الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 22
- بتاريخ: 01 - 04 - 1913
الكتابة في العراق
1 -
تمهيد
اثبت اليوم علماء البحث والتنقيب أن الكلدانيين سكان وادي الرافدين دجلة والفرات هم اسبق الأقوام إلى وضع الكتابة على طريقة الأهجئة أو المقاطع. ثم ما عتم أن انتشر أسلوبهم بين اظهر الآشوريين لسهولته فاستطار بين الأجيال المنبثة في شمالي أرمينية وشرقيها. ثم بين الأمم المتوطنة ديار ماذية وشوشن وفارس. ولم يزل في انتشار، وامتداد وعيار، حتى عصور النصرانية الأول.
هذا مجمل ما يقال في هذا الباب الواسع المجال، أو في هذا الموضوع الخطير البال. ولهذا يتمثل لك خيال وادي السلام بصورة شيخ جليل هو أبو الكتابة والكتب والكتبة، بيده قلم تتساقط منه رشاش مدادهِ على الطاباق والرق والورق والجدران ما خلد ذكر أمهات مدن العراق ابد الدهر. ومن هذه الحواضر (أور)(التي تعرف اليوم باسم المقير وهي مهجر إبراهيم الخليل) وأريدو (أي أبو شهرين ومعناها ذو البلدتين) واوروك (الوركاء) ونبور (نفر) وأما (جوخي) ومارو (أم العقارب) ونيسي (دريهم أو دليهم) ولجش أي تلو (المقصورة) عن تل اللوح وسبارة أو سفارة (البو حبة) ولارسا (سنكرة) وبورسبا (برس نمرود أو البرس) وكوثي ربَّا (حبل أو تل إبراهيم) ودور كوريجالزو (عقرقوف) والكوفة وبغداد والأنبار والحيرة وسامرا وغيرها مما يطول تعدادهُ.
ولجميع هذه المدن بل ولكل واحدة منها حصة وافرة من آداب لغة العرب القديمة والمخضرمة والحديثة والعصرية. ولهذا لا نغالي إن قلنا: العراق منبعث أنوار العلم ومصدر معارف البشر وملتقى الأقوام المتنورة وملتقط أنباء المؤرخين والأخباريين والأثريين والباحثين والمستقرين أصحاب التحقيق والتدقيق. تشهد على ذلك أوراقهم ومهارقهم ودفاترهم وأسفارهم ومؤلفاتهم صغيرها وكبيرها حتى أنها اكتظت منها.
ظل العراق حافلاً بالعرب الأولين حتى جاء الإسلام فكان العراقيون احفظ الأقوام باللغة الفصحى من غيرهم بها، وهي تلك اللغة لغة البطحاء وأم القرى، لغة قريش
القبيلة الشريفة الكريمة السمحة ذات الجود والقرى.
العراق وأن لم يكن صاحب هذه اللغة ومنشئها إلاًَّ انه أبو آدابها؛ فهو الذي أفرغها في قالب لغة علمية وفسح لها موطناً بين سائر اللغات أخواتها وضرائرها، فكان هو أول مدرسة لها، بل مدرسة النبوغ، وأصبح يضم بين أحنائه وترائبه طوائف فنون الكتابة والكتاب وبين هؤلاء تجد النابغة الفذ، والمترجم النقاد، والخطيب المفوهّ، والكاتب المجيد، ذلك الكاتب الذي يجمع إلى كتابة الرسائل تصنيف الأسفار الضخمة وإنشاء صحف القضاء، ودواوين الجند، واوارجة الخراج، وجرائد المساحين، ودفاتر الشرطة.
الكتابة هي مبدأُ تلك الحياة العقلية، وجرثومتها العلمية. ولهذا يحسن بنا أن نحصر الكلام في دائرتها لكي لا يتسع الخرق علينا نقول:
2 -
تطورات الخط أو أدوار الكتابة
للكتابة العربية تطورات شتى تنقلت فيها من حالٍ إلى حالٍ، وتلك الأطوار لا تشمل حياتها المادية فقط، بل حياتها الأدبية والعقلية وأشهرها ثلاثة مواقف وهي: موقف في الحيرة قبل ظهور الإسلام بردح من الزمن، وموقف في الكوفة، وموقف في بغداد والثلاثة كلها جمعاء عراقية صميمة كما ترى.
