الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منفرجة الأسافل ثم شاهد ثياب أهل البلاد المعتدلة متوسطة بين السعة والضيق وتثبت أن أهل البلاد الباردة لا يلبسون إلا الثياب الضيقة التي لا ينفذها الهواء. فقال في نفسه: إن الثوب رأى أن لابسه في البلاد الحارة يحتاج إلى الهواء، فأتسع، ثم رأى أن البرد يقرس الرجل إذا كان عليه ثياب فضفاضة فضاق وتجمع حتى لا يصيب صاحبه البرد. وعلى هذا تبين ذكاء الثوب إذ طابق حالته دائما لحالة البيئة التي وجد فيها.
قلنا: ومن لا يرى سقم هذا الاستدلال؟ أفلو عكس المستدل هذا التعبير أما كان اقرب إلى الصواب. أفليس صاحب الثوب هو الذي رأى مناسبة قطعه على تلك الصور الثلاث المختلفة. تطبيقاً لها على مقتضيات اختلاف حالة الجو؟ فليتأمل العاقل ولينصف في قوله.
وصف مدافن البحرين
وصفاً مفصلاً
كل مدفن يشتمل على غرفتين كبيرتين الواحدة فوق الأخرى مبنية من قطع صخر ضخمة ولا يبعد أنها قد قطعت (من جبل الدخان) الواقع في صحراء بعيدة ويوجد فيها أيضاً على جوانبها غرف ومعابر مسيعة بطين على غاية الإتقان ولا يوجد عقود أو دعائم ويظهر أن الغرف قد بنيت قبل أن تبنى سائر ما يحيط بها من البناء. وهذا البناء محكم مجصص وله طبقات مرصوفة من التراب وصغار الحجارة وكائن هذه المدافن قد أقيمت لمقاومة الدهر وصد آفاته فمحيط أساس أكبر التلال نحو خمسين ذراعاً وقد عثر القائد دورند على هيكل بشري في الغرف السفلى طوله نحو تسع أقدام صغير الجمجمة منخفض الجبين واسع حرف حجاج العين (المحجر) وعندما عرضت الجمجمة للنور والهواء تكسرت كسراً عديدة. إن رؤية بعض عظام الهياكل تدل على أن أصحابها دفنوا وهم جلوس ويظهر لنا انهم كانوا من وجوه الأمة وسراة القوم وكان دفنهم يجري على خلاف ما كانت تدفن العامة على حد ما هو جارٍ اليوم عندنا في دفن البطاركة والمطارنة والملافنة والأساقفة وسائر الرؤساء الروحانيين بيد أن ذلك يحتاج إلى بحث دقيق وفحص كثير وقد اكتشف حديثاً في المنعطفات
قطع من عظام بني آدم. أما في الغرف العليا (الفوقانية) فقد وجد عظام كبيرة عدت من عظام حصان وأيضاً قطع من معدن يشبه الصفر (النحاس الأصفر) والنحاس الأحمر وشقف وخزف خشنة غير مصقولة وقشور بيض النعام وبضع آنية مصنوعة من العاج وتماثيل وغير ذلك من الأدوات المختلفة الأشكال. وفي أراضي غرف بعض المدافن شيء كثير من عظام اليربوع (واليربوع ضرب من الحيوانات يشبه الجرذ ويكثر في صحارى الخليج) وفي تلك القبور مقادير وافرة من العظام الصفراء قد دفنت هناك منذ قرون عديدة وقد نقبت اغلب تلك الغرف تنقيباً دقيقاً طمعاً في العثور على آثار ذات شان جليل ولكن جل ما وجد فيها بقايا سجف وستائر قد تحولت إلى كوم من تراب لطول عهدها وهناك أيضاً قطع أخشاب قد نخرها السوس والديدان.
إما البناء فهائل جداً وجرمه عظيم لكن لم يعثر فيه على الأدوات التي كانت تتخذ في الحفر
والبناء بل ولم يعثر على رسوم أو نقوش أو كتابة بيد أن هناك شقوقا وأخاديد ونوعاً من الخنادق القليلة الغور قد حفرت حول أساس كل مدفن.
