الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو تابعة لها، وبها يظهر كمال الأمة، وحسن أخلاقها (1) ويتضح كمال هذه الشريعة وسموّ تشريعاتها، وتحقيق المصالح فيها (2)
والمحافظة على هذه المقاصد يكون بأمرين:
أحدهما: المحافظة عليها من جانب الوجود: وذلك بحفظ ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها.
والثاني: المحافظة عليها من جانب العدم: وذلك بحفظها مما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها
(1) ينظر: الموافقات، للشاطبي 2/ 242، مقاصد الشريعة الإسلامية، لليوبي 335، علم مقاصد الشارع، للربيعة 138.
(2)
ينظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، لليوبي 328. ') ">
المطلب الثاني: الأدعية المأثورة ومقاصد الشريعة
.
توافرت نصوص الشريعة التي تؤكد أن الدعاء عبادة (1) قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} فالآية الكريمة تشير إلى أن الدعاء ((مأمور
(1) ينظر مزيد من هذه النصوص في: الدعاء، للطبراني 1/ 22، الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية، للعروسي 1/ 3.
به، إذا أتى به المكلف قُبل منه لا محالة، وترتب عليه المقصود ترتب الجزاء على الشرط والمسبَّب على السبب، وما كان كذلك كان أتم العبادة)) (1)(2)؛ والعبادة فيها معنى التذلل والخضوع لله سبحانه وتعالى (3) وهي تشمل كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، والداعي مقبل على الله تعالى، معرض عما سواه؛ مظهر الذلة والمسكنة والافتقار إلى الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الدعاء هو العبادة» (4) وتحقيق العبادة هو مقصد المقاصد، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} وباستقراء تكاليف الشريعة تبين دورانها على تحقيق المصالح للعباد ودفع المفاسد عنهم في الدنيا والآخرة؛ فهي تمنحهم في الدنيا السعادة وطمأنينة القلب ونحو ذلك، وفي الآخرة الجنة ورضوان الله تعالى (5) فـ ((الشارع وضع الشريعة على اعتبار المصالح باتفاق)) (6) فأحكام الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهي الضروريات والحاجيات
(1) فيض القدير، للمناوي 2/ 44.
(2)
فيض القدير، للمناوي 2/ 44. ') ">
(3)
ينظر: فيض القدير، للمناوي 3/ 540، عون المعبود، للعظيم آبادي 4/ 247. ') ">
(4)
أخرجه الترمذي في سننه، كتاب فضائل القرآن 5/ 211، رقم 2969، وقال:((هذا حديث حسن صحيح)).
(5)
ينظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، لليوبي 391. ') ">
(6)
الموافقات، للشاطبي 1/ 139. ') ">
والتحسينيات (1) وكل ما يحفظ هذه المقاصد فهو مصلحة، وكل ما يفوتها فهو مفسدة (2) وبالأدعية الشرعية ييسر الله للعباد مصالحهم في العاجل والآجل، ((فإذا كان كل خير فأصله التوفيق، وهو بيد الله لا بيد العبد، فمفتاحه الدعاء، والافتقار، وصدق اللجأ، والرغبة والرهبة إليه، فمتى أَعْطَى العبدَ هذا المفتاح فقد أراد أن يفتح له، ومتى أضله عن المفتاح بقي باب الخير مرتجًا دونه .. وما أُتِي من أُتِي إلا من قبل إضاعة الشكر وإهمال الافتقار والدعاء .. ولا ظَفِر من ظَفِر- بمشيئة الله وعونه- إلا بقيامه بالشكر وصدق الافتقار والدعاء)) (3) فالعباد محتاجون للشريعة؛ لأن فيها مصلحتهم، ومفتقرون إلى الله؛ ليطرحوا بين يديه بالدعاء، طالبين منه أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وأموالهم وعقولهم ونسلهم وأعراضهم، وهذه هي مقاصد الشريعة؛ فإن ((الشرع لا يعتبر من المقاصد إلا ما تعلق به غرض صحيح، محصّل لمصلحة أو دارئ لمفسدة)) (4) وهو يحيط بجزئيات من المصالح قد لا تحيط بها عقول الناس (5) وعلى المسلم أن يكون قصده في الدعاء موافقًا لقصد
(1) ينظر: المرجع السابق 2/ 7. ') ">
(2)
ينظر: المستصفى، للغزالي 1/ 278. ') ">
(3)
الفوائد، لابن القيم 127/ 128. ') ">
(4)
الفروق، للقرافي 1/ 194. ') ">
(5)
ينظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، لليوبي 452. ') ">
الشارع، وألاّ يقصد خلاف ما قصده الشارع؛ لأنه خُلق لعبادة الله، فعليه أن يعمل على وفق ما أراده الله، و ((لا ريب أن الأذكار والدعوات من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع لا على الهوى والابتداع)) (1) وإذا كان الواجب الدعاء بالأدعية المشروعة، فإن الأفضل الدعاء بالأدعية المأثورة ((وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا، وعلى دفع ما يضاده، وعلى تكميله وتيسير أسبابه، فتأملها)) (2)
وبتتبع الأدعية المأثورة وجدت أن لها علاقة واضحة بحفظ مقاصد الشريعة، وأُجمل بيان ذلك بالأمثلة، على النحو التالي:
أولاً- أمثلة لأدعية مأثورة لها معان عامة تتعلق بحفظ مقاصد الشريعة عمومًا، فقد «كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء» (3) أي: الجامعة لخير الدنيا والآخرة (4) ومن هذه الأدعية:
أ- الدعاء الوارد في قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (5)
(1) مجموع الفتاوى، لابن تيمية 22/ 510. ') ">
(2)
مدارج السالكين، لابن القيم 1/ 78. وينظر أهمية الأدعية المأثورة: ص 8. ') ">
(3)
أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب الدعاء 1/ 467 رقم 1482، وصححه الألباني.