3 -
الموقف الأول وهو طور الخط الحيري أو الانباري أو
الجزم
أما شهادة المؤرخين على الموقف الأول فقد نطق بها كثيرون من مؤرخي العرب الأقدمين، إلَاّ أننا نجتزئ بذكر شهادة أقدمهم وهو البلاذري فقد قال في كتابه فتوح البلدان (ص 471 من طبعة الإفرنج) ما هذا نقله (حدثني عباس بن هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه عن
جده وعن الشرقي بن القطامي قال: اجتمع ثلاثة نفر من طيىء ببقة وهم: مرامر بن مرة واسلم بن سدرة وعامر بن جدرة فوضعوا
الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية، فتعلمه منهم قوم من أهل الانبار، ثم تعلمه أهل الحيرة من أهل الانبار. وكان بشر بن عبد الملك أخو اكيدر بن عبد الملك بن عبد الجنّ الكندي ثم السكوني صاحب دومة الجندل يأتي الحيرة فيقيم بها الحين، وكان نصرانياً، فتعلم بشر الخط العربي من أهل الحيرة، ثم أتى مكة في بعض شانه فرآه سفيان بن أمية بن عبد شمس، وأبو قيس بن عبد
مناف بن زهرة بن كلاب يكتب فسأَلاه أن يعلمهما الخط فعلمهما الهجاء. ثم أراهما الخط فكتبا ثم أن بشراً وسفيان وأبا قيس أتوا الطائف في تجارة فصحبهم غيلان بن سلمة الثقفي فتعلم الخط منهم وفارقهم بشر ومضى إلى ديار مضر فتعلم الخط منهُ عمرو بن زرارة بن عدس فسمي عمرو الكاتب ثم أتى بشر الشام فتعلم الخط منه ناس هناك وتعلم الخط من الثلاثة الطائيين أيضاً رجل من طابخة كلب فعلمه رجلاً من أهل وادي القرى، فأتى الوادي يتردد فأقام بها وعلم الخط قوماً من أهلها.) اهـ
ومما تقدم بسطه ترى انه من الصواب سمي هذا الخط بالخط الحيري أو الانباري إشارة إلى معدن نقله أو وضعه أو تعلمه.
ويسمى أيضاً: (الجزم) إلَاّ أن العرب قالوا في سبب تسميته به قولاً جمعوا فيه الصحة إلى الضعف وقد لخصه صاحب القاموس بهذه الكلم: (الجزم هذا الخط المؤلف من حروف المعجم لأنهُ جزم أي قطع عن خط
(حمير) فقوله جزم أي قطع عن خط آخر صحيح إِلَاّ أنه لم يصب في تعيين اسم هذا الخط بخط حمير. فالأصح الموافق للاكتشافات العصرية ولأقوال العرب أنفسهم هو أن يقال لأنه جزم عن خط السريان أي الاسطرنجيلي.
وأما الخط المسند أو خط حمير فهو خط آخر لا مشابهة ولا مناسبة له مع الجزم. والمسند عبارة عن حروف تكتب منفصلة بعضها عن بعض. وإنما نسب إلى حمير لما كان لملوكهم من النفوذ العظيم في العرب أو لأنه كان خاصاً بحمير فقط ومنهم اقتبسه سائر الناس في ديار الحبش وغيرها من البلاد المجاورة لليمن.
ولم تكن قريش تعرف المسند بل كانت تكتب بالجزم قبيل الإسلام ولذلك قال رجل كندي من أهل دومة الجندل يمن على قريش:
لا تجحدوا نعماء بشر عليكم
…
فقد كان ميمون النقيبة أزهرا
أتاكم بخط الجزم حتى حفظتم
…
من المال ما قد كان شتى مبعثرا
فأجريتم الأقلام عوداً وبداة
…
وضاهيتم كتاب كسرى وقيصرا
وأغنيتم عن مسند الحيّ حميراً
…
وما كتبت في الصحف أقلام حميرا
وما زال ذلك الخط يعرف بالجزم قبل الإسلام حتى اختط المسلمون (كوفة الجند) فأصبحت قاعدة تلك البلاد. فاستعمله أهلها فنزع منه لقبه الأول واشتهر بالكوفي. وهذا هو دوره
الثاني.
إلَاّ أنه اشتهر في ذلك العصر خط آخر هو أصل الخط النسخي المعروف في عصرنا هذا وهو الخط الذي كان يظن أنه من وضع ابن مقلة على أن مكتشفات المستشرقين والعرب العصريين فندت هذا القول القائل وقد
ظهر للعيان أن للخط النسخي مشابهة عظيمة للخط النبطيّ الذي كان معروفاً عند تجار النبط في جوار سلع والبتراء ونواحيهما. وهذا الاكتشاف يحدو بنا إلى أن نقول أنه كان قبل ظهور الإسلام خطان عند العرب: خط له مشابهة كلية للآرامي الاسطرنجيلي وهو المعروف بالجزم وكان يكتب به العرب المجاورون لديار العراق. وخط كان له مناسبة بينة لخط الأنباط وهو الخط النسخي. وكان يكتب به العرب المجاورون لديار الشام وكان يعرف بالخط الجليل (عن القلقشندي) وقد أشار إلى وجود هذا القلم الأخير ابن النديم في كتابه إذ يقول: أول من وضع الخط العربي. . . قوم من العرب العاربة نزلوا في عدنان بن ادّ. . . فلما استعربوا وضعوا الكتاب العربي. . .)