أن أول من فتح تلك المدافن وباشر بالحفر والتنقيب فيها هو المنكب (اليوزباشي) الباسل دورند وذلك في سنة 1879 ولا تسأل عن الصعوبات والمشقات التي لاقاها في سبيل الوقوف على أثار تلك الديار وقد نال أخيراً بغيته التي كان يتوخاها إذ حصل على معارف وإفادات جمة وذلك بينما هو مجد في عمله وسائر على الخطة التي اختطها باغتته سفينة حربية إنكليزية فساعده ربانها الهمام كل المساعدة ولم يمده فقط بفريق من نوتيته ليساعدوه في التنقيب والتنقير بل عرض عليه أراء جليلة تذلل العقبات والمشاكل وتمهد له السبيل للحصول على ما كان يدور في خلده وقد أشار عليه أن يتخذ وسائل النسف داخل إحدى الغرف المفتوحة ليزيل عنها سطحها ويتسنى له الوقوف التام على محتوياتها ولكن النتيجة لم تأت بالمطلوب لأن سقف الغرفة المذكورة سقط في باطنها وكان في ذلك نهاية أعمال البطل دورند إذ على اثر ذلك دعاه أولو الربط والحل ليتقلد زمام وظيفة أخرى في محل آخر وفي سنة 1889 خلفه الفاضل بنت
ومعه عقيلته واخذ بالحفر والتنقيب وقد فتحا مدفنين متوسطي الحجم ومنذ ثماني أو تسع سنوات زار جماعة من علماء بلجكة البحرين وتفقدوا القبور وفتحوا أحدها ولم يتصل بي نتائج أبحاثهم.
وممن عني بالحفر أيضاً عامل بريطانيا العظمى في البحرين المنكب (اليوز باشي) بريدكس وقد حفر بقرب (قرية علي) واشتغل فيها عدة أسابيع وفعل مثل ذلك في (منامة) وكان قد ضرب له في وسط المدافن خيمة يتردد إليها من وقت إلى آخر. وجمع طائفة كبيرة من الرفات وبعض قطع من العظام البشرية وغيرها من الآثار وقد بعث بها إلى دار التحف في لندن.
كم من أمة طرقت ذلك الطريق الوعر والجادة الموعثة ووقف أبناؤها ونخبة من أفرادها حاسري الطرف مشتتي الأفكار لا يبدون حراكاً لما داهمهم من الاضطراب والقلق بخصوص أسرار تلك المدافن المبهمة فخطوات أقدامهم تردد أمام مخيلتنا القرون المنصرمة ودوي آثار أيديهم ترن في آذان الادهار الغابرة وأحدثهم عهداً بها الإنكليز وقد سبقهم إليها البرتغاليون فالعرب فالفرس فالهنود فالرومان فاليونان فالفنيقيون فالبابليون فالكلدانيون
فأصحاب الرؤوس السود الذين هم أول من مد رواق التمدن والعمران البشري على وجه البسيطة وعليه يكون تاريخ بلاد اليونان حديثاً جداً بالنسبة إلى تاريخ مسقط راس العالم الإنساني ولهذا تحسب مملكة الرومان والصين واليابان والهند من ممالك أمس بجانبه هذا وكم من أمة وقبيلة وشعب ولسان ودولة زالت وانقرضت وأمست في خبر كان وأما تلك المدافن فشاخصة قائمة بعزها ومجدها كما كانت منذ أول بنائها إذا أنياب الدهر ومخالب طوارئ الزمان لم تقو على ملاشاتها وافنائها من على سطح الكرة الأرضية وهي واقفة على أركانها الضخمة تسخر بمرور الأيام وكرور الأعوام فسبحان من بيده البقاء والخلود والفناء والوجود. في كل مكان وفي كل زمان!
رزوق عيسى