(4)
ينظر: عون المعبود، للعظيم آبادي 4/ 249. ') ">
(5)
وكان أنس رضي الله عنه إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه. أخرجه مسلم في صحيحه، الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل الدعاء بـ "ربما آتنا في الدنيا حسنة .. 4/ 2070 رقم 2690.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يدعو بهذا الدعاء (1) وقد ((جمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا، وصرفت كل شر؛ فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي؛ من عافية ودار رحبة وزوجة حسنة ورزق واسع وعلم نافع وعمل صالح ومركب هني وثناء جميل إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين، ولا منافاة بينهما؛ فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا، وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام)) (2)
ب- ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بقوله: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين» (3)
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم (ربنا آتنا في الدنيا حسنة) 5/ 2347، رقم 6026.
(2)
تفسير ابن كثير 1/ 329. ') ">
(3)
أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 730 رقم 2000، وصححه ووافقه الذهبي وانظر: صحيح الترغيب والترهيب، للألباني 1/ 273 رقم 654.
وهذا الحديث من جوامع الكلم؛ لأن صلاح الشأن كله يتناول أمور الدنيا والآخرة جميعها، فيفوز قائل هذا- إذا تفضل الله عليه بالإجابة- بخيري الدنيا والآخرة (1) كل هذا الإشفاق منه على ما وضع في قلبه من الإيمان ووفق له من أعمال الإيمان، علما منه بأنه إذا سلب التوفيق ووكل إلى نفسه لم يملك لنفسه شيئا، فينبغي لكل مسلم أن يكون هذا الخوف من همه)).
شعب الإيمان، للبيهقي 1/ 476. .
ج- وقد أخبرت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علّمها هذا الدعاء: «اللهم إني أسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم .. وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرا» (2)
وهذا الدعاء قد حوى معاني تتصل بجلب مصالح الدنيا والآخرة ودفع المفاسد فيهما، بلفظ موجز بليغ، فهو ((من جوامع الكلم .. وفيه تنبيه على أن حق العاقل أن يرغب إلى الله أن يعطيه من الخيور ما
(1) ينظر: تحفة الذاكرين، للشوكاني 67، فيض القدير، للمناوي 3/ 526. ') ">
(2)
أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الدعاء، باب الجوامع من الدعاء، 2/ 1264 رقم 3846، وصححه الألباني.
فيه مصلحته مما لا سبيل بنفسه إلى اكتسابه)) (1)
ثانيًا- أمثلة لأدعية مأثورة تتعلق بحفظ مقاصد الشريعة باعتبار المصالح التي جاءت بالمحافظة عليها، وهي الضروريات، أو الحاجيات، أو التحسينيات، ومن هذه الأمثلة: أ- الدعوات التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدعها حين يمسي وحين يصبح، ومنها:«اللهم احفظني من بين يَدَيَّ ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فَوْقِي وأعوذ بعظمتك أن أُغْتَالَ من تَحْتي» (2) ففيها طلب حفظ الضروريات، حيث تضمن هذا الدعاء الطلب من الله بأن يحفظ الداعي من المهالك والبلايا التي تعرض لابن آدم من الجهات الست، ويمكن أن يكون مثالاً لما يتعلق بحفظ الحاجيات، فقد تضمن تضرع الداعي إلى الله بأن يحفظه من الأمراض والأخطار التي تدخله في الضيق والحرج والمشقة، وتعكر عليه صفو حياته، كما يمكن أن يكون مثالاً للتحسينيات، لأن الدعاء عام يشمل الأمراض البسيطة التي لا تؤدي إلى الهلاك أو إلى الحرج والمشقة، كما يشمل التضرع إلى الله بأن يحفظه مما يدنس سمعته من الأخلاق السيئة والأعمال المشينة التي تأنفها العقول السليمة.
(1) فيض القدير، للمناوي 2/ 128. ') ">
(2)
أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح 2/ 738 رقم 5074، وصححه الألباني.
ب- ورد من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي» (1) فإن كان الدعاء لطلب ما يسد رمق الإنسان من المطعم، وما يقيه بأس الحر وشدة البرد من الملبس والمسكن، ويدفع عنه الهلاك، فهو مثال للضروريات، وإن كان لطلب الكفاية فيما يحتاج إليه من ذلك بحيث يدفع عنه الضيق والحرج، فهو مثال للحاجيات، وإن كان لطلب اللذيذ من الطعام والجميل من اللباس والواسع من المسكن، وما يتصل بذلك من الآداب الحسنة، فيصلح مثالاً للتحسينيات.
كما أن هناك أمثلة لأدعية مأثورة تتعلق بحفظ قسم أو أقسام محددة من المقاصد الضرورية الخمسة التي اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة عليها، وهي الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل (2) سواء من جانب الوجود؛ وذلك بحفظ ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، أو من جانب العدم؛ بحفظها مما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها
وفي المبحث الثالث والرابع سأسلط الضوء على نماذج من
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل 4/ 2087 رقم 2720.
(2)
ينظر: الموافقات، للشاطبي 1/ 38. ') ">