وأما وجود مثال من الخط العربي النسخي قبل الهجرة فظاهر مما يحرز في دار الكتب الخديوية وقد كتب على البردي أو على الخشب أو على نحوهما مما لا يبقي ريباً في هذه الحقيقة التي أصبحت في قيد الحقائق المكينة التي لا تتزعزع. ونسبته إلى ابن مقلة خطأ اللهم ألاّ أن يقال لأنه حسنه وصوره على أبدع صورة فيجوز ذلك من باب التوسع في وضع معاني الألفاظ لا من باب الحقائق التاريخية المقررة.
4 -
الموقف الثاني وهو طور الخط الكوفي
كانت الغاية من وضع الخط تقييد ما يراد إثباته على تراخي أستار الأزمان أو اطلاع آخر على فكر الكاتب أن كان بعيداً عنه أو قريباً منه أن زماناً وأن مكاناً فكان رسم الحروف أو نقشها أو حفرها ليس من الشان في شيء. وكان كاتب النعمان بن المنذر وغيره من زعماء العرب لا يعرفون
إلَاّ خط رسائل الملوك ورقعهم المنفذة إلى العمال. ولم تكن كتابتهم كتابة تدوين العلوم لأنها كانت يومئذٍ تابعة لحالة أدب العرب وكان اغلب العرب عهدئذٍ لا يعنون بشؤون العمران والتمدن إلا عرب اليمن فانهم كانوا أرقى حالاً وحضارةً من سواهم.
فلماذا دان العرب بالإسلام وانتشر في البلاد هو والقائمون به واحتاج المسلمون إلى مجاراة
الأمم الراقية المعاصرة لهم رفضوا تلك السذاجة والبداوة وطرقوا بابي التدوين والتأليف ولا سيما من احتل منهم ديار الشام والعراق ومما اضطروا إلى وضعة كتب القضاءِ ودواوين الخراج لوجود الذميين في بلادهم وتقييد ما يؤخذ منهم لكي لا يعودوا إلى أخذه ثانية حفظاً لذمتهم من مال الظلم والخداع.
لبثت الكتابة بعيدة عن الترجمة في بادئ الأمر لأن العرب لم يكونوا قد احتكوا بعد بأمم العالم احتكاكاً تاماً. بل كانوا في بدءِ الاختلاط لا يعرفون الحضارة ولا ضخامتها الزاهرة فصح لنا أن نسمي الخط الكوفي (بخط الفتوح والانتشار) لا خط الفن والعلم لأن حظه من ذلك الاسم أوفى وأوفر. ألم تزل اغلب الآثار العربية الإسلامية في شرق البلاد وغربها بالخط الكوفي كما أن اغلب المخطوطات القديمة هي بالخط النسخي الذي حسنه ابن مقلة فصار خط العلم والأدب، خط الإنشاء والتحرير، خط التنميق والتحبير. وهذا هو طور الكتابة الثالث.
الموقف الثالث وهو طور الخط النسخي
قد تقدم القول على أن النسخي كان معروفاً قبل الإسلام لكنه لم يكن
شائعاً إلا في شمالي جزيرة العرب من جهة ديار الشام. فلما اخذ العرب بالتبسط في العمران ورأوا صعوبة الخط الكوفي، ولا سيما عدم انقياده لسرعة الكتابة إجابة لسرعة الخاطر، عدل الناس عنه إلى الخط النسخي وكان ذلك في أواخر خلافة بني أمية وأوائل خلافة بني عباس على ما نقله القلقشندي في كتابه (صبح الأعشى في كتابة الإنشاء) المطبوع منه الجزءُ الأول في مصر القاهرة. ثم قال:(أن كثيراً من كتاب زماننا يزعمون أن الوزير أبا علي بن مقلة (المتوفى سنة 328هـ - 939م) هو أول من ابتدع ذلك وهو غلط. فأنا نجد من الكتب بخط الأولين فيما قبل المئتين ما ليس على صورة الكوفي بل يتغير عنه نحو هذه الأوضاع المستقرة قال أبو جعفر النحاس في صناعة الكتاب: يقال أن جودة الخط انتهت إلى رجلين من أهل الشام يقال لهما: الضحاك واسحق بن حماد وكانا يخطان (الجليل)(قلنا هو هذا الخط النسخي في أول عهده نقلا عن الأنباط). قال صاحب إعانة المنشئ: وكان الضحاك في خلافة السفاح أول خلفاء بني العباس وإسحاق بن حماد في خلافة المنصور والمهدي. . . وانتهت رئاسة الخط بمصر إلى طبطب المحرر جودةً وأحكاماً. . . وكان أهل مدينة
السلام يحسدون أهل مصر على (طبطب) و (ابن عبد كان) يعني كاتب الإنشاء لابن طولون. ويقولون: بمصر كاتب ومحرر ليس لأمير المؤمنين بمدينة السلام مثلهما.
قلت (أي القلقشندي) ثم انتهت جودة الخط وتحريره على راس الثلاثمائة إلى الوزير أبي علي محمد بن مقلة وأخيه أبي عبد الله. قال صاحب