيادة على المسمى؛ لانعدام التسمية، بخلاف البيع، فإنه مال متقوّم في نفسه، فيُتقدر بدله بقيمته)
والخلاصة من هذا المطلب:
- أن القبض الفاسد في الإجارة، يبطل الأجر المسمى، ويثبت أجر المثل بمقابلة استيفاء المنافع، وهو قول جمهور الفقهاء، خلافًا للرواية الصحيحة عند الحنابلة، التي قيل بها بالأجر المسمى.
- وكذلك فإن الدخول بالنكاح الفاسد- وهو قبض لمنفعة البُضع- فإنه يوجب مهر المثل مقابل ذلك، ويبطل المهر المسمى، عند جمهور الفقهاء، خلافًا لجمهور الحنابلة، القائلين بأن لها المهر المسمى، استنادًا لحديث السيدة عائشة رضي الله عنها.
ويلاحظ أن قول الحنابلة في المسألتين متشابه، وهو قولهم بالأجر المسمى عند قبض المنفعة بعقد فاسد، وبالمهر المسمى عند الدخول بالنكاح الفاسد.